الاثنين، 28 يوليو 2025

ج1 وج2 وج3. كتاب : التذكرة المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

 

 كتاب : التذكرة
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

باب النهي عن تمني الموت و الدعاء به لضر نزل في المال و الجسد روى مسلم [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ] أخرجه البخاري
*  و عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ]
و قال البخاري : لا يتمنين أحدكم الموت : إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا و إما مسيئا فلعله أن يستعتب
البزار [ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد و إن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة ]
فصل : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار و هو من أعظم المصائب و قد سماه الله تعالى مصيبة و في قوله { فأصابتكم مصيبة الموت } فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى
قال علماؤنا : و أعظم منه الغفلة عنه و الإعراض عن ذكره و قلة التفكر فيه و ترك العمل له و إن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر و في خبر يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلت منها سمينا ]
و يروى أن إعرابيا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول : مالك لا تقوم ؟ مالك لا تنبعث هذه أعضاؤك كاملة و جوارحك سالمة ما شأنك ؟ ما الذي كان يحملك ؟ ما الذي كان يبعثك ؟ ما الذي صرعك ؟ ما الذي عن الحركة منعك ؟ ثم تركه و انصرف متفكرا في شأنه متعجبا من أمره و أنشدوا في بعض الشجعان مات حتف أنفه :
( جائته من قبل المنون إشارة ... فهوى صريعا لليدين و للفم )
( و رمى بمحكم درعه و برمحه ... و امتد ملقى كالفتيق الأعظم )
( لا يستجيب لصارخ إن يدعه ... أبدا و لا يرجى لخطب معظم )
( ذهبت بسالته و مر غرامه ... لما رأى حبل المنية يرتمي )
( يا ويحه من فارس ما باله ... ذهبت مروته و لما يكلم )
( هذي يداه و هذه أعضاؤه ... ما منه من عضو غدا بمثلم )
( هيهات ما حبل الردى محتاجة ... للمشرفي و لا اللسان اللهذم )
( هي ويحكم أمر الإله و حكمه ... و الله يقضي بالقضاء المحكم )
( يا حسرتا لو كان يقدر قدرها ... و مصيبة عظمت و لما تعظم )
( خبر علمنا كلنا بمكانه ... و كأننا في حالنا لم نعلم )
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول حدثنا قتيبة بن سعيد و الخطيب بن سالم عن عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر قال : مات ابن لآدم عليه السلام فقال يا حواء قد مات ابنك فقالت : و ما الموت ؟ قال : لا يأكل و لا يشرب و لا يقوم و لا يقعد فرنت فقال آدم عليه السلام : عليك الرنة و على بناتك أنا و بني منها برآء فصل : قوله : فلعله أن يستعتب الاستعتاب طلب العتبى و هو الرضى و ذلك لا يحصل إلا بالتوبة و الرجوع عن الذنوب قال الجوهري :
استعتب : طلب أن يعتب تقول : استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني و في التنزيل في حق الكافرين { و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين }
و روى عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : لا يتمنى أحدكم الموت إلا ثلاثة : رجل جاهد بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه أو مشتاق محب للقاء الله عز و جل
و روي أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن عز و جل ليقبض روحه فقال إبراهيم : يا ملك الموت هل رأيت خليلا يقبض روح خليله ؟ فعرج ملك الموت عليه السلام إلى ربه فقال قل له : هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله ؟ فرجع فقال اقبض روحي الساعة و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ما من مؤمن إلا و الموت خير له فمن لم يصدقني فأن الله تعالى يقول : { و ما عند الله خير للأبرار } و قال تعالى { و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } و قال حيان بن الأسود : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب
باب جواز تمني الموت و الدعاء به خوف ذهاب الدين قال الله عز و جل مخبرا عن يوسف عليه السلام : { توفني مسلما و ألحقني بالصالحين } و عن مريم عليها السلام في قولها : { يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا } [ و عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر حتى بقبر الرجل فيقول فيقول : يا ليتني مكانه ]
فصل : قلت : لا تعارض بين هذه الترجمة و التي قبلها لما نبينه أما يوسف عليه السلام فقال قتادة : لم يتمن الموت أحد : نبي و لا غيره إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم و جمع له الشمل : اشتاق إلى لقاء ربه عز و جل فقال : { رب قد آتيتني من الملك و علمتني } الآية فاشتاق إلى لقاء ربه عز و جل و قيل إن يوسف عليه السلام لم يتمن الموت و إنما تمنى الموافاة على الإسلام أي إذا جاء أجلي تو فني مسلما و هذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل و الله أعلم
و أما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين :
أحدهما : أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها و تعير فيفتنها ذلك
الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان و الزور و النسبة إلى الزنا و ذلك مهلك لهم و الله أعلم
و قد قال الله تعالى عز و جل في حق من افترى على عائشة رضي الله عنها { و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } و قال : { و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم } و قد اختلف في مريم عليها السلام : هل هي صديقة لقوله تعالى : { و أمه صديقة } أو نبية لقوله تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا } و قوله : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } الآية و عليه فيكون الافتراء عليها عظيم أعظم و البهتان في حقها أشد و فيه يكون الهلاك حقا فعلى هذا الحد الذي ذكرناه من التأويلين يكون تمني الموت في حقها جائز و الله أعلم
و أما الحديث فإنما هو خبر : أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين و ضعفه و خوف ذهابه لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه و مما يوضح هذا المعنى و يبينه قوله عليه السلام : [ اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت ـ و يروى أدرت ـ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] رواه مالك و مثل هذا قول عمر رضي الله عنه : اللهم قد ضعفت قوتي و كبرت سني و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مقصر فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمه الله رواه مالك أيضا
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد و الاستذكار من حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال : كنت جالسا مع أبي العباس الغفاري على سطح فرأى ناسا يتحملون من الطاعون فقال : يا طاعون خذني إليك يقولها ثلاثا فقال عليم : لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله و لا يرد فيسعتب ] فقال أبو عباس : [ أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء و كثرة الشرط و بيع الحكم و استخفافا بالدم و قطيعة الرحم و نشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن و إن كان أقلهم فقها ] و سيأتي لهذا مزيد بيان في الفتن ـ إن شاء الله تعالى
باب ذكر الموت و الاستعداد له النسائي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات ] يعني الموت أخرجه ابن ماجه و الترمذي أيضا و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس [ عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات قلنا يا رسول الله : و ما هادم اللذات ؟ قال : الموت ]
ابن ماجه [ عن ابن عمر قال : كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقا قال : فأي المسلمين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم لما بعدهم استعدادا أولئك الأكياس ] أخرجه مالك أيضا و سيأتي في الفتن ـ إن شاء الله تعالى
الترمذي [ عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله ]
و روي عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب و يزهد في الدنيا ] و روي عنه عليه السلام أنه قال : [ كفى بالموت واعظا و كفى بالموت مفرقا ] و قيل له يا رسول الله : [ هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال : نعم من يذكر الموت في اليوم و الليلة عشرين مرة ] و قال السدي في قوله تعالى : { الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي أكثركم للموت ذكرا و له أحسن استعدادا و منه أشد خوفا و حذرا
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم [ قوله عليه السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ] كلام مختصر و جيز قد جمع التذكرة و أبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان منها يؤمل و لكن النفوس الراكدة و القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ و تزويق الألفاظ و إلا ففي قوله عليه الصلاة و السلام : [ أكثروا ذكر هادم اللذات ] مع قوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } ما يكفي السامع له و يشغل الناظر فيه و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات :
( لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله و يودي المال و الولد )
( لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا )
( و لا سليمان إذ تجري الرياح له ... و الإنس و الجن فيما بينها ترد )
( أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد ؟ )
( حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا )
فصل : إذ ثبت ما ذكرناه فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية و التوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة و نعمة و محنة فإن كان في حال ضيق و محنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه فإنه لا يدوم و الموت أصعب منه أو في حال نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها و السكون إليها لقطعه عنها و لقد أحسن من قال :
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تجهز لمصرع سوف يأتي )
و قال غيره :
( و اذكر الموت تجد راحة ... في إذكار الموت تقصير الآمل )
و أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم و لا زمن معلوم و لا مرض معلوم و ذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعدا لذلك و كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل الرحيل فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل : إنه قد مات فقال :
( ما زال يلهج بالرحيل و ذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال )
( فأصابه متيقظا متشمرا ... ذا أهبة لم تلهه الآمال )
و كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : و يحك يا يزيد من ذا يترضى عنك ربك الموت ؟ ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون و تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من الموت طالبه و القبر بيته و التراب فراشه و الدود أنيسه و هو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله ؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه
و قال التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت و ذكر الموقف بين يدي الله تعالى و كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت و القيامة و الآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة
و قال أبو نعيم : كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري و قال أسباط : ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم رجل فأثنى عليه فقال عليه السلام : [ كيف ذكره للموت ؟ فلم يذكر ذلك عنه فقال : ما هو كما تقولون ]
و قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة و قناعة القلب و نشاط العبادة و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة و ترك الرضى بالكفاف و التكاسل في العبادة فتفكر يا مغرور في الموت و سكرته و صعوبة كأسه و مرارته فيما للموت من وعد ما أصدقه و من حاكم ما أعدله كفى بالموت مقرحا للقلوب و مبكيا للعيون و مفرقا للجماعات و هادما للذات و قاطعا للأمنيات فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك و انتقالك من موضعك و إذا نقلت من سعة إلى ضيق و خانك الصاحب و الرفيق و هجرك الأخ و الصديق و أخذت من فراشك و غطائك إلى عرر و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر فيا جامع المال و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك و لقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى : { و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أي : اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة و هي الجنة فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في الطين و الماء و التجبر و البغي فكأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن و نحو هذا قول الشاعر :
( نصيبك مما تجمع الدهر كله : ... رداءان تلوى فيهما و حنوط )
و قال آخر :
( هي القناعة لا تبغي بها بدلا ... فيها النعيم و فيها راحة البدن )
( انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن و الكفن ؟ )
فصل : و قوله عليه الصلاة و السلام : [ الكيس من دان نفسه ] دان حاسب و قيل : ذل قال أبو عبيد : دان نفسه : أي أذلها و استعبدها يقال : دنته أدينه إذ ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه و تعالى عملا يعده لما بعد الموت و لقاء الله تعالى و كذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره ويستعد لعاقبة أمره بصالح عمله و التنصل من سالف زلله و ذكر الله تعالى و طاعته في جميع أحواله فهذا هو الزاد ليوم المعاد و العاجز ضد الكيس و الكيس : العاقل والعاجز : المقصر في الأمور فهو مع تقصيره في طاعة ربه و اتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له و هذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره و نهاه و قال الحسن البصري : [ إن قوما آلهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا و ما لهم حسنة و يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي و كذب لو أحسن الظن لأحسن العمل ] و تلا قوله تعالى : { و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } و قال سعيد بن جبير : [ الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية و يتمنى على الله المغفرة ] و قال بقية بن الوليد : كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه :
أما بعد [ فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك و تتمنى على الله الأماني بسوء فعلك و إنما تضرب حديدا باردا و السلام ] و سيأتي لهذا مزيد بيان في باب ما جاء أن القبر أول منازل الآخرة إن شاء الله تعالى
في أمور تذكر الموت و الأخرة و يزهد في الدنيا مسلم [ عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ] و عن ابن ماجه [ عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة ] فصل : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء مختلف فيه للنساء أما الشواب فحرام عليهن الخروج و أما القواعد فمباح لهن ذلك و جائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال و لا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى و على هذا المعنى يكون قوله عليه الصلاة و السلام : [ زوروا القبور ] عاما و أما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال و النساء فلا يجوز و لا يحل فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن و بالعكس فيرجع كل واحد من الرجال و النساء مأزورا مأجورا و هذا واضح و الله أعلم
و قد رأى بعض أهل العلم : أن لعن النبي صلى الله عليه و سلم زوارات القبور كان قبل أن يرخص في زيارة القبور فلما رخص دخل الرجال و النساء و ما ذكرناه لك أولا أصح و الله أعلم
و روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال : ياأهل القبور أخبرونا عنكم أو نخبركم أما خبر من قبلنا : فالمال قد اقتسم و النساء قد تزوجن والمسكن قد سكنها قوم غيركم ثم قال : أما و الله لو استطاعو لقالوا : لم نر زادا خيرا من التقوى
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
( ياعجبا للناس لو فكروا ... و حاسبوا أنفسهم أبصروا )
( و عبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر )
( لا فخر إلا فخر أهل التقى ... غدا إذا ضمهم المحشر )
( ليعلمن الناس أن التقي ... و البر كانا خير ما يدخر )
( عجبت للإنسان في فخره ... و هو غدا في قبره يقبر )
( ما بال من أوله نطفة ... و جيفة آخره يفجر )
( أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو و لا تأخير ما يحذر )
( و أصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضي و ما يقدر )
فصل : قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر و التخويف و الترغيب و أخبار الصالحين فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها
الثاني : ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك ففعلت ذلك فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي و يلين القلب القاسي و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها
الثالث : مشاهدة المحتضرين فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته و نزعاته و تأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها و يطرد عن القلوب مسراتها و يمنع الأجفان من النوم و الأبدان من الراحة ويبعث على العمل و يزيد في الاجتهاد و التعب
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه و شدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم فو الله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه و لزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء دائه و يستصرخ بها على فتن الشيطان و إغوائه فإن انتفع بها فذاك و إن عظم عليه ران القلب و استحكمت فيه دواعي الذنب فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول و الثاني و الثالث و لذلك قال عليه السلام [ زوروا القبور فإنها تذكر الموت و الآخرة و تزهد في الدنيا ] فالأول : سماع بالأذن و الثاني : إخبار للقلب بما إليه المصير و قائم له مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة فلذلك كانا أبلغ من الأول و الثاني
قال صلى الله عليه و سلم : [ ليس الخبر كالمعاينة ] رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات و أما زيارة القبور : فوجودها أسرع و الانتفاع بها أليق و أجدر فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها و يحضر قلبه في إتيانها و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من ذلك بل يقصد بزيارته : وجه الله تعالى و إصلاح فساد قلبه أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى و يجتنب المشي على المقابر و الجلوس عليها إذا دخل المقابر و يخلع نعليه كما جاء في أحاديث و يسلم إذا دخل المقابر و يخاطبهم خطاب الحاضرين فيقول : [ السلام عليكم دار قوم مؤمنين ] كذلك كان عليه الصلاة و السلام يقول و كنى بالدار عن عمارها و سكانها و لذلك خاطبهم بالكاف و الميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله و إذا وصل إلى قير ميته الذي يعرف سلم عليه أيضا فييقول : عليك السلام
روى الترمذي في جامعه : [ أن رجلا دخل عبى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : عليك السلام فقال صلى الله عليه و سلم : لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ] و ليأته من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حيا و لو خاطبة حيا لكان الأدب استقباله بوجهه فكذلك ههنا ثم يعتبر بمن صار تحت التراب و انقطع عن الأهل و الأحباب بعد أن قاد الجيوش و العساكر و نافس الأصحاب و العشائر و جمع الأموال و الذخائر فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه و هول لم يرتقبه فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه و درج من أقرانه الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم و لم تغن عنهم أموالهم و محا التراب محاسن وجوههم و افترقت في القبور أجزاؤهم و ترمل بعدهم نساؤهم و شمل ذل اليتم أولادهم و اقتسم غيرهم طريقهم و بلادهم
و ليتذكر ترددهم في المآرب و حرصهم على نيل المطالب و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب و ركونهم إلى الصحة و الشباب و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع كغفلتهم و أنه لا بد صائر إلى مصيرهم و ليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه و كيف تهدمت رجلاه و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه و يصول ببلاغة نطقه و قد أكل الدود لسانه و يضحك لمؤاتاة دهره و قد أبلى التراب أسنانه و ليتحقق أن حاله كحاله و مآله كمآله و عند هذا التذكر و الاعتبار يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية و يقبل على الأعمار الأخروية فيزهد في دنياه و يقبل على طاعة مولاه و يلين قلبه و يخشع جوارحه و الله أعلم
فصل : جاء في هذا الباب : حديث يعرض حديث هذا الباب و هو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق و اللاحق و أبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ و المنسوخ له في الحديث بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ حج بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون و هو باك حزين مغتم فبكيت لبكائه صلى الله عليه و سلم ثم إنه طفر أي وثب فنزل فقال : يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا ثم عاد إلي و هو فرح مبتسم فقلت له : بأبي أنت و أمي يا رسول الله نزلت من عندي و أنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله ثم إنك عدت إلي و أنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله ؟ فقال : مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت و ردها الله عز و جل ] لفظ الخطيب و قد ذكر السهيلي في الروض الأنف بإسناد فيه مجهولون [ أن الله تعالى أحيا له أباه و أمه و آمنا به ]
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و لا تعارض و الحمد لله لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما بدليل حديث عائشة رضي الله عنها : أن ذلك كان في حجة الوداع و كذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار
قلت : و يبينه حديث مسلم [ عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه قال : إن أبي و أباك في النار ] و حديث سلمة بن يزيد الجعفي و فيه : [ فلما رأى ما دخل علينا قال : و أمي مع أمكما ] و هذا إن صح إحياؤهما و قد سمعت : أن الله تعالى أحيا له عمه أبا طالب و آمن به و الله أعلم
و قد قيل : إن الحديث في إيمان أمه و أبيه موضوع يرده القرآن العظيم و الإجماع قال الله العظيم { و لا الذين يموتون و هم كفار } فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع فكيف بعد الإعادة ؟ و في التفسير أنه عليه السلام قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزل { و لا تسأل عن أصحاب الجحيم }
قال المؤلف : ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية و فيه نظر و ذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و خصائصه لم تزال تتوالى و تتابع إلى حين مماته فيكون هذا مما فضله الله تعالى و أكرمه به
ليس إحياؤهما و إيمانهما بممتنع عقلا و لا شرعا فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل و إخباره بقاتله و كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى و كذلك نبينا عليه الصلاة و السلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى و إذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته و فضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك و يكون ذلك خصوصا فيمن مات كافرا و قوله : فمن مات كافرا إلى آخر كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه عليه السلام بعد مغيبهما ذكر أبو جعفر الطحاوي و قال : إنه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا و أنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه و سلم نافعا لإيمانهما و تصديقهما بالنبي صلى الله عليه و سلم و قد قبل الله إيمان قوم يونس و توبتهم مع تلبسهم بالعذاب فيما ذكر في بعض الأقوال و هو ظاهر القرآن و أما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما و كونهما في العذاب و الله بغيبه أعلم و أحكم
باب منه و ما يقال عند دخول المقابر و جواز البكاء عندها أبو داود [ عن بريدة بن خصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ] و ذكر النسائي [ عن بريدة أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أراد أن يزور قبرا فليزره و لا تقولوا هجرا ] بمعنى سوءا و ذكر أبو عمر [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه إلا رد عليه السلام ] روي هكذا موقوفا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ فإن لم يعرفه و سلم : رد عليه السلام ]
مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله : كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين و يرحم الله المستقدمين منا و المتأخرين و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ] خرجه مسلم من حديث بريدة أيضا و زاد : [ أسأل الله لنا و لكم العافية ] و في الصحيحين [ أنه عليه السلام مر بامرأة تبكي عند قبر لها فقال لها : اتقي الله و اصبري ] الحديث
فصل : هذه الأحاديث تشتمل على فقه عظيم و هو جواز زيارة القبور للرجال و النساء و السلام عليها و ورد الميت السلام على من يسلم عليه و جواز بكاء النساء عند القبر و لو كان بكاؤهن و زيارتهن حراما لنهى النبي صلى الله عليه و سلم المرأة و لزجرها زجرا يزجر مثله من أتى محرما و ارتكب منهيا و ما روي من نهي النساء عن زيارة القبور فغير صحيح و الصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا أن عمل النساء في خروجهن مما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فلذلك المنهي عنه و قد ذكرت لك في الباب قبل الفرق بين المتجالة و الشابة فتأمله و قد أبيح لك أن تبكي عند قبر ميتك حزنا عليه أو رحمة له مما بين يديه كما أبيح لك البكاء عند موته و البكاء عند العرب يكون البكاء المعروف و تكون النياحة و قد يكون معهما الصياح و ضرب الخدود و شق الجيوب و هذا محرم بإجماع العلماء و هو الذي ورد فيه الوعيد من قوله عليه السلام : [ أنا بريء ممن حلق و سلق و خرق ] خرحه مسلم
و أما البكاء من غير نياحة فقد ورد فيه الإباحة عند القبر و عند الموت و هو بكاء الرأفة و الرحمة التي لا يكاد يخلو منها إنسان و قد بكى النبي صلى الله عليه و سلم لما مات ابنه إبراهيم و قال عمر : دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ] النقع : ارتفاع الصوت و اللقلقة : تتابع ذلك و قيل : النقع : وضع التراب على الرأس و الله أعلم
باب المؤمن يموت بعرق الجبين ابن ماجه [ عن بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المؤمن يموت بعرق الجبين ] خرجه الترمذي و قال فيه : حديث حسن
و روى [ عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ارقبوا للميت عند موته ثلاثا : إن رشح جبينه و ذرفت عيناه و انتشر منخراه فهي رحمة من الله قد نزلت به و إن غط غطيط البكر المخنوق و خمد لونه و ازبد شدقاه فهو عذاب من الله تعالى قد حل به ] خرجه أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له و قال : قال عبد الله : إن المؤمن يبقى عليه خطايا من خطاياه فيجازف بها عند الموت أي يجازي فيعرق لذلك جبينه و قال بعض العلماء : إنما يعرق جبينه حياء من ربه لما اقترف من مخالفته لأن ما سفل منه قد مات و إنما بقيت قوى الحياة و حركاتها فيما علا و الحياء في العينين و ذلك وقت الحياء و الكافر في عمى عن هذا كله و الموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به و إنما العرق الذي يظهر لمن حلت به الرحمة فإنه ليس من ولي و لا صديق و لا بر إلا و هو مستحي من ربه مع البشرى و التحف و الكرامات
قلت : و قد تظهر العلامات الثلاث و قد تظهر واحدة و تظهر اثنتان و قد شاهدنا عرق الجبين وحده و ذلك بحسب تفاوت الناس في الأعمال و الله أعلم
و في حديث ابن مسعود : [ موت المؤمن بعرق الجبين تبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت ] أي يشدد لتمحص عنه ذنوبه
باب منه في خروج نفس المؤمن و الكافر خرج أبو نعيم [ من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن نفس المؤمن تخرج رشحا و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها عنه و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها ]
باب ما جاء أن للموت سكرات و في تسليم الأعضاء بعضها على بعض و فيما يصير الإنسان إليه
وصف الله سبحانه و تعالى شدة الموت في أربع آيات :
الأولى : قوله الحق : { و جاءت سكرة الموت بالحق }
الثانية : قوله تعالى : { و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت }
الثالثة : قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم }
الرابعة : { كلا إذا بلغت التراقي }
روى البخاري عن [ عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه و يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يديه فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض و مالت يده ]
و خرج الترمذي عنها قالت : [ ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و في البخاري عنها قالت : [ مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه لبين حاقنتي و ذاقنتي فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه و سلم ] الحاقنة : المطمئن بين الترقوة و الحلق و الذاقنة : نقره الذقن و قال الخطابي : الذاقنة : ما تناوله الذقن من الصدر
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده [ عن جابر بن عبد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم أعاجيب ] ثم أنشأ يحدثنا قال : [ خرجت طائفة منهم فأتوا على مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين و دعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال : ففعلوا فبينما هم كذلك إذا طلع رجل رأسه بيضاء أسود اللون خلا شيء بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي ؟ لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ]
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعالج كرب الموت و سكرات الموت و إن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : عليك السلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة ]
و ذكر المحاسبي في الرعاية : أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام : [ يا خليلي كيف وجدت الموت ؟ قال : كسفود محمى جعل في صوف رطب ثم جذب قال : [ أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم ]
و روى أن موسى عليه السلام لما صار روحه إلى الله قال له ربه : [ يا موسى كيف وجدت الموت ] ؟ قال : وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح و لا ينجو فيطير و روى عنه أنه قال : وجدت نفسي كشاة تسلخ بيد القصاب و هي حية و قال عيسى بن مريم عليه السلام : [ يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة ] يعني سكرات الموت
و روي : أن الموت أشد من ضرب بالسيوف و نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض
و ذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية من [ حديث مكحول عن وائلة ابن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف ] و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى
و في الخبر من حديث حميد الطويل [ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة تكتنف العبد و تحبسه و لولا ذلك لكان يعدو في الصحاري و البراري من شدة سكرات الموت ] و جاءت الرواية بأن ملك الموت عليه السلام إذا تولى الله قبض نفسه بعد موت الخلائق يقول : [ و عزتك لو علمت من سكرة الموت ما أعلم ما قبضت نفس مؤمن ] ذكره القاضي أبو بكر بن العربي
و عن شهر بن حوشب قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الموت و شدته ؟ فقال : إن أهون الموت بمنزلة حسكة كانت في صوف فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا و معها الصوف ] ؟ قال شهر : و لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه يا أبتاه ؟ إنك لتقول لنا : ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد و أنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال : يا بني و الله كأن جنبي في تخت و كأني أتنفس من سم إبرة و كأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي ثم أنشأ يقول :
( ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في تلال الجبال أرعى الوعولا )
و عن أبي ميسرة رفعه قال : [ لو أن ألم شعرة من الميت وضع على أهل السماء و الأرض لماتوا جميعا ] و أنشدوا :
( أذكر الموت و لا أرهبه ... إن قلبي لغليظ كالحجر )
( أطلب الدنيا كأني خالد ... و ورائي الموت يقفو بالأثر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
( و المنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر )
و قال آخر :
( بينا الفتى مرح الخطا فرح بما ... يسع له إذ قيل : قد مرض الفتى )
( إذ قيل : بات بليلة ما نامها ... إذ قيل : أصبح مثخنا ما يرتجى )
( إذ قيل : أصبح شاخصا و موجها ... و معللا إذ قيل : أصبح قد قضى )
فصل : أيها الناس : قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه و حان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه و قبل سكون حركاته و خمود أنفاسه و رحلته إلى قبره و مقامه بين أرماسه
و روى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أناس من أصحابه يوصيهم فكان فيما أوصاهم به أن كتب إليهم :
[ أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم و المراقبة له و اتخذوا التقوى و الورع زادا فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها و الله في عرضات القيامة و أهوالها يسألكم عن الفتيل و النقير فالله الله عباد الله اذكروا الموت الذي لا بد منه و اسمعوا قول الله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } و قوله عز و جل : { كل من عليها فان } و قوله عز و جل : { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم } فقد بلغني ـ و الله أعلم ـ أنهم يضربون بسياط من نار و قال جل ذكره : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون }
و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت رأسه في السماء و رجلاه في الأرض و أن الدنيا كلها في يد ملك الموت كالقصعة بين يدي أحدكم يأكل منها و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت ينظر في وجه كل آدمي ثلاثمائة نظرة و ستا و ستين نظرة و بلغني أن ملك الموت ينظر في كل بيت تحت ظل السماء ستمائة مرة و بلغني أن ملك الموت قائم وسط الدنيا فينظر الدنيا كلها برها و بحرها و جبالها و هي بين يديه كالبيضة بين رجلي أحدكم و بلغني أن لملك الموت أعوانا الله أعلم بهم ليس منهم ملك إلا لو أذن له أن يلتقم السموات و الأرض في لقمة واحدة لفعل و بلغني أن ملك الموت تفزغ منه الملائكة أشد من فزع أحدكم من السبع و بلغني أن حملة العرش إذا قرب ملك الموت من أحدهم ذاب حتى يصير مثل الشعرة من الفزع منه و بلغني أن ملك الموت ينتزع روح بني آدم من تحت عضوه و ظفره و عروقه و شعره و لا تصل الروح من مفصل إلى مفصل إلا كان أشد عليه من ألف ضربة بالسيف و بلغني أنه لو وضع وجع شعرة من الميت على السموات و الأرض لأذابها حتى إذا بلغت الحلقوم و لي القبض ملك الموت و بلغني أن ملك الموت إذا قبض روج مؤمن جعلها في حريرة بيضاء و مسك أذفر و إذا قبض روح الكافر جعلها في خرقة سوداء في فخار من نار أشد نتنا من الجيف
و في الخبر إذا دنت منية المؤمن نزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى و النفس تنسل انسلال القطرة من السقاء و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع و الكافر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبتل ذكره أبو حامد في كشف علوم الآخرة فمثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات و نزل بك الأنين و الغمرات فمن قائل يقول : إن فلانا قد أوصى و ماله قد احصى و من قائل يقول : إن فلانا ثقل لسانه فلا يعرف جيرانه و لا يكلم إخوانه فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب و لا تقدر على رد الجواب ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة و تتضرع و تقول : حبيبي أبي من ليتمي من بعدك ؟ و من لحاجتي ؟ و أنت و الله تسمع الكلام و لا تقدر على رد الجواب و أنشدوا :
( و أقبلت الصغرى تمرغ خدها ... على وجنتي حينا و حينا على صدري )
( و تخمش خديها و تبكي بحرقة ... تنادي : أبي إني غلبت على الصبر )
( حبيبي أبي من لليتامى تركتهم ... كأفراخ زغب في بعيد من الوكر ؟ )
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل و ألبست الأكفان و أوحش منك الأهل و الجيران و بكت عليك الأصحاب و الإخوان و قال الغاسل أين زوجة فلان تحالله ؟ و أين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبدا ؟ و أنشدوا :
( ألا أيها المغرور ما لك تلعب ... تؤمل آمالا و موتك أقرب )
( و تعلم أن الحرص بحر مبعد ... سفينته الدنيا فإياك تعطب )
( و تعلم أن الموت ينقص مسرعا ... عليك يقينا طعمه ليس يعذب )
( كأنك توصي و اليتامى تراهم ... و أمهم الثكلى تنوح و تندب )
( تغص بحزن ثم تلطم وجهها ... يراها رجال بعد ما هي تحجب )
( و أقبل بالأكفان نحوك قاصد ... و يحثى عليك الترب و العين تسكب )
فصل : قول عائشة رضي الله عنها : [ كانت بين يديه ركوة أو علبة ] العلبة : قدح من خشب ضخم يحلب فيه قال ابن فارس في المجمل و قال الجوهري في الصحاح العلبة محلب من جلد و الجمع علب و علاب والمعلب الذي يتخذها
قال الكميت يصف خيلا :
( سقينا دما القوم طورا و تارة ... صبوحا لإقتار الجلود المعلب )
و قيل : أسفله جلد و أعلاه خشب مدور مثل إطار الغربال و هو الدائر به و قيل : هو عس يحلب فيه و العس : القدح الضخم و قال اللغوي أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري في كتاب التلخيص له : و العلبة : قدح للأعراب مثل العس و العس يتخذ من جنب جلد البعير و الجمع علاب و قوله : إن الموت سكرات أي شذائد و سكرة الموت شدته
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء و المرسلين و الأولين و المتقين فمالنا عن ذكره مشغولين ؟ و عن الاستعداد له متخلفين ؟ { قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون } قالوا : و ما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت و سكراته فله فائدتان
إحداهما : أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت و أنه باطن و قد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة و لا قلقا و يرى سهولة خروج روحه فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت و لا يعرف ما الميت فيه ؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم : شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى و تهونيه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه و يقاسيه الميت مطلقا لإخبار الصادقين عنه ما خلا الشهيد قتيل الكفار على ما يأتي ذكره
الثانية : ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء : أحباب الله و أنبياؤه و رسله فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة ؟ و هو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين كما قال في قصة إبراهيم : أما إنا قد هونا عليك فالجواب : [ أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ] كما قال نبينا عليه السلام
خرجه البخاري و غيره فأحب الله أن يبتليهم تكميلا لفضلا لديه و رفعة لدرجاتهم عنده و ليس ذلك في حقهم نقصا و لا عذابا بل هو كما قال كمال رفعة مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد مع إمكان التخفيف و التهوين عليهم ليرفع منازلهم و يعظم أجورهم قبل موتهم
كما ابتلى إبراهيم بالنار و موسى بالخوف و الأسفار و عيسى بالصحارى و القفاز و نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم بالفقر في الدنيا و مقاتلة الكفار كل ذلك لرفعة في أحوالهم و كمال في درجاتهم و لا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين فإن ذلك عقوبة لهم و مؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه و بين هذا
فصل : إن قال قائل : كل المخلوقات تجد هذه السكرات ؟ قيل له : قال بعض العلماء قد وجب بحكم القول الصدق و الكلمة الحق أن الكأس مر المذاق و إن قد ذيق و يذاق و لكن ثم فريقان و تقديرات و أوزان و إن الله سبحانه و تعالى لما انفرد بالبقاء وحده لا شريك له و أجرى سنة الهلاك و الفناء على الخلق دونه خالف في ذلك جل جلاله بين المخلوقات و فرق بين المحسوسات بحسب ما خالف بين المنازل و الدرجات فنوع أرضي حيواني إنساني و غير إنساني و فوقه عالم روحاني و ملأ علواني رضواني كل يشرب من ذلك الكأس جرعته و بغتص منه غصته قال الله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت }
قال أبوحامد في كتاب الكشف علوم الأخرة : و ثبت ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه و إنما أراد سبحانه بالموتات الثلاث للعالمين : فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت و المتحيز إلى العالم الملكوتي يموت و المتحيز إلى العالم الجبروتي يموت فالأول آدم و ذرتيه و جميع الحيوان على ضروبه و الملكوتي و هو الثاني أصناف الملائكة و الجن و أهل الجبروت هم المصطفون من الملائكة
قال الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس } فهم كروبيون و حملة العرش و أصحاب سر دقات الجلال كما وصفهم الله في كتابه و أثنى عليهم حيث يقول { و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون * يسبحون الليل و النهار لا يفترون } و هم أهل حضرة القدس المعنيون بقوله تعالى : { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } و هم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى و القربة و ليس زلفاهم بمانع لهم من الموت قال ابن قسي : و كما تفرقت الطرق بهذه العوالم كذلك تفرقت طرقت الإحساسات في اجتراع الغصص و المرارات فإحساس روحاني للروحانيات كما يجده النائم في سنته أو الغصة الوجيعة تغصه في نومته فيغص منها في حال رقدته و يتململ ذلك إلى حين يقتظه حتى إذا استيقظ لم يجده شيئا و وجد الإنس عنده فأزال ألمه و وافاه أمانه و نعمه و إحساس علوي قدسي كما يجده الوسنان الروحانية و هو ما لا يدركه العقل البشري إلا توهما و لا يبلغه التحصيل إلا تخيلا و توسما و إحساس بشري سفلي إنسي و جني و هو ما لا يكاد أن توصف شدائده و غصصه فكيف و قد قالوا بالغصة الواحدة منه كألف ضربة السيف فما عسى أن ينعت و يوصف و هذا الذي لا يمكن أن يعرف ؟ و الخلق أيضا في هذا الإحساس فرق يختلفون باختلاف المنازل و الطرق فالفرقة الإسلامية في نفسها لا تجد منه غير الإسلامية ثم الإسلامية نفسها لا تجد منه النبوية كما تجد التبعية ثم النبوية في ذاتها و مقاماتها إحساساتها تختلف على حكم الكلمة و صدق القيا باختلاف التقديم و التفضيل قال الله تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات } الآية و قد نبهت الخلة الذاتية عزت سبحاتها و تقدست صفاتها على صفة ذلك عن إبراهيم و أشارت إلى تهوين الأمر عليه و تبين ما خفف عنه صلوات الله و سلامه عليه فقال : أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم و ما وصفه الحق جل جلاله بالهون فلا أهون منه كما ما كبره و عظمه فلا أكبر و لا أعظم منه و لا فرق بين أن قال : موتا هينا و ملكا عظيما كبيرا و قال في نعيم الجنة { و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا } فكما أنه لا أكبر من ملك الجنة كذلك لا هون من موت الخلة و الله أعلم
فصل : إذا ثبت ما ذكرناه فاعلم : أن الموت هو الخطب الأفظع و الأمر الأشنع و الكأس التي طعمها أكره و أبشع و أنه الحارث الأهذم للذات و الأقطع للراحات و الأجلب للكريهات فإن أمرا يقطع أوصالك و يفرق أعضاءك و يهدم أركانك لهو الأمر العظيم و الخطب الجسيم و إن يومه لهو اليوم العظيم
و يحكى أن الرشيد لما اشتد مرضه أحضر طبيبا طوسيا فارسيا و أمر أن يعرض عليه ماؤه أي بوله مع مياه كثيرة لمرضى و أصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيد فقال : قولوا : لصاحب هذا الماء يوصي فإنه قد انحلت قواه و تداعت بنيته و لما استعرض باقي المياه أقيم فذهب فيئس الرشيد من نفسه و أنشد :
( إن الطيب بطبه و دوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى )
( ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان أبرأ مثله فيما مضى )
( مات المداوي و المداوى ... و الذي جلب الدواء أو باعه و من اشترى )
و بلغه أن الناس أرجفوا بموته فاستدعى حمارا و أمر أن يحمل عليه فاسترحت فخذاه فقال : أنزلوني صدق المرجفون و دعا بأكفان فتخير منها ما أعجبه و أمر فشق له قبر أمام فراشه ثم اطلع فيه فقال : ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية فمات من ليلته فما ظنك ـ رحمك الله ـ بنازل ينزل بك فيذهب رونقك و بهاك و يغير منظرك و رؤياك و يمحو صورتك و جمالك و يمنع من اجتماعك و اتصالك و يردك بعد النعمة و النضرة و السطوة و القدرة و النخوة و العزة إلى حالة يبارد فيها أحب الناس إليك و أرحمهم بك و أعطفهم عليك فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها محكم عليك حجرها و صيدانها فتحكم فيك هوامها و ديدانها ثم بعد ذلك تمكن منك الأعدام و تختلط بالرغام و تصير ترابا توطأ بالأقدام و ربما ضرب منك الإناء فخار أو أحكم بك بناء جدار أو طلي بك محس ما أو موقد نار
كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يأتي بإناء ماء ليشرب منه فأخذه بيده و نظر إليه و قال : الله أعلم كم فيك من عين كحيل و خذ أسيل
و يحكى أن رجلين تنازعا و تخاصما في أرض فأنطلق الله عزوجل لبنة من حائط من تلك الأرض فقالت : يا هذان فيم تتنازعان ؟ و فيم تتخاصمان ؟ إني كنت ملكا من الملوك ملكت كذا و كذا سنة ثم مت و صرت ترابا فبقيت كذلك ألف سنة ثم أخذني خزاف ـ يعني فخارا فعمل مني إناء فاستعملت حتى تكسرت ثم عدت ترابا فبقيت ألف سنة ثم أخذني رجل فضرب مني لبنة فجعلني في هذا الحائط ففيم تنازعكما و فيم تخاصمكما ؟
قلت : و الحكايات في هذا المعنى و الوجود شاهد بتجديد ما دثر و تغيير ما غير و عن ذلك أن يكون الحفر و الإخراج و اتخاذ الأواني و بناء الأبراج و لقد كنت في زمن الشباب أنا و غيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة و قد اختلط بعظام من هناك و عظمهم و لحومهم و شعورهم و أبشارهم إلى الذيم يصنعون القرمد للشقف
قال علماؤنا رضوان الله عليهم : و هذا التغير إنما يحل بجسدك و ينزل ببدنك لا بروحك لأن الروح لها حكم آخر و ما مضى منك فغير مضاع و تفرقة لا تمنع من الاجتماع قال الله تعالى : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ } و قال : { فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى }
باب الموت كفارة لكل مسلم أبو نعيم [ عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الموت كفارة لكل مسلم ] ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين له و قال : فيه حديث صحيح حسن
فصل : إنما كان الموت كفارة لكل ما يلقاه الميت في مرضه من الآلام و الأوجاع و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ] خرجه مسلم
و في الموطأ [ عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيرا يصب منه ] و في الخبر المأثور يقول الله تعالى : [ إني لا أخرج أحدا من الدنيا و أنا أريد أن أرحمه حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها : سقما في جسده و مصيبة في أهله و ولده و ضيقا في معاشه و إفتارا في رزقه حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي عليه شيء شددت عليه الموت حتى يفضي إلى كيوم ولدته أمه ]
قلت : و هذا بخلاف من لا يحبه و لا يرضاه كما في الخبر يقول الله تعالى : [ وعزتي و جلالي لا أخرج من الدنيا عبدا أريد أن أعذبه حتى أعذبه حتى أوفيه يكل حسنة عملها بصحة في جسده و سعة في رزقه و رغد في عيشه و أمن في سربه حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي له شيء هونت عليه الموت حتى يفضي إلي و ليس له حسنة يتقي بها النار ]
قلت : و في مثل هذا المعنى ما خرجه أبو داود بسند صحيح فيما ذكر أبو الحسن بن الحصار [ عن عبيد بن خالد السلمي و كانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه و سلم : موت الفجأة أخذة أسف للكافر ] و رواه أيضا مرسلا
و روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : إنها راحة للمؤمن و أخذه أسف للكافر
و روى عن ابن عباس أن داود عليه السلام مات فجأة يوم السبت و عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت و شدائده درجته من الجنة و إن الكافر إذا كان قد عمل معروفا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار ] ذكره أبو محمد عبد الحق
و خرج أبو نعيم الحافظ [ من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نفس المؤمن تخرج رشحا و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزي بها ] ذكره أبو محمد عبد الحق و ذكر ابن المبارك أن أبا الدرداء رضي الله عنه ـ قال : [ أحب الموت اشتياقا إلى ربي و أحب المرض تكفيرا لخطيئتي و أحب الفقر تواضعا لربي عز و جل ]
باب لا يموت أحد و هو يحسن بالله الظن و في الخوف من الله تعالى مسلم [ عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل وفاته بثلاثة أيام : لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله ] أخرجه البخاري
و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله و زاد : فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال لهم تبارك و تعالى : { و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين }
ابن ماجه [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على شاب و هو في الموت فقال : كيف تجدك ؟ فقال : أرجو الله يا رسول الله و أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا عطاء الله ما يرجو و أمنه مما يخاف ] ذكره ابن أبي الدنيا أيضا و خرجه الترمذي و قال : هذا حديث حسن غريب
و قد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا
و ذكر الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين من نوادر الأصول : [ حدثنا يحيى بن حبيب عن عدي قال حدثنا بشر المفضل عن عوف عن الحسن أنه قال : بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : قال ربكم عز و جل : لا أجمع على عبدي خوفين و لا أجمع له أمنين فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة و من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة ]
[ حدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكر من مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : يا موسى إنه لن يلقاني عبد لي في حاضر القيامة إلا فتشته عما في يديه إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم و أجلهم فأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب ] فمن استحيى من الله تعالى في الدنيا مما صنع استحيى الله تعالى من تفتيشه و سؤاله و لم يجمع عليه حياءين كما لا يجمع عليه خوفين
فصل : حسن الظن بالله تعالى ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة و هو أن الله تعالى يرحمه و يتجاوز عنه و يغفر له و ينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى : [ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ]
و روى حماد بن سلمة [ عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يموتن أحدكم حتى يحسن الظن بالله فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة ]
و روى عن ابن عمر أنه قال : [ عمود الدين و غاية مجده و ذروة سنامة : حسن الظن بالله فمن مات منكم و هو يحسن الظن بالله : دخل الجنة مدلا ] أي منبسطا لا خوف عليه
و قال عبد الله بن مسعود : [ و الله الذي لا إله إلا غيره لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه و ذلك أن الخير بيده ]
و ذكر ابن المبارك قال أخبر سفيان : أن ابن عباس قال : إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقي ربه و هو حسن الظن به و إذا كان حيا فخوفوه و قال الفضيل : الخوف أفضله من الرجاء ما كان العبد صحيحا فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف
و ذكر ابن أبي الدنيا : قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن البصري قال حدثنا سوار بن عبد الله قال حدثنا المعتمر قال : قال أبي حين حضرته الوفاة : يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله و أنا أحسن الظن به
قال : و حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حصين عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت حتى يحسن ظنه بربه عز و جل
و قال ثابت البناني : كان شاب به رهق فلما نزل به الموت انكبت عليه أمه و هي تقول : يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا قال : يا أماه إن لي ربا كثير المعروف و إني لأرجو اليوم أن لا يعدمني بعض معروفه فقال ثابت : فC يحسن ظنه بالله في حاله تلك
و قال عمر بن ذر يوما في كلامه ـ و عنده ابن أبي داود و أبو حنيفة ـ أتعذبنا و في أجوافنا التوحيد ؟ لا أراك تفعل اللهم اغفر لمن لم يزل على مثل حال السحرة في الساعات التي غفرت لهم فإنهم قالوا : { آمنا برب العالمين } فقال أبو حنيفة : رحمك الله القصص بعدك حرام و كان يحيى بن زكريا إذا لقي عيسى بن مريم عليهما السلام : عبس و إذا لقيه عيسى تبسم فقال له عيسى : تلقاني عابسا كأنك آيس ؟ فقال له يحيى : تلقائي ضاحكا كأنك آمن ؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليهما : إن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي ذكره الطبري
و قال زيد بن أسلم : [ يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال : انطلقوا به إلى النار فيقول : يا رب فأين صلاتي و صيامي ؟ فيقول الله تعالى : اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي ]
و في التنزيل : قال : { و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في باب سعة رحمة الله و عفوه يوم القيامة إن شاء الله تعالى
باب تلقين الميت لا إله إلا الله مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ] و ذكر ابن أبي الدنيا [ عن زيد بن أسلم قال : قال عثمان بن عفان : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها موته إلا كانت زاده إلى الجنة ] و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا إله إلا الله و ذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون
و ذكر أبو نعيم [ من حديث مكحول عن إسماعيل بن عياش بن أبي معاذ عتبة ابن حميد عن مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم لا إله إلا الله و بشروهم بالجنة فإن الحكيم من الرجال يتحير عند ذلك المصرع و إن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة السيف و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عرق منه على حياله ] غريب من حديث مكحول لم نكبته إلا من حديث إسماعيل
فصل : قال علماؤنا : تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون و ذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة و ليدخل في عموم [ قوله عليه السلام من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه صححه أبو محمد عبد الحق و لينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته على ما يأتي
فإذا تلقهنا المحتضر و قالها مرة واحدة فلا تعاد عليه ليلا بفجر و قد كره أهل العلم الإكثار من التلقين و الإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه قال ابن المبارك : لقنوا الميت لا إله إلا الله فإذا قالها فدعوه قال أبو محمد عبد الحق : و إنما ذلك لأنه يخاف عليه إذا لج عليه بها أن يتبرم و يضجر و يثقلها الشيطان عليه فيكون سببا لسوء الخاتمة و كذلك أمر ابن المبارك أن يفعل به قال الحسن بن عيسى : قال لي ابن المبارك : لقني ـ يعني الشهادة ـ و لا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان و المقصود أن يموت الرجل و ليس في قلبه إلا الله عز و جل لأن المدار على القلب و عمل القلب هو الذي ينظر فيه و تكون النجاة به و أما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها و لا عبر عندها
قلت : و قد يكون التلقين بذكر الحديث عند الرجل العالم كما ذكر أبو نعيم أن أبا زرعة كان في السوق و عنده أبو حاتم و محمد بن سلمة و المنذر بن شاذان و جماعات من العلماء فذكروا حديث التلقين فاستحيوا من أبي زرعة فقالوا : يا أصحابنا تعالوا نتذاكر الحديث فقال محمد بن سلمة : حدثنا ضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه و قال أبو حاتم : حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه و الباقوت سكوت فقال أبو زرعة و هو في السوق : [ حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] و في رواية [ حرمه الله على النار ] و توفي رحمه الله
و يروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال : دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدناه لما و رجل يلقنه الشهادة و يقول له : لا إله إلا الله و هو يكثر عليه فقال له الشعبي ارفق به فكلم المريض و قال : إن تلقني أو لا تلقني فإني لا أدعها ثم قرأ { و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها } فقال الشعبي الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا و قيل للجنيد رحمه الله عند موته : قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره
قلت : لا بد من تلقين الميت و تذكيره الشهادة و إن كان على غاية من التيقظ فقد ذكر أبو نعيم الحافظ [ من حديث مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا غله إلا الله و بشروهم بالجنة فإن الحكيم من الرجال و النساء يتحير عند ذلك المصرع و إن الشيطان أقرب من ابن آدم عند ذلك المصرع و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عضو منه على حياله ]
و روي عن أبي هريرة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : حضر ملك الموت رجلا قال : فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئا ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص ]
ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده و خرجه الطبراني بمعناه و سيأتي في آخر أبواب الجنة إن شاء الله
باب من حضر الميت فلا يلغو و ليتكلم بخير و كيف الدعاء للميت إذا مات و في تغميضه
مسلم [ عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذ حضرتم المريض أو الميت فقولوا : خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ] قالت : [ فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : إن أبا سلمة قد مات فقال : قولي : اللهم اغفر لي و له و أعقبني منه عقبى حسنة قالت : فقلت فأعقبني الله من هو خير منه : رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و عنها قالت : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة و قد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال : اللهم اغفر لأبي سلمة و ارفع درجته في المهديين و اخلفه في عقبه في الغابرين و اغفر لنا و له يا رب العالمين و افسح له في قبره و نور له فيه ]
فصل : قال علماؤنا : قوله عليه السلام : [ إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا ] أمر ندب و تعليم بما يقال عند المريض أو الميت و إخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك و لهذا استحب العلماء : أن يحضروا الميت الصالحون و أهل الخير حالة موته ليذكروه و يدعوا له و لمن يخلفه و يقولوا خيرا فيجتمع دعاؤهم و تأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت و من يصاب به و من يخلفه
باب منه و ما يقال عند التغميض ابن ماجه [ عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا حضرتم مؤتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح و قولوا خيرا فإن الملائكة تؤمن على ما قال أهل الميت ] و ذكر الخرائطي أبو بكر محمد بن جعفر قال : حدثنا أبو موسى عمران بن موسى قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل ابن علية عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم الحسن قالت : كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال فلان بالموت فقالت لها انطلقي فإذا احتضر فقولي السلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين و خرج من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن بكر ابن عبد الله المزني قال : إذا غمضت الميت فقل بسم الله و على ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبح ثم تلا سفيان { و الملائكة يسبحون بحمد ربهم } قال أبو داود : تغميض الميت إنما هو بعد خروج الروح سمعت محمد ابن أحمد المقري قال سمعت أبا ميسرة و كان رجلا عابدا يقول : غمضت جعفر المعلم و كان رجلا عاقلا في حالة الموت فرأيته في منامي يقول : أعظم ما كان علي تغميضك قبل أن أموت
باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته و جلساؤه في الدنيا و ما يخاف من سوء الخاتمة
[ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه و الآخر عن شماله فالذي عن يمينه على صفة أبيه يقول له : يا بني إني كنت عليك شفيقا و لك محبا و لكن مت على دين النصارى فهو خير الأديان و الذي على شماله على صفة أمه تقول له : يا بني إنه كان بطني لك وعاء و ثديي لك سقاء و فخذي لك وطاء و لكن مت على دين اليهود و هو خير الأديان ] ذكره أبو الحسن القابسي في شرح رسالة ابن أبي زيد له و ذكر معناه أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة و إن عند استقرار النفس في التراقي و الارتفاع تعرض عليه الفتن و ذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة و استعملهم عليه و وكلهم به فيأتون المرء و هو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا كالأب و الأم و الأخ و الأخت و الصديق الحميم فيقولون له : أنت تموت يا فلان و نحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى فإن انصرم عنهم و أبي جاءه آخرون و قالوا له : مت نصرانيا فإنه دين المسيح و قد نسخ الله به دين موسى و يذكرون له عقائد كل ملة فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه و هو معنى قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة } أي لا تزغ قلوبنا عند الموت و قد هديتنا من قبل هذا زمانا فإذا أراد الله بعبده هداية و تثبيتا جاءته الرحمة و قيل : هو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين و يمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة و كثير من يرى متبسما في هذا المقام فرحا بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول : يا فلان أما تعرفني ؟ أنا جبريل و هؤلاء أعداؤك من الشياطين مت على الملة الحنيفية و الشريعة الجليلة فما شيء أحب إلى الإنسان و أفرح منه بذلك الملك و هو قوله تعالى : { و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } ثم يقبض عند الطعنة على ما يأتي
و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حضرت وفاة أبي أحمد و بيدي الخرقة لأشد لحييه فكان يغرق ثم يفيق و يقول بيده : لا بعد لا بعد فعل هذا مرارا فقلت له : يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال : إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فتني و أنا أقول لا بعد لا حتى أموت
قلت : و قد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول : حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة و قد احتضر فقيل له : قل : لا إله إلا الله فكان يقول : لا لا فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال : أتاني شيطانان عن يميني و عن شمالي يقول أحدهما : مت يهوديا فإنه خير الأديان و الآخر يقول : مت نصرانيا فإنه خير الأديان فكنت أقول لهما : لا لا إلي تقولان هذا ؟ و قد كتبت بيدي في كتاب الترمذي و النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الشيطان يأتي أحدكم عند موته فيقول : مت يهوديا مت نصرانيا ] فكان الجواب لهما لا لكما
قلت : و مثل هذا عن الصالحين كثير يكون الجواب للشيطان لا لمن يلقنه الشهادة و قد تصفحت كتاب الترمذي أبي عيسى و سمعت جميعه فلم أقف على هذا الحديث فيه فإن كان في بعض النسخ فالله أعلم
و أما كتاب النسائي فسمعت بعضه و كان عندي كثير منه فلم أقف عليه و هو نسخ فيحتمل أن يكون في بعضها و الله أعلم
و روى ابن المبارك و سفيان عن ليث عن مجاهد قال : ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسه الذين كان يجالس إن كان أهل لهو فأهل لهو و إن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر
و قال الربيع بن شبرة بن معبد الجهني و كان عابدا بالبصرة : أدركت الناس بالشام و قيل لرجل : يا فلان قل : لا إله إلا الله قال : اشرب و اسقني و قيل لرجل بالأهواز يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : ده يازده دوازده تفسيره : عشرة أحد عشرة اثنا عشر كان هذا الرجل من أهل العمل و الديوان فغلب عليه الحساب و الميزان ذكر هذا التفسير أبو محمد عبد الحق قال الربيع : و قيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول :
( يا رب قائلة يوما و قد لغبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب )
قال الفقيه أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد : هذا رجل قد استدلته امرأة إلى الحمام فدلها إلى منزله فقاله عند الموت
و ذكر أبو محمد عبد الحق هذه الحكاية في كتاب العاقبة له فقال : و هذا الكلام له قصة و ذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره و كان بابه يشبه باب حمام فمرت به جارية لها منظر و هي تقول : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال لها : هذا حمام منجاب و أشار إلى داره فدخلت الدار و دخل وراءها فلما رأت نفسه معه في دار و ليس بحمام علمت أنه خدعها أظهرت له البشر و الفرح باجتماعها معه على تلك الخلوة و في تلك الدار و قالت له : يصلح معنا ما نطيب به عيشنا و تقر به أعيننا فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين و بكل ما تشتهين فخرج و تركها في الدار و لم يقفلها و تركها محلولة على حالها و مضى فأخذ ما يصلح لهما و رجع و دخل الدار فوجدها قد خرجت و ذهبت و لم يجد لها أثرا فهام الرجل بها و أكثر الذكر لها و الجزع عليها و جعل يمشي في الطرق و الأزقة و هو يقول :
( يا رب قائلة يوما قد لغبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب )
و إذا بجارية تجاوبه من طاق و هي تقول :
( هلا جعلت لها لما ظفرت بها ... حرزا على الدار أو قفلا على الباب )
فزاد هيمانه و اشتد هيجانه و لم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر فنعوذ بالله من المحن و الفتن
قلت : و مثل هذا في الناس كثير ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا و الهم بها أو سبب من أسبابها حتى لقد حكي لنا أن بعض السماسرة جاء عنده الموت فقيل له : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : ثلاثة و نصف أربعة و نصف غلبت عليه السمسرة
و لقد رأيت بعض الحساب و هو في غاية المرض يعقد بأصابعه و يحسب و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا و الجنان الفلاني اعملوا فيها كذا و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : عقلك الحمارة و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : البقرة الصفراء غلب عليه حبها و الاشتغال بها نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة بمنه و كرمه
و لقد حكى ابن ظفر في كتاب النصائح له قال : كان يونس بن عبيد [ رحمه الله تعالى ـ بزازا و كان لا يبيع في طرفي النهار و لا في يوم غيم فأخذ يوما ميزانه فرضه بين حجرين فقيل له : هلا أعطيته الصانع فأصلح فساده ؟ فقال : لو علمت فيه فسادا لما أبقيت من مالي قوت ليلة قيل له : فلم كسرته ؟ قال : حضرت الساعة رجلا احتضر فقلت له : قل : لا إله إلا الله فامتعض فألححت عليه فقال : ادع الله لي فقال : هذا لسان الميزان على لساني يمنعني من قولها قلت : أفما يمنعك إلا من قولها ؟ فقال : نعم قلت : و ما كان عملك به ؟ قال : ما أخذت و لا أعطيت به إلا حقا في علمي غير أني كنت أقيم المدة لا أفتقده و لا أحتبره فكان يونس بعد ذلك يشترط على من يبايعه أن يأتي بميزان و يزن بيده و إلا لم يبايعه
باب ما جاء في سوء الخاتمة و ما جاء أن الأعمال بالخواتيم مسلم [ عن أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل الزمان الطويل يعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار و إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة ]
و في البخاري [ عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعمل عمل أهل النار و إنه من أهل الجنة و يعمل عمل أهل الجنة و إنه من أهل النار و إنما الأعمال بالخواتيم ]
قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره و صلح باطنه ما سمع بهذا و لا علم به ـ الحمد لله ـ و إنما تكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر و إقدام على العظائم فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة و يختطفه عند تلك الدهشة و العياذ بالله ثم العياذ بالله أو يكون ممن كان مستقيما ثم يتغير عن حاله و يخرج عن سننه و يأخذ في طريقه فيكون ذلك سببا لسوء خاتمه و شؤم عاقبته كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة و بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض و اتباع هواه و برصيصا العابد الذي قال الله في حقه { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر }
و يروى : أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجدا للأذان و الصلاة و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة فرقي يوما المنارة على عادته للأذان و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها و ترك الأذان و نزل إليها و دخل الدار فقالت له : ما شأنك ما تريد ؟ فقال : أنت أريد قالت : لماذا ؟ قال لها : قد سلبت لبي و أخذت بمجامع قلبي قالت : لا أجيبك إلى ريبة قال لها : أتزوجك قالت له : أنت مسلم و أنا نصرانية و أبي لا يزوجني منك قال لها : أتنصر قالت : إن فعلت أفعل فتنصر ليتزوجها و أقام معها في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلا هو بدينه و لا هو بها فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة و سوء الخاتمة
و يروى أن رجلا علق بشخص و أحبه فتمنع عنه و اشتد نفاره فاشتد كلف البائس إلى أن لزم الفراش فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعود فأخبر بذلك ففرح و اشتد فرحه و سروره و انجلى عنه بعض ما كان يجده فلما كان في بعض الطريق رجع و قال : و الله لا أدخل مداخل الريب و لا أعرض بنفسي لمواقع التهم فأخبر بذلك البائس المسكين فسقط في يده و رجع إلى أسوأ ما كان به و بدت علامات الموت و أمارته عليه
قال الراوي : فسمعته يقول و هو في تلك الحال :
( سلام يا راحة العليل ... و برد ذل الدنف النحيل )
( رضاك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل )
قال : فقلت له : يا فلان اتق الله تعالى فقال : قد كان ما كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه فنعوذ بالله من سوء العاقبة و شؤم الخاتمة
قال المؤلف رحمه الله : [ روى البخاري عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيرا ما كان النبي يحلف : لا و مقلب القلوب ] و معناه يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهية و غير ذلك من الأوصاف و في التنزيل { و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه } قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما يصنع بيانه : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل و اختار الطبري أن يكون ذلك إخبارا من الله تعالى بأنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز و جل
و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك فقلت : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى ؟ قال : و ما يؤمنني يا عائشة و قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلب ]
قال العلماء : و إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة و الإستقامة على مشيته موقوفة و العاقبة مغيبة و الإرادة غير مغالبة فلا تعجب بإيمانك و عملك و صلاتك و صومك و جميع قربك فإن ذلك و إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك و فضله الدار عليك و خيره فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخر بمتاع غيره و ربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير فكم من روضة أمست و زهرها يانع عميم فأصبحت و زهرها يابس هشيم إذ هبت عليها الريح العقيم كذلك العبد يمسي و قلبه بطاعة الله مشرق سليم فيصبح و هو بمعصية مظلم سقيم ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : [ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقت امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت الجارية كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضت إلى امرأة وضيئة أي جميلة عندها غلام و باطية خمر فقالت : إني و الله ما دعوتك للشهادة و لكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام قال فاسقني من هذه الخمر ؟ فسقته كأسا قال : زيدوني فلم يزل يشرب حتى وقع عليها و قتل الغلام فاجتنبوا الخمر فإنه و الله لا يجتمع الإيمان و إدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ]
و يروى أن رجلا أسيرا مسلما و كان حافظا للقرآن خص بخدمة راهبين فحفظا منه آيات كثيرة لكثرة تلاوته فأسلم الرهبان و تنصر المسلم و قيل له : ارجع إلى دينك فلا حاجة لنا فيمن لم يحفظ دينه قال : لا أرجع إليه أبدا فقتل و في الخبر قصته و الحكايات كثيرة في هذا الباب نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة
و أنشد بعضهم :
( قد جرت الأقلام في ذي الورى ... بالختم من أمر الحكيم العليم )
( فمن سعيد و شقي و من ... مثر من المال و عار عديم )
( و من عزيز رأسه في السها ... و من ذليل وجهه في التخوم )
( و من صحيح شيدت أركانه ... و آخر واهي المباني سقيم )
( كل على منهاجه سالك ... ذلك تقدير العزيز العليم )
و قال الربيع : سئل الشافعي عن القدر فأنشأ يقول :
( ما شئت كان و إن لم أشأ ... و ما شئت إن لم تشأ لم يكن )
( خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى و المسن )
( على ذا مننت و هذا خذلت ... و هذا أغنت و ذا لم تعن )
( فمنهم شقي و منهم سعيد ... و منهم قبيح و منهم حسن )
( و منهم غني و منهم فقير ... و كل بأعماله مرتهن )
بالب ما جاء في رسل ملك الموت قبل الوفاة ورد في الخبر : أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت عليه السلام : أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك ؟ قال : نعم لي و الله رسل كثيرة من الإعلال و الأمراض و الشيب و الهموم و تغير السمع و البصر فإذا لم يتذكر من نزل به و لم يتب فإذا قبضته ناديته : ألم أقدم إليك رسولا بعد رسول و نذيرا بعد نذير ؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول و أنا النذير الذي ليس بعدي نذير فما من يوم تطلع فيه شمس و لا تغرب إلا و ملك الموت ينادي : يا أبناء الأربعين هذا وقت أخذ الزاد أذهانكم حاضرة و أعضاؤكم قوية شداد يا أبناء الخمسين قد دنا و قت الأخذ و الحصاد با ابناء الستين نسيتم العقاب و غفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير } ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق
و في البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : أعذر الله إلى امرىء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة ] يقال أعذر في الأمر أي بالغ فيه أي اعذر غاية الإعذار بعبده و أكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم ليتم حجته عليهم { و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } و قال { و جاءكم النذير } قيل : هو القرآن و قيل : هو الرسل إليهم و عن ابن عباس و عكرمة و سفيان و وكيع و الحسين بن الفضل و الفراء و الطبري قالوا : هو الشيب فإنه يأتي في سن الاكتهال فهو علامة لمفارقته سن الصبا الذي هو سن اللهو و اللعب قال :
( رأيت الشيب من نذير المنايا ... لصاحبه و حسبك من نذير )
و قال آخر :
( تقول النفس غير لون هذا ... عساك تطيب في عمر يسير )
( فقلت لها المشيب نذير عمري ... و لست مسودا وجه النذير )
و قال آخر :
( و قائلة : تخضب فالغواني ... نوافر عن معاينة النذير )
و للقاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمة الله تعالى عليه :
( كم تصابي و قد علاك المشيب ... و تعامى جهلا و أنت اللبيب )
( كيف تلهو و قد أتاك نذير ... و شباك الحمام منك قريب )
( يا مقيما قد حان منه رحيل ... بعد ذاك الرحيل يوم عصيب )
( إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداويك إذا أتتك طبيب )
( ثم تثوى حتى تصير رهينا ... ثم يأتيك دعوة فتجيب )
( بأمور المعاد أنت عليم ... فاعلمن جاهدا لها يا أريب )
( و تذكر يوما تحاسب فيه ... إن من يذكر الممات ينيب )
( ليس في ساعة من الدهر إلا ... للمنايا عليك فيها رقيب )
( كل يوم ترميك منها بسهم ... إن يخطىء يوما فسوف يصيب )
و له أيضا رضي الله عنه :
( ثلاث و ستون قد جزتها ... فماذا تؤمل أو تنتظر )
( و حل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدجر )
( تمر الليالي مرا حثصيثا ... و أنت على ما ألاى مستمر )
( فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيرا بشر )
( فما لك ـ ويحك ـ لا تستعد إذن ... لدار المقام و دار المقر )
( أترغب عن فجأة للمنون ... و تعلم أن ليس منها وزر )
( فإما إلى الجنة أزلفت ... و إما إلى سقر تستعر )
و للفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي ذمنين رحمة الله تعالى آمين :
( الموت في كل حين ينشر الكفنا ... و نحن في غفلة عما يداوينا )
( لا تطمئن إلى الدنيا و بهجتها ... و إن توشحت من أثوابها الحسنا )
( أين الأحبة و الجيران ما فعلوا ... أين الذين همو كانوا لنا سكنا )
( سقاهم الموت كأسا غير صافية ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا )
و روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال من أنت ؟ فقال من لا يهاب الملوك و لاتمنع منه القصور و لا يقبل الرشا قال : فإذا أنت ملك الموت قال : نعم قال : أتيتني و لم أستعد بعد ؟ قال يا دواد أين فلان قريبك ؟ أين فلان جارك ؟ قال : مات قال أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد و قيل : النذير الحمى و منه قوله صلى الله عليه و سلم [ الحمى نذير الموت ] أي رائد الموت
قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت أي كأنها تشعر بقدومه و تنذر بمجيئه و قيل : موت الأهل و الأقارب و الأصحاب و الإخوان و ذلك إنذار الرحيل في كل وقت و أوان و حين و زمان
قال :
( و أراك تحملهم و لست تردهم ... و كأني بك قد حملت فلم ترد )
و قيل : كمال العقل الذي تعرف به حقائق الأمور و يفصل به بين الحسنات و السيئات فالعاقل يعمل لآخرته و يرغب فيما عند ربه فهو نذير و النذير بمعنى الإنذار و الإعذار قريب يعضه من بعض و أكبر الإعذار إلى بني آدم بعثه الرسل إليهم ثم الشيب أو غيره كما بينا و جعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك المنيا و هو سن الإنابة و الخشوع و الاستسلام لله و ترقب المنية و لقاء الله ففيه إعذار بعد إعذار و إنذار بعد إنذار
الأول : بالنبي صلى الله عليه و سلم
و الثاني : بالشيب و ذلك عند كمال الأربعين قال الله تعالى : { و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك } فذكر عز و جل : أن من بلغ الأربعين فقط أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه و على والديه و يشكرها
قال مالك رحمه الله : أدركت أهل العلم ببلدنا و هم يطلبون الدنيا و يخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس
تنبيه : هذا الباب هو الأصل في إعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى و كان هذا لطفا بالخلق و لتنفيذ القيام عليهم بالحق
حكي عن بعض العلماء أنه كان يميل إلى الراحات و كثيرا و كان يخلو في بستان له بأصحابه فلا يأذن لأحد سواهم فبينما هو في البستان إذ رأى رجلا يتخلل الشجر فغضب و قال : من أذن لهذا و جاء الرجل فجلس أمامه و قال : ما ترى في رجل ثبت عليه الحق فزعم أن له مدافعة تدفعه عنه ؟ فقال ينظره الحاكم بقدر ما يرى قال السائل : قد ضرب له الحاكم أجلا فلم يأت بمنفعة و لا أقلع عن اللدد و المدافعة : قال يقضي عليه قال فإن الحاكم رفق به و أمهله أكثر من خمسين سنة فأطرق الفقيه و تحدر عرق و جهه و ذهب السائل ثم إن العالم أفاق من فكرته فسأل عن السائل فقال البواب : ما دخل أحد عليكم و لا خرج من عندكم أحد : فقال لأصحابه انصرفوا فما كان يرى بعد ذلك إلا مجلس يذكر فيه العلم
فصل : و قد رأيت أن أصل بهذه الحكاية حكايات في الشيب على سبيل الوعظ و التذكير و التخويف و التحذير حكي عن بعض المترفين أنه رفض ما كان فيه بغتة على غير تدريج فسئل عن السبب فقال ما معناه : كانت لي أمة لا يزيدني طول الاستمتاع منها إلا غراما بها فقلبت شعرها يوما فإذا فيه شعرتان بيضاوان فأخبرتها فارتاعت : و قالت أرني فأريتها : فقالت { جاء الحق و زهق الباطل } ثم نظرت إلي و قالت : أعلم أنه لو لم تفترض علي طاعتك لما أويت إليك فدع لي ليلي أو نهاري لأتزود فيه لآخرتي فقلت لا و لا كرامة فغضبت و قالت : أتحول بيني و بين ربي و قد آذنني بلقائه ؟ اللهم بدل حبه لي بغضا قال : فبت و ماشيء أحب إلي من بعدها عني و عرضتها للبيع فأتاني من أعطاني فيها ما أريد فلما عزمت على البيع بكت فقلت أنت أردت هذا فقالت : و الله ما اخترت عليك شيئا من الدنيا هل لك إلى ما هو خير لك من ثمني ؟ قلت : و ما هو قالت : تعتقني لله عز و جل فإن أملك لك منك لي و أعود عليك منك علي فقلت : قد فعلت فقالت : أمضى الله صفقتك و بلغك أضعاف أملك و تزهدت فبغضت إلى الدنيا و نعيمها
و قال عبد الله بن أبي نوح : رأيت كهلا بمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال يتفض الغبار عن جدرانه فسألت عنه فقيل إنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه و أن له أولادا و موالي و نعمة موفورة و أنه اطلع في امرأته فصرخ و جن و لزم المسجد كما ترى و إذا أراد أهله أن يأخذوه ليداووه و يصونه هرب منهم و عاذ بالقبر المكرم فتركوه فرقبته نهارا فلم أرمنه اختلالا و رقبته ليلا فلما ذهب جنح من الليل خرج من المسجد فتبعته حتى أتى البقيع فقام يصلي و يبكي حتى قرب طلوع الفجر فجلس يدعو و جاءت إليه دابة لا أدري أشاة أم ظبية أم غيرها فقامت عنده و تفاجت فالتقم ضرعها فشرب ثم مسح ظهرها و قال : اذهبي بارك الله فيك فولت تهرع فانسللت فسبقته إلى المسجد فأقمت ليالي أخرج بخروجه إلى البقيع و لا يشعر بي و سمعته يقول في مناجاته : اللهم إنك أرسلت إلي و لم تأذن لي فإن كنت قد رضيتني فائذن لي و إن لم ترضني فوفقني لما يرضيك قال : فلما حان رحيلي أتيته مودعا فتهجمني فقلت : أنا صاحبك منذ ليال بالبقيع أصلي بصلاتك و أؤمن على دعائك قال : هل اطلعت على ذلك أحدا ؟ قلت : لا قال : انصرف راشدا قلت : ما الرسول الذي أرسل إليك ؟ قال : اطلعت في المرآة فرأيت شيبة في و جهي فعلمت أنها رسول الله إلي فقلت : ادع لي قال : ما أنا أهل لذلك ولكن تعال نتسول إلى الله برسوله فقمت معه تجاه القبر المكرم فقال ما حاجتك ؟ قلت : العفو فدعا دعاء خفيفا فأمنت ثم مال على جدار القبر فإذا هو ميت فتنحيت عنه حتى فطن الناس له و جاء أولاده و مواليه فاحتملوه و جهزوه و صليت عليه فيمن صلى
و يقال أن ملكا من ملوك اليونان استعمل على ملبسه أمة أدبها بعض الحكماء فألبسته يوما ثيابه و أرته المرآة فرأى في وجهه شعرة بيضاء فاستدعى بالمقراض و قصها فأخذتها الأمة فقبلتها و وضعتها على كفها و أصغت بأذنها إليها فقال لها الملك : إلى أي شيء تصغين ؟ فقالت : إنني أسمع هذه المبتلاة بفقد كرامة قرب الملك تقول قولا عجيبا قال : ما هو ؟ فالت : لا يجترى لساني على النطق به قال : قولي و أنت آمنة ما لزمته الحكمة قالت ما معناه أنها تقول : أيها الملك المسلط إلى أمد قريب إني خفت بطشك بي فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري و كأنك بهن قد خرجن عليك فإما أن يعجلن إلفتك بك و إما أن بنقصن شهوتك و قوتك و صحتك حتى تعد الموت غنما فقال : اكتبي كلامك فكتبته فتدبره ثم نبذ ملكه في حديث و هذا المقصود منه و في معناه قيل :
( و زائرة للشيب لاحت بمفرقي ...
فبادرتها خوفا من الحتف بالنتف )
( فقالت : على ضعفي استطعت و وحدتي ...
رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي ) و في الاسرائيليات أن إبراهيم الخليل لما رجع من تقريب ولده إلى ربه عز و جل رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء و مان عليه السلام أول من شاب على وجه الأرض فأنكرتها و أرته إياها فجعل يتأملها و أعجبته و كرهتا سارة و طالبته بإزالتها فأبى فأتاه ملك الموت فقال : السلام عليك يا إبراهيم و كان اسمه ابرام فزاده في اسمه هاء و الهاء في السريانية للتفخيم و التفظيم ففرح بذلك فقال : أشكر إلهي و إله كل شيء فقال له الملك : إن الله قد صيرك معظما في أهل السموات و أهل الأرض و قد و سمك بسمة أهل الوقار في اسمك و في خلقك أم اسمك فإنك تدعى في أهل السماء و أهل الأرض إبراهيم و أما خلقك فقد أنزل وقارا و نورا على شعرك فأخبر سارة بما قال له الملك و قال هذا الذي كرهتيه نور و وقار قالت : إني كارهة له قال : لكني أحبه اللهم زدني نورا و وقارا فأصبح و قد ابيضت لحيته كلها
و في الآثار النبوية : من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة
و روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة ] و الأخبار في هذا الباب كثيرة و كذلك الشعر اكتفينا منه بما ذكرنا و بالله توفيقنا
و قال أعرابي في الشيب و الخضاب :
( يا بؤس من فقد الشباب و غيرت ... منه مفارق رأسه بخضاب )
( يرجو غضارة وجهه بخضابه ... و مصير كل عمارة لخراب )
( شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب )
( إني وجدت أجل كل مصيبة ... فقد الشباب و فرقة الأحباب )

باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس و في التوبة و بيانها و في التائب من هو ؟
ابن ماجه [ عن أبي موسى الأشعري : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم متى تنقطع معرفة العبد من الناس ؟ قال : إذا عاين ]
فصل : قوله : إذا عاين يريد إذا عاين ملك الموت أو الملائكة و الله أعلم و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث الآخر : [ إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ] خرجه الترمذي أي عند الغرغرة و بلوغ الروح الحلقوم يعاين ما يصير إليه من رحمة أو هوان و لا تنفع حينئذ توبة و لا إيمان كما قال تعالى في محكم البيان { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } و قال تعالى { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } فالتوبة مبسوطة للعبد حتى يعاين قابض الأرواح و ذلك عند غرغرته بالروح و إنما يغرغر به إذا قطع الوتين فشخص من الصدر إلى الحلقوم فعندها المعاينة و عندها حضور الموت فاعلم ذلك فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة و الغرغرة و هو معنى قوله تعالى : { ثم يتوبون من قريب }
و قال ابن عباس و السدي : من قريب : قبل المرض و الموت
و قال أبو مجلز و الضحاك و عكرمة و ابن زيد و غيرهم : قبل المعاينة للملائكة و السوق و أن يغلب المرء على نفسه و لقد أحسن محمود الوراق حيث قال : ( قدم لنفسك توبة مرجوة ... قبل الممات و قبل حبس الألسن )
( بادر به غلق النفوس فإنها ... ذخر و غنم للمنيب المحسن )
قال علماؤنا ـ رحمهم الله ـ و إنما صحت منه التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق و يصح الندم و العزم على ترك الفعل و قيل : المعنى : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار و المبادرة في الصحة أفضل و ألحق لأمله من العمل الصالح و البعد كل البعد الموت و أما ما كان قبل الموت فهو قريب عن الضحاك أيضا
و عن الحسن : لما هبط إبليس قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده قال الله تعالى [ و عزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه ]
و التوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين لقوله تعالى : { و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } و قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا }
و لها شروط أربعة : الندم بالقلب و ترك المعصية في الحال و العزم على أن لا يعود إلى مثلها و أن يكون ذلك حياء من الله تعالى و خوفا منه لا من غيره فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة و قد قيل : من شروطها : الاعتراف بالذنب و كثرة الإستغفار الذي يحل عقد الإصرار و يثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان فأما من قال بلسانه : أستغفر الله و قلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار و صغيرته لا حقة بالكبائر
و روي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا مقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم حريصا عليه لا يقلع و البحة في يده زاعما أنه يستغفر من ذنبه و ذلك استهزاء منه و استخفاف و هو ممن اتخذ آيات الله هزؤا و في التنزيل { و لا تتخذوا آيات الله هزوا }
و روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلا قد فرغ من صلاته و قال : اللهم إني أستغفرك و أتوب إليك سريعا فقال له : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين و توبتك تحتاج إلى توبة قال يا أمير المؤمنين : و ما التوبة ؟ قال : إسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة و لتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم إلى أهلها و إئاب النفس في الطاعة كما أذابتها في المعصية و إذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية و أن تزين نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصية الله و البكاء بدل كل ضحك ضحكته
و قال أبو بكر الوراق : التوبة أن تكون نصوحا و هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت و تضيق عليك نفسك كالثلاثة الذين خلفوا
و قيل : التوبة النصوح هي رد المظالم و استحلال الخصوم و إدمان الطاعات
و قيل : غير هذا و بالجملة فالذنوب التي يثاب منها إما كفر أو غيره فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على سالف كفره و ليس مجرد الإيمان نفس التوبة و غير الكفر : إما حق الله و إما حق لغيره فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة و الصوم و منها ما أضاف إليه كفارة كالحنث في الإيمان و غير ذلك و أما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها فإن لم يوجدوا تصدق عنهم و من لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعساره فعفو الله مأمول و فضله مبذول فكم ضمن من التبعات و بدل من السيئات بالحسنات و عليه أن يكثر من الأعمال الصالحات و يستغفر لمن ظلمه من المؤمنين و المؤمنات فهذا الكلام في حقيقة التوبة
و قد روي مرفوعا في صفة التائب من [ حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال و هو في جماعة من أصحابه أتدرون من التائب ؟ قالوا : اللهم لا قال : إذا تاب العبد و لم يرض خصماؤه فليس بتائب و من تاب و لم يغير لباسه فليس بتائب و من تاب و لم يغير مجلسه فليس بتائب و من تاب و لم يغير نفقته و زينته فليس بتائب و من تاب و لم يغير فراشه و وساده فليس بتائب ومن تاب و لم يوسع خلقه فليس بتائب و من تاب و لم يوسع قلبه و كفه فليس بتائب ] ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإذا تاب عن هذه الخصال فذلك تائب حقا ]
قال العلماء : إرضاء الخصوم يكون بأن يرد عليهم ما غصبهم من مال أو خانهم أو غلهم أو اغتابهم أو خرق أعراضهم أو شتمهم أو سبهم فيرضيهم بما استطاع و يتحللهم من ذلك فإن انقرضوا فإن كان لهم قبله مال رده إلى الورثة و إن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم و يستغفر لهم بعد الموت و يدعو : اللهم عوض الذم و الغيبة لا خلاف في هذا و أما تغيير اللباس فهو أن يستبدل ما عليه من الحرام بالحلال و إن كانت ثياب كبر و خيلاء استبدلها بأطمار متوسطة و تغيير المجلس : هو بأن يترك مجالس اللهو و اللعب و الجهال و الأحداث و يجالس العلماء و مجالس الذكر و الفقراء و الصالحين و يتقرب إلى قلوبهم بالخدمة و بما يستطيع و يصافحهم و تغيير الطعام بأن يأكل الحلال و بجانب ما كان من شبهة أو شهوة و يغير أوقات أكله و لا يقصد اللذيذ من الأطعمة و تغيير النفقة هو بترك الحرام و كسب الحلال و تغيير الزينة بترك التزين في الأثاث و البناء و اللباس و الطعام و الشراب و تغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة و الغفلة و المعصية كما قال الله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } و تغيير الخلق هو بأن ينقلب خلقه من الشدة إلى اللين و من الضيق إلى السعة و من الشكاسة إلى السماحة و توسيع القلب يكون بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال و توسيع الكف بالسخاء و الإيثار بالعطاء هكذا يبدل كل ما كان فيه كشرب الخمر بكسره و سقي اللبن و العسل و الزنا بكفالة الأرملة و اليتيمة و تجهيزهما و يكون مع ذلك نادما على ما سلف منه و متحسرا على ما ضيع من عمره فإذا كملت التوبة به على هذه الخصال التي ذكرنا و الشروط التي بينا تقبلها الله بكرمه و أنسى حافظيه و بقاع الأرض خطاياه و ذنوبه قال الله تعالى : { و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى }
و الأصل في هذه الجملة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي قتل مائة نفس ثم سأل : هل له من توبة ؟ فقال له العالم : و من يحول بينك و بينها انطلق إلى أرض بني فلان فإن بها ناسا صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم و لا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح و في مسند أبي داود الطيالسي : [ حدثنا زهير بن معاوية عن عبد الكريم الجزري عن زياد و ليس بابن أبي مريم عن عبد الله بن مغفل قال : كنت مع أبي و أنا إلى جنبه عند عبد الله بن مسعود فقال له أبي : أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز و جل تاب الله عليه ؟ فقال : نعم سمعته يقول : الندم توبة ]
و في صحيح مسلم و البخاري [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ]
و روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له [ عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر ثم قال : و الذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس و يصوم رمضان و يجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى أنها لتصفق ثم تلا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ]
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : فدل القرآن على أن في الذنوب كبائر و صغائر خلافا لمن قال : كلها كبائر حسب ما بيناه في سورة النساء و أن الصغائر كاللمسة و النظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق و قوله الحق لا أنه يجب عليه ذلك لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب و هي إقامة الفرائض كما نص عليه الحديث و مثله : ما رواه مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ] على هذا جماعة أهل التأويل و جماعة الفقهاء و هو الصحيح في الباب و أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة منها و الإقلاع عنها كما بينا و قد اختلف في تعيينها ليس هذا موضع ذكرها و سيأتي في القصاص و في أبواب النار جملة منها إن شاء الله تعالى
باب لا تخرج روح عبد مؤمن أو كافر حتى يبشر و أنه يصعد بها ابن المبارك قال : أخبرنا حيوة قال : أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك يا ولي الله الله يقرئك السلام ثم نزع بهذه الآية { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم }
و قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام
و عن البراء بن عازب في قوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه
و قال مجاهد : إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه
ابن ماجه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا : أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري روح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقولون : فلان بن فلان فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة و أبشري بروح و ريحان و رب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى فإذا كان الرجل السوء قال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة و أبشري بجحيم وغساق لآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر ] خرجه عن أبي بكر بن أبي شبيبة
قال : حدثنا شبابة بن يسار سوار عن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة و هذا إسناد صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري و مسلم ما عدا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده خرجه عبد بن حميد أيضا [ عن ابن أبي ذئب قال محمد بن عمر فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الميت تحضرة الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها الروح الطيبة ] فذكره مسلم [ عن أبي هريرة قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها ]
قال حماد : فذكر من طيب ريحها و ذكر المسك : قال و يقول أهل السماء : روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك و على جسد كنت تعمرينه فينطلق بها إلى ربه ثم يقول : انطلقوا بها إلى آخر الأجل و إن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد : و ذكر من نتنها و ذكر لعنا و يقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض قال : فيقال : انطلقوا بها إلى آخر الآجل قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا
البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه ] فقالت عائشة ـ أو بعض أزواجه : إنا لنكره الموت فقال : [ ليس ذاك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله و كرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله و أحب الله لقاءه و إن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله و عقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله و كره الله لقاءه ] أخرجه مسلم و ابن ماجه من حديث عائشة و ابن المبارك من حديث أنس رضي الله عنه
فصل : هذا الحديث و إن كان مفسرا مبينا فقد روي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير هذا الحديث أنها قالت لشريح بن هاني و قد سألها عما سمعه من أبي هريرة و ليس بالذي تذهب إليه و لكن إذا شخص البصر و حشرج الصدر و اقشعر الجلد تشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه خرجه مسلم
و روي عنها أيضا في تفسيره أنها قالت إذا أراد الله بعبد خيرا قيض به قبل موته بعام ملكا فسدده و وقفه حتى يقول الناس : مات فلان خير ما كان فإذا أحضر و رأى ثوابه تهوع نفسه أو قال تهوعت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله و أحب الله لقاءه و إذا أراد الله بعبده شرا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله و فتنه حتى يقول الناس مات فلان شر ما كان فإذا أحضر و رأى ما ينزل به من العذاب تبلغ نفسه فذلك حين يكره لقاء الله و كره الله لقاءه
و خرج الترمذي في أبواب القدر [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل إذا أراد بعبد خيرا استعمله فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل الموت ] قال أبو عيسى هذا حديث صحيح
قال الشيخ المؤلف رحمه الله و منه الحديث الآخر : [ إذا أراد الله بعبده خيرا عسله قالوا يا رسول الله و ما عسله ؟ قال : يفتح الله له عملا صالحا بين يدي موته متى يرضى عنه من حوله ]
و عن قتادة في تفسير قوله تعالى : { فروح و ريحان } قال : الروح : الرحمة و الريحان : تتلقاه به الملائكة عند الموت
و روى ابن جريج [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة : في تفسير قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال : رب ارجعون } إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول إلى دار الهموم و الأحزان ؟ و يقول قدما إلى الله عز و جل و أما الكافر فيقولون : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول : { ارجعون * لعلي أعمل صالحا } الآية و أما قوله في الحديث حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى فالمعنى أمر الله و حكمه و هي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض و منها يهبط ما ينزل به منها ] كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء
و في حديث البارء أنه ينتهي به إلى السماء و سيأتي إن شاء الله تعالى
و قد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم و نظر و معنا جماعة من أهل النظر فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر من قوله : { الرحمن على العرش استوى } فذكرت له هذا الحديث فما كان منه إلا أن بادر إلى عدم صحته و لعن رواته و بين أيدينا رطب نأكله فقلت له : الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن و لا ترد الأخبار بمثل هذا القول بل تتأول و تحمل على ما يليق من التأويل و الذين رووا لنا الصلوات الخمس و أحكامها فإن صدقوا هنا صدقوا هناك و إن كذبوا هناك و لا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه
و قد خرج البزار في مسنده [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر ريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين و يقال : { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية } مرضيا عنك إلى روح الله و كرامته فإذا خرجت روحه و ضعت على ذلك المسك و الريحان و طيت عليها الحريرة و ذهب بها إلى عليين و إن الكافر إذا احتضرا أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا و يقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى هوان الله و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة و يطوى عليها المسح و يذهب بها إلى سجين ]
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : فقوله في روح المؤمن : يذهب بها إلى عليين هو معنى ما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم إلى السماء التي فيها الله و الأحاديث يقسر بعضها بعضا و لا إشكال
و ذكرته عند بعض من يتسم بالعلم و الفقه و القضاء فلم يكن منه إلا أن بادر بلعن من رواه و نقله فظن منه التجسيم فقلت له : الحديث صحيح و الذين رووه هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و غيرها من أمور الدين فإن كذبوا هنا كذبوا هنالك و إن صدقوا هنا صدقوا هنالك و التأويل مزيل ما توهمته و كان في ذلك كلام و حضره جماعة من أهل الفقه و النظر فذكرت له ما ذكرناه و ذكرت له حديث التنزيل و قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } و ما تأوله العلماء في ذلك و سيأتي من ذلك في هذا الكتاب ما فيه كفاية لمن اهتدى و الحمد لله
و أما قوله في حديث محمد بن كعب أول الباب إذا استنقعت نفس المؤمن فقال شمر لا أعرفه و سمعت الزهري يقول : يعني إذا اجتمعت في فيه حين تريد أن تخرج كما يستنقع الماء في قراره و النفس : الروح ها هنا حكاه الهروي
باب ما جاء في تلاقي الأرواح في السماء و السؤال عن أهل الأرض و في عرض الأعمال
ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله تعالى كما يتلقون البشير في الدنيا فيقبلون عليه يسألونه فيقول بعضهم لبعض : انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد قال : فيقبلون عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة هل تزوجت ؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول : إنه هلك فيقولون : إنا الله و إنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية قال : فتعرض عليهم أعماله فإن رأوا حسنا فرحوا و استبشروا و قالوا : اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها و إن رأوا شرا قالوا : اللهم راجع بعبدك
قال ابن المبارك : و أخبرنا صفوان بن عمرو قال : حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفيلا أن أبا الدرداء كان يقول : إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون و يساؤن قال : يقول أبو الدرداء : اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا يخزى به عبد الله بن رواحة
و في رواية : اللهم إني أعوذ بك من عمل يخزيني عند عبد الله بن رواحة
أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الثقفي قال : أخبرني عثمان بن عبد الله بن أوس أن سعيد بن جبير قال له : أستأذن لي على ابنة أخي و هي زوجة عثمان و هي ابنة عمرو بن أوس فاستأذنت له فدخل عليها ثم قال : كيف يفعل بك زوجك ؟ قالت : إنه إلي لمحسن فيما استطاع فالتفت إلي ثم قال : يا عثمان أحسن إليها فإنك لا تصنع بها شيئا إلا جاء عمرو بن أوس فقلت : و هل تأتي الأموات أخبار الأحياء ؟ قال : نعم ما من أحد له حميم إلا و يأتيه أخبار أقاربه فإن كان خيرا سر به و فرح و هنئ به و إن كان شرا ابتأس و حزن به حتى إنهم ليسألون عن الرجل قد مات فيقال : أو لم يأتكم ؟ فيقولون : لا خولف به إلى أمه الهاوية
و عن الحسن البصري رضي الله عنه قال : إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء فتلقاه أرواح المؤمنين فيسألونه فيقولون : ما فعل فلان ؟ فيقول أو لم يأتكم ؟ فيقولون : لا و الله ما جاءنا و لا مر بنا فيقولون : سلك به إلى أمه الهاوية فبئست الأم و بئست المربية
و قال وهب بن منبه : إن لله في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين فإذا مات الميت في أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسائل الغائب أهله إذا قدم إليهم ذكره أبو نعيم رحمه الله
فصل : هذه الأخبار و إن كانت موقوفة فمثلها لا يقال من جهة الرأي
و قد خرج النسائي بسنده [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الحديث و فيه : فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال : أو ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية ] و ذكر الحديث و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : [ حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا قبيصة عن سفيان عن أبان بن أبي عياش عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أعمالكم تعرض على عشائركم و أقاربكم من الموتى فإن كان خيرا استبشروا و إن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم لما هديتنا ]
و خرج من حديث عبد الغفور بن عبد العزيز [ عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تعرض الأعمال يوم الاثنين و يوم الخميس على الله و تعرض على الأنبياء و على الأباء و الأمهات يوم الجمعة فيفرحون بحسناتهم و تزداد وجوههم بياضا و تشرق فاتقوا الله عباد الله لا تؤذوا موتاكم بأعمالكم ]
و روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أرواحكم تعرض إذا مات أحدكم على عشائركم و موتاكم فيقول بعضهم لبعضهم : دعوه يستريح فإنه كان في كرب ثم يسألونه : ما عمل فلان ؟ و ما عملت فلانة ؟ فإن ذكر خيرا حمدوا الله و استبشروا و إن كان شرا قالوا : اللهم اغفر له حتى أنهم يسألون هل تزوج فلان ؟ هل تزوجت فلانة ؟ قال : فيسألونه عن رجل مات قبله فيقول : ذاك مات قبلي ؟ أما مر بكم ؟ فيقولون : لا و الله فيقولون : إنا لله و إنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم و بئست المربية حتى إنهم ليسألونه عن هر البيت ] ذكره الثعلبي رحمه الله
و قد قيل في قوله عليه الصلاة و السلام : [ الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف ] : إنه هذا التلاقي و قد قيل : تلاقي أرواح النيام و الموتى و قيل غير هذا و الله أعلم
باب منه روى من حديث ابن لهيعة [ عن بكير بن الأشج عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته ] قيل يجوز أن يكون الميت يبلغ من أفعال الأحياء و أقوالهم ما يؤذيه في قبره بلطيفة يحدثها لهم : من ملك يبلغ أو علامة أو دليل أو ما شاء الله و هو القادر على ما يشاء
و روي عن عروة قال : وقع رجل في علي رضي الله عنه عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : ما لك قبحك الله : لقد آذيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره
قال علماؤنا : ففي هذا الحديث زجر عن سوء القول في الأموات
و في الحديث : أنه نهى عن سب الأموات و زجر عن فعل ما كان يسؤوهم في حياتهم و فيه أيضا زجر عن عقوق الآباء و الأمهات بعد موتهما بما يسؤوهما من فعل الحي
فقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يهدي لصدائق خديجة صلة منه لها وبرا و إذا كان الفعل صلة وبرا كان ضده عقوبة و قطيعا و عقوقا و قيل : يجوز أن يكو ن معنى الحديث : الميت يؤذيه في قبره من كان يؤذيه في بيته إذا كان حيا فيكون [ ما ] بمعنى [ من ] و يكون ذلك مضمرا في الكلام ن و الإشارة إلى الملك الموكل بالإنسان
فقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الملك يتباعد عن الرجل عند الكذبة يكذبها ميلين من نتن ما جاء به و كذلك كل معصية لله تؤذي الملك الموكل به فيجوز أن يموت العبد و هو مصر على معاصي الله غير تائب منها و لا مكفر عنه خطاياه فيكون تمحيصه و تطهيره فيما يلحقه من الأذى من تغليظ الملك إياه أو تفريعه له و الله سبحانه و تعالى أعلم
باب في شأن الروح و أين تصير حين تخرج من الجسد ؟ قال أبو الحسن القابسي رحمه الله : الصحيح من المذهب و الذي عليه أهل السنة أنها ترفعها الملائكة حتى توقفها بين يدي الله تعالى فيسألها فإن كانت من أهل السعادة قال لهم : سيروا بها و أروها مقعدها من الجنة فيسيرون به في الجنة على قدر ما يغسل الميت فإذا غسل الميت و كفن ردت و أدرجت بين كفنه و جسده فإذا حمل على النعش فإنه يسمع كلام الناس من تكلم بخير و من تكلم بشر فإذا وصل إلى قبره و صلي عليه ردت فيه الروح و أقعد ذا روح و جسد و دخل عليه الملكان الفتانان على ما يأتي
و عن عمرو بن دينار قال : ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل و كيف يكفن و كيف يمشي به فيجلس في قبره
قال داود : و زاد في هذا الحديث قال : يقال له و هو على سريره : اسمع ثناء الناس عليك ذكره أبو نعيم الحافظ في باب عمرو
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : فإذا قبض الملك النفس السعيدة تناولها ملكان حسان الوجوه عليهما أثواب حسنة ولهما رائحة طيبة فيلفونها في حرير من حرير الجنة و هي على قدر النحلة شخص إنساني ما فقد من عقله و لا من علمه المكتسب له في دار الدنيا فيعرجون بها في الهواء فلا يزال يمر بالأمم السالفة و القرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيقرع الأمين الباب فيقال للأمين : من أنت ؟ فيقول : أنا صلصائيل و هذا فلان معي بأحسن أسمائه و أحبها إليه فيقول : نعم الرجل كان فلان و كانت عقيدته غير شاك ثم ينتهي به إلى السماء الثانية فيقرع الباب فيقال له : من أنت ؟ فيقول مقالته الأولى : فيقولون : أهلا و سهلا بفلان كان محافظا على صلاته بجميع فرائضها ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة فيقرع الباب فيقال له : من أنت ؟ فيقول الأمين مقالته الأولى و الثانية فيقال : مرحبا بفلان كان يراعي الله في حق ماله و لا يتمسك منه بشيء ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة فيقرع الباب فيقال : من أنت ؟ فيقول : كدأبه في مقالته فيقال : أهلا بفلان كان يصوم فيحسن الصوم و يحفظه من أدران الرفث و حرام الطعام ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب فيقال : من أنت ؟ فيقول كعادته فيقال : أهلا و سهلا بفلان أدى حجة الله الواجبة من غير سمعا و لا رياء ثم ينتهي إلى السماء السادسة فيقرع الباب فيقال : من أنت ؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته فيقال مرحبا بالرجل الصالح و النفس الطيبة كان كثير البر بوالديه فيفتح له الباب ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقرع الباب فيقال من أنت ؟ فيقول الأمين مقالته فيقال : مرحبا بفلان كان كثير الاستغفار بالأسحار و يتصدق في السر و يكفل الأيتام ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلال فيقرع الباب فيقال له : من أنت ؟ فيقول الأمين مثل قوله فيقول : أهلا و سهلا بالعبد الصالح و النفس الطيبة كان كثير الاستغفار و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يكرم المساكين و يمر بملأ من الملائكة كلهم يبشرونه بالخير و يصافحونه حتى ينتهي إلى سدرة المنتهي فيقرع الباب فيقال : من أنت ؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته فيقال : أهلا و سهلا بفلان كان عمله عملا صالحا خالصا لوجه الله عز و جل ثم يفتح له فيمر في بحر من نار ثم يمر في بحر من نور ثم يمر في بحر من ظلمة ثم يمر في بحر من ماء ثم يمر في بحر من ثلج ثم يمر به في بحر من برد طول كل بحر منها ألف عام ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن و هي ثمانون ألفا من السرادقات لها شراريف لكل سرادق ثمانون ألف شرافة على كل شرافة ثمانون ألف قمر يهللون لله و يسبحونه و يقدسونه لو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا لعبد من دون الله و لأحرقها نورا فحينئذ ينادي من الحضرة القدسية من وراء أولئك السرادقات : من هذه النفس التي جئتم بها ؟ فيقال : فلان ابن فلان فيقول الجليل جل جلاله : قربوه فنعم العبد كنت يا عبدي فإذا أوقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم و المعاتبة حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه
كما روي عن يحيى بن أكثم القاضي و قد رئي في المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه ثم قال : يا شيخ السوء فعلت كذا و فعلت كذا فقلت : يا رب ما بهذا حدثت عنك قال : فبم حدثت عني يا يحيى ؟ فقلت : حدثني الزهري [ عن معمر عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت : إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة في الإسلام فقال : يا يحيى صدقت و صدق الزهري و صدق معمر و صدق عروة و صدقت عائشة و صدق محمد و صدق جبريل و قد غفرت لك ]
و عن ابن نباتة و قد رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين الكريمين و قال : أنت الذي تخلص كلامك حتى يقال : ما أفصحه ! فقلت : سبحانك إني أصفك : قال : قل ما كنت تقول في دار الدنيا قلت : أبادهم الذي خلقهم و أسكنهم الذي أنطقهم و سيوجدهم كما أعدمهم و سيجمعهم كما فرقهم قال لي صدقت اذهب فإني قد غفرت لك
و عن منصور بن عمار أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه و قال لي : بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت : بست و ثلاثين حجة قال : ما قبلت منها شيئا و لا واحدة ثم قال : بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت : جئتك بثلاثمائة و ستين ختمة للقرآن قال : ما قبلت منها واحدة ثم قال : فبماذا جئتني يا منصور ؟ قال : جئتك بك قال سبحانه : الآن جئتني اذهب فقد غفرت لك و من الناس من إذا انتهى إلى الكرسي سمع النداء : ردوه فمنهم من يرد من الحجب و إنما يصل إلى الله عارفوه
فصل : و أما الكافر فتؤخذ نفسه عنفا فإذا وجهه كأكل الحنظل و الملك يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث فإذا له صراخ أعظم ما يكون كصراخ الحمير فإذا قبضها عزرائيل ناولها زبانية قباح الوجوه سود الثياب منتني الرائحة بأيديهم مسوح من شعر فليفونها فيستحيل شخصا إنسانيا على قدر الجرادة فإن الكافر أعظم جرما من المؤمن يعني في الجسم في الآخرة و في الصحيح أن ضرس الكافر في النار مثل أحد فيعرج به حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيقرع الأمين باب فيقال : من أنت ؟ فيقول : أنا دقيائيل لأن اسم الملك الموكل على زبانية العذاب دقيائيل فيقال : من معك ؟ فيقول : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه و أبغضها إليه في دار الدنيا لا أهلا و لا سهلا و لا مرحبا { لا تفتح لهم أبواب السماء و لا يدخلون الجنة } الآية فإذا سمع الأمين هذه المقالة طرحه يده { أو تهوي به الريح في مكان سحيق } أي : بعيد و هو قوله عز و جل : { و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } فإذا انتهى إلى الأرض ابتدرته الزبانية و سارت به إلى سجين و هي صخرة عظيمة تأوي إليها أرواح الفجار و أما النصارى و اليهود فمردودون من الكرسي إلى قبورهم هذا من كان منهم على شريعته و يشاهد غسله و دفنه
و أما المشرك فلا يشاهد شيئا من ذلك لأنه قد هوى به
و أما المنافق فمثل الثاني يرد ممقوتا مطرودا إلى هوى
و أما المقصورن المؤمنون فتختلف أنواعهم فمنهم ترده صلاته لأن العبد من إذا قصر في صلاته سارقا لها تلف كما يلف الثوب الخلق و يضرب بها وجهه ثم تعرح و تقول : ضيعك الله كما ضيعتني و منهم من ترده زكاته لأنه إنما يزكي ليقال : فلان متصدق و ربما وضعها عند النساء و لقد رأيناه عافانا الله مما حل به و من الناس من يرده صومه لأنه صام عن الطعام و لم يصم عن الكلام فهو رفث و خسران فيخرج الشهر و قد بهرجه و من الناس من يرده حجه لأنه إنما حج ليقال فلان حج أو يكون حج بمال خبيث و من الناس من يرده العقوق و سائر أحوال البر كلها لا يعرفها إلا العلماء بأسرار المعاملات و تخليص العمل الذي للملك الوهاب فكل هذه المعاني جاءت بها الآثار و الأخبار كالخبر الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه في رد الأعمال و غيره فإذا ردت النفس إلى الجسد و وجدته قد أخذ في غسله إن كان قد غسل فتقعد عند رأسه حتى يغسل فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت ملتصقة بالصدر من خارج الصدر و لها خوار و عجيج تقول : أسرعوا بي إلى رحمة الله أي رحمة لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه و إن كان يبشر بالشقاء تقول : رويدا إلى أي عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه فإذا أدخل القبر وهيل عليه التراب ناداه القبر : كنت تفرح على ظهري فاليوم تحزن في بطني كنت تأكل الألوان على ظهري فالآن يأكلك الدود في بطني و يكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى يسوى عليه التراب ثم يناديه ملك يقال له رومان و هو أول ما يلقي الميت إذا دخل قبره على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى و الله أعلم بغيبه و أحكم
باب كيفية التوفي للموتى ؟ و اختلاف أحوالهم في ذلك ذكر الله التوفي في كتابه مجملا و مفصلا :
فقال الله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } و قال : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } و قال : { توفته رسلنا و هم لا يفرطون } و قال : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } فهذا كله محمل و قد بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه إن شاء تعالى و قال : { و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } و قال : { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم } و هذا مخصوص بمن قتل من الكفار يوم بدر باتفاق أهل التأويل فيما قاله بعض علمائنا و قد ذكر المهدوي و غيره في ذلك اختلافا و أن الكفار حتى الآن يتوفون بالضرب و الهوان و الله أعلم
و روى مسلم في حديث فيه طول قال أبو زميل : فحدثني ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه و صوت الفارس يقول : أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قدم خطم أنفه و شق وجهه لضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ صدقت ذلك من مدد السماء الثانية ] فقتلوا يومئذ سبعين و أسروا سبعين و ذكر الحديث
و قال تعالى : { لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم } أي بالعذاب { أخرجوا أنفسكم } إلى قوله { يستكبرون } و قد زادت السنة هذا النوع بيانا على ما يأتي
فصل : إن قال قائل : كيف الجمع بين هذه الآي و كيف يقبض ملك الموت في زمن واحد أرواح من يموت بالمشرق و المغرب ؟ قيل له : اعلم أن التوفي مأخوذ من توفيت الدين و استوفيته إذا قبضته و لم يدع منه شيئا فتارة يضاف إلى ملك الموت لمباشرته ذلك و تارة إلى أعوانه من الملائكة لأنهم قد يتولون ذلك أيضا و تارة إلى الله تعالى و هو المتوفي على الحقيقة كما قال عز و جل { الله يتوفى الأنفس حين موتها } و قال : { و هو الذي أحياكم ثم يميتكم } و قال : { الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم } فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما يفعل بأمره
و قال الكلبي : يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا و إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا و هذا المعنى منصوص في حديث البراء و سيأتي
و في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن ملك الموت ليهيب بالأروح كما يهيب أحدكم بفلوه أو فصيله ألا هلم ألا هلم ] يهيب : يدعو يقال : أهاب الرجل بغنمه أي صاح بها لتقف أو لترجع و أهاب بالبعير
قال طرفة يصف ناقته :
( تريع إلى صوت المهيب و تتقي ... بذي خصل روعات أكلب ملبدي )
تريع : معناه : تعود و ترجع
و قال الشاعر :
( طمعت بليلى إذ تريع و إنما ... تقطع أرقاب الرجال المطامع )
و الخصل : أطراف الشجر المتدلية و الروعات جمع روعة و هي الفزعة و أكلب الرجل إذا أكلبت إبله و اتكلب شبيه بالجنون و قال جميعه الجوهري
و قال العتابي الكلابي :
( أهابوا به فازداد بعد وصده ... عن القرب منهم ضوء برق و وابله )
يعني نصل السهم
فأخبر صلى الله عليه و سلم : [ أنه يدعو الأرواح التي يتوفاها الله و يقبضها ]
و في الخبر أن ملك الموت جالس و بين يديه صحيفة يكتب فيها له ليلة النصف من شعبان و هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم من الأرزاق و الآجال في قفول بعض العلماء عكرمة و غيره و الصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة القدر من شهر رمضان و هو قول قتادة و الحسن و مجاهد و غيرهم يدل عليه قوله تعالى : { حم * و الكتاب المبين * إنا أنزلناه } يعني القرآن { في ليلة مباركة } يعني ليلة القدر و هذا بين
و قال ابن عباس : إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان و يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر و كان هذا جمعا بين القولين و الله أعلم فإذا انقضى عمر ذلك الشخص الذي حان قبض روحه سقطت ورقة من سدرة المنتهى التي فيها اسمه على اسمه في الصحيفة فعرف أن قدر فرغ أجله و انقطع أكله
و في الخبر أن ملك الموت تحت العرش يسقط عليه صحائف من يموت من تحت العرش الصحف هنا : ورق السدرة و الله أعلم
و كما في الخبر قبله : فإذا نظر إلى الإنسان قد نفذ رزقه و انقطع أكله ألقى عليه سكرات الموت فغشيته كرباته و أدركته سكراته
و في خبر الإسراء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مررت على ملك آخر جالس على كرسي إذا جميع الدنيا و من فيها بين ركبتيه و بيده لوح مكتوب ينظر فيه و لا يلتفت عنه يمينا و لا شمالا فقلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا ملك الموت قلت : يا ملك الموت كيف تقدر على قبض جميع أرواح من في الأرض برها و بحرها ؟ قال : ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي و جميع الخلائق بين عيني و يداي تبلغان المشرق و المغرب فإذا نفذ أجل عبد نظرت إليه فإذا نظرت إليه عرف أعواني من الملائكة أنه مقبوض غدوا فبطشوا يعالجون نزع روحه فإذا بلغوا بالروح الحلقوم علمت ذلك فلم يخف علي شيء من أمره مددت يدي فأنزعه من جسده و ألى قبضه
و في الخبر : أنه ينزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى و ملك يجذبها من يده اليمنى و ملك يجذبها من يده اليسرى ] ذكره أبو حامد
و قال : و ربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر فيعاين الملائكة على حقيقة عمله على ما يتحيزون إليه من عالمهم فإنه كان لسانه منطلقا حدث بوجودهم و ربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى و ظن أن ذلك من فعل الشيطان به فيسكت حين يعقل لسانه و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع و النفس تنسل انسلال القداة من السقا
و الفاجر تسل روح كالسفود من الصوف المبلول هكذا حكى صاحب الشرع عليه السلام و الميت يظن أن بطنه ملئت شوكا كأنما نفسه تخرج من ثقب إبرة و كأن السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما فإذا احتضرت نفسه إلى القلب مات لسانه عن النطق فما أحد ينطق و النفس مجموعة في صدره لسرين
أحدهما : أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ألا ترى أن الإنسان إذ أصابته ضربته في الصدر بقي مدهوشا فتارة لا يقدر على الكلام و كل مطعون يطعن يصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر من غير تصويت
و أما السر الآخر : فلأن الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية فصار نفسه متغير الحالتين حال الارتفاع و البرودة لأنه فقد الحرارة فعند هذا الحين تختلف أحوال الموتى فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سما من نار فتفر الروح و تفيض خارجة فيأخذ الملك في يده و هي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر الجرادة شخصا إنسانيا ثم يناولها الزبانية
و من الموتى من تجذب نفسه رويدا حتى تنحصر في الحنجرة و ليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : لم أجد لهذه الحربة في الأخبار ذكر إلا ما ذكره أبو نعيم الحافظ
قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمود قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا سلمة بن شبيب قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت عليه السلام حربة تبلغ ما بين المشرق و المغرب فإذا انقضى أجل عبد من الدنيا ضرب رأسه بتلك الحربة و قال : الآن يزار بك عسكر الأموات
و روى سليمان بن مهير الكلابي قال : حضرت مالك بن أنس و أتاه رجل فسأله : يا أبا عبد الله البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ فأطرق مالك طويلا ثم قال : لها نفس ؟ قال : نعم قال : ملك الموت يقبض أرواحها { الله يتوفى الأنفس حين موتها } ذكره الخطيب أبو بكر رحمه الله
باب ما جاء في صفة ملك الموت عن قبض روح المؤمن و الكافر قال علماؤنا رحمهم الله : و أما مشاهدة ملك الموت عليه السلام و ما يدخل على القلب منه من الورع و الفزع فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله و فظاعة رؤيته و لا يعلم حقيقة ذلك إلا الذي يبتدئ له و يطلع عليه و إنما هي أمثال تضرب و حكايات تروى
روى عن عكرمة أنه قال : رأيت في بعض صحف شيث أن آدم عليه السلام قال : يا رب أرني ملك الموت حتى أنظر إليه فأوحى الله تعالى إليه : إن له صفات لا تقدر على النظر إليها و سأنزله عليك في الصورة التي يأتي فيها الأنبياء و المصطفين فأنزل الله عليه جبريل و ميكائيل و أتاه ملك الموت في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح منها جناح جاوز السموات و الأرض و جناح جاوز الأرضين و جناح جاوز أقصى المشرق و جناح جاوز أقصى المغرب و إذا بين يديه الأرض بما اشتملت عليه من الجبال و السهول و الغياض و الجن و الإنس و الدواب و ما أحاط بها من البحار و ما علاها من الأجواء في ثغرة نحرة كالخردلة في فلاة من الأرض و إذا عيون لا يفتحها إلا في مواضع فتحها و أجنحة لا ينشرها إلا في مواضع نشرها و أجنحة للبشرى ينشرها للمصطفين و أجنحة للكفار فيها سفافيد و كلاليب و مقاريض فصعق آدم صعقة لبث فيها إلى مثل تلك الساعة من اليوم السابع ثم أفاق و كان في عروفة الزعفران ذكر هذا الخبر ابن ظفر الواعظ المكنى أبو هاشم محمد بن محمد في كتاب النصائح
و روى عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمن سأل ملك الموت أن يريه كيف يقبض روح المؤمن فقال له : اصرف وجهك عني فصرف ثم نظر إليه فرآه في صورة شاب حسن الصورة حسن الثياب طيب الرائحة حسن البشر فقال له : و الله لو لم يلق المؤمن من السرور شيئا سوى وجهك كفاه ثم قال له : أرني كيف تقبض روح الكافر فقال له : لا تطيق ذلك قال : بلى أرني قال : اصرف وجهك عني فصرف وجهه عنه ثم نظر إليه فإذا صورة إنسان أسود رجلاه في الأرض و رأسه في السماء كأقبح ما أنت راء من الصور تحت كل شعرة من جسده لهيب نار فقال له : و الله لو لم يلق الكافر سوى نظرة إلى شخصك لكفاه
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و سيأتي هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم في الملائكة في حديث البراء و غيره إن شاء الله تعالى
و قال ابن عباس أيضا : كان إبراهيم عليه السلام رجلا غيورا و كان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فرجع ذات يوم فإذا هو برجل في جوف البيت فقال : من أدخلك داري ؟ فقال : أدخلنيها ربها قال إبراهيم : أنا ربها قال : أدخلنيها من هو أملك بها منك قال : فمن أنت من الملائكة ؟ قال : أنا ملك الموت قال : أتستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن ؟ قال : نعم ثم التفت إبراهيم فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه و حسن ثيابه و طيب رائحته فقال : يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك لكان حسبه ثم قبض روحه صلى الله عليه و سلم
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يتعحب من كون ملك الموت يرى على صورتين لشخصين فما ذلك إلا مثل ما يصيب الإنسان بتغير الخلقة في الصحة و المرض و الصغر و الكبر و الشباب و الهرم و كصفاء اللون بملازمة الحمام و شحوبة الوجه بتغير اللون بلفح الهواجر في السفر غير أن قضية الملائكة عليهم السلام يجري ذلك منهم في اليوم الواحدة و إن لم يجر هذا على الإنسان إلا في الأوقات المتباعدة و السنين المتطاولة و هذا بين فتأمله
باب ما جاء أن ملك الموت عليه السلام هو القابض لأرواح الخلق و أنه يقف على كل بيت في كل يوم خميس مرات و على كل ذي روح كل ساعة و أنه ينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة
قال الله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم }
و روي عن ابن عمر قال : إذا قبض ملك الموت روح المؤمن قام على عتبة الباب و لأهل البيت ضجة فمنهم الصاكة وجهها و منهم الناشرة شعرها و منهم الداعية بويلها فيقول ملك الموت عليه السلام : فيم هذا الجزع فو الله ما أنقصت لأحد منكم عمرا و لا ذهبت لأحد منكم برزق و لا ظلمت لأحد منكم شيئا فإن كانت شكايتكم و سخطكم علي فإني و الله مأمور و إن كان ذلك على ميتكم فإنه في ذلك مقهور و إن كان ذلك على ربكم فأنتم به كفرة و إن لي فيكم عودة ثم عودة فلو أنهم يرون مكانه أو يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم : خرجه أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات له
و روى معناه مرفوعا في الخبر المشهور المروي في الأربعين [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من بيت إلا و ملك الموت يقف على بابه في كل يوم خمس مرات فإذا وجد الإنسان قد نفذ أكله و انقطع أجله ألقى عليه غمرات الموت فغشيته كرباته و غمرته غمراته فمن أهل بيته الناشرة شعرها و الضاربة وجهها و الباكية لشجوها و الصارخة بويلها فيقول ملك الموت عليه السلام : ويلكم مم الفزع و مم الجزع ؟ ما أذهبت لأحد منكم رزقا و لا قربت له أجلا و لا أتيته حتى أمرت و لا قبضت روحه حتى استأمرت و إن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدا ]
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم حتى إذا حمل الميت على النعش رفرفت روحه فوق النعش و هو ينادي : يا أهلي و يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله و من غير حله ثم خلفته لغيري فالمهناة له و التبعة علي فاحذروا ما حل بي ]
و روى جعفر بن محمد [ عن أبيه قال : نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ملك الموت عند رأس رجلا من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال ملك الموت : يا محمد طيب نفسا و قر عينا فإني بكل مؤمن رفيق و اعلم أن ما من أهل بيت مدر و لا شعر في بر و لا بحر إلا و أنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم لأنفسهم و الله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها ]
قال جعفر بن محمد : بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة ذكره الماوردي
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و في هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح و أن تصرفه كله بأمر الله عز و جل و بخلقه و اختراعه
قال ابن عطية : و روي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها قال : و كذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف يتصرف ملك الموت و ملائكة معه في قبض أرواحهم فخلق الله ملك الموت و خلق على يديه قبض الأرواح و انسلالها من الأجسام و إخراجها منه و خلق جندا يكونون معه يعملون عمله بأمره
فقال تعالى : { و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة }
و قال تعالى : { توفته رسلنا } و الباري سبحانه خالق الكل الفاعل حقيقة لكل فعل
قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها } و قال : { الذي خلق الموت و الحياة } و قال : { يحيي و يميت } فملك الموت يقبض الأرواح و الأعوان يعالجون و الله يزهق الروح وهذا هو الجمع بين الآي و الحديث لكنه لما كان ملك الموت متولى ذلك بالوساطة و المباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : كما في حديث ابن مسعود قال : حدثنا عليه السلام صلى الله عليه و سلم و هو الصدق المصدوق [ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ] الحديث خرجه مالك و غيره
قوله : يجمع خلقه في بطن أمه قد جاء مفسرا عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه الأعمش عن خيثمة
قال : قال عبد الله : إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله سبحانه أن يخلق منها بشرا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر و شعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها
و في صحيح مسلم أيضا : [ عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا مر بالنطفة إثنتان و أربعون بعث الله إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و شعرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم يقول : أي رب أذكر أم أنثى ؟ ] و ذكر الحديث و ما قبله يفسره ويبينه لأن النطفة لا يبعث الملك إليها إلا بتمام اثنتين و أربعين ليلة فتأمله و نسبه الخلق و التصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقة و إنما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عنه التصوير و التشكيل بقدرة الله تعالى و خلقه و اختراعه ألا تراه سبحانه و تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية و قطع عنها نسب جميع الخليقة فقال تعالى : { و لقد خلقناكم ثم صورناكم } إلى غير ذلك من الآيات مع ما دلت عليه قاطعات البراهين إذ لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين و هكذا القول في قوله : [ ثم يرسل الملك فينفخ ففيه الروح ] أي أن النفخ فيه سبب يخلق الله فيه الروح و الحياة و كذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره فتأمل ذلك هذا هو الأصل و تمسك به ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال و القائلين بالطبائع و غيرهم و أن الله هو القابض لأرواح جميع الخلق على الصحيح و أن ملك الموت و أعوانه وسائط و قد سئل مالك بن أنس عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ فأطرق مليا ثم قال : ألها نفس ؟ قال : نعم قال : ملك الموت يقبض أرواحها { الله يتوفى الأنفس حين موتها }
و في الخبر : أن ملك الموت و ملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت : أنا أميت الأحياء و قال ملك الحياة : أنا أحيي الموتى فأوحى الله إليهما : كونا على علمكما و ما سخرتما له من الصنع و أنا المميت و المحيي لا مميت و لا محيي سواي ذكره أبو حامد في الأحياء
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن ثابت البناني قال الليل و النهار أربع و عشرون ساعة ليس منه ساعة تأتي على ذي روح إلا ملك الموت قائم عليها فإن أمر بقبضها قبضها و إلا ذهب و هذا عام في كل ذي روح
و في خبر الإسراء عن ابن عباس فقلت : يا ملك الموت كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض برها و بحرها الحديث و قد تقدم
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن ملك الموت لينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة قال : إذا ضحك العبد الذي بعث إليه قال : يقول عجبا بعثت إليه لأقبض روحه و هو يضحك ] و الله أعلم
باب ما جاء في سبب قبض ملك الموت لأرواح الخلق روى الزهري و وهب بن منبه و غيرهما ما معناه : إن الله أرسل جبريل عليه السلام ليأتيه من تربة الأرض فأتاها ليأخذ منها فاستعاذت بالله من ذلك فأعاذها فأرسل ميكائيل فاستعاذت منه فأعاذها فبعث عزرائيل فاستعاذت منه فلم يعذها فأخذ منها فقال الرب تبارك و تعالى : أما استعاذت بي منك ؟ قال : نعم قال : فهلا رحمتها كما رحمها صاحباك ؟ قال : يا رب طاعتك أوجب علي من رحمتي إياها قال الله عز و جل : اذهب فأنت ملك الموت سلطتك على قبض أرواحهم فبكى فقال ما يبكيك ؟ فقال : يا رب إنك تخلق من هذا الخلق أنبياء و أصفياء و مرسلين و إنك لم تخلق خلقا أكره إليهم من الموت فإذا عرفوني أبغضوني و شتموني
قال الله تعالى : [ إني سأجعل للموت عللا و أسبابا ينسبون الموت إليها ولا يذكرونك معها ] فخلق الله الأوجاع و سائر الحتوف
و قد روى هذا الخبر عن ابن عباس قال : رفعت تربة آدم من ستة أرضين و أكثرها من السادسة و لم يكن فيها من الأرض السابعة شيء لأن فيها نار جهنم قال : فلما أتى ملك الموت بالتربة قال له ربه : أما استعاذت بي منك الحديث بلفظه و معناه ذكره القتيبي و زاد فقالت الأرض : يا رب خلقت السماوات فلم تنقص منها شيئا و خلقتني فنقصتني
فقال لها الرب : و عزتي و جلالي لأعيدنهم إليك برهم و فاجرهم فقالت : و عز تك لأنتقمن ممن عصاك
قال : ثم دعا بمياه الأرض مالحها و عذبها و حلوها و مرها و طيبها و منتنها فسقى منه تربة آدم فأقام يخمره أربعين صباحا و قال آخرون : أربعين سنة لم ينفخ فيه الروح فكانت الملائكة تمر به فيقفون ينظرون إليه و يقول بعضهم لبعض : إن ربنا لم يخلق خلقا أحسن من هذا و إنه خلق لأمر كائن و يمر به إبليس اللعين فيضرب بيده عليه فيسمع له صلصلة و هو الصلصال الفخار فقال إبليس : إن فضل هذا علي لم أطعه و إن فضلت عليه أهلكته هذا من طين و أنا من نار
و قد قيل : إن الذي أتى بتربة الأرض إبليس و إن الله بعثه بعد ملكين فاستغاثت بالله منه فقالت : إني أعوذ بالله منك ثم أخذ منها و صعد إلى ربه فقال : ألم تستعذ بي منك ؟ فقال : بلى يا رب فقال الله عز و جل : و عزتي لأخلقن مما جنت يداك خلقا يسؤوك و الله أعلم
باب ما جاء أن الروح إذا قبض تبعه البصر ابن ماجه [ عن أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة و قد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذ قبض تبعه البصر ] خرجه مسلم أكمل من هذا و قد تقدم
و روى مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره قالوا : بلى قال : فذلك حين يتبع بصره نفسه ] و في غير الصحيح [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الميت أول ما يشق بصره لرؤية المعراج و هو سلم بين السماء و الأرض من زمردة خضراء أحسن ما رئي قط فذلك حين يمد بصره إليه ]
فصل : في قوله عليه السلام : [ إن الروح إذا قبض تبعه البصر ] قوله : فذلك حين يتبع بصره نفسه ما يستغنى به عن قول كل قائل في الروح و النفس و إنهما اسمان لمسمى واحد و سيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في تزاور الأموات في قبورهم و استحسان الكفن لذلك مسلم [ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه إن استطاع ]
و خرج أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب الإنابة على مذهب السلف الصالح في القرآن و إزالة شبه الزائغين بواضح البرهان
أخبرنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال : [ حدثنا علي بن الحسن بن بندار قال : حدثنا أبو عروة قال حدثنا محمد بن المصفى قال : حدثنا معاوية : قال حدثنا إبراهيم أن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون و يتزاورون في قبورهم ]
و قال ابن المبارك : أحب إلي أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها
باب الإسراع بالجنازة و كلامها البخاري [ عن أبي سعيد الخدري : كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إذا وضعت الجنازة و احتملها الرجال على أعناقهم فإن كان صالحة قالت : قدموني قدموني و إن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعه لصعق ] و قد تقدم من حديث أنس أنها تقول : [ يا أهلي و يا ولدي ] الحديث
البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه و إن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ] خرجه مسلم أيضا
فصل : صعق : مات و الإسراع قيل معناه : الإسراع بحملها إلى قبرها في المشي و قيل : تجهيزها بعد موتها لئلا تتغير و الأول أظهر لما رواه النسائي قال : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا خالد قال : حدثنا عيينة بن عبد الرحمن قال : حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة و خرج زياد يمشي بين يدي السرير فجعل رجال من أهل عبد الرحمن و مواليهم يستقبلون السرير و يمشون على أعقابهم و يقولون : رويدا رويدا بارك الله فيكم فكانوا يدبون حتى إذا كنا ببعض الطريق لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه يمشي على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته و أهوى عليهم بالسوط فقال : خلوا فو الذي كرم وجه أبي القاسم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنا لنكاد نرمل بها رملا فانبسط القوم صححه أبو محمد عبد الحق
و روى أبو داود [ من حديث أبي ماجدة عن ابن مسعود قال : سألنا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم عن المشي في الجنازة فقال : دون الخبب إن يكن خيرا تعجل إليه و إن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار ] ذكره أبو عمر بن عبد البر
و قال : و الذي عليه جماعة أهل العلم في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا و العجلة أحب إليهم من الإبطاء و يكره الإسراع الذي يشق على ضعفه من يتبعها و قال إبراهيم النخعي : نصوا بها قليلا و لا تدبوا دبيب اليهود و النصارى السجية : العادة
باب بسط الثوب على القبر عند الدفن أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تبع جنازة فلما صلى عليها دعا بثوب فبسط على القبر و هو يقول : لا تتطلعوا في القبر فإنها أمانة فلعسى يحل العقدة فيرى حية سوداء متطوقة في عنقه فإنها أمانة و لعله يؤمر به فيستمع صوت السلسلة ]
و ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك قال : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بثوب فستر على القبر حين دفن سعد بن معاذ قال : و قال سعد : إن النبي صلى الله عليه و سلم نزل في قبر سعد بن معاذ و ستر على القبر بثوب فكنت فيمن أمسك الثوب
فصل : اختلف العلماء في هذا الباب فكان عبد الله بن يزيد و شريح و أحمد بن حنبل يكرهون مد الثوب على الرجل و كان أحمد و إسحاق يختاران أن يفعل ذلك بقبر المرأة و كذلك قال أصحاب الرأي و لا يضر عندهم أن يفعلوا ذلك بقبر الرجل
و قال أبو ثور : لا بأس بذلك في قبر الرجل و المرأة و كذلك قال الإمام الشافعي و ستر المرأة عند ذلك آكد من ستر الرجل ذكره ابن المنذر
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و يستر الرجل و المرأة للعلة التي جاءت في حديث أنس اقتداء بفعله عليه السلام في ستر سعد بن معاذ و الله أعلم
و لقد أخبرني بعض أصحابنا : أنه سمع صوت جو السلسلة في قبر و أخبرني صاحبنا الفقيه العالم شيخ الطريقة أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله أنه توفي بعض الولاة بقسطنطينة فحفر له فلما فرغوا من الحفر و أرادوا أن يدخلوا الميت القبر إذا بحية سوداء داخل القبر فهابوا أن يدخلوه فيه فحفروا له قبرا آخرا فلما أرادوا أن يدخلوه إذ بتلك الحية فيه فحفروا له قبرا آخر فإذا بتلك الحية فلم يزالوا يحفرون له نحوا من ثلاثين قبرا و إذا بتلك الحية تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه فلما أعياهم ذلك سألوا ما يصنعون ؟ فقيل لهم : ادفنوه معها نسأل الله السلامة و الستر في الدنيا و الآخرة
باب ما جاء في قراءة القرآن عند القبر حالة الدفن و بعده و أنه يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ و يدعى و يستغفر له و يتصدق عليه
ذكره أبو حامد في كتاب الأحياء و أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقية له
قال محمد بن أحمد المروروذي سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول : إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب و المعوذتين و قل هو الله أحد و اجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم
و قال علي بن موسى الحداد : كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة و محمد بن قدامة الجوهري يقرأ فلما دفنا الميت جاء رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد : يا هذا إن القراءة على القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد : يا أبا عبد الله : ما تقول في مبشر بن إسماعيل ؟ قال : ثقة قال : هل كتبت عنه شيئا ؟ قال : نعم قال : أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن الحجاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة و خاتمتها و قال : سمعت ابن عمر يوصي بذلك
قال أحمد : فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ
قلت : و قد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقه النبي صلى الله عليه و سلم باثنين ثم غرس على هذا واحدا و على هذا واحدا ثم قال : [ لعله أن يخفف عنهما ما لم يبسا ] خرجه البخاري و مسلم
و في مسند أبي داود الطيالسي : [ فوضع على أحدهما نصفا و على الآخر نصفا و قال : إنه يهون عليهما ما دام فيهما من بلوتهما شيء ] قالوا : و يستفاد من هذا غرس الأشجار و قراءة القرآن على القبور و إذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن
و قد خرج السلفي [ من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مر على المقابر و قرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات
و روي ] من حديث أنس خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قرأ المؤمن آية الكرسي و جعل ثوابها لأهل القبور أدخل الله تعالى في كل قبر مؤمن من المشرق إلى المغرب أربعين نورا و وسع الله عز و جل عليهم مضاجعهم و أعطى الله للقارئ ثواب ستين نبيا و رفع له بكل ميت درجة و كتب له بكل ميت عشر حسنات [
و قال الحسن من دخل المقابر فقال : اللهم رب الأحساد البالية و العظام الناخرة خرجت من الدنيا و هي بك مؤمنة فأدخل عهليها روحا منك و سلاما مني إلا كتب بعددهم حسنات
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ] من حديث ابن عباس أنه قال خير الناس و خير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كما أخلق الدين جدوده أعطوهم و لا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله للصبي و براءة للمعلم و براءة لأبويه من النار [ ذكره الثعلبي :
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : أصا هذا الباب الصدقة التي لا اختلاف فيها فكما يصل للميت ثوابها فكذلك تصل قراءة القرآن و الدعاء و الاستغفار إذ كل ذلك صدقة فإن الصدقة لا تختص المال
و قال صلى الله عليه و سلم : ] و قد سئل عن قصر الصلاة في حالة الأمن فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته [
و قال عليه السلام : ] يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فإن كل تسبيحة صدقة و كل تلهيلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و كل تحميدة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى [ و لهذا استحب العلماء زيارة القبور تحفة الميت من زائره
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ] ما الميت في قبره إلا كالغريق المغوث ينتظر دعوة تلحقه من أبيه أو أخيه أو صديق له فإذا لحقته كانت أحب إلي من الدنيا و ما فيها و إن هدايا الأحياء للأموات الدعاء و الاستغفار
و قد حكي أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري رحمه الله فقالت : : إن ابنتي ماتت و قد أحببت أن أراها في المنام فعلمني صلاة أصليها لعلي أراها فعلمها صلاة فرأت ابنتها و عليها لباس القطران و الغل في عنقها و القيد في رجلها فارتاعت لذلك فأعلمت الحسن فاغتم عليها فلم تمض مدة حتى رآها الحسن في المنام و هي في الجنة على سرير و على رأسها تاج فقالت له يا شيخ : أما تعرفني ؟ قال : لا قالت له : أنا تلك المرأة التي علمت أمي الصلاة فرأتني في المنام قال لها : فما سبب أمرك ؟ قالت : مر بمقبرتنا رجل فصلى على النبي صلى الله عليه و سلم و كان في المقبرة خمسمائة و ستون إنسانا في العذاب فنودي : ارفعوا العذاب عنهم ببركة صلاة هذا الرجل عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال بعضهم : مات أخ لي فرأيته في المنام فقلت : ما كان حالك حين وضعت في قبرك ؟ قالت : أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به و الحكايات عن الصالحين بهذا المعنى كثيرة ذكرها أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له و قد ذكر في هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رضي الله عنه في كتاب عيون الأخبار له حكاية فيها طول رأينا ذكرها لاشتمالها على وعظ و تذكير و تخويف و تحذير و تضرع و ابتهال و دعاء بالموت و الانتقال
روي عن الحارث بن نبهان أنه قال : كنت أخرج إلى الجبانات فأرحم على أهل القبور و أتفكر و أعتبر و أنظر إليهم سكوتا لا يتكلمون و جيرانا لا يتزاورون و قد صار لهم من بطن الأرض وطاء و من ظهرها غطاء و أنادي : يا أهل القبور محيت من الدنيا آثاركم وما محيت عنكم أوزاركم و سكنتم دار البلاء فتورمت أقدامكم قال : ثم يبكي بكاء شديدا ثم يميل إلى قبة فيها فينام في ظلها
قال : فبينما أنا نائم إلى جانب القبر إذ أنا بحس مقمعة يضرب بها صاحب القبر و أنا أنظر إليه و السلسلة في عنقه و قد ازرقت عيناه و اسود وجهه و هو يقول : يا و يلي ما ذا حل بي لو رآني أهل الدنيا ما ركبوا معاصي الله أبدا طولبت و الله باللذات فأوبقتني و بالخطايا فأغرقتني فهل من شافع لي أو مخبر أهلي بأمري ؟ !
قال الحارث : فاستيقظت مرعوبا و كاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت فمضيت إلى داري و بت ليلتي و أنا متفكر فيما رأيت فما أصبحت قلت دعني أعود إلى الموضع الذي كنت فيه لعلي أجد به أحدا من زوار القبور فأعلمه بالذي رأيت قال : فمضيت إلى المكان الذي كنت فيه بالأمس فلم أر أحدا فأخذني النوم فنمت فإذا أنا بصاحب القبر و هو يسحب على وجهه و يقول : يا ويلتاه ماذا حل بي ساء في الدنيا عملي و طال فيها أجلي حتى غضب علي رب الأرباب فالويل لي إن لم يرحمني ربي
قال الحارث : فاستيقظت و قد توله عقلي بما رأيت و سمعت فمشيت إلى داري و بت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر لعلي أجد أحدا من زوار القبور فأعلمه بما رأيت ثم نمت فإذا أنا بصاحب القبر قد قرن بين قدميه و هو يقول : ما أغفل أهل الدنيا عني ضوعف علي العذاب و تقطعت عني الحيل و الأسباب و غضب علي رب الأرباب و غلق في وجهي كل باب فالويل لي إن لم يرحمني ربي العزيز الوهاب
قال الحارث : فاستيقظت من منامي مرعوبا و هممت بالانصراف فإذا بثلاث جوار قد أقبلن فتباعدت لهن عن القبر و تواريت لكي أسمع كلامهن فتقدمت الصغرى و وقفت على القبر و قالت : السلام عليك يا أبتاه كيف هدوؤك في مضجعك و كيف قرارك في موضعك ذهبت عنا بودك و انقطع عنا سؤالك فما أشد حسرتنا عليك ثم بكت بكاء شديدا ثم تقدمت ابنتان فسلمتا على القبر ثم قالتا : هذا قبر أبينا الشفيق علينا و الرحيم بنا أنسك الله بملائكة رحمته و صرف عنك عذابه و نقمته يا أبتاه جرت بعدك أمور لو عاينتها لأوهمتك و لو اطلعت عليها لأحزنتك كشف الرجال وجوهنا و قد كنت أنت سترها
قال الحارث : فبكيت لما سمعت كلامهن ثم قمت مسرعا إليهن فسلمت عليهن و قلت لهن : أيتها الجواري إن الأعمال ربما قبلت و ربما ردت على صاحبها فما كان عمل أبيكن المخلد في هذا القبر الذي عاينت من أمره ما أحزنني و اطلعت من حاله على ما آلمني ؟
قال الحارث : فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن و قلن : أيها العبد الصالح و ما الذي رأيت ؟ قلت لهن : لي ثلاثة أيام و أنا أختلف إلى هذا القبر أسمع صوت المقمعة و السلسلة فيه قال : فلما سمعن ذلك مني قلن لي : بشارة ما أضرها و مصيبة ما أحزنها نحن نفضي الأوطار و نعمر الديار و أبونا يحرق بالنار فو الله لا قر بنا قرار و لا ضمتنا للذة العيش دار أو نتضرع للجبار فلعله أن يعتق أبانا و ينقذه من النار ثم مضين يتعثرن في أذيالهن
قال الحارث : فمضيت إلى داري فبت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر فجلست عنده فغلبني النوم فنمت فإذا أنا بصاحب القبر له حسن و جمال و في رجليه نعل من ذهب و معه حور و غلمان
قال الحارث : فسلمت عليه و قلت له : رحمك الله من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي عاينت من أمري ما أحزنك و اطلعت منه على ما أفجعك فجزاك الله خيرا فما أيمن طلعتك علي فقلت له : و كيف حالك ؟ فقال لي : لما اطلعت علي و أخبرت بناتي بالأمس بحالي أعرين أبدانهن و أسبلن شعورهن و تضرعن لمولاهن و مرغن خدودهن في التراب و أهملن دموعهن بالانسكاب و استوهبوني من العزيز الوهاب فغفر لي الذنوب و الأوزار و استنقذني من النار و أسكنني دار القرار بجوار محمد المختار فإذا رأيت بناتي فأعلمهن بأمري و ما كان من قصتي ليزول عنهن روعهن و يفارقهن حزنهن و تعلمهن إني قد صرت إلى جنات و حور و مسك و كافور و عندي غلمان و سرور و قد عفا عني العزيز الغفور
قال الحارث : فاسيقظت فرحا مسرورا لما رأيت و سمعت ثم مضيت إلى داري و بت ليلتي فما أصبحت أتيت القبر فوجدتهن حافيات الأقدام فسلمت عليهن و قلت لهن : أبشرن فقد رأيت أباكن في خير عظيم و ملك مقيم و قد أعلمني أن الله تعالى أجاب دعاءكن و لم يخيب مسعاكن و قد وهب لكن أباكن فاشكرنه على ما أولاكن
قال : فقالت الصغرى : اللهم يا مؤنس القلوب و يا ساتر العيوب و يا كاشف الكروب و يا غافر الذنوب و يا عالم الغيوب و يا مبلغ الأمل المطلوب قد علمت ما كان من مسألتي و رغبتي و اعتذاري في خلوتي و استقالتي من ذلتي و تنصلي من خطيئتي و أنت اللهم تعلم همتي و المطلع على نيتي و العالم بطويتي و مالك رقبتي و الآخذ بناصيتي و غايتي في طلبتي و رجائي عند شدتي و مؤنسي في وحدتي و راحم عبرتي و مقيل عثرتي و مجيب دعوتي فإن كنت قصرت عما أمرتني و ركبت إلى ما عنه نهيتني فبحلمك حملتني و بسترك سترتني فبأي لسان أذكرك و على أي نعمك أشكرك ضاق بكثرتها ذرعي فيا أكرم الأكرمين و منتهى غاية الطالبين و مالك يوم الدين الذي يعلم ما أخفي في الضمير و يدبر أمر الصغير و الكبير فإن كنت قضيت الحاجة بفضلك و شفعتني في عبدك فاقبضني إليك و أنت على كل شيء قدير ثم صرخت صرخة فارقت الدنيا رحمة الله عليها
قال : ثم قامت الثانية فنادت بأعلى صوتها : يا رب فرج كربي و خلص من الشك قلبي يا من أقامني من صرعتي و أقالني من عثرتي و دلني من حيرتي و أعانني في شدتي إن كنت قبلت دعوتي و قضيت حاجتي و أنجحت طلبتي فألحقني بأختي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله عليها
قال : ثم قامت الثالثة : فنادت بأعلى صوتها يا أيها الجبار الأعظم و الملك الأكرم العالم بمن سكت و تكلم لك الفضل العظيم و الملك القديم و الوجه الكريم العزيز من أعززته و الذليل من أذللته و الشريف من شرفته و السعيد من أسعدته و الشقي من أشقيته و القريب من أدنيته و البعيد من أبعدته و المحروم من حرمته و الرابح من أوهبته و الخاسر من عذبته أسألك باسمك العظيم و وجهك الكريم و علمك المكنون الذي بعد عن إدراك الأفهام و غمض عن مناولة الأوهام باسمك الذي جعلته على الليل فدجى و على النهار فأضاء و على الجبال فدكدكت و على الرياح فتناثرت و على السموات فارتفعت و على الأصوات فخشعت و على الملائكة فسجدت اللهم إني أسألك إن كنت قضيت حاجتي و أنجحت طلبتي فألحقني بصواحباتي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله علينا و عليهم و على جميع المسلمين أجمعين آخر الحكاية و الحمد لله رب العالمين
و [ روي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم و كان له بعدد من فيها حسنات ]
و يروى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة
و قد روى إباحة قراءة القرآن عند القبر عن العلاء بن عبد الرحمن و ذكر النسائي و غيره من [ حديث معقل بن يسار المدني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اقرأوا يس عند موتاكم ] و هذا يحتمل أن تكون القراءة عند الميت في حال موته و يحتمل أن تكون عند قبره
قال أبو محمد عبد الحق : حدثني أبو الوليد إسماعيل بن أحمد عرف بابن أفرند و كان هو و أبوه صالحين معروفين قال : مات أبي رحمه الله فحدثني بعض إخوانه ممن يوثق بحديثه قال لي : زرت قبر أبيك فقرأت عليه حزبا من القرآن ثم قلت يا فلان هذا قد أهديته لك فماذا لي ؟ قال : فهبت علي نفحة مسك غشيتني و أقامت معي ساعة ثم انصرفت و هي معي فما فارقتني إلا و قد مشيت نصف الطريق
قال أبو محمد : و رأيت لبعض من يوثق به قال : ماتت لي امرأة فقرأت في بعض الليالي آيات من القرآن فأهديتها لها و دعوت الله عز و جل و استغفرت لها و سألت فما كان في اليوم الثاني حدثتني امرأة تعرفها قالت لي : رأيت البارحة فلانة في النوم ـ تعني الميتة المذكورة ـ في مجلس حسن في دار حسنة و قد أخرجت لنا أطباقا من تحت سرير كان في البيت و الأطباق مملوءة قوارير أنوار فقالت لي : هذا أهداه لي صاحب بيتي قال : و ما كنت أعلمت بذلك أحدا
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و في هذا المعنى حديث مرفوع من حديث أنس يأتي في باب ما يتبع الميت إلى قبره و قد قيل : إن ثواب القراءة للقارئ و للميت : ثواب الاستماع و لذلك تلحقه الرحمة قال تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }
قلت : و لا يبعد في كرم الله تعالى أن يلحقه ثواب القراءة و الاستماع جميعا و يلحقه ثواب ما يهدى إليه من قراءة القرآن و إن لم يسمعه كالصدقة و الدعاء و الاسغفار لما ذكرنا و لأن القرآن دعاء و استغفار و تضرع و ابتهال و ما يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل القرآن
قال صلى الله عليه و سلم : [ يقول الرب تبارك و تعالى : من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته ما أعطي السائلين ] رواه الترمذي و قال فيه حديث حسن غريب
و قال عليه السلام : [ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ] و القراءة في معنى الدعاء و ذلك صدقة من الولد و من الصاحب و الصديق و المؤمنين حسب ما ذكرنا و بالله التوفيق
فإن قيل : فقد قال الله تعالى { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } و هذا يدل على أنه لا ينفع أحدا عمل أحد قيل له : هذه آية اختلف في تأويلها أهل التأويل
فروي عن ابن عباس : أنها منسوخة بقوله تعالى : { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه و يشفع الله تعالى الآباء في الأبناء و الأبناء في الآباء يدل على ذلك قوله تعالى : { آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } و قال الربيع بن أنس : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } يعني : الكافر و أما المؤمن فله ما سعى و ما سعى له غيره
قلت : و كثير من الأحاديث تدل على هذا القول و يشهد له و أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره
و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من مات و عليه صيام صام له وليه ]
و [ قال عليه السلام للرجل الذي حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ]
و روي أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته و أعتقت عنه و [ قال سعد للنبي صلى الله عليه و سلم : إن أمي توفيت افأتصدق عنها ؟ قال : نعم قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء ] و في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته أنها جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت و لم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها
قلت : و يحتمل أن يكون قوله تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } خاصا في السيئة بدليل ما في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال الله عز و جل : إذا هم عبدي بحسنة و لم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشرا إلى سبعمائة ضعف و إذا هم بسيئة و لم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ] و القرآن دال على هذا قال الله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } و قال تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } الآية و قال في الآية الأخرى : { كمثل جنة بربوة } و قال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } و هذا كله تفضل من الله تعالى و طريق العدل : { أن ليس للإنسان إلا ما سعى } إلا أن الله عز و جل يتفضل عليه بما لم يجب له كما أن زيادة الأضعاف فضل منه كتب لهم بالحسنة الواحدة : عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة
كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أن الله ليجزي عن الحسنة الواحدة : ألف ألف حسنة ] فقال : سمعته يقول : [ إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة : ألفي ألف حسنة ] فها تفضل و قد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل فما ظنك بعمل المؤمن عن نفسه أو عن غيره ؟
و قد ذكر الخرائطي في كتاب القبور قال : سنة في الأنصار إذا حملوا الميت أن يقرأوا معه سورة البقرة و لقد أحسن من قال :
( زر والديك و قف على قبريهما ... فكأنني بك قد حملت إليهما )
و في أبيات يقول في آخرها :
و قر أت من آي الكتاب بقدر ما تسطيع و قد بعثت ذاك إليهما
و إنما طولنا النفس في هذا الباب لأن الشيخ الفقيه القاضي الإمام مفتي الأنام عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله كان يفتي بأنه لا يصل للميت ثواب ما يقرأ و يحتج بقوله تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } فلما توفي رحمه الله رآه بعض أصحابه ممن كان يجالسه و سأله عن ذلك فقال له : إنك كنت تقول : إنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ و يهدي إليه فكيف الأمر ؟ فقال له : إني كنت أقول ذلك في دار الدنيا و الآن فقد رجعت عنه لما رأيت من كرم الله تعالى في ذلك و أنه يصل إليه ذلك
باب يدفن العبد في الأرض التي خلق منها أبو عيسى الترمذي [ عن مطر بن عكامش قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة ] أو قال : [ بها حاجة ]
قال أبو عيسى : و في الباب عن أبي عزة و هذا حديث غريب و لا يعرف لمطر بن عكامش عن النبي غير هذا الحديث
و عن أبي عزة قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة ] أو قال : [ بها حاجة ] قال : هذا حديث حسن صحيح و أبو عزة له صحبة و اسمه يسار بن عبيد و أنشدوا :
( إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير )
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول [ عن أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوف ببعض نواحي المدينة و إذا بقبر يحفر فأقبل حتى وقف عليه فقال : لمن هذا ؟ قيل لرجل من الحبشة فقال : لا إله إلا الله سيق من أرضه و سمائه حتى دفن في الأرض التي خلق منها ] و عن ابن مسعود [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها حتى إذابلغ أقصى أثره قبضه الله فتقول الأرض يوم القيامة : رب هذا ما استودعتني ] خرجه ابن ماجه أيضا
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فائدة هذا الباب تنبيه العبد على التيقظ للموت و الاستعداد له بحسن الطاعة و الخروج عن المظلمة و قضاء الدين و إتيان الوصية بماله أو عليه في الحضر فضلا عن أوان الخروج عن و طنه إلى سفر فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض
و أنشد بعضهم :
( مشيناها خطى كتبت علينا ... و من كتبت عليه خطى مشاها )
( و أرزاق لنا متفرقات ... فمن لم تأته منا أتاها )
( و من كتبت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها )
و قد روي في الآثار القديمة : أن سليمان عليه السلام كان عنده رجل يقول : يا نبي الله : إن لي حاجة بأرض الهند فأسألك أن تأمر الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة فنظر سليمان إلى ملك الموت عليه السلام فرأه يبتسم فقال : مم تتبسم ؟ قال : تعجبا ـ : إني أمرت بقبض روح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند و أنا أراه عندك فروي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند فقبض روحه بها و الله أعلم
باب ما جاء أن كل عبد يذر عليه من تراب حفرته و في الرزق و الأجل و بيان قوله تعالى مخلقة و غير مخلقة
أبو نعيم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مولود إلا و قد ذر عليه من تراب حفرته ]
قال أبو عاصم النبيل ما نجد لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما فضيلة مثل هذه لأن طينتهما طينة رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرجه في باب ابن سيرين عن أبي هريرة و قال : هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل أحد الثقات الأعلام من أهل البصرة
و روى مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة من الرحم فيضعها على كفه ثم يقول : يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة قال : يا رب ما الرزق ؟ ما الأثر ؟ ما الأجل ؟ فيقول : انظر في أم الكتاب فينظر في اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه و أثره و أجله و عمله و يأخذ التراب الذي يدفن في بقعته و يعجن به نطفته
فذلك قوله تعالى : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم } خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول
و ذكر عن علقمة عن عبد الله قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه فقال : أي رب أمخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة لم تكن نسمة و قذفنها الأرحام دما و إن قال : مخلقة قال : أي رب أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ ماالأجل ؟ و ما الأثر ؟ و ما الرزق ؟ و بأي أرض تموت ؟ فيقول : اذهب إلى أم الكتاب فإنك ستجد هذه النطفة فيها فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله
فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها و تطأ أثرها فإذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان فالآثر : هو التراب الذي يؤخذ فيعجن به ماؤه
و قال محمد بن سيرين لو حلفت حلفت صادقا بارا غير شاك و لا مستثن أن الله ما خلق نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم و لا أبا بكر و لا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة
قلت : و ممن خلق من تلك التربة : عيسى بن مريم عليه السلام على ما يأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى و هذا الباب يبين لك معنى قوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب } و قوله : { هو الذي خلقكم من طين }
و قوله : { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } و لا تعارض في شيء من ذلك على ما بينا في كتاب الجامع لأحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة و آي الفرقان و هذا الباب يجمع لك كله فتأمله
باب مايتبع الميت إلى قبره و بعد موته و ما يبقى معه فيه مسلك [ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان و يبقى واحد : يتبعه أهله و ماله و عمله فيرجع أهله و ماله و يبقى عمله ]
و روى أبو نعيم [ من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع يجري أجرها للعبد بعد موته و هو في قبره : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ] هذا حديث غريب من حديث قتادة تفرد به أبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي عن العزرمي محمد بن عبد الله عن قتادة و خرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه من حديث الزهري
[ حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته : علما علمه و نشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته تلحقه بعد موته ]
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لتصدق عن ميتك بصدقة فيجيء بها ملك من الملائكة في أطباق من نور فيقوم على رأس القبر فينادي : يا صاحب القبر الغريب : أهلك قد أهدوا إليك هذه الهدية فأقبلها ] قال : فيدخلها إليه في قبره و يفسح له في مداخله و ينور له فيه فيقول : جزى الله أهلي عني خير الجزاء قال : فيقول لزيق ذلك القبر أنا لم أخلف لي ولدا و لا أحدا يذكرني بشيء فهو مهموم و الآخر يفرح بالصدقة
و قال بشار بن غالب : رأيت رابعة العدوية ـ يعني العابدة ـ في المنام و كنت كثير الدعاء له فقالت لي : يا بشار هديتك تأتينا في أطباق من نور عليها مناديل الحرير و هكذا يا بشار دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا لإخوانهم الموتى فاستجيب لهم يقال : هذه هدية فلان إليك : و قد تقدم لهذا الباب ما فيه كفاية والحمد لله و قال إسماعيل بن رافع : ما من ذي رحم أوصل لذي رحمه من رجل أتبع ذا رحم بحج أو عتق أو صدقة
باب ما جاء في هول المطلع تقدم من حديث جابر بن عبد الله قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد ] الحديث و لما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل : إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار فنظر إليه ثم قال : إن من غررتموه لمغرور و الله لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث أضحكني مؤمل دنيا و الموت يطلبه و غافل ليس بمغفول عنه و ضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه ؟ و أبكاني : فراق الأحبة محمد صلى الله عليه و سلم و حزبه و أحزنني هول المطلع عند غمرات الموت و الوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لايدري إلى الجنة أو إلى النار أخرجه ابن المبارك قال أخبرنا غير واحد عن معاوية بن قرة قال : قال أبو الدرداء : فذكره
قال : وأخبرنا محمد بلغ به أنس بن مالك قال : ألا أحدثكم بيومين و ليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن : أول يوم يجيئك من الله تعالى إما برضاه و إما بسخطه و يوم تعرض فيه على ربك آخذا كتابك و إما بيمينك و إما بشمالك و ليلة تستأنف فيها المبيت في القبور و لم تبت فيها قط و ليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة
باب ماجاء أن القبر أول منازل الآخرة و في البكاء عنده و في حكمه و الاستعداد له
ابن ماجه عن هانىء بن عثمان قال : كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له : تذكر الجنة و النار و لاتبكي و تبكي من هذا ؟ قال [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه أحد فما بعده أيسر منه و إن لم ينج منه فما بعد أشد منه ]
قال [ قال يا رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما رأيت منظرا قط إلا و القبر أفظع منه ] أخرجه الترمذي و زاد رزين قال : و سمعت عثمان ينشد على قبر شعرا :
( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... و إلا فإني لا إخالك ناجيا )
ابن ماجه [ عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى و أبكى حتى بل الثرى ثم قال : يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ]
فصل : القبر واحد القبور في الكثرة و أقبر في القلة و يقال للمدفن : مقبر
قال الشاعر :
( لكل أناس مقبر بفنائهم ... و هم ينقصون و القبور تزيد )
و اختلف في أول من سن القبر ؟ : الغراب لما قتل قابيل هابيل و قيل بنو إسرائيل و ليس بشيء و قد قيل : كان قابيل يعلم الدفن و لكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه فقال عند ذلك { يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين } حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قبض الله الغراب له حتى واراه و لم يكن ذلك ندم توبة و قيل : ندمه إنما كان على فقده لا على قتله
قال ابن عباس : و لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة و يقال : إنه لما قتله قعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ففعل القاتل بأخيه كذلك فبقي ذلك سنة لازمة في بني آدم و في التنزيل { ثم أماته فأقبره } أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما له و لم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير و العوافي قاله الفراء
و قال أبو عبيدة : جعل له قبرا و أمر أن يقبر قال أبو عبيدة : و لما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن قالت بنو تميم و دخلوا عليه : أقبرنا صالحا فقال : دونكموه و حكم القبر : أن يكون مسنما مرفوعا على وجه الأرض قليلا غير مبني بالطين و الحجارة و الجص فإن ذلك منهى عنه
و روى مسلم [ عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر و أن يقعد عليه و أن يبنى عليه ] و خرجه الترمذي أيضا [ عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تجصص القبور و أن يكتب عليها و أن يبنى عليها و أن توطأ ] قال أبو عيسى هذا حديث صحيح
قال علماؤنا رحمهم الله : و كره مالك تجصيص القبور لأن ذلك من المباهاة و زينة الحياة الدنيا و تلك منازل الآخرة و ليس بموضع المباهاة و إنما يزين الميت في قبره عمله و أنشدوا :
( و إذا وليت أمور قوم ليلة ... فاعلم بأنك بعدها مسؤول )
( و إذا حملت إلى القبور جنازة ... فاعلم بأنك بعدها محمول )
( ياصاحب القبر المنقش سطحه ... و لعله من تحته مغلول )
و في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ألا تدع تمثال إلا طمسته و لا قبرا مشرفا إلا سويته
و قال أبو داود في المراسيل عن عاصم بن أبي صالح : رأيت قبر النبي صلى الله عليه و سلم شبرا أونحوا من شبر يعني في الارتفاع
قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ : بسنم القبر ليعرف كي يحترم و يمنع من الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله فإنها كانت تعلى عليها و تبني فوقها تفخيما لها وتعظيما و أنشدوا :
( أرى أهل القصور إذا أميتوا ... بنوا فوق المقابر بالصخور )
( أبوا إلا مباهاة و فخرا ... على الفقراء حتى في القبور )
( لعمرك لو كشفت الترب عنهم ... فما تدري الغني من الفقير )
( و لا الجلد المباشر ثوب صوف ... من الجلد المباشر للحرير )
( إذا أكل الثرى هذا و هذا ... فما فضل الغني على الفقير ؟ )
يا هذا أين الذي جمعته من الأموال و أعددته للشدائد و الأهوال لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفرا و بدلت من بعد غناك و عزك ذلا و فقرا فكيف أصبحت يا رهين أوزاره و يا من سلب من أهله و دياره ؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد و أقل اهتمامك لحمل الزاد إلى سفرك البعيد و موقفك الصعب الشديد أو ما علمت يا مغرور : أن لا بد من الارتحال إلى يوم شديد الأهوال و ليس ينفعك ثم قيل و لا قال بل يعد عليك بين يدي الملك الديان ما بطشت اليدان و مشت القدمان و نطق به اللسان و عملت الجوارح و الأركان فإن رحمك فإلى الجنان و إن كانت الأخرى فإلى النيران يا غافلا عن هذه الأحوال إلى كم هذه الغفلة و التوان أتحسب أن الأمر صغير و تزعم أن الخطب يسير ؟ و تظن أن سينفعك حالك إذا آن ارتحالك أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك أو يغني عنك ندمك إذا زلت بك قدمك أو يعطف عليك معشرك حين يضمك محشرمك كلا و الله ساء ما تتوهم و لا بد لك أن ستعلم لا بالكفاف تقنع و لا من الحرام تشبع ولا للعظاة تستمع و لا بالوعيد ترتدع دأبك أن تنقلب مع الأهواء و تخبط خبط العشواء يعجبك التكاثر بما لديك و لا تذكر ما بين يديك يا نائما في غفلة و في خبطة يقظان إلى كم هذه الغفلة و التوان أتزعم أن سترك سدى و أن لا تحاسب غدا أم تحسب أن الموت يقبل الرشا أم تميز بين الأسد و الرشا كلا و الله لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون و لا ينفع أهل القبور إلا العمل المبرور فطوبى لمن سمع و وعى و حقق ما ادعى و نهى النفس عن الهوى و علم أن الفائز من ارعوى { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى * و أن سعيه سوف يرى } فانتبه من هذه الرقدة و اجعل العمل الصالح لك عدة ولا تتمن منازل الأبرار و أنت مقيم على الأوزار عامل بعمل الفجار بل أكثر من الأعمال الصالحات و راقب الله في الخلوات رب الأرض و السموات ولا يغرنك الأمل فتزهد عن العمل أو ماسمعت الرسول حيث يقول لما جلس على القبور : [ يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ] أو ما سمعت الذي خلقك فسواك يقول : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }
و أنشدوا :
( تزود من معاشك للمعاد ... و قم لله و اعمل خير زاد )
( و لا تجمع من الدنيا كثيرا ... فإن المال يجمع للنفاد )
( أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد ؟ )
و قال آخر :
( إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... و لاقيت بعد الموت من قد تزودا )
( ندمت على أن لا تكون كمثله ... و أنك لم ترصد كما كان أرصدا )
و قال آخر :
( الموت بحر طافح موجه ... تذهب فيه حيلة السابح )
( يانفس إني قائل فاسمعي ... مقالة من مشفق ناصح )
( لا ينفع الإنسان في قبره ... غير التقى و العمل الصالح )
و قال آخر :
( أسلمني الأهل ببطن الثرى ... و انصرفوا عني فيا وحشتا )
( و غادروني معدما يائسا ... ما بيدي اليوم إلا البكا )
( و كل ما كان كأن لم يكن ... و كل ما حذرته قد أتى )
( و ذا كم المجموع و المقتنى ... قد صار في كفي مثل الهبا )
( و لم أجد لي مؤنسا ها هنا ... غير فجور موبق أو بقا )
( فلو تراني و ترى حالتي ... بكيت لي يا صاح مما ترى )
و قال آخر :
( و لدتك إذ ولدتك أمك باكيا ... و القوم حولك يضحكون سرورا )
( فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا ... في يوم موتك ضاحكا مسرورا )
و روي عن محمد القرشي قال : سمعت شيخنا يقول : أيها الناس : إني لكم ناصح و عليكم شفيق فاعملوا في ظلمة الليل لظلمة القبر و صوموا في الحر قبل يوم النشور و حجوا يحط عنكم عظائم الأمور و تصدقوا مخافة يوم عسير
و كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه : أيها المقبور في حفرته المتخلى في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت و بأي أحوالك اغتبطت ثم يبكي حتى يبل عمامته و يقول : استبشر ـ و الله ـ بأعماله الصالحة و اغتبط ـ و الله ـ بإخوانه المعاونين له على طاعة الله و كان إذا نظر إلى القبر صرخ كما يصرخ الثور و سيأتي أن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه و ما فيه من الموعظة إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في اختيار البقعة للدفن أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي قال : حدثني رجل من آل عمر عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من زار قبري ـ أو قال : من زارني ـ كنت له شهيدا أو شفيعا و من مات بأحد الحرمين بعثه الله عز و جل في الآمنين يوم القيامة ] و خرجه الدارقطني [ عن حاطب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني حيا في حياتي و من مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ]
و خرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاء صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال : فرد الله إليه عينه و قال : ارجع إليه و قل له : يضه يده على متن جلد ثور فله بما غطت يده كل شعرة سنة قال : أي رب ثم مه ؟ قال : ثم الموت قال : فالآن فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ]
و في رواية قال : جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له : أجب ربك قال : فلطم موسى عين الملك ففقأها و ذكر نحوه
قال الترمذي [ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها ] صححه أبو محمد عبد الحق
و في الموطأ أن عمر رضي الله عنه كان يقول : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك و وفاة في بلد نبيك
و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع مقبرة المدينة فيدفنا بها و الله أعلم لفضل علموه هناك قال : فإن فضل المدينة غير منكور و لا مجهول و لو لم يكن إلا مجاورة الصالحين و الفضلاء من الشهداء و غيرها لكفى
و روى عن كعب الأحبار أنه قال لبعض أهل مصر لما قال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : نعم جراب من تراب سفح المقطم يعني : جبل مصر قال : فقلت له : يرحمك الله و ما تريد منه ؟ قال : أضعه في قبري قال له : تقول هذا و أنت بالمدينة و قد قيل في البقيع ما قيل قال : إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القصير إلى اليحموم
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : البقاع لا تقدس أحدا و لا تطهره و إنما الذي يقدسه من وضر الذنوب و دنسها التوبة النصوح مع الأعمال الصالحة أما إنه قد يتعلق بالبقعة تقديس ما و هو إذا عمل العبد فيها عملا صالحا ضوعف له بشرف البقعة مضاعفة تكفر سيئاته و ترجح ميزانه و تدخله الجنة و كذلك تقديسه إذا مات على معنى التتبع لصالح لا أنها توجب التقديس ابتداء
و قد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ما أحب أن أدفن بالبقيع لأن أدفن في غيره أحب إلي ثم بين العلة فقال : مخافة أن تنبش لي عظام رجل صالح أو نجاور فاجرا و هذا تستوي فيه سائر البقاع فدل على أن الدفن بالأرض المقدسة ليس بالمجمع عليه و قد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته و إخوانه و جيرانه لا لفضل و لا لدرجة
فصل : إن قال قائل : كيف جاز لموسى عليه السلام أ ن يقدم على ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه ؟ فالجواب من وجوه ستة :
الأول : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة لها و هذا القول باطل لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة لها و هذا مذهب السالمية
الثاني : أنها كانت عينا معنوية فقأها بالحجة و هذا مجاز لا حقيقة له
الثالث : أنه لم يعرفه و ظنه رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عنها فلطمه : ففقأ عينه و تجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن و هذا وجه حسن لأنه حقيقة في العين و الصك قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة إلا أنه اعترض بما في الحديث نفسه و هو أن ملك الموت عليه السلام لما رجع إلى الله تعالى قال : يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فلو لم يعرفه موسى لما صدر هذا القول من ملك الموت
الرابع : أن موسى عليه السلام كان سريع الغضب و سرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت قاله ابن العربي في الأحكام و هذا فاسد لأن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا و الغضب
الخامس : ما قاله ابن مهدي رحمه الله : أن عينه المستعارة ذهبت لأجل أنه جعل له أن يتصور بما شاء فكأن موسى عليه السلام لطمه و هو متصور بصورة غيره بدلالة أنه رأى بعد ذلك معه عينه
السادس : و هو أصحها إن شاء الله و ذلك أن موسى عليه السلام كان عنده ما أخبر تبينا عليه السلام من أن الله تعالى لا يقبض روحه حتى يخيره ـ خرجه البخاري و غيره ـ فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته و قوة نفسه إلى أدبه فلطمت ففقئت عينه امتحانا لملك الموت إذ لم يصرح له بالتخير و مما يدل على صحة هذا : أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة و الموت اختار الموت و استسلم و الله بغيبه أعلم و أحكم و ذكره ابن العربي في قبسه بمعناه و الحمد لله
و قد ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول حديث [ أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان ملك الموت عليه السلام يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه ] الحديث بمعناه و في آخره [ فكان يأتي الناس بعد ذلك في خفية ]
باب يختار للميت قوم صالحون يكون معهم خرج أبو سعيد الماليني في كتاب المؤتلف و المختلف و أبو بكر الخرائطي في كتاب القبور [ من حديث سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ندفن موتانا وسط قوم صالحين فإن الموتى يتأذون بالجار السوء كما يتأذى به الأحياء ]
[ و عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات لأحدكم الميت فحسنوا كفنه و عجلوا إنجاز وصيته و أعمقوا له في قبره و جنبوه جار السوء قيل : يا رسول الله : و هل ينفع الجار الصالح في الآخرة ؟ قال : هل ينفع في الدنيا قالوا : نعم قال : كذلك ينفع في الآخرة ] ذكره الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار
و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده [ من حديث مالك بن أنس عن عمه نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أدفنوا موتاكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بالجار السوء ]
فصل قال علماؤنا : و يستحب لك ـ رحمك الله ـ أن تقصد بميتك قبور الصالحين و مدافن أهل الخير فندفنه معهم و تنزله بإزائهم و تسكنه في جوارهم تبركا بهم و توسلا إلى الله عز و جل بقربهم و أن تجتنب به قبور من سواهم ممن يخاف التأذي بمجاورته و التألم بمشاهدة حاله حسب ما جاء في الحديث
يروى أن امرأة دفنت بقرطبة ـ أعادها الله ـ فأتت أهلها في النوم فجعلت تعتهم و تشكوهم و تقول : ما وجدتم أن تدفنوني إلا إلى فرن الجير ؟ فلما أصبحوا نظروا فلم يروا في ذلك الموضع كله و لا بقربه فرن جير فبحثوا و سألوا عن من كان مدفونا بإزائها ؟ فوجدوه رجلا سيافا كان لابن عامر و قبره إلى قبرها فأخرجوها من جواره ذكر هذا أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له
و عن أعرابي أنه قال لوالده : ما فعل الله بك ؟ قال : ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلان و كان فاسقا قد روعني ما يعذب به من أنواع العذاب
و روى أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له و حدثني أبو الوليد رباح بن الوليد الموصلي قال : و حدثت عن عبد الملك بن عبد العزيز عن طاووس بن ذكوان اليماني أنه أخبرهم أنه قدم حاجا فمر بالأبطح عند المقابر مع رفقاء له فقال : بينما أنا أصلي في جوف الليل و علي برد لي أحرش أخذته باليمن بسبعين دينارا و قبر قريب مني محفور إذ رأيت شمعا قد أقبل به مع جنازة فإذا قائل يقول في قبر قريب من القبر المحفور : اللهم إني أعوذ بك من الجار السوء قال : فركعت ثم سجدت و سلمت ثم خرجت حتى لقيت أصحاب الجنازة فسلمت و قلت : لا تقربونا و تنحوا عنا ـ عافاكم الله ـ قالوا : ما نستطيع ذلك و قد حفرنا قبرنا هذا و لا نستطيع أن نذهب إلى غيره فقلت : من أولى بالجنازة ؟ فقالوا : هذا ابنه فقلت له : هل لك أن تتنحى عنا و تناولني ثوبك هذا الذي عليك فألبسه و أعطيك بردي هذا فإني قد أخذته باليمن بسبعين دينارا و هو ها هنا خير من سبعين ؟ فإن كان على أبيك دين قضيته عنه و إن لم يكن انتفع بذلك الورثة و تكف عنا ما نكره قال : فأنكر القوم قولي أن يكون على رجل برد يلتف به ثمنه سبعون دينارا فاحتجت إلى أن أخبرهم من أنا ؟ فقلت : تعرفون طاووس اليماني ؟ قالوا : نعم قلت : فأنا طاووس اليماني و ما قلت في البرد إلا حقا فناولني الرجل رداءه و أخذ ردائي و انصرف عنا و أقبلت حتى وقفت على صاحب القبر فقلت : ما كان لك ليجاورك جار تكرهه و أنا أستطيع رده ثم عدت إلى صلاتي
باب ما جاء أن الموتى يتزاورون في قبورهم و استحسان الكفن لذلك الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه خرج الحافظ أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني في كتاب الإبانة له [ حدثنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال : حدثنا علي بن الحسين بن بندار قال : حدثنا محمد بن الصفار قال : حدثنا معاوية قال : حدثنا زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون و يتزاورون في قبورهم ] و في صحيح مسلم [ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ]
باب ما جاء في كلام القبر كل يوم وكلامه للعبد إذا وضع فيه الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مصلاه فرأى ناسا يكشرون فقال : أما أنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى ـ يعني الموت ـ فأكثروا ذكر هاذم اللذات : الموت فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول : أنا بيت الغربة و أنا بيت الوحدة و أنا بيت التراب و أنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر : مرحبا و أهلا أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم و صرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره و يفتح له باب الجنة و إذا دفن العبد الفاجرأو الكافر قال له القبر : لا مرحبا و لا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذ وليتك اليوم و صرت إلي فسترى صنيعي بك قال : فيلتئم عليه حتى يلتقي و تختلف أضلاعه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصابعه فأدخل بعضها جوف بعض قال : و يقيض الله له تسعين تنينا أو تسعة و تسعين لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فتنهشه حتى يفضى به إلى الحساب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب
و خرج هناد بن السرى قال : حدثنا حسن الجعفي عن مالك بن مغول عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : يجعل الله للقبر لسانا ينطق به فيقول : ابن آدمن كيف نسيتني ؟ أما علمت أني بيت الدود و بيت الوحدة و بيت الوحشة
قال : و حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : إن القبر ليبكي و يقول في بكائه : أنا بيت الوحشة أنا بيت الوحدة أنا بيت الدود
و ذكر أبو عمر بن عبد البر روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال : أتيت بيت المقدس أنا و عبد الله بن عبيد بن عمير قال : فجلسنا إلى عبد الله بن عمر بن العاص فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة ؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة ؟ ألم تعلم أني بيت الحق ؟ يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ! لقد كنت تمشي حولي فدادا قال ابن عائذ : قلت لغضيف : ما الفداد يا أبا اسماعيل ؟ قال : كبعض مشيتك يا ابن أخي قال غضيف : فقال لصاحبي ـ و كان أكبر مني ـ لعبد الله بن عمرو : فإن كان مؤمنا فماذا له ؟ قال : يوسع له في قبره و يجعل منزله أخضر و يعرج بروحه إلى السماء ذكره في كتاب التمهيد
و ذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له [ عن أبي الحجاج الثمالي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول القبر للميت إذا وضع فيه : ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة و بيت الظلمة و بيت الدود ؟ ما غرك إذ كنت تمر بي فدادا ؟ قال : فإنا كان صالحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول : أرأيت إن كان ممن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ؟ قال فيقول القبر : فإني أعود عليه خضرا و يعود جسده نورا و تصعد روحه إلى رب العالمين ] ذكر هذا الحديث أبو أحمد الحاكم في كتاب الكنى و ذكره أيضا قاسم بن أضبع قال : قيل لأبي الحجاج ما الفداد ؟ قال : الذي يقدم رجلا و يؤخر أخرى يعني الذي يمشي مشية المتبخر
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا داود بن ناقد قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : بلغني أن الميت يقعد في حفرته و هو يسمع وخط مشيعيه و لا يكلمه شيء أول من حفرته فتقول : ويحك يا ابن آدم قد حذرتني و حذرت ضيقي و ظلماتي و نتني و هولي هذا ما أعددت لك فما أعددت لي ؟
الوخط و الوخد : سرعة السير في المشي
و قال سفيان الثوري : من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة و من غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار
و قال أحمد بن حرب تتعجب الأرض ممن يمهد مضجعه و يسوي فراشه لنوم و تقول : يا ابن آدم ألا تذكر طول رقادك في جوفي و ما بيني و بينك شيء ؟
و قيل لبعض الزهاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى محلة الأموات و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
( وعظتك أجداث صمت ... و نعتك أزمنة خفت )
( و تكلمت عن أوجه تبلى ... و عن صور سبت )
( و أرتك نفسك في القبور ... و أنت حي لم تمت )
و روي عن الحسن البصري أنه قال : كنت خلف جنازة فاتبعتها حتى وصلوا بها إلى حفرتها فنادت امرأة فقالت : يا أهل القبور لو عرفتم من نقل إليكم لأعززتموه ؟ قال الحسن : فسمعت صوتا من الحفرة و هو يقول : قد و الله نقل إلينا بأوزار كالجبال و قد أذن لي أن آكله حتى يعود رميما قال : فاضطربت الجنازة فوق النعش و خر الحسن مغشيا عليه
باب ما جاء في ضغط القبر على صاحبه و إن كان صالحا النسائي [ عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هذا الذي تحرك له عرش الرحمن و فتحت له أبواب السماء و شهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه ] قال أبو عبد الرحمن النسائي يعني سعد بن معاذ
[ و من حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ ]
و ذكر هناد بن السرى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي ملكية قال : ما أجير من ضغطة القبر أحد و لا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا و ما فيها قال : و حدثنا عبدة بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال : و لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قط
و لقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة ]
و خرج علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية عن نافع قال : أتينا صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر و هي فزعة فقلنا : ما شأنك ؟ قالت : جئت من عند بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم فحدثتني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن كنت لأرى أن أحدا لو أعفي من عذاب القبر لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة ]
و خرج أيضا عن زاذان أن أبي عمر قال : لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته زينب جلس عند القبر فتربد وجهه ثم سرى عنه فقال له أصحابه : رأينا وجهك يا رسول الله تربد آنفا ثم سرى عنك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ذكرت ابنتي و ضعفها و عذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها و أيم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين ]
و خرج أيضا بسنده عن إبراهيم الغنوي عن رجل قال : كنت عند عائشة فمرت جنازة صبي صغير فبكت فقلت لها : ما يبكيك يا أم المؤمنين ؟ فقالت : هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر
قلت : و هذا الخبر و إن كان موقوفا على عائشة رضي الله عنه فمثله لا يقال من جهة الرأي
و قد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة ـ على سكانها السلام ـ في ذكر وفاة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : [ بينما هو صلى الله عليه و سلم في أصحابه أتاه آت فقال : إن أم علي و جعفر و عقيل قد ماتت فقال : قوموا بنا إلى أمي ] قال : فقمنا كأن على رؤوسنا الطير فلما انتهينا إلى الباب نزع قنيصه و قال : إذا كفنتموها فأشعروه إياه تحت أكفانها فلما خرجوا بها جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة يحمل و مرة يتقدم و مرة يتأخر حتى انتهينا بها إلى القبر فتمعك في اللحد ثم خرج و قال : أدخلوها بسم الله و على اسم الله فلما دفنوها قام قائما و قال : جزاك الله من أم و ربيبة خيرا [ و سألناه عن نزع قميصه و تمعكه في اللحد ؟ فقال : أردت أن لا تمسها النار أبدا إن شاء الله تعالى و أن يوسع الله عليها قبرها و قال : ما عفى أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد قيل يا رسول الله : و لا القاسم ابنك ؟ قال : و لا إبراهيم و كان أصغرهما ] و رواه أبو نعيم الحافظ عن عاصم الأحول عن أنس بمعناه و ليس فيه السؤال بتمعكه إلى آخره
قال أنس : [ لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس عند رأسها فقال : رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي تجوعين و تشبعينني و تعرين و تكسونني و تمنعين نفسك طيب الطعام و تطعمينني تريدين بذلك وجه الله و الدار الآخرة ثم أمر أن تغسل ثلاثا فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده ثم خلع رسول الله صلى الله عليه و سلم قميصه و ألبسها إياه و كفنها فوقه ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم : أسامة بن زيد و أبا أيوب الأنصاري و عمر بن الخطاب و غلاما أسود يحفرون قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضطجع فيه ثم قال : الحمد لله الذي يحيي و يميت و هو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد و لقنها حجتها و وسع عليها مدخلها بحق نبيك و الأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين و كبر عليها أربعا و أدخلها اللحد هو و العباس و أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ]
باب منه و ما جاء أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه و هم من شر الناس له روى أبو هدبة قال [ إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن العبد الميت إذا وضع في قبره و أقعد قال : يقول أهله : وا سيداه وا شريفاه وا أميراه قال : يقول الملك : اسمع ما يقولون أنت كنت سيدا ؟ أنت كنت أميرا أنت كنت شريفا ؟ قال : يقول الميت : يا ليتهم يسكتون قال : فيضعط ضغطة تختلف فيها أضلاعه ]
فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت و اختياره كما قال :
( إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... و شقي علي الجيب يا ابنة معبد )
و كذلك إذا وصى به و قد روى ما يدل على أن الميت يصيبه عذاب ببكاء الحي عليه و إن لم يكن من سنته و لا من اختياره و لا مما أوصى به و استدلوا بحديث أنس المذكور [ و بما روى من حديث قيلة بنت مخرمة و ذكرت عند النبي صلى الله عليه و سلم ولدا لها مات ثم بكت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيغلب أحيدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا فإذا حال بينه و بينه من هو أولى به منه استرجع ؟ ثم قال : اللهم أثبني فيما أمضيت و أعني على ما أبقيت فو الذي نفس محمد بيده إن أحيدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه يا عباد الله لا تعذبوا موتاكم ] ذكره ابن أبي خيثمة و أبو بكر بن أبي شيبة و غيرهما و هو حديث معروف إسناده لا بأس به و سياقه يدل على أن بكاء هذه لم يكن من اختيار لابنها لأن ابنها صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا كان هذا البكاء المعروف في الجاهلية الذي كان من اختيار الميت و مما يوصي به
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب [ من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الميت يعذب ببكاء الحي عليه إذا قالت النائحة وا عضده وا ناصراه وا كاسياه جبذ الميت و قيل له : أنت ناصرها ؟ أنت كاسيها ]
و ذكر البخاري من حديث النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلتلا أخته عمرة تبكي و تقول : و اجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حينت أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أأنت كذلك ؟ فلما مات لم تبك عليه و هذا أيضا لم يكن من سنة عبد الله بن رواحة و لا من اختياره و لا مما أوصى به فصابه في الدين أجل و أرفع من أن كان يأمر بهذا أو يوصي به
و روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ [ من حديث منصور بن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله ليعذب الميت بصياح أهله عليه ] فقال له رجل : يموت بخراسان و يناح عليه ها هنا ؟ فقال عمران : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذبت
قال المؤلف رضي الله عنه : و هذا بظاهره أن بنفس الصياح يقع التعذيب و ليس كذلك و إنما هو محمول على ما ذكرناه و الله أعلم
و قال الحسن : إن من شر الناس للميت : أهله يبكون عليه و لا يقضون دينه
باب ما ينجي من ضغطة و فتنته روى أبو نعيم [ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قرأ { قل هو الله أحد } في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره و أمن من ضغطة القبر و حملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة ] قال : هذا حديث غريب من حديث يزيد تفرد به نصر بن حماد البجلي
باب ما يقال عند وضع الميت في قبره و في اللحد في القبر اللحد : هو أن يحفر للميت في جانب القبر إن كان الأرض صلبة و هو أفضل من الشق فإنه الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه و سلم
روى ابن ماجه عن ابن عباس قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعثوا إلى أبي عبيدة و كان يضرح كضريح أهل مكة و بعثوا إلى أبي طلحة و كان هو الذي يحفر لأهل المدينة و كان يلحد فبعثوا إليهما رسولين قالوا : اللهم خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به و لم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه و سلم
و روى أبو داود [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللحد لنا و الشق لغيرنا ] خرجه ابن ماجه و الترمذي و قال : حديث حسن غريب و أنشدوا :
( ضعوا خجي على لحدي ضعوه ... و من عفر التراب فوسدوه )
( و شقوا عنه أكفانا رقاقا ... و في الرمس البعيد فغيبوه )
( فلو أبصرتموه إذا تقضت ... صبيحة ثالث أنكرتموه )
( و قد سالت نواظر مقلتيه ... على وجناته و انفض فوه )
( و ناداه البلا : هذا فلان ... هلموه فانظروا هل تعروفه )
( حبيبكم و جاركم المفدى ... تقادم عهده فنسيتموه )
و قال آخر :
( و ألحدوا محبوبهم و انثنوا ... و همهم تحصيل ما خلفا )
( و غادروه مسلما مفردا ... في رمسه رهنا بما أسلفا )
( و لم يزود من جميع الذي ... باع به أخراه إلا لفا )
و خرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول عن سعيد بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله و في سبيل الله فلما أخذ في تسوية اللحد قال : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر فلما سوى الكثيب عليها قام جانب القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيها و صعد روحها و لقها منك رضوانا فقلت لابن عمر : شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم : أم شيئا قلته من رأيك ؟ قال : إني إذا لقادر على القول بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم خرجه ابن ماجه أيضا في سننه
و قال أبو عبد الله الترمذي رحمه الله : حدثني أبي رحمه الله قال : حدثنا الفضل بن ذكين عن سفيان عن الأعمش عن عمرو بن مرة قال : كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقولوا : اللهم أعذه من الشيطان الرجيم
و روي [ عن سفيان الثوري أنه قال : إذا سئل الميت : من ربك ؟ تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه : إني أنا ربك قال أبو عبد الله : فهذه فتنة عظيمة و لذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو بالثبات فيقول : اللهم ثبت عند أحدهما منطقه و افتح أبواب السماء لروحه ] فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل ما كان ليدعو له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجبره من الشيطان فهذا تحقيق لما روى عن سفيان ذكره في الأصل التاسع و الأربعين و المائتين
باب الوقوف عن القبر قليلا بعد الدفن و الدعاء بالتثبيت له مسلم عن بن شماسة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص و هو في سياقة الموت الحديث : و فيه : فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر و يقسم لحمها حتى أستأنس بكم و أنظر ماذا أرجع به رسل ربي عز و جل ؟ أخرجه ابن المبارك بمعنى مسلم من حديث ابن لهيعة
قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه و قال فيه و شدوا على إزاري فإني مخاصم و شنوا على التراب شنا فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر ولا تجعلن في قبري خشبة و لا حجرا و إذا و اريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور و تقطعيها استأنس بكم
أبو داود [ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه و قال : استغفروا لأخيكم و اسألوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل ]
و أخرج أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول [ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دفن ميتا وقف و سأل له التثبيت و كان يقول : ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا و القبر أفظع منه ]
و خرج أبو نعيم في باب عطاء بن ميسرة الخراساني إلى عثمان رضي الله عنه [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قبر رجل من أصحابه حين فرغ منه فقال : إنا و الله و إنا إليه راجعون اللهم نزل بك و أنت من خير منزول به جاف الأرض عن جنبيه و افتح أبواب السماء لروحه و أقبله منك بقبول حسن و ثبت عند المسائل منطقه ] غريب من حديث عطاء
فصل قال الآجري أبو بكر محمد بن الحسين في كتاب النصيحة : يستحب الوقوف بعد الدفن قليلا و الدعاء للميت مستقبل وجهه بالثبات فيقال : اللهم هذا عبدك و أنت أعلم به منا و لانعلم منه إلا خيرا و قد أجلسته لتسأله اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبته في الحياة الدنيا اللهم ارحمه و ألحقنه بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم و لا تضلنا بعده و لا تحرمنا أجره و حدثنا أبو عبد الله الترمذي : فالوقوف على القبر و سؤال التثبيت في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة لأن الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له و الوقوف على القبر لسؤال التثبيت مدد للعسكر و تلك ساعة شغل للميت و لأنه يستقبله هول المطلع و سؤال و فتنة فتاني القبر ـ على ما يأتي ـ و الجزور بفتح الجيم من الإبل
و الجزرة من الضأن و المعز خاصة قاله في الصحاح
فصل قول عمرو بن العاص رضي الله عنه فإذا أنا مت فلا تصبحبني نائحة و لا نارة توصية منه باجتناب هذين الأمرين لأنهما من عمل الجاهلية و لنهي النبي صلى الله عليه و سلم
قال العلماء : و من ذلك الضجيج بذكر الله سبحانه وتعالى أو بغير ذلك حول الجنائز و البناء على المقابر و الاجتماع في الجبانات و المساجد للقراءة و غيرها لأجل الموتى و كذلك الاجتماع إلى أهل الميت وضيعة الطعام و المبيت عندهم كل ذلك من أمر الجاهلية و نحو منه الطعام الذي يصنعه أهل الميت اليوم في يوم السابع فيجتمع له الناس يريدون بذلك القربة للميت و الترحم عليه و هذا محدث لم يكن فيما تقدم و لا هو مما يحمده العلماء قالوا : و ليس ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر و ينهى كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا و شبهه من لطم الخدود و نشر الشعور و شق الجيوب و استماع النوح و كذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت ـ كما ذكرنا ـ فيجتمع عليه النساء و الرجال من فعل قوم لا خلاق لهم
و قال أحمد بن حنبل : هوز من فعل الجاهلية قيل له : أليس قد قال النبي صلى الله عليه و سلم اصنعوا لآل جعفر طعاما ؟ فقال : لم يكونوا هم اتخذوا إنما اتخذ لهم فهذا كله واجب على الرجل أن يمنع أهله منه و لا يرخص لهم فمن أباح ذلك لأهله فقد عصى الله عز و جل و أعانها على الإثم و العدوان و الله تعالى يقول : { قوا أنفسكم و أهليكم نارا } قال العلماء : معناه أدبوهم و علموهم
و روى ابن ماجه في سننه عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت و صنعة الطعام من النياحة و في حديث شجاع بن مخلد قال : كانوا يرون أن إسناده صحيح و ذكر الخرائطي عن هلال بن خباب قال : الطعام على الميت من أمر الجاهلية
و خرج الآجري عن أبي موسى قال : ماتت أخت لعبد الله بن عمر فقلت لامرأتي : اذهبي فعزيهم و بيتي عندهم فقد كان بيننا و بين آل عمر الذي كان فجاءت فقال : ألم أمرك أن تبيتي عندهم ؟ فقالت : أردت أن أبيت فجاء ابن عمر فأخرجنا و قال : اخرجن لا تبتين أختي بالعذاب و عن أبي البختري قال : بيتونة الناس عند أهل الميت ليست إلا من أمر الجاهلية
قال المؤلف رحمه الله : و هذه الأمور كلها قد صارت عند الناس الآن سنة و تركها بدعة فانقلب الحال و تغيرت الأحوال قال ابن عباس رضي الله عنه : لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة و أحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن و تحيا البدع و لن يعمل بالسنن و ينكر البدع إلا من هون الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا و نهيهم عما اعتادوا و من يسر لذلك أحسن الله تعويضه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنك لن تدع شيئا إلا عوضك الله خيرا منه ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يزال في هذه الأمة عصابة يقاتلون على أمر الله لا يضرهم جدال من جادلهم و لا عداوة من عاداهم ]
فصل : و من هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس منا من لطم الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية ] و فيهما أيضا عن أبي بردة بن أبي موسى قال : وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه و رأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال : أنا برىء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم برىء من الصالقة و الحالقة و الشاقة
و في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد و أبي بردة بن أبي موسى قالا : أغمي على أبي موسى و أقبلت امرأته تصيح برنة قالا : ثم أفاق قال : ألم تعلمي ـ و كان يحدثها ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا بريء ممن حلق و سلق و خرق ] ؟
ابن ماجه عن [ أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن الخامشة وجهها و الشاقة جيبها و الداعية بالويل و الثبور ] إسناده صحيح و قال حاتم الأصم : إذا رأيت صاحب المصيبة قد خرق ثوبه و أظهر حزنه فعزيته فقد أشركته في إثمه و إنما هو صاحب منكر يحتاج أن تنهاه و قال أبو سعيد البلخي : من أصيب بمصيبة فمزق ثوبا أو ضرب صدرا فكأنما أخذ رمحا يريد أن يقاتل به ربه عز و جل و أنشدوا :
( عجبت لجازع باك مصاب ... بأهل أو حميم ذي اكتئاب )
( شقيق الجيب داعي الويل جهلا ... كأن الموت كالشيء العجاب )
( و سوى الله فيه الخلق حتى ... نبي الله منه لم يحاب )
( له ملك ينادي كل يوم : ... لدوا للموت و ابنوا للخراب )
باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته شهادة الإخلاص في لحده ذكر أبو محمد عبد الحق يروي [ عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع و لا يجيب ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعدا ثم يقول : يا فلان ابن فلانة الثالثة فإنه يقول : أرشدنا رحمك الله و لكنكم لا تسمعون فيقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أنك رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا و بالقرآن إماما فإن منكرا و نكيرا يتأخر كل واحد منهما و يقول : انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا و قد لقن حجته و يكون الله حجيجهما دونه فقال رجل : يا رسول الله فإن لم تعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى أمه حواء ]
قلت : هكذا ذكره أبو محمد في كتاب العاقبة لم يسنده إلى كتاب و لا إلى إمام و عادته في كتبه نسبة ما يذكره من الحديث إلى الأئمة و هذا و الله أعلم نقله من إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد فنقله كما وجد و لم يزد عليه و هو حديث غريب خرجه الثقفي في الأربعين له أنبأناه الشيخ المسن الحاج الرواية : أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح بن أبي الحسن القرشي ـ عرف بابن رواح ـ بمسجده بثغر الإسكندرية حماه الله و الشيخ الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب على ظهر النيل بها قالا جميعا : حدثنا الشيخ الإمام الحافظ أبو ظاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني قالا : أخبرنا الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان أخبرنا أبو علي الحسين بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدان التاجر بنيسابور حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا أبو الدرداء هاشم بن يعلى الأنصاري حدثنا عتبة بن السكن الفزاري الحمصي عن أبي زكريا عن حماد بن زيد عن سعيد الأزدي قال : دخلت على أبي أمامة الباهلي و هو في النزع فقال لي : يا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نصنع بموتانا فقال : [ إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل : يا فلان ابن فلانة فإنه سيسمع فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعدا فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول : أرشدنا يرحمك الله فلقيل : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله باعث من في القبور فإن منكر و نكيرا عند
ذلك يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه و يقول : ما نصنع عند رجل لقن حجته فيكون الله حجيجهما دونه ] حديث أبي أمامة في النزع غريب من حديث حماد بن زيد ما كتبناه إلا من حديث سعيد الأزدي
قال أبو محمد عبد الحق : و قال شيبة بن أبي شيبة : أوصتني أمي عند موتها فقالت لي : يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري و قل يا أم شيبة قولي : لا إله إلا الله ثم انصرف فلما كان من الليل رأيتها في المنام فقالت لي : يا بني لقد كدت أن أهلك لولا أن تداركتني لا إله إلا الله فلقد حفظتني في وصيتي يا بني
قال المؤلف : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي : ينبغي أن يرشد الميت في قبره حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال و يذكر بذلك فيقال له : قل الله ربي و الإسلام ديني و محمد رسولي فإنه عن ذلك يسأل كما جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله و قد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك فيقال : قل هو محمد رسول الله و ذلك عند هيل التراب و لا يعارض هذا بقوله تعالى : { و ما أنت بمسمع من في القبور } و قوله : { إنك لا تسمع الموتى } لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد نادى أهل القليب و أسمعهم و قال : [ ما أنتم بأسمع و لكنهم لا يستطيعون جوابا ] و قد قال في الميت : [ إنه ليسمع قرع نعالهم و أن هذا يكون في حال دون حال و وقت دون وقت ] وسيأتي استيفاء هذا المعنى في باب : ما جاء أن الميت يسمع ما يقال : إن شاء الله
باب في نسيان أهل الميت ميتهم و في الأمل و الغفلة أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن مشيعي الجنازة قد وكل بهم ملك فهم مهتمون محزنون حتى إذا أسلموه في ذلك القبر و رجعوا راجعين أخذ كفا من تراب فرمى به و هو يقول : ارجعوا إلى دياركم أنساكم الله موتاكم فينسون ميتهم و يأخذون في شرائهم و بيعهم كأنهم لم يكونوا منه و لم يكن منهم ]
و يروى أن الله عز و جل لما مسح على ظهر آدم عليه السلام فاستخرج ذريته قالت الملائكة : رب لا تسعهم الأرض قال الله تعالى : إني جاعل موتا : قالت : رب لا يهنيهم العيش قال : إني جاعل أملا : فالأمل رحمة من الله تعالى ينتظم به أسباب المعاش و يستحكم به أمور الدنيا و يتقوى به الصانع على صنعته و العابد على عبادته و إنما يدم من الأمل ما امتد و طال حتى أنسى العاقبة و ثبط عن صالح الأعمال قال الحسن : الغفلة و الأمل : نعمتان عظيمتان على ابن آدم و لولاهما ما مشى المسلمون في الطرق يريد لو كانوا من التيقظ و قصر الأمل و خوف الموت بحيث لا ينظرون إلى معاشهم و ما يكون سببا لحياتهم لهلكوا و نحوه قال مطرف بن عبد الله : لو علمت متى أجلي ؟ لخشيت ذهاب عقلي و لكن الله سبحانه من على عباده بالغفلة عن الموت و لولا الغفلة ما تهنوا بعيش و لا قامت بينهم الأسواق
باب في رحمة الله بعبده إذا أدخل في قبره قال عطاء الخراساني : أرحم ما يكون الرب بعبده إذا دخل في قبره و تفرق الناس عنه و أهله و روي عن ابن عباس مرفوعا و قال أبو غالب : كنت أختلف إلى أبي أمامة الباهلي بالشام فدخلت يوما على فتى مريض من جيران أبي أمامة و عنده عم له و هو يقول : يا عدو الله ألم آمرك ؟ ألم أنهك ؟ فقال الفتى : يا عماه لو أن الله دفعني إلى والدتي : كيف كنت صانعة بي ؟ قال : تدخلك الجنة قال : الله أرحم بي من والدتي و قبض الفتى فدخلت القبر مع عمه فلما أن سواه صاح و فزع قلت له مالك ؟ قال : فسح له في قبره و ملئ نورا
و كان أبو سليمان الداراني يقول في دعائه : يا من لا يأنس بشيء أبقاه و لا يستوحش من شيء أفناه و يا أنيس كل غريب ارحم في القبر غربتي و يا ثاني كل وحيد آنس في القبر وحدتي و لقد أحسن أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مفاوز السلمي الكاتب أحد البلغاء بشرق الأندلس حيث يقول :
( أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم )
( أودعوني بطن الصريح و خافوا ... من ذنوبي و آيسوا من نعيم )
( قلت : لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم )
( و دعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرهن عند مولى كريم )

باب متى يرتفع ملك الموت عن العبد ؟ و بيان قوله تعالى : و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد و قوله تعالى : لتركبن طبقا عن طبق
أبو نعيم [ عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز و جل إن الله ـ لا إله غيره إذا أراد خلقه ـ قال للملك : اكتب رزقه و أثره و أجله و اكتب شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته و سيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك المكان ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه : واحد سائق و الآخر شهيد ثم قال الله عز و جل : { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في : لتركبن طبقا عن طبق قال : حالا بعد حال ]
ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن قدامكم أمر عظيم فاستعينوا بالله العظيم ] قال أبو نعيم : هذا حديث غريب من حديث أبي جعفر و حديث جابر تفرد به عنه جابر ابن يزيد الجعفي و عنه المفضل
قلت : جابر بن يزيد الجعفي متروك لا يحتج بحديثه في الأحكام و وجد بمدينة قرطبة على قبر الوزير الكبير أبي عامر بن شهيد مكتوبا و هو مدفون بإزاء صاحبه الوزير أبي مروان الزجاجي و كأنه يخاطبه و دفنا في بستان كانا كثيرا ما يجتمعان فيه :
( يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود ؟ )
( فقال لي : لن تقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد )
( نذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها و الزمان عيد )
( و كم ينير همى علينا ... سحابة ثرة بجود )
( كل كأن لم يكن تقضى ... و شؤمه حاضر عتيد )
( حصله كاتب حفيظ ... و ضمه صادق شهيد )
( يا حسرتا إن تنكبتنا ... رحمة من بطشه شديد )
( يا رب عفوا فأنت مولى ... قصر في حقه العبيد )
باب في سؤال الملكين للعبد و في التعوذ من عذاب القبر و عذاب النار البخاري [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتام ملكان فيقعد أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه و سلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ] قال قتادة : و ذكر لنا أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعا و قال مسلم : سبعون ذراعا و يملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون ثم رجع إلى حديث أنس قال : [ و أما المنافق و الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال : لا دريت و لا تليت و يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ]
قلت : ليس عند مسلم ثم رجع إلى حديث أنس إلى آخره و إنما هو عند البخاري فحديثه أكمل و قول الملكين : و لا تليت :
قال النحويون : الأصل في هذه الكلمة : الواو أي و لا تلوت إلا أنها قلبت ياء ليتبع بها دريت و قد جاء من حديث البراء : [ لا دريت و لا تلوث ] على ما رواه الإمام أحمد بن حنبل : أي لم تدر و لم تتل القرآن فلم تنتفع بدرايتك و لا تلاوتك
ابن ماجه [ عن أبي هريرة عن النبي قال : إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع و لا مشغوف ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام ! فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : لا ما ينبغي لأحد أن يرى الله ! فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها و ما فيها فيقال له : هذا مقعدك ]
و يقال له : على اليقين كنت و عليه مت و عليه تبعث إن شاء الله تعالى و يجلس الرجل السوء في قبره فزعا مرعوبا فيقال له : فيما كنت ؟ فيقول : لا أدري فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولا فقلته فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظروا إلى زهرتها و ما فيها فيقال له انظر إلى ما صرفه الله عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال : هذا مقعدك على الشك كنت و عليه مت و عليه تبعث إن شاء الله تعالى [
الترمذي ] عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أقبر الميت ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر و للآخر النكير
فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول ما كان يقول فيه : هو عبد الله و رسوله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له : نم فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : ثم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك و إن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله : لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه فتختلق أضلاعه فلا يزال فيها فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك [ قال حديث حسن غريب
أبو داود ] عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخلا نخلا لبني النجار فسمع صوتا ففزع فقال : من أصحاب هذه القبور ؟ قالوا : يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر و من فتنة الدجال قالوا : و مم ذاك يا رسول الله ؟ قال : إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له : ما كنت
تعبد ؟ فإن هداه الله قال : كنت أعتبد الله فيقال : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول هو عبد الله و رسوله فما يسأل عن شيء غيرها فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له : هذا بيتك كان في النار و لكن عصمك و رحمك فأبدلك بيتا في الجنة فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له : اسكن
و إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره و يقول : ما كنت تعبد ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول كما يقول الناس فيضرب بمطارق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين [
و خرج أبو داود أيضا ] عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر و لما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير و في يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا قال : و إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ قال : و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله فيقولان له : و ما يدريك ؟ قال : قرأت كتاب الله فآمنت و صدقت [ قال : فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و افتحوا له بابا إلى الجنة قال : فيأتيه من روحها و طيبها قال : و يفسح له مد بصره
قال : و إن الكافر فذكر موته قال : و تعاد روحه في جسده و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فيقولان : ما هذا الرسول الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه لا أدري قال : فينادي مناد : أن كذب عبدي فأفرشوه من النار و ألبسوه من النار و افتحوا له بابا إلى النار قال : فيأتيه من حرها و سمومها قال : و يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ] زاد في حديث جرير قال : [ ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا قال : فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق و المغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح ]
فصل : ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و قد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله : ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره ؟ قال : يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد الله اكتب عملك فيقول : ليس معي دواة و لا قرطاس فيقول : هيهات كفنك قرطاسك و مدادك ريقك و قلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب و إن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته و سيئاته كيوم واحد ثم يطوى الملك القطعة و يعلقها في عنقه
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوله تعالى : { و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } أي : عمله فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتانا القبر و هما ملكان أسودان يخرقان الأرض بأنيابهما لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض كلامها كالرعد القاصف و أعينهما كالبراق الخاطف و نفسهما كالريح العاصف بيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه لو ضرب به أعظم جبل لجعله دكا فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت و ولت هاربة فتدخل في منخر الميت فيحيا الميت من الصدر و يكون كهيأته عند الغرغرة و لا يقدر على حراك غير أنمه يسمع و ينظر قال : فيقعدانه فيبتدئانه بعنف و ينتهرانه بجفاء و قد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفسح فيه و وجد فرجة فيقولان له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ و ما قبلتك ؟ فمن وفقه الله و ثبته بالقول الثابت قال : و من و كلكما علي ؟ و من أرسلكما إلي ؟ و هذا لا يقوله إلا العلماء الأخيار فيقول أحدهما للآخر : صدق كفي سرنا ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة و يفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه ثم يفرشان له من حريرها و ريحانها و يدخل عليه من نسيمها و روحها و ريحانها و يأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه يؤنسه و يحدثه و يملأ قبره نورا و لا يزال في فرح و سرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة و يسأل : متى تقوم الساعة ؟ فليس شيء أحب إليه من قيامها
و دونه في المنزلة المؤمن العامل الخير ليس معه حظ من العلم و لا من أسرار الملكوت يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيب الريح حسن الثياب فيقول له : أما تعرفني ؟ فيقول : من أنت الذي من الله علي بك في غربتي ؟ فيقول : أنا عملك الصالح فلا تحزن و لا توجل فعما قليل يلج عليك منكر و نكير يسألانك فلا تدهش ثم يلقنه حجته فبينما هو كذلك إذ دخلا عليه فينتهرانه و يقعدانه مستندا و يقولان : من ربك ؟ ـ نسق الأول ـ فيقول : الله ربي و محمد نبيي و القرآن إمامي و الكعبة قبلتي و إبراهيم أبي و ملته ملتي غير مستعجم فيقولان له : صدقت و يفعلان به كالأول إلا أنهما يفتحان له بابا إلى النار فينظر إلى حياتها و عقاربها و سلاسلها و أغلالها و حميمها و جميع غمومها و صديدها و زقومها فيفزع فيقولان له : لا عليك سوء هذا موضعك قد أبدله الله تعالى بموضعك هذا من الجنة نم سعيدا ثم يغلقان عنه باب هذا النار و لم يدر ما مر عليه من الشهور و الأعوام و الدهور و من الناس من يحجم في مسألته فإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول : الله ربي و أخذ غيرها من الألفاظ فيضربانه ضربة يشتعل منها قبره نارا ثم تطفأ عنه أياما ثم تشتعل عليه أيضا هذا دأبه ما بقيت الدنيا و من الناس من يعتاص عليه و يعسر أن يقول : الإسلام ديني لشك كان يتوهمه أو فتنة تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره نارا كالأول و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : القرآن إمامي لأنه كان يتلوه و لا يتعظ به و لا يعمل بأوامره و لا ينتهي بنواهيه يطوف عليه دهره و لا يعطي منه نفسه خيره فيفعل له ما يفعل بالأولين و من الناس من يستحيل عمله جروا يعذب في قبره على قدر جرمه ]
و في الأخبار : أن في الناس من يستحيل عمله خنوصا ـ و هو ولد الخنزير ـ و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : نبيي محمد لأنه كان ناسيا لسنته و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : الكعبة قبلتي لقلة تحريه في صلاته أو فساده في وضوئه أو التفات في صلاته أو اختلال في ركوعه و سجوده و يكفيك ما روي في فضائلها أن الله لا يقبل صلاة من عليه صلاة و من عليه ثوب حرام و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : إبراهيم أبي لأن سمع كلاما يوما أو همه أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا فإذا هو شاك مرتاب فيفعل به ما يفعل بالآخرين و قال أبو حامد : و كل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الأحياء
و أما الفاجر فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري ! فيقولان له : لا دريت و لا عرفت ثم يضربانه بتلك المقامع حتى يتلجلج في الأرض السابعة ثم تنقضه الأرض في قبره ثم يضربانه سبع مرات ثم تفترق أحوالهم فمنهم من يستحيل عمله كلبا ينهشه حتى تقوم الساعة و هم الخوارج و منهم من يستحيل خنزيرا يعذب به في قبره و هم المرتابون و هم أنواع و أصله أن الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنيا فمن الناس من يخاف من الجرو أكثر من الأسد و طبائع الخلق متفرقة نسأل الله السلامة و الغفران قبل الندامة
فصل : جاء في حديث البخاري و مسلم : سؤال الملكين و كذلك في حديث الترمذي و نص على اسميهما و نعتها و جاء في حديث أبي داود : سؤال ملك واحد و في حديثه الآخر : سؤال ملكين و لا تعارض في ذلك و الحمد لله : بل كان ذلك صحيح المعني بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعا و يسألانه جميعا في حال واحد عند انصراف الناس ليكون السؤال عليه أهون و الفتنة في حقه أشد و أعظم و ذلك بحسب ما اقترف من الآثام و اجترح من سيء الأعمال و آخر يأتيه قبل انصراف الناس عنه و آخر يأتيه أحدهما على الانفراد فيكون ذلك أخف في السؤال و أقل في المراجعة و العتاب لما عمله من صالح الأعمال
و قد يحتمل حديث أبي داود وجها آخر و هو : أن الملكين يأتيان جميعا و يكون السائل أحدهما و إن تشاركا في الإتيان فيكون الراوي اقتصر على الملك السائل و ترك غيره لأنه لم يقل في الحديث أنه لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد و لو قاله هكذا صريحا لكان الجواب عنه ما قدمناه من أحوال الناس و الله أعلم و قد يكون من الناس من يوقى فتنتهما و لا يأتيه أحد منهما على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
و اختلفت الأحاديث أيضا في كيفية السؤال و الجواب و ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس فمنهم من يقتصر على سؤاله عن بعض اعتقاداته و منهم من يسأل عن كلها فلا تناقص و وجه آخر هو : أن يكون بعض الرواة اقتصر على بعض السؤال و أتى به غيره على الكمال فيكون الإنسان مسؤولا عن الجميع كما جاء في حديث البراء المذكور و الله أعلم و قول المسؤول : هاه هاه هي حكاية صوت المبهور من تعب أو جري أو حمل ثقيل
باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم و في قبورهم
أخرجه أبو داود الطيالسي و عبد بن حميد في مسنديهما و علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية و هناد بن السرى في زهده و أحمد بن حنبل في مسنده و غيرهم
و هو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد فأما أبو داود الطيالسي فقال : [ حدثنا أبو عوانة عن الأعمش و قال هناد و أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن عمرو و قال : أبو داود : حدثنا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء ـ يعني ابن عازب ـ و حديث أبي عوانة أتمهما قال البراء : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر و لما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير ] قال عمر بن ثابت : وقع و لم يقله أبو عوانة فجعل يرع بصره و ينظر إلى السماء و يخفض بصره و ينظر إلى الأرض ثم قال : أعوذ بالله من عذاب القبر قالها مرارا ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا جاءه ملك فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا قال : عمرو في حديثه و لم يقله أبو عوانة [ و إن كنتم ترون غير ذلك و تنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة و حنوط من حنوطها فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين قال : فذلك قوله تعالى : { توفته رسلنا و هم لا يفرطون } قال : فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء و الأرض إلا قالوا : ما هذه الروح ؟ فيقال : فلان بأحسن أسمائه حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له و يشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقال : اكتبوا كتابه في عليين { و ما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون } فيكتب كتابه في عليين ثم يقال : ردوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم و فيها نعيدهم و منها نخرجهم تارة أخرى قال : فيرد إلى الأرض و تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه و يجلسانه فيقولان من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فيقول ربي الله و ديني الإسلام فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله فيقولان : و ما يدريك ؟ فيقول : جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به و صدقت قال : و ذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة } قال : و ينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و أروه منزله منها و يفسح له مد بصره و يمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول : أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله و جنات فيها نعيم مقيم فينقول : بشرك الله بخير من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير ؟ فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي و مالي قال : فإن كان فاجرا و كان في إقبال من الدنيا و انقطاع من الآخرة جاء ملك فجلس عند رأسه فقال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين قال : فتفرق في جسده فيستخرجها تقطع منها العروق و العصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء و الأرض إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم فيقولون : ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم و فيها نعيدهم و منها نخرجهم تارة أخرى قال : فيرمي به من السماء قال : و تلا هذه الآية { و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } قال : فيعاد إلى الأرض و تعاد فيه روحه و يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه و يجلسانه فيقولون : من ربك ؟ و ما دينك ؟ فيقول : لا أردي فيقولون : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال : محمد فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك قال : فيقال : لا دريت فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه و يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب فيقول : أبشر بعذاب الله و سخطه فيقول : من أنت فوجهك الذي جاء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله سريعا إلى معصية الله ]
قال عمرو في حديثه [ عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه و سلم : فيقيض له أصم أبكم بيده مرزبه ضرب بها جبل صار ترابا أو قال : رميما فيضربه به ضربة تسمعها الخلائق إلا الثقلين ثم تعاد فيه الروح فيضرب ضربة أخرى ] لفظ أبي داود الطيالسي و خرجه علي بن معبد الجهني من عدة طرق بمعناه : و زاد فيه : [ ثم يقيض له اعمى أصم معه مرزبة من حديد فيضربه فيدق بها من ذؤابته إلى خصره ثم يعاد فيضربه ضربة فيدق بها من ذؤابته إلى خصره ] و زاد في بعض طرقه عند قوله مرزبة من حديد : لو اجتمع عليه الثقلان لم ينقلوها فيضرب بها ضربة فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح و يضرب بها ضربة يسمعها من على الأرض غير الثقلين ثم يقال : افرشوا له لوحين من نار و افتحوا له بابا إلى النار فيفرش له لوحان من نار و يفتح له باب إلى النار و زاد فيه عند قوله : و انقطاع من الدنيا : [ نزلت به ملائكة غلاظ شداد معهم حنوط من نار و سرابيل من قطران يحتوشونه فتنتزع نفسه كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل يقطع معه عروقها فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك في السماء و كل ملك في الأرض ] و خرج أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن حرب صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول : [ إذا قتل العبد في سبيل الله كان أول قطرة تقطر من دمه إلى الأرض كفارة للخطايا ثم يرسل الله عز و جل بربطة من الجنة فيقبض فيها روحه و صورة من صور الجنة فيركب فيها روحه ثم يعرج مع الملائكة كأن معهم و الملائكة على أرجاء السماء فيقولان : قد جاء روح من الأرض طيبة و نسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها و لا ملك إلا صلى عليها و دعا لها : و يشيعها حتى يؤتى بها الرحمن فيقولون : يا ربنا هذا عبدك توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة ثم تسجد الملائكة بعد ثم يطهر و يغفر له ثم يؤمر فيذهب به إلى الشهداء فيجدهم في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت و ثور يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة فإذا أمسى و كزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون لحمه فيجدون في لحمه طعم كل رائحة و يبيت الثور في أفناء الجنة فإذا أصبح غدا عليه الحوت فوكزه بذنبه فيذكيه فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون و ينظرون إلى منازلهم من الجنة و يدعون الله عز و جل أن تقوم الساعة فإذا توفي العبد المؤمن بعث الله عز و جل إليه ملكين و أرسل إليه بخرقة من الجنة فقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح و ريحان و رب عنك غير غضبان فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها أحد بأنفه قط و الملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من قبل الأرض روح طيبة و نسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها و لا بملك إلا دعا لها و صلى عليها حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد الملائكة ثم يقولون : هذا عبدك فلان قد توفيته و كان يعبدك لا يشرك بك شيئا فيقول مروه فليسجد فتسجد النسمة ثم يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعين ذراعا عرضه و سبعين ذراعا طوله و ينبذ له فيه الرياحين و يستر بالحرير فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره و إن لم يكن معه جعل له في قبره نور مثل نور الشمس و يكون مثله كمثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه قال : فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته و إذا توفي العبد الفاجر أرسل الله إليه ملكين و أرسل بقطعة من نجاد أنتن من كل نتن و أخشن من كل خشن فقالا : أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم و عذاب و رب عليك غضبان أخرجي و ساء ما قدمت لنفسك فتخرج كأنتن رائحة وجدها أحد بأنفه قط و على أرجاء السماء ملائكة يقولون : قد جاءت من الأرض روح خبيثة و نسمة خبيثة فتغلق دونها أبواب السماء و لا تصعد إلى السماء ثم يؤمر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات أمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحما و يرسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس من حديد لا يسمعون صوته فيرحموه و لا يبصرونه فيرحموه و لا يخطئون حتى يضربونه و يعرض عليه مقعده من النار بكرة و عشيا يدعو بأن يدوم ذلك و لا يخلص إلى النار
و خرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا احتضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح و ريحان و رب راض غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال : ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية و إن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله فيخرج كأنتن ريح خبيثة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح ؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار ]
و خرج أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا حماد عن قتادة عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا قبض العبد المؤمن جاءته ملائكة الرحمة فتسلم تسل نفسه في حريرة بيضاء فيقولون : ما وجدنا ريحا أطيب من هذه فيسألونه فيقولون : ارفقوا به فإنه خرج من غمم الدنيا فيقولون : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ قال : و أما الطافر فتخرج نفسه فتقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحا أنتن من هذه فيهبط به إلى أسفل الأرض ]
الرد على الملحدة قلت : و هنا فصول ستة في الرد على الملحدة :
الفصل الأول تأمل يا أخي وفقني الله و إياك هذا الحديث و ما قبله من الأحاديث ترشدك إلى أن الروح و النفس شيء واحد و أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة يجذب و يخرج و في أكفانه يلف و يدرج : و به إلى السماء يعرج لا يموت و لا يفنى و هو مما له أول و ليس له آخر و هو بعينين و يدين و أنه ذو ريح طيب و خبيث و هذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض
و قد قال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : [ يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا و لو شاء ردها إلينا في حيز غير هذا ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الروح إذا قبض تبعه البصر ] و قال : [ فذلك حين يتبع بصره نفسه ] و هذا غاية في البيان و لا عطر بعد عروس و قد اختلف الناس في الروح اختلافا كثيرا : أصح ما قيل فيه : ما ذكرناه لك و هو مذهب أهل السنة : أنه جسم فقد قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } قال أهل التأويل : يريد الأرواح و قد قال تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } يعني النفس عند خروجها من الجسد و هذه صفة الجسم و لم يجر لها ذكر في الآية لدلالة الكلام عليها كقول الشاعر :
( أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر )
و كل من يقول : إن الروح يموت و يفنى فهو ملحد و كذلك من يقول : بالتناسخ : أنها إذا خرجت من هذا ركبت في شيء آخر : حمار أو كلب أو غير ذلك و إنما هي محفوظة بحفظ الله إما منعمة و إما معذبة على مايأتي بيانه إن شاء الله تعالى
الفصل الثاني الإيمان بعذاب القبر و فتنته : واجب و التصديق به : لازم حسب ما أخبر به الصادق و أن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه و يجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه و ما يجيب به و يفهم ما أتاه من ربه و ما أعد له في قبره من كرامة أو هوان و بهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه و سلم و على آله آناء الليل و أطراف النهار و هذا مذهب أهل السنة و الذي عليه الجماعة من أهل الملة و لم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم و لغتهم من نبيهم عليه السلام غير ما ذكرنا و كذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا و لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ [ لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بفتنة الميت في قبره و سؤال منكر و نكير و هما الملكان له : يا رسول الله أيرجع إلى عقلي ؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما و الله لئن سألاني سألتهما فأقول لهما : أنا ربي الله فمن ربكما أنتما ؟ ]
و خرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث [ عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر يوما فتاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أترد علينا عقولنا يا رسول الله ؟ فقال : نعم كهيئاتكم اليوم ] فقال عمر : في فيه الحجر و قال سهل بن عمار : رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته فقلت له مافعل الله بك ؟ فقال إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا : ما دينك ؟ و من ربك ؟ و من نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء و قلت : ألمثلي يقال هذا ؟ و قد عملت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا و قالا : أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم فقالا : إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله
و في حديث البراء : [ فتعاد روحه في جسده ] و حسبك و قد قيل : إن السؤال و العذاب إنما يكون على الروح دون الجسد و ما ذكرناه لك أو لا أصح و الله أعلم

أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6
 
ج22222222222222222........
 .....💦💦💦💦💦💦💦💦

      كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي


الفصل الثالث أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة : عذاب القبر و أنه ليس له حقيقة و احتجوا بأن قالوا : إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الناس بفطاطيس من حديد و لا نجد فيه حيات و لا ثعابين و لا نيرانا و لا تنانين و كذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب و لم يتغير و كيف يصح إقعاده و نحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله فكيف يجلس و يضرب و لا يتفرق ذلك ؟ و كيف يصح إقعاده و ما ذكرتموه من الفسحة ؟ و نحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقا و نجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا فكيف يسعه و يسع الملائكة السائلين له ؟ و إنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني و إنها لا حقائق لها على موضوع اللغة
و الجواب : أنا نؤمن بما ذكرناه و الله أن يفعل ما يشاء من عقاب و نعيم و يصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه ثم نضجعه و نرد الزئبق و كذلك يمكننا أن نعمق القبر و نوسعه حتى يقوم فيه قياما فضلا عن العقود و كذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلا عن سبعين ذراعا و الرب سبحانه أبسط منا قدرة و أقوى منا قوة و أسرع فعلا و أحصى منا حسابا { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون } و لا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعا فلا يمتنع أن يأتيه الملكان و يسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما و يجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما و مثال ذلك : نائمان بيننا أحدهما ينعم و الآخر يعذب و لا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه
و قد قال بعض علمائنا : إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله : اطلاعه عليها و على أهلها و أهلها مدركون له عن بعد من غير دخول و لا قرب و يجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش و يجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا
و يجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها
و بالجملة : فأحوال المقابر و أهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا و هذا مما لا خلاف فيه و لولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئا مما هنالك فإن قالوا : كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله و نحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة و هو لا يسأل و لا يحيى و كذلك يشاهد الميت على سريره و هو لا يجيب سائلا و لا يتحرك و من افترسه السباع و نهشه الطيور و تفرقت أجزاؤه في أجواف الطير و بطون الحيتان و حواصل الطيور و أقاصي التخوم و مدارج الرياح فكيف تجتمع أجزاؤه ؟ أم كيف تتألف أعضاؤه ؟ و كيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه ؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟ و الجواب عن هذا من وجوه أربعة :
أحدها : أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و ليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك
الثاني : ما ذكره القاضي لسان الأمة و هو : أن المدفونين في القبور يسألون و الذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه و السلام لهم و من أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام و قد قال الله تعالى : في وصف الشياطين { إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم }
الثالث : قال بعض العلماء : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب و نحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتا و كذلك صاحب السكتة و ندفنه على حسبان الموت و من تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه
قلت : و يعيده كما كان كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [ الحديث ] و فيه : [ فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك أو قال مخافتك ] خرحه البخاري و مسلم و في التنزيل { فخذ أربعة من الطير } الآية
الرابع : قال أبو المعالي : المرضي عندنا : أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها و يوجه السؤال عليها و ذلك غير مستحيل عقلا قال بعض علمائنا : و ليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى
الفصل الرابع
فإن قالوا : ما حكم الصغار عندكم ! قلنا : هم كالبالغين و أن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم و سعادتهم و يلهمون الجواب عما يسألون عنه و هذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار فقد جاء أن القبر ينضم عليه كما ينضم على الكبار و قد تقدم و ذكر هناد بن السرى قال : حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ إن كان ليصلى على النفوس ما أن عمل خطيئة قط فيقول : اللهم أجره من عذاب القبر ]
الفصل الخامس
فإن قالوا : فما تأويلكم في القبر : حفرة من النار أو روضة من رياض الجنة ؟ قلنا : ذلك محمول عندنا على الحقيقة لا على المجاز و أن القبر يملأ على المؤمن خضرا و هو العشب من البنات و قد عينه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : هو الريحان كما في حق الكافر يفرش له لوحان من نار و قد تقدم و قد حمله بعض علمائنا على المجاز و المراد خفة السؤال على المؤمن و سهولته عليه و أمنه فيه و طيب عيشه و وصفه بأنه جنة تشبيها بالجنة و النعيم فيها بالرياض يقال : فلان في الجنة إذا كان في رغد من العيش و سلامة فالمؤمن يكون في قبره في روح و راحة و طيب عيش و قد رفع الله عن عينيه الحجاب حتى يرى مد بصره كما في الخبر و أراده بحفرة النار ضغطة القبر و شدة المساءلة و الخوف و الأهول التي تكون فيها على الكفرة و بعض أهل البكائر : و الله أعلم و الأول أصح لأن الله سبحانه و رسوله يقص الحق و لا استحالة في شيء من ذلك
الفصل السادس
روى أبو عمر في التمهيد [ عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب : أيها الناس إن الرجم حق فلا تخذ عن عنه و إن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم ] و أن أبا بكر قد رجم و إنا قد رجمنا بعدهما و سيكون أقوام من هذه الأمة يكذبون بالرجم و يكذبون بالدجال و يكذبون بطلوع الشمس من مغربها و يكذبونها بعذاب القبر و يكذبون بالشفاعة و يكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هؤلاء هم القدرية و الخوارج و من سلك النار سبيلهم و افترقوا في ذلك فرقا فصار أبو الهذيل و بشر : إلى أن خرج عن سلمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين و أن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات و أثبت البلخي و كذلك الجبائي و ابنه : عذاب القبر و لكنهم نفوه عن المؤمنين و أثبتوه الكافرين و الفاسقين و قال الأكثرون من المعتزلة : لا يجوز تسمية ملائكة الله تعالى بمنكر و نكير و إنما المنكر ما يبدو من تلجلجله إذا سئل و تقريع الملكين له هو النكير و قال صالح : عذاب القبر جائز و أنه يجري على الموتى من غير رد الأرواح إلى الأجساد و أن الميت يجوز أن يألم و يحس و يعلم و هذا مذهب جماعة من الكرامية و قال بعض المعتزلة : إن الله يعذب الموتى في قبورهم و يحدث فيهم الآلآم و هم لا يشعرون فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام و زعموا أن سبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران أو المغشى عليه لو ضربوا لم يجدوا الآلام فإذا عاد إليهم العقل وجدوا تلك الآلام و أما الباقون من المعتزلة مثل ضرار بن عمرو و بشر المريسي و يحيى بن كامل و غيرهم فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلا و قالوا : إن من مات فهو ميت في قبره إلى يوم البعث و هذه أقوال كلها فاسدة تردها الأخبار الثابتة و في التنزيل : { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } و سيأتي من الأخبار مزيد بيان و بالله التوفيق و العصمة و الله أعلم
باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما و صفة سؤالهما
قد تقدم من حديث الترمذي : أنهما أسودان أزرقان يقال لأحدهما : منكر و للآخر : النكير [ و روى معمر عن عمرو بن دينار و عن سعد بن إبراهيم عن عطاء ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر : كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر و نكير إذا مت و انطلق بك إلى قومك و قاسوا ثلاثة أذراع و شبر في ذارع و شبر ثم غسلوك و كفوك و حنطوك ثم احتملوك فوضعوك فيه ثم أهالوا عليك التراب ؟ فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر : منكر و نكير أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف يجران شعورهما معهما مزربة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها فقال عمر : يا رسول الله إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه ؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما ]
و روى نقلة الأخبار [ عن ابن عباس في خبر الإسراء : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت : يا جبريل و ما ذاك ؟ قال : منكر و نكير يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في قبره وحيدا فقلت : يا جبريل صفهما لي قال : نعم من غير أن أذكر لك طولهما و عرضهما ذكر ذلك منهما أفظع من ذلك غير أن أصواتهما كالرعد القاصف و أعينهما كالبرق الخاطف و أنيابهما كالصياصي يخرج لهب النار من أفوامهما و مناخرهما و مسامعهما يكسحان الأرض بأشعارها و يحفران الأرض بأظفارهما مع كل واحد منهما عمود من حديد لو اجتمع عليه من في الأرض ما حركوه يأتيان الإنسان إذا وضع في قبره و ترك وحيدا يسلكان روحه في جسده بإذن الله تعالى ثم يقعدانه في قبره فيتنهرانه انتهارا يتقعقع منه عظامه و تزول أعضاؤه من مفاصله فيخر مغشيا عليه ثم يقعدانه فيقولان له : إنك في البرزخ فاعقل حالك و اعرف مكانك و ينتهرانه ثانية و يقولان : يا هذا ذهبت عنك الدنيا و أفضيت إلى معادك فأخبرنا من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فإن كان مؤمنا بالله لقنه الله حجته فيقول : الله ربي و نبيي محمد و ديني الإسلام فينتهرانه عند ذلك انتهارا يرى أن أوصافه تفرقت و عروقه قد تقطعت و يقولان له : يا هذا انظر ما تقول فيثبته الله عنه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يلقنه الأمان و يدرأ عنه الفزع فلا يخافهما فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما و أقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما و يقول : تهدداني كيما أشك في ربي و تريداني أن أتخذ غيره وليا و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و هو ربي و ربكما و رب كل شيء و نبيي محمد و ديني الإسلام ؟ ثم ينتهرانه و يسألانه عن ذلك فيقول : ربي الله فاطر السموات و الأرض إياه كنت أعبد و لم أشرك به شيئا و لم أتخذ غيره أحدا ربا أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي و عبادتي إياه ؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو قال : فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل وده و يضحكان إليه و يقولان له : صدقت و بررت أقر الله عينيك و ثبتك أبشر بالجنة و بكرامة الله ثم يدفع عنه قبره هكذا و هكذا فيتسع عليه مد البصر و يفتحان له بابا إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة و طيب ريحها و نضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى فإذا رأى ذلك استيقن بالفور فحمد الله ثم يفرشان له فراشا من إستبرق الجنة و يضعان له مصباحا من نور عند رأسه و مصباحا من نور عند رجليه يزهران في قبره ثم ندخل عليه ريح أخرى فحين يشمها يغشاه النعاس فينام فيقولان له : ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك و لا حزن ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة و أطيب ريح فيكون عند رأسه و يقولان : هذا عملك و كلامك الطيب قد مثله الله لك في أحسن ما ترى من صورة و أطيب ريح ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيدا و يدرأ عنك هوام الأرض و كل دابة و كل أذى فلا يخذلك في قبرك و لا في شيء من مواطن القيامة حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى فنم سعيدا طوبى لك و حسن مآب ثم يسلمان عليه و يطيران عنه ] و ذكر الحديث و ما يلقة الكافر من الهوان الشديد و العذاب الأليم و حسبك بما تقدم
قلت : و هذا الحديث و إن كان في إسناده مقال لأنه يروى عن عمرو بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم فهو حديث مرتب على أحوال مبنية و محتو على أمورمفسرة
فصل : قوله : [ أتاك فتانا القبر منكر و نكير ]
إنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهارا و في خلقهما صعوبة ألا ترى أنهما سميا منكرا و نكيرا ؟ فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الأدميين و لا خلق الملائكة و لا خلق الطير و لا خلق البهائم ولا خلق الهوام بل هما خلق بديع و ليس في خلقتهما أنس للناظرين إليهما جعلهما الله تكرمة للمؤمن يثبته و ينصره و هتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب قاله أبو عبد الله الترمذي
فصل : إن قال قائل : كيف يخاطب الملكان جميع الموتى و هم مختلفوا الأماكن متباعدو القبور في الوقت الواحد و الجسم الواحد لا يكون في المكانين في الوقت الواحد و كيف تنقلب الأعمال أشخاصا و هي في نفسها أعراض ؟
فالجواب عن الأول : ما جرى ذكره في هذا الخبر من عظم جثتيهما فيخاطبان الخلق الكثير الذين في الجهة الواحدة منهم في المرة الواحدة : مخاطبة واحدة يخيل لكل واحد أن المخاطب هو دون من سواه و يكون الله يمنع سمعه من مخاطبة الموتى لهما و يسمع هو مخاطبتهما أن لو كانوا معه في قبر واحد و قد تقدم أن عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الثقلين و الله سبحانه و تعالى يسمع من يشاء و هو على كل شيء قدير
و الجواب عن الثاني : أن الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصا حسنة و قبيحة لا أن العرض نفسه ينقلب جوهرا إذ ليس من قبيل الجواهر و مثل هذا ما صح في الحديث : [ أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح فيوقف على الصراط فيذبح ] و محال أن ينقلب الموت كبشا لأن الموت عرض و إنما المعنى أن الله سبحانه يخلق شخصا يسميه الموت فيذبح بين الجنة و النار و هكذا كلما ورد عليك في هذا الباب التأويل فيه ما ذكرت لك و الله سبحانه أعلم و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى
باب اختلاف الآثار في سعة القبر على المؤمنين بالنسبة إلى أعمالهم
جاء في حديث البخاري و مسلم : [ أنه يفسح له سبعون ذراعا ] و في الترمذي : [ سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ] و في حديث البراء : [ مد البصر ] و خرج علي بن معبد عن معاذة قالت : قلت لعائشة رضي الله عنها : ألا تخبريننا عن مقبورنا ما يلقى و ما يصنع به ؟ فقالت : إن كان مؤمنا فسح له في قبره أربعون ذراعا
قلت : و هذا إنما يكون بعد ضيق و السؤال و أما الكافر فلا يزال قبره عليه ضيقا فنسأل الله العفو و العافية في الدنيا و الآخرة
سمعت بعض علمائنا يقول : إن حفارا كان بقرافة مصر يحفر القبور فحفر ثلاثة أقبر فلما فرغ منها غشيه النعاس فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفت على أحد الأقبر فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخا في فرسخ ثم وقفا على الثاني : فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخا في فرسخ ثم وقفا على الثاني : اكتب ميلا في ميل ثم وقفا على الثالث فقال : اكتب فترا في فتر ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه أهل البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سعته فترا في فتر
الفتر : ما بين الإبهام و السبابة نعوذ بالله من ضيق القبر و عذابه
باب ما جاء في عذاب القبر و أنه حق و في اختلاف عذاب الكافرين و في
قبورهم و ضيقها عليهم
قال الله تعالى : { و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود : ضنكا قال : عذاب القبر و قيل في قوله عز و جل : { و إن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } هو : عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله { فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } و هذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا فدل على أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر و كذلك قال : { و لكن أكثرهم لا يعلمون } لأنه غيب و قال : { و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } فهذا عذاب القبر في البرزخ و سيأي و قال ابن عباس فس قوله تعالى : { كلا سوف تعلمون } ما ينزل فيكم من العذاب في القبر { ثم كلا سوف تعلمون } : في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالأول في القبر و الثاني في الآخرة فالتكرير للحالتين
و روى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة { ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون } يعني في القبور و قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيهأضلاعه و هو المعيشة الضنك
و روى أبي هريرة [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ { فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى } أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : عذاب الكافر في القبر و الذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة و تسعون تنينا أتدرون ما التنين ؟ تسعة و تسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن في جسمه و يلسعنه و يخدشنه إلى يوم القيامة و يحشر من قبره إلى موقفه أعمى ]
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنينا تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة و لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا ] و في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا : [ ثم يؤمر به يعني الكافر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحما و ترسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس ] الحديث و قد تقدم
فصل : لا تظن ـ رحمك الله ـ أن هذا معارض للحديث المرفوع : [ أنه يسلط على الكافر أعمى أصم ] فإن أحوال الكفار تختلف فمنهم من يتولى عقوبته واحد و منهم من يتولى عقوبته جماعة و كذلك لا تناقض بين هذا و بين أكل الحيات لحمه فإنه يمكن أن يتردد بين هذين العذابين كما قال تعالى : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها و بين حميم آن } فمرة يطعمون الزقوم و أخرى يسقون الحميم و مرة يعرضون على النار و أخرى على الزمهرير أجارنا الله من عذاب القبر و من عذاب النار برحمته و كرامته و آخر يفرش له لوحان من نار و آخر يقال له : نم نومة المنهوس كما أخرجه علي بن معبد عن أبي حازم عن أبي هريرة موقوفا قال : [ إذا وضع الميت في قبره أتاه آت من ربه فيقول له : من ربك ؟ فإن كان من أهل التثبيت ثبت و قال : الله ربي ثم يقال له مادينك ؟ فيقول الإسلام فيقول : من نبيك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه و سلم فيرى بشراه و يبشر فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأبشرهم فيقال له : نم قرير العين إن لك إخوانا لم يلحقوا و إن كان من غير أهل الحق و التثبيت قيل له : من ربك ؟ فيقول : هاه كالوا له ثم يضرب بمطراق يسمع صوته الخلق إلا الجن والإنس و يقال له : نم كنومة المنهوس ]
قال أهل اللغة : المنهوس بالسين المهملة : الملسوع نهسته الحية تنهسه قال الراجز :
( و ذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس )
( تدير عينا كشهاب القبس )
و المنهوس مرة ينتبه لشدة الألم عليه و مرة ينام كالمغمى عليه قال النابغة :
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
( تسهد من ليل التمام سليمها ... كحلى النساء في يديه قعاقع )
( يبادرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا و طورا تراجع )
باب منه في عذاب الكافر في قبره
ذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة له من حديث مالك بن مغول [ عن نافع عن ابن عمر قال : بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود فقال يا عبد الله اسقني فقال ابن عمر : لا أدري أعرف اسمي أو كما يقول الرجل : يا عبد الله ؟ فقال لي الأسود : لا تسقه فإنه كافر ثم اجتذبه فدخل به الأرض قال ابن عمر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : أو قد رأيته ؟ ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام و هو عذابه إلى يوم القيامة ]
باب ما يكون منه عذاب القبر و اختلاف أحوال العصاة فيه بحسب اختلاف
معاصيهم
ابو بكر بن أبي شيبة عن [ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أكثر عذاب القبر من البول ]
البخاري و مسلم عن [ ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على قبرين فقال : إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة و أما الآخر فكان لا يستنزه من بوله فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا و على هذا واحدا ثم قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ] و في رواية [ كان لا يستنزه عن البول أو من البول ] رواهما مسلم و في كتاب أبي داود : [ و كان لا يستنثر من بوله ] و في حديث هناد بن السري [ لا يستبرئ من البول ] من الاستبراء و قال البخاري : [ و ما يعذبان في كبير و إنه لكبير ]
و أخرجه أبو داود الطيالسي عن [ أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و معي رجل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بيننا إذ أتى على قبرين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب ؟ فاستبقت أنا و صاحبي فسبقته و كسرت من النخل عسيبا فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على إحداهما نصفا و على الآخر نصفا و قال : إنه يهون عليهما ما دام من بلولتهما شيء إنهما يعذبان في الغيبة و البول ]
قال المؤلف : هذا الحديث و الذي قبله يدل على التخفيف إنما هو بمجرد نصف العسيب ما دام رطبا و لا زيادة معه و قد خرجه مسلم من [ حديث جابر الطويل و فيه : فلما انتهى إلي قال : يا جابر هل رأيت مقامي ؟ قلت نعم يا رسول الله قال : فاطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك و غصنا عن يسارك قال جابر : فقمت فأخذت حجرا فكسرته و حسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلت غصنا عن يميني و غصنا عن يساري ثم لحقته فقلت : قد فعلت ذلك يا رسول الله فعند ذاك قال : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين ]
ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن و هي : شفاعته صلى الله عليه و سلم و الذي يظهر لي أنهما قضيتان مختلفتان لا قضية واحدة كما قال من تكلم على ذلك و يدل عليهما سياق الحديث فإن في حديث ابن عباس عسيبا واحدا شقه النبي صلى الله عليه و سلم بيده نصفين أبي هريرة غرسهما بيده و حديث جابر بخلافهما و لم يذكر فيه ما يعذب بسببه
و قد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس : فقال : [ حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى على قبرين فقال : إنهما ليذبان في غير كبير أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس و أما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفا على هذا القبر و نصفا على هذا القبر و قال : عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ] ثم قيل : يجوز أن يكونا كافرين و قوله : [ إنهما ليعذبان في غير كبير ] يريد بالإضافة إلى الكفر و الشرك و أما إن كانا مؤمنين فقد أخبرك أنهما يعذبان بشيء كان منهما ليس بكفر لكنهما لم يتوبا منه و إن كانا كافرين فهما يعذبان في هذين الذنبين زيادة على عذابهما في كفرهما و تكذيبهما و جميع خطاياهما و إن يكونا كافرين أظهر و الله أعلم فإنهما لو كانا مؤمنين لعلما قرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق و السداد
قلت : و الأظهر أنهما كانا مؤمنين و هو ظاهر الأحاديث و الله أعلم
الطحاوي عن [ ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أمر بعبد من عباد الله عز و جل أن يعذب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى و يدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عيه نارا فلما ارتفع عنه أفاق فقال : لماذاجلدتموني ؟ قال إنك صليت صلاة بغير طهور و مررت على مظلوم فلم تنصره ]
البخاري [ عن سمرة بن جندب قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : من رأى منكم الليلة رؤيا ؟ قال : فإن رأى أحد رؤيا قصها فيقول : ما شاء الله فسألنا يوما فقال : هل رأى أحدكم رؤيا ؟ قلنا : لا قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس و رجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل يشدقه الآخر مثل ذلك و يلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله
قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه و رجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق ليأخذه فما يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه و عاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق و أسفله واسع يتوقد تحته نارا فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال و نساء عراة فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم و على شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة و في أصلها شيخ و صبيان و إذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي الشجرة و أدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها فيها شيوخ و شباب و نساء و صبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن و أفضل فيها شيوخ و شباب قلت : طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت قالا : نعم الذي رأيت يشق شدقه : فكذاب يحدث بالكذب فتحمل منه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة
و الذي رأيته يشدخ رأسه : فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة و أما الذين رأيتهم في الثقب قهم الزناة و الذي رأيته في النهار آكل الربا و الشيخ في أصل الشجرة : إبراهيم و الصبيان حوله : فأولاد الناس و الذي يوقد النار : مالك خازن النار و الدار الأولى : دار عامة المؤمنين و أما هذه الدار : فدار الشهداء و أنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب قالا : ذلك منزلك فقلت : دعاني أدخل منزلي قال : إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك ]
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليه : لا أبين في أحوال المعذبين في قبورهم من حديث البخاري و إن كان مناما فمنامات الأنبياء عليهم السلام و حي بديل قول إبراهيم عليه السلام : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } فأجابه ابنه : { يا أبت افعل ما تؤمر } و أما حديث الطحاوي فنص أيضا و فيه رد على الخوارج و من يكفر بالذنوب قال الطحاوي : و فيه يدل على ان تارك الصلاة ليس بكافر لأن من صلى صلاة بغير طهور : فلم يصل و قد أحببت دعوته و لو كان كافرا ما سمعت دعوته لأن الله عز و جل يقول : { و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } و أما حديث البخاري و مسلم فيدل على الاستبراء من البول و التنزه عنه : واجب إذ لا يعذب الإنسان إلا على ترك الواجب و كذلك إزالة جميع النجاسات قياسا على البول و هذا قول أكثر العلماء و به قال ابن وهب و رواه عن مالك و هو الصحيح في الباب و من صلى و لم يستنثر فقد صلى بغير طهور
تنبيه على غلط : ذكر بعض أصحابنا ـ فيما نقل إلينا عنه ـ أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى الله عليه و سلم العسيب هو قبر سعد بن معاذ و هذا باطل و إنما صح أن القبر ضغطه كما ذكرنا ثم فرج عنه و كان سبب ذلك ما رواه [ يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا ؟ قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول ] و ذكر هناد بن السري [ حدثنا ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن قال : أصاب سعد بن معاذ جراحة فجعله النبي صلى الله عليه و سلم عند امرأة تداويه فقال إنه مات من الليلة فأتاه جبريل فأخبره : لقد مات الليلة فيكم رجل لقد اهتز العرش لحب لقاء الله إياه فإذا هو سعد بن معاذ قال قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره فجعل يكبر و يهلل و يسبح فلما خرج قيل له : يا رسول الله ما رأيناك صنعت هكذا قط قال : إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله تعالى أن يرفه عنه و ذلك أنه كان لا يستبرىء من البول ] و قال السالمي أبو محمد عبد الغالب في كتابه و أما أخبار في عذاب القبر فبالغه مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى الله عليه و سلم في سعد بن معاذ : [ لقد ضغطته الأرض اختلفت لها ضلوعه ] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم : فلم ننقم من أمره شيئا إلا أنه كان لا يستنزه في أسفاره من البول
قلت : فقوله صلى الله عليه و سلم : [ ثم فرج عنه ] دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير منه لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره هذا لا يقوله أحد إلا شاك مرتاب في فضله و فضيلته و نصحه ونصيحته رضي الله عنه أترى من اهتز له عرش الرحمن و تلقت روحه الملائكة الكرام فرحين بقدومها عليهم و مستبشرين بوصولها إليهم
يعذب في قبره بعدما فرج عنه ؟ هيهات هيهات لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته و فضله رضي الله عنه و أرضاه و كيف يظن ذلك و فضائله شهيرة و مناقبه كثيرة ! خرجها البخاري و مسلم و غيرهما و هو الذي أصاب حكم الرحمن في بني قريظة من فوق سبع سموات أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في البخاري و مسلم و غيرهما
باب منه
البيهقي [ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } الآية قال : أتي بفرس فحمل عليه قال : كل خطوة منهى أقصى بصره فسار و سار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في كل يوم و يحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف { و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين } ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك فقال : يا جبريل من هؤلاء ! قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة قال : ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع و على أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام الضريع و الزقوم و رضف جهنم و حجارتها قال : ما هؤلاء يا جبريل : قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم و ما ظلمهم الله و ما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أياديهم لحم في قدر نضيج و لحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث و يدعون النضيج الطيب فقال ياجبريل : من هؤلاء ؟ قال هذا الرجل يقوم و عنده امرأة حلالا طيبا فياتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر به شيء إلا قصفته قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال يقول الله عز و جل { و لا تقعدوا بكل صراط توعدون } ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها و هو يريد أن يزيد عليها قال يا جبريل : ما هذا ؟ قال : هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها و هو يزيد عليها ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت و لا يفتر عنهم شيء من ذلك قال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء الفتنة ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج و لا يستطيع قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل يتكلم الكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع ] و ذكر الحديث
و خرج [ من حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك [ الحديث ] و فيه قال : فصعدت أنا و جبريل فإذا بملك يقال له اسماعيل و هو صاحب سماء الدنيا : و بين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال : و قال الله تعالى : { و ما يعلم جنود ربك إلا هو } فاستفتح جبريل ثم قال : فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة و نفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول : روح خبيثة اجعلوها في سجين ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة ـ يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها ـ و عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد و إذا أنا بأخوانة أخرى عليها لحم قد أروح و أنتن عندها ناس يأكلون منها قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال و يأتون الحرام قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : اللهم لا تقم الساعة قال : و هم على سابلة آل فرعون قال فتجيء السابلة فتطؤهم قال : فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل قال : فيفتح على أفواههم و يلقمون ذلك الجمر ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل نت هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز و جل قلت : ياجبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم قيلقمون فيقال له : كل ما كنت تأكل من لحم أخيك قلت : يا حبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون من أمتك ] و ذكر الحديث
و ذكر أبو داود [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم ]
باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره
قال كعب الأحبار : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه : قتقول الصلاة : إليكم عنه قيأتون من قبل رأسه فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله عز و جل في دار الدنيا فيأتون من قبل جسمه فيقول الحج و الجهاد : إليكم عنه فقد أنصب نفسه و أتعب بدنه و حج و جاهد لله عز و جل لا سبيل لكم عليه فيأتون من قبل يديه فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى و قعت في يد الله عز و جل ابتغاء لوجهه فلا سبيل لكم عليه قال : فيقال له : نم هنيئا طبت حيا و طبت ميتا
قلت : هذا لمن أخلص في عمله و صدق الله في قوله و فعله و أحسن نيته له في سره و جهره فهو الذي تكون أعماله حجة له و دافعة عنه فلا تعارض بين هذا الباب و بين ما تقدم من الأبواب فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال و الله أعلم
باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر و فتنته
النسائي [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي امرأة من اليهود و هي تقول : إنكم تفتنون في القبور فارتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إنما يفتن يهود قال عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شعرت أنه أوحى إلي
: أنكم تفتنون في القبور ؟ قال عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ من عذاب القبر ]
و رورى الأئمة [ عن أسماء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : و إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : يؤتى بأحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات و الهدى فأجبنا و أطعنا ثلاث مرات ثم يقال له : نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحا و أما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلت ] لفظ مسلم
و خرج البخاري [ عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة المسيح الدجال ] و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا أخرجها الأثبات الثقات
باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر
مسلم [ عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة له و نحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه و إذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال رجل : أنا قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال ماتوا في الإشراك فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ]
و خرج أيضا [ عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتهما و لم أنعم أن أصدقهما فخرجتا و دخل على رسول الله فقلت : يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قال النبي صلى الله عليه و سلم صدقتا إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ] خرجه البخاري أيضا و قال : [ تسمعه البهائم كلها ] و خرج هناد بن السري في زهده [ حدثنا وكيع عن الأعمش عن شفيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها فدخل النبي صلى الله عليه و سلم علي فذكرت ذلك له فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم ]
فصل : قال علماؤنا : و إنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين و إنما لم يسمعه من يعقل من الجن و الإنس لقوله عليه الصلاة و السلام : [ لولا أن لا تدافنوا ] الحديث فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية و لطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس و أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه ؟ و قد قال صلى الله عليه و سلم في الجنازة : [ و لو سمعها انسان لصعق ]
قلت : هذا و هو على رؤوس الرجال من غير ضرب و لا هوان فكيف إذا حل به الخزي و النكال و اشتد عليه العذاب و الوبال ؟ فنسأل الله معافاته و مغفرته و عفوه و رحمته بمنه
حكاية : قال أبو محمد عبد الحق : حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ و كان من أهل العلم و العمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتا بقريتهم من شرق إشبيلية فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون و دابة ترعى قريبا منهم فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله : فذكرت عذاب القبر و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم ] و الله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر : و نحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه
باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال
مسلم [ عن أنس بن مالك : عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله قال فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان هل و جدتم ما وعدكم الله و رسوله حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثا فقام عليهم فناداهم فقال : يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد و جدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ماو عدني ربي حقا ! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون ! و أنى يجيبون ! وقد جيفوا ؟ قال جهنم و الذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ] ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر
فصل : اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى
و استدلت بقوله تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى } و قوله { و ما أنت بمسمع من في القبور } و لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن و صحيح إذا و جد المخصص و قد و جد هنا بدليل ما ذكرناه ـ و قد تقدم ـ و بقوله عليه الصلاة و السلام : [ إنه ليبسمع قرع نعالهم ] و بالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره و جوابه لهما و غير ذلك مما لا ينكر و قد ذكر ابن عبد البر في كتاب التمهيد و الاستذكار من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و رد علي السلام صححه أبو محمد عبد الحق و جيفوا معناه : أنتنوا
باب قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } الآية
مسلم ] عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة } قال : نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي و نبي محمد فذلك محمد قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة }
و في رواية أنه قول البراء و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم
قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفا فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه و هذا لفظ البخاري :
[ حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية ] و خرجه أبو داود في سننه فقال فيه [ البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة } ] و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعا و الحمد الله
و قد روى هذا الخبر [ أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين ]
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء } ]
فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصا بالكافرين و لا موقوفا على المنافقين بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوبا إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ] و منهم من يرويه تسأل و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك و هذا أمر لا يقطع عليه و الله أعلم
و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أمانا للخلق فقال : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ في قلبه فأمهلوا فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين
قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب و الله أعلم فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم و الله أعلم
باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر و فتنته و عذابه
و ذلك خمسة أشياء : رباط قتل قول بطن زمان
الأول : روى مسلم [ عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامة و إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجرى عليه رزقه و أمن من الفتان ] فالرباط من أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن [ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة ] [ الحديث ] و قد تقدم و هو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم و كذلك ما أخرجه ابن ماجه و أبو نعيم من أنه يلحق الميت بعد موته فإن ذلك مما ينقطع بنفاده و ذهابه كالصدقة بنفادها و العلم بذهابه و الولد الصالح بموته و النخل بقطعه إلى غير ذلك مما ذكر و الرباط يضاعف أجره لصاحبه إلى يوم القيامة لقوله عليه الصلاة و السلام : [ و إن مات أجرى عليه عمله ] و قد جاء مفسرا مبينا في كتاب الترمذي [ عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة و يأمن من فتنة القبر ] قال : حديث حسن صحيح و أخرجه أبو داود بمعناه و قال : [ و يؤمن من فتاني القبر ] و لا معنى للنماء إلا المضاعفة و هي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه بل هي فضل دائم من الله تعالى لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو و التحرز منهم بحراسته بيضة الدين و إقامة شعائر الإسلام و هذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة
و خرجه ابن ماجه بإسناد صحيح [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل و أجرى عليه و أمن من الفتان و يبعثه رزقه الله أمينا من الفزع الأكبر ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ عن جبير بن بكير و كبير بن مرة و عمرو بن الأسود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي عليه عمله يجري عليه رزقه إلى يوم الحساب ]
و في هذا الحديث و حديث فضالة بن عبيد قيد ثان و هو : الموت حالة الرباط و الله أعلم
و روى [ عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها و قيامها ]
و روي [ عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها و قيامها و رباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله و أعظم أجرا ] أراه قال : [ من عبادة ألف سنة صيامها و قيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم يكتب عليه سيئة ألف سنة و يكتب له من الحسنات و يجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة ] فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل به الثواب الدائم و إن لم يمت مرابطا و الله أعلم أخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا محمد بن يعلى السلمي حدثنا عمرو بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو عن مكحول عن أبي بن كعب فذكره
مسألة الرباط : هو الملازمة في سبيل الله مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي ملازم لثغر من ثغور المسلمين : مرابطا فارسا كان أو راجلا و اللفظة مأخوذة من الرباط و قول النبي صلى الله عليه و سلم في منتظري الصلاة : [ فذلكم الرباط ] إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله و الرباط اللغوي هو الأول و هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما فأما سكان الثغور دائما بأهلهم الذي يعمرون و يكتسبون هناك فهم و إن كانوا حماة فليسوا بمرابطين قاله علماؤنا و قد بيناه في كتاب الجامع لأحكام القرآن من سورة آل عمران و الحمد لله
الثاني : روى النسائي [ عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأس فتنة ]
و خرج ابن ماجة في سننه و الترمذي في جامعه و غيرهما [ عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة و يرى مقعده من الجنة و يجار من عذاب القبر و يأمن من الفزع الأكبر و يوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا و ما فيها و يزوج إثنتين و سبعين زوجة من الحور العين و يشفع في سبعين من أقاربه ] لفظ الترمذي و قال حديث حسن صحيح غريب و قال ابن ماجه : [ يغفر له في أول دفعه من دمه قال : و يحلى حلة الإيمان ] بدل : [ و يوضع على رأسه تاج الوقار ] قال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار حدثنا إسماعيل بن عياش قال : حدثني بجير بن سعد و قال الترمذي : حدثنا عيد الله بن عبد الرحمن قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب فذكره
قال المؤلف و وقع في جميع نسخ الترمذي و ابن ماجه : [ ست خصال ] و هي في متن الحديث : [ سبع ] و على ما ذكر ابن ماجه : [ و يحلى بحلة الإيمان ] تكون ثمانية و كذا ذكره [ أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ثمانية خصال ]
الثالث : روى الترمذي [ عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خباءه على قبره و هو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر و أنا لا أحسب أنه قبر فإذا بقبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال صلى الله عليه و سلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ] قال حديث حسن غريب و خرج أيضا عنه صلى الله عليه و سلم : [ أن من قرأها كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها ] و روي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر و روي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان
و أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي بثغر الإسكندرية حماه الله قال : حدثني الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ابن أخي الشيخ الإمام أبي بكر قال : حدثني الشيخ الشريف أبو محمد يونس بن أبي الحسين بن أبي البركات الهاشمي البغدادي حدثنا أبو الوقت عن الداودي عن الحموي عن أبي إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي عن عبد الله بن حميد الكشي عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال الرجل : بلى يا ابن عباس رحمك الله قال : { تبارك الذي بيده الملك } احفظها و علمها أهلك و جمع ولدك و صبيان بيتك و جيرانك فإنها المنجية و المجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها و تطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه و ينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ] و أخبرناه عاليا الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري التلمساني بثغر الإسكندرية عن شيخه الشريف أبي محمد يونس عن أبي الوقت و قد تقدم : أن قراءة الرجل { قل هو الله أحد } في مرض الموت تنجي من ذلك
الرابع : روى ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات مريضا مات شهيدا و وقى فتنة القبر و غدى و ريح عليه برزقه من الجنة ]
و خرج النسائي [ عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الله بن يسار يقول : كنت جالسا عند سليمان بن صرد و خالد بن عرفطة فذكرا أن رجلا مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يشهدا جنازته فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يقتله بطنه لم يعذب في قبره ] أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني جامع بن شداد فذكره و زاد فقال الآخر : بلى
الخامس : روى الترمذي [ عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ] قال هذا حديث حسن غريب و ليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروي عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو و لا نعرف لربيعة بن سيف سماعا من عبد الله بن عمرو
قلت : قد خرجه أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول متصلا [ عن ربيعة بن سيف الإسكندري عن عياض بن عقبة الفهري عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر ] و خرجه علي بن معبد عنه ـ أعني عبد الله بن عمرو الترمذي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر ] و أخرجه أبو نعيم الحافظ [ من حديث محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر و جاء يوم القيامة و عليه طابع الشهداء ] غريب من حديث جابر و محمد تفرد به عمر بن موسى الوجيهي و هو مدني فيه لين عن محمد بن جابر
فصل : قلت : اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب بل يخصصها و يبين من لا يسأل في قبره و لا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال و يقاسي تلك الأهوال و هذا كله ليس فيه مدخل للقياس و لا مجال للنظر فيه و إنما فيه التسليم و الانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه و سلم
و قد روى ابن ماجه في سننه [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه و يقول : دعوني أصلي ] و لعل هذا ممن وقى فتنة القبر فلا تعارض و الحمد لله
فصل : قوله عليه السلام في الشهيد [ كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة ] معناه : أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق كان إذا التقى الزحفان و برقت السيوف فروا لأنه من شأن المنافق : الفرار و الروغان عند ذلك و من شأن المؤمن : البذل و التسليم لله نفسا و هيجان حمية الله و التعصب له لإعلاء كلمته فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب و القتل فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر ؟ قاله الترمذي الحكيم
قلت : و إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا و أعظم أجرا فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدم ذكره في التنزيل على الشهداء في قوله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء } و قد جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهيد أنه لا يفتن فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه و من الشهيد ؟ و الله أعلم فتأمله
فصل : قوله عليه السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا ] عام في جميع الأمراض لكن قيده قوله في الحديث الآخر : [ من يقتله بطنه ] و فيه قولان :
أحدهما : أنه الذي يصيبه الذرب و هو الإسهال تقول العرب أخذه البطن إذا أصابه الداء و ذرب الجرح إذا لم يقبل الدواء و ذربت معدته فسدت
الثاني : أنه الاستسقاء و هو أظهر القولين فيه لأن العرب تنسب موته إلى بطنه تقول قتله بطنه يعنون الداء الذي أصابه في جوفه و صاحب الاستسقاء قل إن يموت إلا بالذرب فكأنه قد جمع الوصفين و غيرهما من الأمراض و الوجود شاهد للميت بالبطن إن عقله لا يزال حاضرا و ذهنه باقيا إلى حين مكوته و مثل ذلك صاحب السل إذ موت الآخر إنما يكون بالذرب و ليست حالة هؤلاء كحال من يموت فجأة أو من يموت بالسام و البرسام و الحميات المطبقة أو القولنج أو الحصاة فتغيب عقولهم لشدة الآلام و لزوم أدمغتهم و لفساد أمزجتها فإذا كان الحال هكذا فالميت يموت و ذهنه حاضر و هو عارف و الله أعلم
باب منه
أبو نعيم قال : [ حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا ابن سعيد قال : حدثنا محمد بن حرب الواسطي قال : حدثنا نصر بن حماد قال : حدثنا همام قال : حدثنا محمد بن حجادة عن طلحة بن مصرف قال : سمعت خيثمة بن عبد الرحمن يحدث عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وافق موته عند انقضاء رمضان دخل الجنة و من وافق موته عند انقضاء عرفة دخل الجنة و من وافق موته عند انقضاء صدقته دخل الجنة ] غريب من حديث طلحة لم نكتبه إلا من حديث نصر عن همام
باب ما جاء أن الميت يعرض عليه مقعده بالغداة و العشي
البخاري و مسلم [ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة و العشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة و إن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ]
فصل : قوله : [ عرض عليه مقعده ] و يروى : [ عرض على مقعده ] قال علماؤنا : و هذا ضرب من العذاب كبير و عندنا المثال في الدنيا وذلك كمن عرض عليه القتل أو غيره من آلات العذاب أو من يهدد به من غير أن يرى الآلة و نعوذ بالله من عذابه و عقابه بكرمه و رحمته و جاء في التنزيل في حق الكافرين { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } فأخبر تعالى أن الكافرين يعرضون على النار كما أن أهل السعادة يعرضون على الجنان بالخبر الصحيح في ذلك و هل كان مؤمن يعرض على الجنان ؟ فقيل ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان و من أراد الله إنجاءه من النار و أما من أنفذ الله عليه وعيده من الخلطين الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فله مقعدان يراهما جميعا كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين أو في وقت واحد قبيحا و حسنا و قد يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان و الله أعلم
ثم قيل هذا العرض إنما هو على الروح وحده و يجوز أن يكون مع جزء من البدن و يجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد فيرد إليه الروح كما ترد عند المسألة حين يقعده الملكان و يقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة و كيفما كان فإن العذاب محسوس و الألم موجود و الأمر شديد و قد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا في النائم فإن روحه تعذب أو تنعم و الجسد لا يحس بشيء من ذلك و قال عبد الله بن مسعود : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين يقال لهم : هذه دراكم فذلك قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } و عنه أيضا : أن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم و تروح كل يوم مرتين فذلك عرضها
و روى شعبة عن يعلى بن عطاء قال : سمعت ميمون بن ميسرة يقول : كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي : أصبحنا و الحمد لله و عرض آل فرعون على النار و إذا أمسى ينادي : أمسينا و الحمد لله و عرض آل فرعون على النار فلا يسمع أيا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار و قد قيل : إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم في حواصل طير سود و الغداة و العشي إنما هو بالنسبة إلينا على ما اعتدناه لا لهم إذ الآخرة ليس فيها مساء و لا صباح فإن قيل فقد قال الله تعالى : { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } قلنا : الجواب عنهما واحد و سيأتي له مزيد بيان في وصف الجنان إن شاء الله تعالى
باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في حديث [ ابن عمر : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ] و هذه حالة مختصة بغير الشهداء
و في صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال : [ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي و نحن نسرح في الجنة حيث نشاء ؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ]
فصل : قلت : و هنا اعتراضات خمسة :
الأول : إن قيل : ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و رد عليه السلام ] ؟ قلنا : هو عموم يخصصه ما ذكرناه فهو محمول على غير الشهداء
الثاني : فإن قيل : فقد روى مالك [ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ] ؟ قلنا : قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل يقال علقت تعلق علوقا و يروى يعلق بفتح اللام و هو الأكثر و معناه : تسرح و هذه حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم و قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } و لا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل و النعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين و غير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضرا و يفسح له فيه و قوله : نسمة المؤمن أي روح المؤمن الشهيد يدل عليه قوله في نفس الحديث [ حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يبعثه ]
الثالث : فإن قيل : فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء و الجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام : [ إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء ] و في رواية أبواب الجنة ؟ قلنا : لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور و تارة في السماء لا في الجنة و قد قل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام و لذلك تستحي زيارة القبور ليلة الجمعة و يوم الجمعة و بكرة السبت فيما ذكر العلماء و الله أعلم
قال ابن العربي : و بحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم و هو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح [ إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة و العشي ] لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه و حديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم و كذلك حديث اليهود
قلت : و يحتمل على ما ذكرناه و الله أعلم : أن يكون قوله عليه السلام : [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا و روحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام ] حتى لا تتناقض الأخبار و الله أعلم
الرابع : فإن قيل فقد قال صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي و عليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه ]
و هذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل و لا تكون أرواحهم في جوف طير و لا تكون في قبورهم فأين تكون ؟ قلنا : قد خرج ابن وهب بإسناده [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة و عشيا ] فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق الآدميين إذ الدين ليس مختصا بالمال على ما يأتي و لهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة و منازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون و قد تقدم قوله عليه السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا و غدى و ريح برزقه من الجنة ] و هذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال و سيأتي : كم الشهداء ؟ إن شاء الله تعالى
الخامس : فإن قيل : فقد روي ابن ماجه [ عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لشهيد البحر مثل شهيدي البر و المائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر و ما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله عز و جل و إن الله و كل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم و يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين و لشهيد البحر الذنوب كلها و الدين ؟ ] قلنا : الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر و مات و لم يترك وفاء فإن الله تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء الله شهيدا كان أو غيره لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله و رسوله و من ترك مالا فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن الله تعالى يقضي عنه و يرضى خصمه ]
و الدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين ليتقوى به لعدو الله و عدوه و رجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه و يواريه إلا بدين و رجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ] و أما من دان في سفه أو سرف فمات و لم يوفه أو ترك له وفاء و لم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاما في الجميع و هو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين و دين و يحتمل أن يكون قوله فيمن أدان و لم يفرط في الأداء و كان عزمه و نيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه و من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ] خرجه البخاري
على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين و أعلى منه إسنادا و أقوى ما رواه مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين ] و لم يخص برا من بحر و كذلك ما رواه أبو قتادة : [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله : نعم إن قتلت في سبيل الله و أنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف قلت ؟ فقال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خططاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم و أنت صابر محتبل و مقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك ]
و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول : يا رب لم أفسده و لكن أصبت إما غرقا أو حرقا فيقول الله عز و جل : أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة ] رواه من طرق و قال يزيد بن هارون في حديثه [ فيدعو الله تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل ] غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني
قلت : هذا نص في قضاء الله سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد و الحمد لله الموفق للسداد و المبين على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ما أبهم و استغلق من مشكل على العباد و قد قال بعض العلماء : إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى و إنما قيل لها : المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين و هي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها و يتنسمون من طيب ريحها و هي تسرح في الجنة و تأوي إلى قناديل من نور تحت العرش و ما ذكرناه أولا أصح و الله أعلم
و قد روى ابن المبارك : أخبرنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال : حدث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون يرزقون من الجنة أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون ؟ قال : ما تقولون أنتم يا أهل العراق ؟ قلت : لا أدري قال : فإنها صور طير بيض فيظل العرش و أرواح الكافرين في الأرض السابعة و ذكر الحديث
قلت : فهذه حجة من قال : إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة و الله أعلم على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم و الله أعلم فيكون بالمعنى : أرواح المؤمنين الشهداء و كذا فقلت : أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء و الله أعلم
و روى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر
فصل : وقع في حديث ابن مسعود : [ أرواحهم في جوف طير خضر ] و في حديث مالك : [ نسمة المؤمن طائر ] و روى الأعمش عن عبد الله بن مرة قال : سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء ؟ فقال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها و ذكر الحديث
و روى ابن شهاب [ عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة ] و هذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر قاله أبو عمر في الاستذكار و قال أبو الحسن القابسي : أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها
قلت : الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى : { و لأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل و جائز أن يسمى الظهر : جوفا : إذا هو محيط به و مشتمل عليه قال أبو محمد عبد الحق : و هو حسن جدا
و ذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة و منها ما هو في حواصل طير خضر و منها ما يأوي في قناديل تحت العرش و منها ما هو في حواصل طير بيض و منها ما هو في حواصل طير كالزرازير و منها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة و منها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم و منها ما تسرح و تعود إلى جثتها تزورها و منها ما تتلقى أرواح المقبوضين و ممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل و منها ما هو في كفالة آدم و منها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام و هذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع و الله بغيبه أعلم و أحكم
باب كم الشهداء ؟ و لم سمي شهيدا ؟ و معنى الشهادة
خرج الآجري و غيره [ عن أبي مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من فصل في سبيل فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله إنه شهيد و إن له الجنة ] و أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه عن عبد الله بن عتيك عن النبي صلى الله عليه و سلم
الترمذي [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الشهداء خمسة : المبطون و المطعون و الغريق و صاحب الهدم و الشهيد في سبيل الله عز و جل ] و قال : هذا حديث حسن صحيح
النسائي [ عن جابر : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله : المطعون و المبطون و الغرق و الحرق و صاحب ذات الجنب و الذي يموت تحت الهدم و المرأة تموت بجمع ] و قيل : هي التي تموت من الولادة و ولدها في بطنها قد تم خلقه و قيل : إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة سواء ألقت ولدها أو ماتت و هو في بطنها و قيل : التي تموت بكرا لم يمسها الرجال و قيل : التي تموت قبل أن تحيض و تطمث فهذه أقوال لكل قول وجه و في جمع لغتان ضم الجيم و كسرها و في بعض الآثار : المجنوب شهيد يريد : صاحب الجنب يقال منه رجل جنب بكسر النون و فتح الجيم إذا كانت به ذات الجنب و هو الشوصة
و في كتاب الترمذي و أبي داود و النسائي عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد و من قتل دون دينه فهو شهيد و من قتل دون أهله فهو شهيد ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
و روى النسائي [ من حديث سويد بن مقرن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قتل دون مظلمة فهو شهيد ]
و روى ابن ماجه [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : موت غربة شهادة ]
و أخرجه الدراقطني و لفظه : [ موت الغريب شهادة ] و ذكره أيضا من حديث ابن عمر و صححه
و أخرجه أبو بكر الخرائطي [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات غريبا مات شهيدا ]
و خرجه أيضا [ من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات غريبا مات شهيدا ] : و قد تقدم قوله عليه الصلاة و السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا ]
و روى الترمذي [ عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم و قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر و كل الله به سعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات من يومه مات شهيدا و من قرأها حين يمسي فكذلك ] قال حديث حسن غريب
و ذكر الثعلبي [ عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من قرأ آخر سورة الحشر إلى آخرها : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } فمات من ليلته مات شهيدا ]
و خرج الآجري [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا أنس إن استطعت أن تكون أبدا على وضوء فافعل فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد و هو على وضوء كتبت له شهادة ]
و روى الشعبي [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى الضحى و صام ثلاثة أيام من كل شهر و لم يترك الوتر في حضر و لا سفر كتب له أجر شهيد ] خرجه أبو نعيم
و روى من حديث [ أبي هريرة و أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء الموت طالب العلم و هو على حاله مات شهيدا ] و بعضهم يقول : [ ليس بينه و بين الأنبياء إلا درجة واحدة ] ذكره أبو عمر في كتاب بيان العلم
و خرج مسلم [ من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من طلب الشهادة صادقا أعطيها و إن لم تصبه ] و [ عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء و إن مات على فراشه ]
و خرج الترمذي الحكيم [ من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من أحد إلا و له كرائم من ماله يأبى لهم الذبح و إن لله خلقا من خلقه يأبى لهم الذبح : أقواما يجعل موتهم على فرشهم و يقسم لهم أجور الشهداء ]
فصل : الشهداء جمع الشاهد و الشهيد : القتيل في سبيل الله كذا قال أهل اللغة : الجوهري و غيره و سمي بذلك لأنه مشهود له بالجنة فالشهيد بمعنى مشهود له فعيل بمعنى مفعول و قال ابن فارس اللغوي في المجمل : و الشهيد القتيل في سبيل الله قالوا : لأن ملائكة الله تشهده و قيل : سمي شهيدا لأن أرواحهم أحضرت دار السلام لأنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } و أرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة و قيل سمي بذلك : لسقوطه بالأرض و الأرض الشاهدة و قيل سمي بذلك : لشهادته على نفسه لله عز و جل حين لزمه الوفاء بالبيعة التي بايعه في قوله الحق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } فاتصلت شهادة الشهيد الحق بشهادة العبد فسماه شهيدا و لذلك قال عليه السلام : [ و الله أعلم بمن يكلم في سبيله ] و قال في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء لبذلهم نفوسهم دونه و قتلهم بين يديه تصديقا لما جاء به صلى الله عليه و سلم هذا الكلام في شهيد
فأما الشهادة فصفة سمي حاملها بالشاهد و يبالغ بشهيد و للشهادة ثلاثة شروط لا تتم إلا بتمامها و هي : الحضور و الوعي و الأداء أما الحضور : فهو شهود الشاهد المشهود و الوعي : زمى ما شاهده و عمله في شهوده ذلك و الأداء : هو الإيتان بالشهادة على وجهها في موضع الحاجة إلى ذلك هذا معنى الشهادة و الشهادة على الكمال إنما هي لله سبحانه و تعالى و أن جميع الشاهدين سواه يؤدون شهادتهم عنده قال الله سبحانه و تعالى : { و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق } و الشهداء : هم العدول و أهل العدالة في الدنيا و الآخرة هم القائمون بما أوجب الحق سبحانه عليهم في الدنيا
باب منه
روى النسائي [ عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يختصم الشهداء و المتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون من الطاعون فيقول الشهداء : قتلوا كما قتلنا ؟ و يقول المتوفون على فرشهم : إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا ؟ فيقول ربنا عز و جل : انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت جراحهم ]
و روت [ عائشة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن فناء أمتي بالطعن و الطعون قالت : أما الطعن فقد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرح في المراق و الإباط من مات منها مات شهيدا ] أخرجه أبو عمر في التمهيد و الاستذكار
باب ما جاء أن الإنسان يبلى و يأكله التراب إلا عجب الذنب
مسلم و ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد و هو عجب الذئب و منه يركب الخلق يوم القيامة ] و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق و منه يركب ]
فصل : يقال عجم و عجب بالميم و الباء : لغتان و هو جزء لطيف في أصل الصلب و قيل : هو رأس العصعص كما رواه ابن أبي داود في كتاب البعث [ من حديث أبي سعيد الخدري قيل : يا رسول الله و ما هو ؟ قال : مثل حبة خردل و منه تنشأون ] و قوله : [ منه خلق و منه يركب ] أي أول ما خلق من الإنسان هو ثم إن الله تعالى يبقيه إلى أن يركب الخلق منه تارة أخرى

باب لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء و لا الشهداء و أنهم أحياء
قال الله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } و لذلك لا يغسلون و لا يصلى عليهم ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة في شهداء أحد و غيرهم ليس هذا موضع ذكرها
مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح و عبد الله بن عمرو الأنصاريين تم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما و كان قبرهما مما يلى السيل و كان في قبر واحد و هما ممن استشهد يوم أحد فخفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس و كان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن و هو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت و كان بين أحد و بين يوم حفر عنهما ست و أربعون سنة قال أبو عمر : هذا حديث لم يختلف عن مالك في انقطاعه و هو حديث يتصل من وجوه صحاح عن جابر
قال المؤلف رضي الله عنه : و هكذا حكم من تقدمنا من الأمم ممن قتل شهيدا في سبيل الله أو قتل على الحق كأنبيائهم و في الترمذي في قصة أصحاب الأخدود : [ أن الغلام الذي قتله الملك دفن ] قال : فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب و أصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل قال حديث حسن غريب و قصة الأخدود : مخرجه في صحيح مسلم و كانوا بنجران في الفترة بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم و قد ذكرناها مستوفاه في [ البروج ] في كتاب الجامع لأحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة و آي الفرقان و روى نقلة الأخبار : أن معاوية رحمه الله لما أجرى العين التي استنبطها بالمدينة في وسط المقبرة و أمر الناس بتحويل موتاهم و ذلك في أيام خلافته و بعد الجماعة بأعوام و ذلك بعد أحد بنحو من خمسين سنة فوجدوا على حالهم حتى أن الكل رأوا المسحاة و قد أصابت قدم حمزة ابن عبد المطلب فسال منه الدم و أن جابر بن عبد الله أخرج أباه عبد الله بن حرام كأنما دفن بالأمس و هذا أشهر في الشهداء من أن يحتاج فيه إلى أكثار
و قد روى كافة أهل المدينة أن جدار قبر النبي صلى الله عليه و سلم لما انهدم أيام خلافة الوليد ابن عبد الملك بن مروان و ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة بدت لهم قدم فخافوا أن تكون قدم النبي فجزع الناس حتى روى لهم سعيد بن المسيب رضي الله عنه : [ أن أجساد الأنبياء لا تقيم في الأرض أكثر من أربعين يوما ثم ترفع ] و جاء سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فعرف أنها قدم جده عمر رضي الله عنه و كان رحمه الله قتل شهيدا
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه قتيلا و إن مات لم يدود في قبره ] و ظاهر هذا : أن المؤمن المحتسب لا تأكله الأرض أيضا
و خرج أبو داود و ابن ماجه في سننهما [ عن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أفصل أيامكم يوم الجمعة في خلق آدم و فيه قبض و فيه النفخة و فيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ] قالوا : يا رسول الله و كيف تعرض صلاتنا عليك و قد أرمت ؟ يقولون بليت فقال : [ إن الله عز و جل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ] لفظ أبي داود و قال ابن العربي حديث حسن
قلت : و خرجه أبو بكر البزار عن شداد بن أوس و اتفقوا في السند عن حسين بن علي عن عبد الرحمن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني فقال عن أوس بن أوس أو عن شداد بن أوس و قال البزار : لا يعلم أحدا يرويه بهذا اللفظ إلا شداد بن أوس و لا نعلم له طريقا غير هذا الطريق عن شداد بن أوس و لا رواه إلا حسين بن علي الجعفي و قال أبو محمد عبد الحق و يقال : إن عبد الرحمن هذا هو ابن يزيد بن تميم قاله البخاري و أبو حاتم و هو منكر الحديث ضعيفه
قلت : و قد خرجه ابن ماجه من غير هذا الطريق فقال : [ حدثنا عمرو بن سواد المصري حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زبد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة و إن أحدا لمن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها قال قلت : و بعد الموت ؟ قال : و بعد الموت إن الله حرم على الأرض أن تأكل الأجساد الأنبياء ] فنبي الله حي يرزق صلى الله عليه و سلم و رواه أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال أبو محمد عبد الحق : و زيد بن أيمن لا أعلم رواة عنه إلا سعيد بن هلال
قال المؤلف : قال البخاري في التاريخ : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء مرسل روي عنه سعيد بن هلال و الله أعلم

باب في انقراض هذا الخلق و ذكر النفخ و الصعق و كم بين النفختين ؟ و ذكر
البعث و النشر و النار
مسلم [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما ـ فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليه السلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين إثنين عداوة ثم يرسل الله عز و جل ريحا باردة من قبل الشمال فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى إن أحدكم لو دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير و أحلام السباع لا يعرفون معروفا و لا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان و هم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا و رفع ليتا قال : فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق و يصعق الناس ثم قال يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم { وقفوهم إنهم مسؤولون } ثم يقال : أخرجوا بعث النار فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيبا و ذلك يوم يكشف عن ساق ]
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بين النفختين أربعون قالوا : يا أبا هريرة أربعين يوما ؟ قال : أبيت قالوا : أربعين شهرا ؟ قال : أبيت قالوا ؟ أربعين عاما ؟ قال : أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال : و ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا ] و في رواية [ لا تأكله الأرض أبدا ] و هو عجب الذنب و منه يركب الخلق يوم القيامة و عند ابن وهب في هذا الحديث [ فأربعون جمعة ] ؟ قال أبيت و إسناده منقطع
فصل : هذان الحديثان مع صحتهما في غاية البيان فيما ذكرناه و يزيدهما أيضا بيانا في أبواب و يأتي ذكر الدجال مستوعبا في الأشراط إن شاء الله تعالى و أصغى معناه : أمال ليتا يعني صفحة العنق و يلوط معناه : يطين و يصلح و قول أبي هريرة أبيت : فيه تأويلان
الأول : أبيت أي امتنعت من بيان ذلك تفسيره و على هذا كان عنده علم من ذلك أي سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم
الثاني : أبيت أي أبيت أن أسأل عن ذلك النبي صلى الله عليه و سلم و على هذا لم يكن عنده علم من ذلك و الأول أظهر و إنما لم يبينه لأنه لم ترهق لذلك حاجة و لأنه ليس من البينات و الهدى الذي أمر بتبليغه و في البخاري عنه أنه قال : حفظت وعاءين من علم فأما أحدهما فبثثته و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم قال أبو عبد الله : البلعوم : مجرى الطعام و قد جاء أن بين النفختين أربعين عاما و الله أعلم و سيأتي
و ذكر هناد بن السدي قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية { له ما بين أيدينا و ما خلفنا وما بين ذلك } فلم يجبني فسمعنا أنه ما بين النفختين حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن أبي العالية و ما بين ذلك قال : ما بين النفختين و الله أعلم
باب في قول الله تعالى
{ و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله }
و هم الملائكة أو الشهداء أو الأنبياء أو حملة العرش أو جبريل أو ميكائيل أو ملك الموت صعق : مات
روى الأئمة عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : و الذي اصطفي موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : تقول هذا و فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله قال الله عز و جل { و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله و من قال : [ أنا خبر من يونس بن متى : فقد كذب ] لفظ ابن ماجه أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر و أخرجه الترمذي عن أبي كريب محمد بن العلاء قال : حدثنا عبدة بن سليمان جميعا عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الترمذي : حديث حسن صحيح و أخرجه البخاري و مسلم بمعناه
فصل : و اختلف العلماء في المستثنى : من هو ؟ فقيل الملائكة و قيل الأنبياء و قيل الشهداء و اختاره الحليمي قال : و هو مروي عن ابن عباس أن الاستتثناء لأجل الشهداء فإن الله تعالى يقول : { أحياء عند ربهم يرزقون } و ضعف غيره من الأقوال على ما يأتي و قال شيخنا أبو العباس : و الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح و الكل محتمل
قلت : قد ورد حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء و هو الصحيح على ما يأتي : و أسند النحاس في كتاب معاني القرآن له حدثنا الحسين بن عمر الكوفي قال : حدثنا هناد بن السرى قال : حدثنا وكيع عن شعبة عمارة ابن أبي حفصة عن حجر الهجري عن سعيد بن جبير في قول الله عز و جل { إلا من شاء الله } قال : هم الشهداء هم ثنية الله عز و جل متقلدو السيوف حول العرش و قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين
قال يحيى بن سلام في تفسيره : بلغني أن آخر من يبقى منهم : جبريل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت ثم يموت جبريل و ميكائيل و إسرافيل ثم يقول الله عز و جل لملك الموت : مت فيموت و قد جاء هذا مرفوعا في حديث أبي هريرة الطويل على ما يأتي و قيل : هم حملة العرش و جبريل و ميكائيل ملك الموت
و قال الحليمي : من زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل و ميكائيل و ملك الموت أو زعم أنه لأجل الولدان و الحور العين في الجنة أو زعم أنه لأجل موسى فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله عز و جل ] ؟ فإنه لم يصح شيء منها
أم الأول : فإن حملة العرش ليسوا من سكان السموات و الأرض لأن العرش فوق السموات كلها فكيف يكون حملته في السموات ؟ و أما جبريل و ميكائيل و ملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش و إذا كان العرش فوق السموات لم يكن الاصطفاف حوله في السموات و كذلك القول الثاني لأن الولدان و الحور في الجنة و الجنات و إن كان بعضها أرفع من بعض فإن جميعها فوق السموات و دون العرش و هي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء و صرفه إلى موسى فلا وجه لأنه قد مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية و لهذا لم يعتد في ذكر اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال : إلا من شاء الله أي الذين سبق موتهم قبل نفخ الصور لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها فلا معنى لاستثنائه منها و الذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بغرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم و هذا في موسى موجود فلا وجه لاستثنائه
و قال النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى و هو أن قال : [ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ ] فظاهر هذا الحديث : أن هذه صعقة غشى تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور
و صرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله قيل : المعنى : أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ أي فلا أدري أبعثه قبلي كان وهبا له و تفصيلا من هذا الوجه كما فضل في الدنيا بالتكليم أو كان جزاء له بصعقة الطور أي قدم بعثه على بعث الأنبياء الأخرين بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل إلى أن أفاق ليكون هذا جزاء له بها
و ما عدا هذا فلا يثبت قال شيخنا أحمد بن عمر : و ظاهر حديث النبي صلى الله عليه و سلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث و نص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق و لما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء و هذا باطل بما تقدم من ذكر موته و قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات و الأرض قال : فتستقل الأحاديث و الآيات و الله أعلم
قال شيخنا أبو العباس : و هذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى و هو متعلق بالعرش و هذا إنما هو عند نفخة البعث قال شيخنا أحمد بن عمر : و الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض و إنما هو انتقال من حال إلى حال و يدل على ذلك : أن الشهداء بعد قتلهم و موتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين و هذه صفة الأحياء في الدنيا و إذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق و أولى مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ] و أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس و في السماء و خصوصا بموسى و قد أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم بما يقتضي ان الله تبارك و تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا تدركهم و إن كانوا موجودين أحياء و ذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء و لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه و إذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله فأما صعق غير الأنبياء فموت و أما صعق الأنبياء فالأظهر : أنه غشية فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي و من غشي عليه أفاق و كذلك قال صلى الله عليه و سلم في صحيح مسلم و البخاري : [ فأكون أول من يفيق ] و هي رواية صحيحة و حسنة فنبينا صلى الله عليه و سلم أول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم قبل الأنبياء و غيرهم إلا موسى فإنه حصل له فيه تردد : هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بغشية الطور ؟ و هذه فضيلة عظيمة في حق موسى عليه السلام و لا يلزم من فضيلة أحد الأمرين المشكوك فيهما فضيلة موسى عليه السلام على محمد مطلقا لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرا كليا و الله أعلم
قال المؤلف : ما اختاره شيخنا هو ما ذكره الحليمي و اختاره في قوله فإن حمل عليه الحديث فذاك قال الحليمي : و أما الملائكة الذين ذكرناهم صلوات الله عليهم فإنا لم ننف عنهم الموت و لا أحلناه و إنما أبينا أن يكونوا هم المرادين بالاستثناء من الوجه الذين ذكرناه ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش و ملك الموت و ميكائيل ثم يميت آخر من يميت : جبريل و يحييه مكانه و يحي هؤلاء الملائكة الذي ذكرناهم و أما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر : و الأظهر أنها دار الخلد فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدا مع كونه قابلا للموت و الذي خلق فيها أولى ألا يموت فيها أبدا و أيضا فإن الموت لقهر المكلفين و نقلهم من دار إلى دار و أهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفا فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيدا فإن قيل : فقد قال الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } و هو يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد يوم الجزاء فلم أنكرتم أن يكونوا الولدان و الحور يموتون ثم يحيون ؟ قيل : يحتمل معنى قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي ما من شيء إلا و هو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه أي إلا هو سبحانه فإنه تعالى قديم و القديم لا يمكن أن يفنى و ما عداه محدث و المحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه فإذا حبس البقاء عنه فني و لم يبلغنا في خبر صحيح و لا معلول أنه يهلك العرش فلتكن الجنة مثله
فصل : قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : [ و من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ] للعلماء في تأويلات : أحسنها و أجملها ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي قال : أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أنه سئل : هل الباري في جهة ؟ فقال : لا هو متعال عن ذلك قيل له : ما الدليل عليه ؟ قال الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تفضلوني على يونس بن متى ] فقيل له : ما وجه الدليل من هذا الخبر ؟ فقال لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا فقام رجلان فقالا : هي علينا فقال : لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه فقال واحد : هي علي فقال : إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمته الحوت و صار في قعر البحر في ظلمات ثلاث و نادى { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } كما أخبر الله و لم يكن محمد صلى الله عليه و سلم حين جلس على الرفرف الأخضر و ارتقى به صعدا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام و ناجاه ربه بما ناجاه به و أوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر
قال المؤلف : فالله سبحانه قريب من عباده يسمع دعاءهم و لا يخفى عليه حالهم كيف ما تصرفت من غير مسافة بينه و بينهم فيسمع و يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الأرض السفلى كما يسمع و يرى تسبيح حملة عرشه من فوق السبع السموات العلى سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة أحاط بكل شيء علما و أحصى كل شيء عددا و لقد أحسن أبو العلاء بن سليمان المغربي حيث يقول :
( يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل )
( و يرى مناط عروقها في لحمها ... و المخ في تلك العظام النحل )
( أجالها محتومة أرزاقها ... مقسومة بعطا و إن لم تسأل )
( فلقد سألتك بالنبي محمد ... الهاشمي المدثر المزمل )
( إمنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول )
باب يفنى العباد و يبقى الملك الله وحده
البخاري و مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقبض الله الأرض يوم القيامة و يطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ] ؟ و [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوي الله السماء يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ] انفرد به مسلم
و [ عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : يأخذ الله سماواته و أرضيه بيده فيقول : أنا الله و يقبض أصابعه و يبسطها فيقول : أنا الملك ] حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل : هذه الأحاديث تدل على أن الله سبحانه يفني جميع خلقه أجمع كما تقدم ثم يقول الله عز و جل : { لمن الملك اليوم } فيجيب نفسه المقدسة بقوله : { لله الواحد القهار }
و قيل : إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عليها على ما يأتي { لمن الملك اليوم } فيجيبه العباد { لله الواحد القهار } رواه أبو وائل عن ابن مسعود و اختاره أبو جعفر النحاس قال : و القول صحيح عن ابن مسعود و ليس هو مما يؤخذ بالقياس و لا بالتأويل
قال المؤلف رضي الله عنه : و القول الأول أظهر لأن المقصود إظهاره انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين و انتساب المنتسبين إذ قد ذهب كل ملك و ملكه و كل جبار و متكبر و ملكه و انقطعت نسبتهم و دعاويهم و هذا أظهر و هو قول الحسن و محمد بن كعب و هو مقتضى قوله الحق : [ أنا المالك أين ملوك الأرض ] ؟
و في حديث أبي هريرة [ ثم يأمر الله عز و جل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السموات و من في الأرض إلا ما شاء الله فإذا اجتمعوا أمواتا جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول : قد مات أهل السماء و الأرض إلا ما شئت فيقول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة العرش و بقي جبريل و ميكائيل و إسرافيل و بقيت أنا فيقول الله عز و جل : ليمت جبريل و ميكائيل فينطق الله عز و جل العرش فيقول أي رب يموت جبريل و ميكائيل ؟ فيقول : اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي فيموتان قال : ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيقول يا رب قد مات جبريل و ميكائيل قيول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة عرشك و بقيت أنا فيقول : ليمت حملة العرش فيموتون فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يقول : ليمت إسرافيل فيموت ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك فيقول ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقيت أنا فيقول الله : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا { لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفوا أحد } فكان كما كان أولا طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم قال : أنا الجبار { لمن الملك اليوم } فلم يجبه أحد فيقول جل ثناؤه و تقدست أسماؤه { لله الواحد القهار } ]
قلت : حديث أبي هريرة هذا فيه طول و هذا وسطه و يأتي آخره في الباب بعد هذا و يأتي أوله بعد ذلك إن شاء الله تعالى فيتصل جميعه إن شاء الله تعالى ذكره الطبري و علي بن معبد و الثعلبي و غيرهم
و في حديث لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات و الملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في البلاد و قد خلت عليه البلاد ] و ذكر الحديث و هو حديث فيه طول خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده و غيره الأوزاعي
قال علماؤنا : قوله : [ فأصبح ربك يطوف بالبلاد و قد خلت عليه البلاد ] إنما هو تفهم و تقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت و أن الأرض تبقى خالية و ليس يبقى إلا الله كما قال : { كل من عليها فان * و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام } و عند قوله سبحانه { لمن الملك اليوم } هو انقطاع زمن الدنيا و بعده يكون البعث و النشر و الحشر على ما يأتي و في فناء الجنة و النار عند فناء جميع الخلق قولان :
أحدهما : يفنيهما و لا يبقى شيء سواه و هو معنى قوله الحق : { هو الأول و الآخر } و قيل : إنه مما لا يجوز عليهما الفناء و إنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه و الله أعلم و قد تقدم في الباب قبل هذا الإشارة إلى ذلك و قد قيل : إنه ينادي مناد فيقول : { لمن الملك اليوم } ؟ فيجيبه أهل الجنة : { لله الواحد القهار }
فصل : في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد و الأصابع
إن من قائل : ما تأويل اليد عندكم و اليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا و تلك التي يكون القبض و الطي بها ؟ قلنا : لفظ الشمال أشد في الإشكال
و ذلك في الإطلاق على الله محال
و الجواب : أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان : تكون بمعنى القوة و منه قوله تعالى : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } و تكون بمعنى الملك و القوة و منه قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } و تكون بمعنى النعمة تقول العرب : كم يد لي عند فلان أي كم من نعمة أسديتها إليه و تكون بمعنى الصلة و منه قوله تعالى { مما عملت أيدينا أنعاما } أي مما عملنا نحن و قال تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي الذي له النكاح و تكون بمعنى الجارحة
ومنه قوله تعالى : { و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث } و قو له في الحديث [ بيده ] عبارة عن قدرته و إحاطته بجميع مخلوقاته يقال : ما فلان إلا في قبضتي بمعنى : ما فلان إلا في قدرتي و الناس يقولون : الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه و قدرته و قد يكون معنى القبض و الطي : إفناء الشيء و إذهابه فقوله عز و جل : { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة } يحتمل أن يكون المراد به الأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة و قوله : { و السماوات مطويات بيمينه } ليس يريد به طيا بعلاج و انتصاب و إنما المراد بذلك الفناء و الذهاب يقال : قد انطوى عنا ما كنا فيه و جاءنا غيره و انطوى عنا دهر بمعنى المضي و الذهاب
فإن قيل : فقد قال في الحديث : [ و يقبض أصابعه و يبسطها ] و هذه حقيقة الجارحة ؟ قلنا : هذا مذهب المجسمة من اليهود و الحشوية و الله تعالى متعال عن ذلك و إنما المعنى حكاية الصاحب عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقبض أصابعه و يبسطها و ليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع فدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي كان يقبض أصابعه و يبسطها قال الخطابي و ذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب و السنة المقطوع بصحتهما
فإن قيل : فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث فما جوابكم عنه ؟ فقد روى البخاري و مسلم قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع و الأرضين على أصبع و الشجر على أصبع و الثرى على أصبع و الخلائق على أصبع ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله عز و جل { و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه } و روى [ عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ] و مثله كثير قيل له : اعلم أن الأصابع قد يكون بمعنى الجارحة و الله تعالى يتقدس عن ذلك و يكون بمعنى القدرة على الشيء و يسارة تقليبه كما تقول من استسهل شيئا و استخفه مخاطبا لمن استثقله : أنا أحمله على أصبعي و ارفعه علي بأصبعي و أمسكه بخنصري و كما يقال من أطاع بحمل شيء : أنا أحمله على عيني و أفعله على رأسي يعني به الطواعية و ما أشبه ذلك قد قال في معناه و هو كثير و مما قال عنترة و قيل ابن زيادة التيمي :
( الرمح لا أملأ كفي به ... و اللبد لا أتبع تزواله )
يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح لكن يطعن به خلسا بأصابعه لخفة ذلك عليه و قوله : لا أتبع تزواله : أي إذا مال لم أمل معه
يقول : أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة و لا تغير السرج عما يريده الراكب يصف نفسه بالفروسية في الركوب و الطعن فلما كانت السموات و الأرض أعظم الموجودات قدرا و أكبرها خلقا كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا و نهزه بأيدينا و نتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله : [ ثم يقبض أصابعه و يبسطها ] و بقوله : [ ثم يهزهن ] كما جاء في بعض طرق مسلم و غيره أي هي في قدرته كالحبة مثلا في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها و لا بهزها و لا تحريكها و لا القبض و البسط عليها و لا نجد في ذلك صعوبة و لا مشقة و قد يكون الأصبع أيضا في كلام العرب بمعنى النعمة و هو المراد بقوله عليه السلام : [ إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ] أي بين نعمتين من نعم الرحمن يقال : لفلان علي أصبع أي أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة و للراعي على ماشيته أصبع أي أثر حسن و أنشد الأصمعي للراعي :
( ضعيف العصي بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس أصبعا )
و قال آخر :
( صلاة و تسبيح و إعطاء سائل ... و ذي رحم تبل منك أصبع )
أي أثر حسن و قال آخر :
( من يجعل الله عليه أصبعا ... في الخير و الشر يلقاه معا )
فإن قيل : كيف جاز إطلاق الشمال على الله تعالى و ذلك يقتضي النقص ؟ قيل : هو مما انفرد به عمر بن حمزة عن سالم و قد روى هذا الحديث نافع و عبد الله بن مقسم عن ابن عمر لم يذكرا فيه الشمال و رواه أبو هريرة و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه واحد منهم الشمال
و قال البيهقي و روى ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعبف بمرة و كيف يصح ذلك و صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمى كلتا يديه يمينا ؟ و كان من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين
قال الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز و جل من صفة اليد شمال لأن الشمال محل النقص و الضعف و قد روى [ كلتا يديه يمين ] و ليس معنى اليد عندنا الجارحة و إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت و لا نكفيها
و ننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب و السنة المأثورة الصحيحة و هو مذهب أهل السنة و الجماعة و قد يكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة و الملك و منه قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } يريد بها الملك و قال { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة و القدرة أي أخذنا قدرته و قوته قال الفراء : اليمين القوة و القدرة و أنشد :
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )
و قال آخر :
( و لما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني )
( فقلت : شنيفا ثم فاران بعده ... و كان على الآيات غير أمين )
قلت : و على هذا التأويل تخرج الآية و الحديث و الله أعلم و قد تكون اليمين في كلام مالك العرب بمعنى : التبجيل و التعظيم يقال عندنا باليمين أي بالمحل الجليل و منه قول الشاعر :
( أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين )
أي بالمحل الرفيع و أما قوله : كلتا يديه يمين فإنه فإنه أراد بذلك التمام و الكمال و كانت العرب تحب التيامن و تكره التياسر لما في التياسر من النقصان و في التيامن من التمام فإن قيل : فأين يكون الناس عند طي الأرض و السماء ؟ قلنا : يكونون على الصراط على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
باب البرزخ
روى هناد بن السري قال حدثنا محمد بن فضيل و وكيع عن فطر قال سألت مجاهدا عن قول الله تعالى : { و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } قال هو مابين الموت و البعث و قيل للشعبي : مات فلان قال : ليس هو في الدنيا و لا في الآخرة هو في برزخ و البرزخ في كلام العرب الحاجز بين الشيئين و من قوله تعالى : { و جعل بينهما برزخا } أي : حاجزا و كذلك هو في الآية من وقت الموت إلى البعث فمن مات فقد دخل في البرزخ و قوله تعالى : { و من ورائهم برزخ } أي من أمامهم و بين أيديهم
باب ذكر النفخ الثاني للبعث في الصور
و بيانه و كيفية البعث و بيانه و أول من تنشق عنه الأرض و أول من يحيى من الخلق و بيان السن الذي يخرجون عليه من قبورهم و في لسانهم و بيان قوله تعالى { و ألقت ما فيها و تخلت } قال الله عز و جل { يوم ينفخ في الصور عالم الغيب و الشهادة } و قال : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون } و قال { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و قال { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } و سماه الله تعالى أيضا بالناقور في قوله تعالى { فإذا نقر في الناقور }
قال المفسرون : الصور ينقر فيه مع النفخ الأول لموت الخلق على ما يأتي بيانه قال الله تعالى مخبرا عن كفار قريش { ما ينظرون } أي ما ينظرون كفار آخر هذه الأمة الدائنون بدين أبي جهل و أصحابه ـ إلا صيحة واحدة ـ يعني النفخة الأولى التي يكون بها هلاكهم { تأخذهم و هم يخصمون } أي يختصمون في أسواقهم و حوائجهم قال الله : { لا تأتيكم إلا بغتة } { فلا يستطيعون توصية } أي أن يوصوا { و لا إلى أهلهم يرجعون } أي من أسواقهم و حيث كانوا { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون } { و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث } النفخة هي النفخة الثانية نفخة البعث و الصور : قرن من نور يجعل فيه الأرواح يقال إن فيه من الثقب على عدد أرواح الخلائق على ما يأتي قال مجاهد هو كالبوق ذكره البخاري فإذا نفخ فيه صاحب الصور النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده { فإذا هم من الأجداث } أي القبور { ينسلون } أي يخرجون سراعا يقال نسل ينسل و ينسل بالضم أيضا : إذا أسرع في مشيه فالمعنى يخرجون مسرعين و في الخبر : أن بين النفختين أربعين عاما و سيأتي و في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } : الصور : قال : و [ الراجفة ] النفخة الأولى [ و الرادفة ] الثانية
و روي عن مجاهد أنه قال : للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين عجلين ينظرون مايراد بهم لقوله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و قد أخبر الله عز و جل عن الكفار أنهم يقولون { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ فيقول لهم الملائكة أو المؤمنون على اختلاف المفسرين { هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون } و قيل إن الكفار هم القائلون : { هذا ما وعد الرحمن } و ذلك أنهم لما بعثوا لما بعثوا قال بعضهم لبعض { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ثم قالوا : { هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون } فكذبنا به أقروا حين لم ينفعهم الإقرار ثم يؤمر بحشر الجميع إلى الموقف للحساب
و قال عكرمة : إن الذين يغرقون في البحر تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منهم شيء إلا العظام فنلقيها الأمواج إلى الساحر فتمكث حينا ثم تصير حائلة نخرة ثم تمر بها الإبل فتأكلها ثم تسير الإبل فتبعر ثم يجيء قوم فينزلون فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم تخمد تلك النار فيجيء الريح فيلقي ذلك الرماد على الأرض فإذا جاءت النفخة { فإذا هم قيام ينظرون } يخرج أولئك و أهل القبور سواء { إن كانت إلا صيحة واحدة } أي نفخة واحدة { فإذا هم جميع لدينا محضرون }
قال علماؤنا رحمهم الله : فالنفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور و غيرهم فيعيد الله الرفات من أبدان الأموات و يجمع ما تفرق منها في البحار و بطون السباع و غيرها حتى تصير كهيئاتها الأولى ثم يجعل فيها الأرواح فتقوم الناس كلهم أحياء حتى السقط فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة و يقال له : ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخل أبواي ] و هذا السقط هو الذي تم خلقه و نفخ فيه الروح قال الله تعالى : { و إذا الموؤدة سئلت } فدل على أن المؤودة تحشر و تسأل و من قبرها تخرج و تبعث و أما من لم ينفخ فيه الروح فهو سائر الأموات سواء قاله الحاكم أبو الحسين بن الحسن الحليمي رحمه الله في كتاب منهاج الدين له و بالحقيقة إنما خروج الخلق بدعوة الحق قال الله تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } فتقومون فتقولون : سبحانك اللهم و بحمدك قالوا : فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد و يختم به قال الله تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } و قال في آية أخرى { و قضي بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين }
ابن ماجه قال : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عباد بن العوام عن حجاج بن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي الصور بأيديهما ـ أو في أيديهما ـ قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ]
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما لصور ؟ قال : قرن ينفخ فيه ] قال هذا حديث حسن
[ و عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أنعم و صاحب الصور قد التقم القرن و استمع الإذن متى يؤمر بالنفخ ] ؟ فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال لهم : قولوا : { حسبنا الله و نعم الوكيل } قال حديث حسن
[ وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ماأطرق صاحب الصور منذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريات ] أخرجه أبو الحسن بن صخر في فوائده وغيره
[ و خرج ابن المبارك و مؤمل بن إسماعيل و علي بن معبد عن ابن مسعود حديثا ذكر فيه قال : ثم يقوم ملك الصور بين السماء و الأرض فينفخ فيه و الصور قرن فلا يبقى لله خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء ربك ثم يكون بين النفختين ماشاء الله أن يكون فليس من بني آدم خلق إلا و في الأرض شيء منه ] زاد [ مؤمل بن إسماعيل قال سفيان ـ يعني الثوري ـ عجب الذنب قال : فيرسل الله ماء من تحت العرش : منيا كمني الرجال فتنبت جثمانهم و لحمانهم كما تنبت الأرض من الثرى ] ثم قرأ عبد الله { و الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } قال : [ ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فينطلق كل نفس إلى جسدها حتى تدخل فيه ثممون فيجيبون إجابة رجل واحد قياما لرب العالمين ] و قال ابن المبارك و مؤمل : [ ثم يقومون فيحيون تحية واحدة ]
و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال : [ فيقومون فيحيون تحية رجل واحد قياما لرب العالمين ] قوله [ فيحيون ] التحية تكون في حالين :
أحدهما : أن يضع يديه على ركبتيه و هو قائم و هذا هو المعنى الذي في هذا الحديث ألا تراه يقول : [ قياما لرب العالمين ]
و الوجه الآخر : أن ينكب على وجهه باركا و هذا هو الوجه المعروف عند الناس و قد حمله بعض الناس على قوله [ فيخرون سجدا لرب العالمين ] فجعل السجود هو التحية و هذا هو الذي يعرفه الناس من التحية
[ و روي عن علي بن معبد عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه و ساق الحديث بطوله إلى قوله جل ثناؤه و تقدست أسماؤه { لله الواحد القهار } ثم { تبدل الأرض غير الأرض و السماوات } فيبسطها بسطا ثم يمدها مد الأديم العكاظي { لا ترى فيها عوجا و لا أمتا } ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل ما كانوا فيه من الأولى : من كان في بطنها و من كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله عليكم ماء من تحت العرش يقال له : ماء الحياة فتمطر السماء عليكم أربعين سنة حتى يكون الماء من فوقكم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله عز و جل الأجساد فتنبت كنبات الطراثيث و كنبات البقل حتى إذا تكلمت أجسادكم فكانت كما كانت يقول الله عز و جل : ليحى حملة العرش فيحيون ثم يقول : ليحى جبريل و ميكائيل و إسرافيل فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور ثم يدعو الله تعالى الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة فيأخذها الله فيلقيها في الصور ثم يقول لإسرافيل انفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كلها كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء و الأرض فيقول الله عز و جل : و عزتي و جلالي ليرجع كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم و أنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث و ثلاثين و اللسان يومئذ بالسريانية سراعا إلى ربهم ينسلون { مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } { ذلك يوم الخروج } { و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } فتوقفون في موقف عراة غلفا غرلا مقدار سبعين عاما و يعرقون حتى تبلغ منهم الأذقان و يلجمهم فيضجون و يقولون : من يشفع لنا إلى ربنا ] ؟ و ساق الحديث بطوله في الشفاعة و سيأتي حديث الشفاعة في صحيح مسلم و غيره إن شاء الله تعالى
و خرج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب الديباج له : [ حدثني أبو بكر بن الحارث بن خليفة حدثنا محمد بن جعفر المدائني عن سلام بن مسلم الطويل عن عبد الحميد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله عز و جل { إذا السماء انشقت * و أذنت لربها و حقت } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري فينفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى أنظر إلى العرش ثم يفتح لي باب من تحتي حتى أنظر إلى الأرض السابعة حتى أنظر إلى الثرى ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنة و منازل أصحابي و إن الأرض تحركت تحتي فقلت : ما بالك أيتها الأرض ؟ قالت : أن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي و أن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في فذلك قوله عز و جل : { و ألقت ما فيها و تخلت * و أذنت لربها و حقت } أي سمعت و أطاعت و حق لها أن تسمع و تطيع { يا أيها الإنسان } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا ذلك الإنسان ]
و روي في تفسير قوله تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية } إن هذا خطاب للأرواح بأن ترجع إلى أجسادها { إلى ربك } أي صاحبك كما تقول : رب الغلام و رب الدار و رب الدابة أي صاحب الغلام و صاحب الدار و صاحب الدابة { فادخلي في عبادي } أي في أجسادهم من مناخرهم كما ورد في الخبر المتقدم و قد روي أن الله تعالى خلق الصور حين فرغ من خلق السموات والأرض و أن عظم دارته كغلظ السماء و الأرض و في حديث أبي هريرة : [ و الذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه لكعرض السماء والأرض ] و سيأتي و روي : [ أن له رأسين رأسا بالمشرق و رأسا بالمغرب ] فالله أعلم
فصل : الصور : بالصاد قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء و هي نفخة الصعق و يكون معها نقر لقوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } أي في الصور فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و النفخ لتكون الصيحة أشد و أعظم ثم يمكث الناس أربعيم عاما ثم ينزل الله ماء كمني الرجال على ما تقدم فتكون منه الأجسام بقدرة الله تعالى حتى يجعلهم بشرا كما روي في قصة الذين يخرجون النار قد صاروا حمما إنهم يغتسلون من نهر بباب الجنة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل و عن ذلك عبر في حديث أبي هريرة المتقدم في صحيح مسلم و غيره [ فينبتون نبات البقل ] فإذا تهيأت الأجسام و كملت نفخ في الصور نفخة البعث من غير نقر لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها فالنفخة الأولى للتنقير و هي نظير صوت الرعد الذي قد يقوى فيمات منه و نظير الصيحة : الصيحة الشديدة التي يصيحها الرجل بصبي فيفزع منه فيموت فإذا نفخ للبعث من غير نقر كما ذكرنا خرجت الأرواح من المجال التي هي فيه فتأتي كل روح إلى جسدها فيحييها الله كل ذلك في لحظة كما قال تعالى : { فإذا هم قيام ينظرون } { ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة } و عند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها و أعراضها بلا خلاف بينهم قال بعضهم : بأوصافها فيعاد الوصف أيضا كما يعاد الجسم و اللون قال القاضي أبو بكر بن العربي : و ذلك جائز في حكم الله و قدرته و هين عليه جميعه و لكن لم يرد بإعادة الوصف خبر
قلت : فيه أخبار كثيرة في هذا الباب بعد هذا
فصل : و ليس الصور جمع صورة كما زعم بعضهم أي ينفخ في صور الموتى بدليل الأحاديث المذكورة و التنزيل يدل على ذلك قال الله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى } و لم يقل : فيها فعلم أنه ليس جمع صورة قال الكلبي : لا أدري ما الصور ؟ و يقال : هو جمع صورة مثب بسرة و بسر أي ينفخ فيصور الموتى : الأرواح و قرأ الحسن : { يوم ينفخ في الصور عالم الغيب و الشهادة }
قلت : و إلى هذا التأويل في أن الصور بمعنى الصور جمع صورة ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى و هو مردود بما ذكرنا و أيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين بل ينفخ مرة واحدة و إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن و الله سبحانه يحيي الصور فينفخ فيها الروح كما قال تعالى : { فنفخنا فيه من روحنا } و { نفخت فيه من روحي } قال ابن زيد : يخلق الله الناس في الأرض الخلق الآخر ثم يأمر السماء فتمطر عليهم أربعين يوما فينبتون فيها حتى تنشق عن رؤوسهم كما تنشق عن رأس الكمأة فمثلها يومئذ مثل الماخض تنتظر أن يأتيها أمر الله فتطرحهم على ظهرها فلما كانت تلك النفخة طرحتهم قال علماؤنا : و الأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام
قلت : قد جاء حديث يدل على أن الذي ينفخ في الصور غير إسرافيل خرجه أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا أحمد بن القاسم قال : حدثنا عفان بن مسلم قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الله بن الحارث قال : كنت عند عائشة و عندها كعب الأحبار فذكر كعب إسرافيل فقالت عائشة : يا كعب أخبرني عن إسرافيل ؟ فقال كعب عندكم العلم قالت : أجل فأخبرني فقال : [ له أربعة أجنحة جناحان في الهواء و جناح قد تسربل به و جناح على كاهله و العرش على كاهله و القلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة و ملك الصور جاث على إحدى ركبتيه و قد نصب الأخرى ملتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره ينظر إلى إسرافيل و قد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور ] قالت عائشة ؟ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول غريب من حديث كعب لم يروه عنه إلا عبد الله بن الحارث و رواه خالد الحذاء عن الوليد أبي بشر عن عبد الله بن رباح عن كعب نحوه
فصل : قلت : و ما خرجه أبو عيسى الترمذي و غيره يدل على أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه وحده و حديث أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه يدل على أن معه غيره
و قد خرج أبو بكر البزار في مسنده و أبو داود في كتاب الحروف من كتاب السنن [ من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم صاحب الصور فقال : عن يمينه جبريل و عن يساره ميكائيل ] فلعل لأحدهما قرنا آخر ينفخ فيه و الله أعلم
و ذكر أبو السري عناد بن السري التيمي الكوفي قال : حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي عمرو قال : [ ما من صباح إلا و ملكان يقولون : يا طالب الخير أقبل و يا طالب الشر أقصر و ملكان موكلان يقولان : اللهم أعط منفقا خلفا و أعط ممسكا تلفا و ملكان موكلان يقولان سبحان الملك القدوس و ملكان موكلان بالصور ] قال : و حدثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال : [ ما من صباح مثله سواء ] و زاد بعد قوله : [ و ملكان موكلان بالصور : ينتظران متى يؤمران فينفخان ] و عطية لا يحتج أحد بحديثه على ماذكره أبو محمد عبد الحق و غيره
فصل : و اختلف في عدد النفخات : فقيل ثلاث : نفخة الفزع لقوله تعالى { و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله و كل أتوه داخرين } و نفخة الضعف و نفخة البعث لقوله تعالى : { و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و هذا اختيار ابن العربي و غيره و سيأتي
و قيل : هما نفختان و نفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن لا زمان لها أي فزعوا ماتوا منه و السنة الثابتة على ما تقدم من حديث أبي هريرة و حديث عبد الله بن عمر و غيرهما يدل على أنهما نفختان لا ثلاث و هو الصحيح إن شاء الله تعالى قال الله تعالى : { و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله } فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة و قد روي ابن المبارك [ عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بين النفختين أربعون سنة الأولى : يميت الله تعالى بها كل حي و الأخرى : يحيى الله بها كل ميت ] و سيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى
و قال الحليمي جهنم اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة و ذلك بعد أن يجمع الله تعالى ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع و حيوانات الماء و بطن الأرض و ما أصاب النيران منها بالحرق و المياه بالغرق و ما أبلته الشمس و ذرته الرياح فإذا جمعها و أكمل كل بدن منها و لم يبقى إلا الأرواح جمع الأرواح في الصور و أمر إسرافيل عليه السلام فأرسلها بنفخة من ثقب الصور فرجع كل ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى
و جاء في بعض الأخبار ما يبين أن من أكله طائر أو سبع : حشر من جوفه و هو ما رواه الزهري [ عن أنس قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمزة يوم أحد و قد جذع و مثل به فقال : لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع و الطير ] و قد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرنا قال أبو الهيثم : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش و الصراط و الميزان و طلب لها تأويلات
باب منه في صفة البعث و ما آية ذلك في الدنيا و أول ما يخلق من الإنسان
رأسه
قال الله تعالى { و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } و قال سبحانه : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء } إلى قوله { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } { كذلك النشور } و الآيات في هذا المعنى كثيرة
و خرج أبو داود الطيالسي و البيهقي و غيرهما [ عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله : كيف يعيد الله الخلق ؟ و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قال : نعم قال : فتلك آية الله في الخلق ]
قلت : هذا حديث صحيح لأنه موافق لنص التنزيل و الحمد لله
و في حديث [ لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل ربك إلى السماء تهضب من عند العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل و لا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى يخلق من قبل رأسه ] و ذكر الحديث
باب يبعث كل عبد على ما مات عليه
مسلم [ عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : يبعث كل عبد على ما مات عليه ] و عن [ عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم ] خرجه البخاري و لفظ [ البخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم ]
مالك [ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله ـ و الله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة و جرحه يثعب دما اللون لون الدم و العرف عرف المسك ] خرجه البخاري و مسلم
أبو داود عن [ عبد الله بن عمرو أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن الجهاد و الغزو فقال : يا عبد الله إن قتلت صابرا محتسبا بعثت صابرا محتسبا و إن قتلت مرائيا مكاثرا بعثت مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال ]
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات سكران فإنه يعاين ملك الموت سكران و يعاين منكرا و نكيرا سكران و يبعث يوم القيامة سكران إلى حندق في سوط جهنم يسمى السكران فيه عين يجري ماؤها دما لا يكون له طعام و لا شراب إلا منه ]
مسلم عن [ ابن عباس أن رجلا كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم محرما فوقصته ناقته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اغسلوه بماء و سدر و كفنوه في ثوبه و لا تمسوه بطيب و لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] و في رواية [ ملبدا ] أخرجه البخاري
و روى عباد بن كثير عن الزبير عن جابر قال : [ إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي ] ذكره الحليمي الحافظ في كتاب المنهاج له و سيأتي بكماله
و ذكر أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له [ حدثنا أبو محمد عبد الله بن يونس بن بكير حدثنا أبي عن عمرو بن سمير عن جابر عن محمد بن علي عن ابن عباس و علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أخبرني جبريل عليه السلام أن : لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته و في قبره و حين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم بنفضون رؤوسهم هذا يقول : لا إله إلا الله و الحمد لله فيبيض وجهه و هذا ينادي ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة و جوههم ] قال : [ و حدثني يحيى بن عبد الحميد بن عبد الحماني حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس على أهل لا إله إلا الله و حشة عند الموت و لا في قبورهم و لا منشرهم كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم و هم يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ]
و روى النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة الله و درع من نار يدها على رأسها تقول : يا ويلاه ] أخرجه بمعناه مسلم و ابن ماجه [ عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة من أمر الجاهلية و إن النائحة إذا ماتت قطع الله لها ثيابا من نار و درعا من لهب النار ] لفظ ابن ماجه و قال مسلم : [ تقام القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب ]
و أسند الثعلبي في تفسيره [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين و صفا عن الشمال ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار ] أنبأناه الشيخ الحاج الراوية أبو محمد عبد الوهاب شهر بابن رواح و الشيخ الإمام علي بن هبة الله الشافعي قالا : [ حدثنا السلفى قال : حدثنا الرئيس أبو عبد الله الثقفي قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن خولة الأبهري الأديب فيما قرئ عليه و أنا أسمع منه سنة ثلاث و أربع مائة قال : أخبرنا أبو عمر و أحمد بن محمد بن حكيم المدني أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا سليمان بن داود اليماني حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صفا عن يمينهن و صفا عن شمالهن ينبحن على أهل جهنم كما تنبح الكلاب ] غريب من حديث أبي نصر يحيى بن كثير عن أبي سلمة تفرد به عنه سليمان بن داود
و قال [ أنس قال النبي صلى الله عليه و سلم : تخرج النائحة من قبرها شعثاء غبراء مسودة الوجه زرقاء العينين ثائرة الشعر كالحة الوجه و عليه جلباب من لعنة الله و درع من غضب الله إحدى يديها مغلولة إلى عنقها و الأخرى قد و ضعتها على رأسها و هي تنادي يا ويلاه و يا ثبوراه و يا حزناه و ملك وراءها يقول : آمين آمين ثم يكون من بعد ذلك حظها النار ]
ابن ماجة [ عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة على الميت من أمر الجاهلية و إن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار ]
و في التنزيل : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال أهل التأويل : المعنى لا يقومون من قبورهم قاله ابن عباس و مجاهد و ابن جبير و قتادة و الربيع و السدي و الضحاك و ابن زيد و غيرهم قال : بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه و قالوا : كلهم يبعث كالمخنوق عقوبة له وتميقتا عند جميع أهل المحشر فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا و ذلك أنه أرباه في بطونهم فاثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون و يسقطون لعظم بطونهم و ثقلها عليهم نسأل الله الستر و السلامة و العافية في الدنيا و الآخرة و قال تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } و سيأتي
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة ] ذكره صاحب القوت و هو صحيح المعنى يدل على صجته ما ذكرناه و سياتي لهذا الباب مزيد بيان في باب بيان الحشر إلى الموقف إن شاء الله تعالى
باب في بعث النبي صلى الله عليه و سلم من قبره
ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعبا دخل على عائشة رضي الله عنه فذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كعب : ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم و يصلون على النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا أمسوا عرجوا و هبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر و يضربون بأجنحتهم و يصلون عن النبي صلى الله عليه و سلم سبعون ألفا بالليل و سبعون ألفا بالنهار و حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه و سلم و الأخبار دالة ثابتة على أن جميع الناس يخرجون عراة و يحشرون كذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : [ حدثنا بشر بن خالد قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال : خرج النبي صلى الله عليه و سلم و يمينه على أبي بكر و شماله على عمر فقال : هكذا نبعث يوم القيامة ]
باب ما جاء في بعث الأيام و الليالي و يوم الجمعة
[ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يبعث لأيام القيامة على هيأتها و يبعث يوم الجمعة : زهراء منيرة أهلها محتفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضا و ريحهم يسطع كالمسك يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون ] خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم و إسناده صحيح و قال أبو عمران الجوني : ما من ليلة تأتي إلا تنادى : اعملوا في ما استطعتم من خير فلن أرجع إليكم يوم القيامة ذكره أبو نعيم
باب ما جاء أن العبد المؤمن إذا قام من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا
معه في الدنيا و عمله
تقدم من حديث جابر مرفوعا : [ فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق و الآخر شهيد ذكره أبو نعيم أيضا عن ثابت البناني أنه قرأ : { حم } السجدة حتى إذا بلغ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } وقف فقال : بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له : لا تخف و لا تحزن و أبشر بالجنة التي كنت توعد قال : فأمن الله خوفه و أقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة فالمؤمن في قرة عين لما هداه الله له و لما كان يعمل له في الدنيا ]
و قال عمرو بن قيس الملاي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة و أطيب ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك و حسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم و تلا : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } و أن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة و أنتن ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد قبح صورتك و نتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا و أنا اليوم أركبك و تلا : { و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } و لا يصح من قبل إسناده قاله القاضي أبو بكر بن العربي

باب أين يكون الناس ؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات
مسلم [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد و ذكر الحديث و فيه فقال اليهودي أين يكون الناس { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم في الظلمة دون الجسر ] الحديث بطوله و سيأتي
و خرج مسلم أيضا و ابن ماجه جميعا قالا : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } فأين يكون الناس يومئذ ؟ قال : على الصراط ]
و أخرجه الترمذي قال : [ حدثنا ابن أبي عمر قال : حدثنا سفيان عن داود بن هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : يا رسول الله { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه } فأين يكون المؤمنون يومئذ ؟ قال : على الصراط يا عائشة ] قال : هذا حديث حسن صحيح
و خرج عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أتدري ما سعة جهنم ؟ قلت : لا قال : أجل و الله ما تدري [ حدثتني عائشة أنه سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله عز و جل { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه } قال : فقلت : فأين الناس يا رسول الله ؟ قال : على جسر جهنم ] قال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
فصل : هذه الأحاديث نص في أن الأرض و السموات تبدل و تزال و يخلق الله أرضا أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر و هو الصراط لا كما قال كثير من الناس أن تبدل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها و تسوية آكامها و نسف جبالها و مد أرضها و رواه ابن مسعود رضي الله عنه خرجه ابن ماجه و سيأتي ذكره في الاشتراط إن شاء الله
و ذكر ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال : حدثني ابن عباس قال : [ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا ] و ذكر الحديث و روى [ أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها و يمدها مد الأديم ] ذكره الثعلبي في تفسيره
و روى علي بن الحسين رضي الله عنهما قال : [ إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه ] ذكره الماوردي و ما بدأنا بذكره أصح لأنه نص ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم فإن قائل : إن بدل في كلام العرب معناه : تغيير الشيء و منه قوله تعالى : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } و قال : { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } و لا يقتضي هذا إزالة العين و إنما معناه تغيير الصفة و لو كان المعنى لإزالة لقال يوم تبدل الأرض مخففا من أبدلت الشيء إذا أزالت عنه و شخصه قيل له : ما ذكرته صحيح و لكن قد قرئ قوله عزو جل { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها } مخففا و مثقلا بمعنى واحد قال : { و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } و قال : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } و كذا ذكر تاج اللغة أبو نصر الجوهري في الصحاح و أبدلت الشيء بغيره و بدله الله من الخوف أمنا و تبديل الشيء أيضا تغييره فقد دل القرآن و كلام العرب على أن بدل و أبدل بمعنى واحد و قد فسر النبي صلى الله عليه و سلم أحد المعنيين فهو أعلى و لا كلام معه
قال ابن عباس و ابن مسعود : تبدل الأرض أرضا بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم حرام و لم يعمل عليها خطيئة قط و قال ابن مسعود أيضا تبدل الأرض نارا و الجنة من ورائها يرى أكوابها و كواعبها و قال أبو الجلد حيان بن فروة : إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشعل نارا يوم القيامة و قال علي رضي الله عنه : تبدل الأرض فضة و السماء ذهبا و قال جابر : سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة ثم قرأ { و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه
قلت : و هذا المعنى الذي قاله سعيد بن جبير و محمد بن كعب مروي في الصحيح و سيأتي و إليه ذهب ابن برحان في كتاب الإرشاد له و أن المؤمن يطعم يومئذ من بين رجليه و يشرب من الحوض فهذه أقوال الصحابة و التابعين دالة على ما ذكرنا
و أما تبديل السماء فقيل تكوير شمسها و قمرها و تناثر نجومها قاله ابن عباس و قيل : اختلاف أحوالها قتارة كالمهل و تارة كالدهان حكاه ابن الأنباري و قال كعب : تصير السماء دخانا و تصير البحار نيرانا و قيل تبديلها : أن تطوي كطي السجل للكتاب و ذكر أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن حيدرة في كتاب الإفصاح له : أنه لا يعارض بين هذه الآثار و أن الأرض و السماوات تبدل كرتين إحداهما هذه الأولى و أنه سبحانه يغير صفاتها قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا كواكبها و تكسف شمسها و قمرها و تصير كالمهل ثم تكشط عن رؤوسهم ثم تسير الجبال ثم تموج الأرض ثم تصير البحار نيرانا ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر فتصير الهيئة غير الهيئة و البنية غير البنية ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء و دحيت الأرض و بدلت السماء سماء أخرى و هو قوله تعالى { و أشرقت الأرض بنور ربها } و بدلت الأرض : تمد مد الأديم العكاظي و أعيدت كما كانت فيها القبور و البشر على ظهرها و في بطنها و تبدل أيضا تبديلا ثانيا و ذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها [ الساهرة ] يجلسون عليه و هو أرض عفراء و هي البيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام قط و لا جرى عليه ظلم قط و حينئذ يقوم الناس على الصراط و هو لا يسع جميع الخلائق و إن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعودا و ألف سنة هبوطا و ألف سنة استواء و لكن الخلق أكثر من ذلك فيقوم من فضل على الصراط على متن جهنم و هي كإهالة جامدة و هي الأرض التي قال عبد الله إنها أرض من نار يعرق فيها البشر فإذا حوسب عليها أعين الأرض المسماة بالساهرة و جاوزوا الصراط و جعل أهل الجنان من وراء الصراط و أهل النيران في النار و قام الناس على حياض الأنبياء يشربون بدلت الأرض كقرصة النقي فأكلوا من تحت أرجلهم و عند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي قرصا واحدا يأكل منه جميع الخلق ممن دخل الجنة و إدامهم زيادة كبد ثور في الجنة و زيادة كبد النون على ما يأتي

باب منه أمور تكون قبل الساعة
ذكر علي بن معبد [ عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه فقال : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات و الأرض خلق الصور و أعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر فقال أبو هريرة قلت : يا رسول الله و ما الصور ؟ قال : قرن فقلت : و كيف هو ؟ قال : هو عظيم و الذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه لكعرض السماء و الأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع و الثانية : نفخة الصعق و الثالثة : نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماء و الأرض إلا ما شاء الله و يأمره فيمدها و يديمها و يطولها ] يقول الله عز و جل : { و ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } مأخوذة من فواق الحالب و هي المهلة بين الحلبتين و ذلك أن الحالب يحلب الناقة و الشاة ثم يتركها ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم يحلب و منه سمي الفواق فواقا لأنه ريح يتردد في المعدة بين مهليتن أي أن هذه النفخة ممتدة لا تقطيع فيها و يكون ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب ثم تكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا و هي التي يقول الله عز و جل { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها و تذهل المراضع و تضع الحوامل ما في بطونها و تشيب الولدان و تتطاير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة هاربة فتضرب بها وجوهها و يولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضعا و هي التي يقول الله عز و جل { يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم و من يضلل الله فما له من هاد } فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر و رأوا أمرا عظيما لم يروا مثله فيأخذهم من ذلك من الكرب و الهول ما الله به عليم ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت و انخسف شمسها و قمرها و انتثرت نجومها ثم كشطت السماء عنهم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الموتى لا يعلمون شيئا من ذلك قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله عز و جل حين يقول { ففزع من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله } ؟ قال : أولئك هم الشهداء عند ربهم يرزفون إنما يصل الفزع إلى الأحياء يقيهم الله شر ذلك اليوم و يؤمنهم منه و هو عذاب يلقيه الله على شرار خلقه و هو الذي يقول الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } أي شديد فتمكثون في ذلك ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم كأطول يوم ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الصعق ] الحديث بطوله و قد تقدم وسطه و هذا آخره
فصل : هذا الحديث ذكره الطبري و الثعلبي و صححه ابن العربي في سراج المريدين و قال : يوم الزلزلة و هو الاسم الثاني عشر يكون عن النفخة الأولى بهذا اختلافهم الصحيح الواحد المفرد و لما نبأ النبي صلى الله عليه و سلم بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام التي يعظمها قوله [ شيء عظيم ] و من فزعها ما لا تطيق حمله النفوس و هو قوله لآدم : [ ابعث بعث النار ] فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم و لا يقتضي أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأولى التي يشيب فيها الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع و لكن يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله تقديره يقال لآدم ابعث بعث النار أثناء يوم يشيب فيه الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع من أوله
الثاني : أن شيب الوليد و وضع الحوامل و ذهول المراضع يكون في النفخة الأولى حقيقة و في هذا القول الثاني تكون صفته بذلك إخبارا عن شدته و إن لم يوجد غير ذلك الشيء فيه و هذه طريقة العرب في فصاحتها
قلت : ما ذكره ابن العربي من صحة الحديث و كلامه فيه : فيه نظر لما نبينه آنفا و قد قال أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له : ورد في هذا الباب حديث منقطع لا يصح ذكره الطبري [ من حديث أبي هريرة عن النبي قال : ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع ] فذكره قال : و هو عنده في سورة يس
قلت : قد تقدم أن الصحيح في النفخ إنما هو مرتان لا ثلاث و حديث مسلم في قول الله تعالى لآدم [ يا آدم ابعث بعث النار ] إنما هو يعد البعث يوم القيامة و نفخة الفزع هي نفخة الصعق على ما تقدم أو نفخة البعث على ما قيل على ما يأتي و لأنه لو كانت نفخة الفزع غير نفخة الصعق لأقتضى ذلك أن يكون بقاء الناس بعدها أحياء ما شاء و يكون هناك ليل و نهار حتى تأتي نفخة الصعق التي يموت لسماعها جميع الخلق كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و على هذا لا يكون قوله ابعث في أثناء اليوم الذي يكون مبدؤه نفخة الفزع على ما ذكره ابن العربي و الله أعلم
و لا يلزم من زلزال الأرض أن تكون عن نفخة فإنا نشاهد تحرك الأرض و ميدها بمن عليها و ما عليها من جبال و مياه كالسفينة في البحر إذا تلاطمت أمواجه من غير نفخ و إنما تلك الزلزلة من أشراط الساعة و مقدماتها كسائر أشراطها
و قد قال علقمة و الشعبيث : الزلزلة من أشراط الساعة و هي في الدنيا و كذلك قال أنس بن مالك و الحسن البصري و قد ذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره : أن المراد بنفخة الفزع و النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : { من بعثنا من مرقدنا } و يعاينون من الأمر ما يهولهم و يفزعهم و الله أعلم و نحو ذلك ذكره الماوردي و اختاره
و قد قيل : إن هذه الزلزلة تكون قبل الساعة في النصف من شهر رمضان بعدها
طلوع الشمس من مغربها و الله أعلم
و قوله تعالى : { ترونها } الضمير المنصوب في { ترونها } للزلزلة أو القيامة قولان : فعلى الأولى أن ذلك في الدنيا قبل نفخة الصعق لعظم تلك الزلزلة و قوة حركتها بالأرض لأن القيامة لارضاع فيها و لا حمل فترى الناس سكارى يعني من الخوف و على القول الثاني يكون فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مثلا و المعنى أن يكون يوما لا يهم أحدا فيه إلا نفسه و الحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة و يكون الهول عظيما
و الوجه الآخر : أن يكون ذلك حقيقة لا مثلا و يكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع فإنها إذا رأت هول ذلك اليوم ذهلت عن من ولدت و أن الحوامل إذا بعثن أسقطت من فزع يوم القيامة : الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء ثم لا يمتن بالإسقاط لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة و إنما هو يوم الحياة و تضع الحوامل حملها ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه و نفخ فيه الروح و يسويه و يعدله فإن الأم تذهل عنه و لو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه لأنه لا غذاء يومئذ لها و لبن و اليوم يوم الحساب لا يقبل فيه من عذر و لا علة فكيف تخلى و الاشتغال بالولد مع ما عليها من الحساب و هي بصدده من الجزاء و الحمل الذي لم ينفخ فيه قط إذا سقط يكون مع الوحوش ترابا و لم يبتدأ إحياؤه لأن اليوم الآعادة فمن لم يمت في الدنيا لم يحى في الآخرة قاله الحليمي في منهاج الدين
و قال الحسن في قوله تعالى : { و ترى الناس سكارى } أي من العذاب و الخوف { و ما هم بسكارى } من الشراب و مما يبين ما قلناه : أن إبليس قال
: { أنظرني إلى يوم يبعثون } سأل النظرة و الإمهال إلى يوم البعث و الحساب طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد قال تعالى : { إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } قال ابن عباس و السدي و غيرهما : أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم و كان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه
قال المؤلف رحمه الله : و ما وقع في هذا الحديث من انشقاق السماء و تناثر نجومها و طمس شمسها و قمرها فقد ذكر المحاسبي و غيره : أن ذلك يكون بعد جمع الناس في الموقف و روي عن ابن عباس و سيأتي و قاله الحليمي في كتاب منهاج الدين
فصل : فأما التكوين يوم القيامة قبل الحساب فقد قال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { عذاب الله شديد } و قال : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } إلى آخرها
و الذي ثبت بسياق الآيات : أن هذه الزلزلة إنما يكون بعد أحياء الناس و بعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس و التهويل عليهم فينبغي أن يشاهدوها ليفزعوا منها و يهولهم أمرها و لا تمكن المشاهدة منهم و هم أموات و لأنه تعالى قال : { يومئذ تحدث أخبارها } أي تخبر عما عمل عليها من خير و شر { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون و الناس أحياء و اليوم يوم الجزاء و قال تعالى : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } يعني الآخرة { و حملت الأرض و الجبال } إلى قوله { لا تخفى منكم خافية } فدلت هذه السورة على أن اصطدام الأرض و الجبال لا يكون إلا بعد الإحياء فدلت هذه الآية على أن الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية و الله أعلم
و أما قوله فيه يوم التناد فقال الحسن و قتادة ذلك يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا و ينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء يوم تولون مدبرين يعني عن النار أي غير قادرين و غير معجزين فيتفسر مجاهد و قيل : معناه يوم ينادي أهل النار بالويل و الثبور و يولون مدبرين من شدة العذاب و قيل : إن ذلك نداء بعض الناس لبعضهم في المحشر و توليهم مدبرين إذا رأوا عنقا من النار
و قال قتادة : معنى تولون مدبرين منطلقا بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم أي مانع يمنعكم فإن قيل : فقد قال الآلله تعالى : { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } إلى أن قال : { فإنما هي زجرة واحدة } و هذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث له ليس كذلك و إنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال ابن عباس و مجاهد و عطاء و ابن زيد و غيرهم قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فيموت كل شيء بإذن الله و أما الأخرى فيحيا كل شيء بإذن الله
و قال مجاهد أيضا : الرادفة حين تنشق السماء و تحمل الأرض و الجبال فتدك دكة واحدة و قال عطاء : الراجفة القيامة و الرادفة البعث و قال ابن زيد : الراجفة الموت و الرادفة الساعة فهذا يبين لك ما قلناه من أن المراد بالزجرة النفخة الثانية
و اختلفوا في الساهرة اختلافا كثيرا فقال ابن عباس : و أما الساهرة فأرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها طرفة عين خلفها الله يومئذ و هو قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض }
و قال بعضهم : الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي الله بها فيحاسب عليها الخلائق و ذلك حين تبدل الأرض غير الأرض و قال قتادة : هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم و قيل صحراء قريب من شفير جهنم
و قال الثوري : الساهرة أرض الشام و قيل غير هذا و إنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ و معنى { فإذا هم بالساهرة } أي على الأرض بعدما كانوا في بطنها و العرب تسمي الفلاة و وجه الأرض ساهرة قال أمية بن أبي الصلت :
( و فيها لحم ساهرة و بحر ... و ما فاهوا به لهم مقيم )
باب الحشر و معناه الجمع
و هو على أربعة أوجه : حشران في الدنيا و حشران في الآخرة
أما الذي في الدنيا فقوله تعالى { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصيبهم جلاء و كان الله عز و جل قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا و كان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام [ قال ابن عباس : من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : أخرجوا قالوا أي أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ] قال قتادة : هذا أول الحشر
الثاني : ما رواه مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين و راهبين و اثنان على بعير و ثلاثة على بعير و تحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث يأتوا و تقيل معهم حيث قالوا و تصبح معهم حيث أصبحوا و تمسي معهم حيث أمسوا ] أخرجه البخاري أيضا
و قال قتادة : الحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا و تقيل معهم حيث قالوا و تأكل منهم من تخلف قال القاضي عياض : هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة و هو آخر أشراطهما كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة قال فيه : و آخر ذلك في نار تخرج من قعر عدن تزجر الناس و في رواية تطرد الناس إلى محشرهم و في حديث آخر : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار و يدل على أنها قبل يوم القيامة قوله : فتقيل معهم حيث قالوا و تمسي معهم حيث أمسوا و تصبح معهم حيث أصبحوا و قال و في بعض الروايات في غير مسلم فإذا سمعتم به فاخرجوا إلى الشام كأنه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم
قال المؤلف رحمه الله : و ذكر الحليمي في منهاج الدين له من حديث ابن عباس و ذكر أن ذلك في الآخرة فقال : يحمتل قوله عليه السلام : [ تحشر الناس على ثلاث طرائق ] إشارة إلى الأبرار و المخلطين و الكفار فالأبرار هم الراغبون إلى الله تعالى فيما أعد لهم من ثوابه و الراهبون هم الذين بين الخوف و الرجاء فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما في الحديث على ما يأتي في هذا الباب و أما المخلطون فهم الذين أرادوا في هذا الحديث و قيل : إنهم يحملون على الأبعرة و أما الفجار الذين تحشرهم النار فإن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة فتقيض لهم نارا تسوقهم و لم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تحيا و تحشر يوم القيامة فهذا لم يأت بيانه و الأشبه ألا يكون من نجائب الجنة لأن من خرج من جملة الأبرار فكان مع ذلك من جملة المؤمنين فإنهم بين الخوف و الرجاء أن من هؤلاء من يغفر الله تعالى ذنوبه فيدخل الجنة و منهم من يعاقبه بالنار ثم يخرجه منها و يدخله الجنة و إذا كانوا كذلك لم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة ثم ينزل الله بعضهم إلى النار لأن من أكرمه الله بالجنة لم يهنه بعد ذلك بالنار قال : و في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ يحشر الناس ] الحديث و في آخره أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك فهذا إن ثبت مرفوعا فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب و لا يعذبهم إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة و الآخرون على دواب سوى دواب الجنة و الصنف الثاني الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة و هؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم و قد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتا ثم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان و الصنف الثالث المشاة على وجوههم هم الكفار و قد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف : صنف مسلمون و هم ركبان و صنفان من الكفار أحدهما العتاة و أعلام الكفر فهؤلاء يحشرون على وجوههم و الآخرون الأتباع فهم يمشون على أقدامهم
قال المؤلف رحمه الله : و إلى هذا القول ذهب أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة في قوله عليه السلام كيف تحشر الناس يا رسول الله ؟ قال : [ اثنان على بعير و خمسة على بعير و عشرة على بعير ] و معنى هذا الحديث و الله أعلم أن قوما يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق الله لهم من أعمالهم بعيرا يركبون عليه و هذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا في سفر بعيد و ليس مع واحد منهم ما يشترى به مطية توصله فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة فابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق و يبلغ بعير مع عشرة فاعمل هداك الله عملا يكون لك به بعير خالص من الشركة و اعلم أن ذلك هو المتجر الرابح فالمتقون وافدون كما قال الجليل : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }
و في غريب الرواية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوما لأصحابه : [ كان رجل من بني إسرائيل كثيرا ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم قالوا له : و ما كان يصنع قال : ورث من أبيه مالا كثيرا فاشترى بستانا فحبسه للمساكين و قال هذا بستاني عند الله تعالى و فرق دانانير عديدة في الضعفاء و قال بهذا أشترى جارية من الله تعالى و عبيدا و أعتق رقابا كثيرة و قال هؤلاء خدمي عند الله تعالى و التفت ذات يوم لرجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي و تارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها و قال هذه مطيتي عند الله تعالى أركبها و الذي نفس محمد بيده لكأني أنظر إليه و قد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها تسير به إلى الموقف ]
قال المؤلف رحمه الله : ما ذكره القاضي عياض من أن ذلك في الدنيا أظهر و الله أعلم لما في الحديث نفسه من ذكر السماء و المبيت والصباح و القائلة و ذلك ليس في الآخرة و قد احتج الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة و صنفا ركبانا و صنفا على وجوههم قيل يا رسول الله : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك قال : هذا حديث حسن فقوله يتقون بوجوههم كل حدب و شوك يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة ذلك على ما يأتي من صفة أرض المحشر و الله أعلم
و خرج النسائي عن أبي ذر قال : إن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج فوجا راكبين طاعمين كاسين و فوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم و يحشر الناس فوجا يمشون و يسعون يلقى الله ألافه على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها
و ذكر عمر بن شيبة في كتاب المدينة على ساكنها السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس و هذا كله مما يدل على أن ذلك في الدنيا كما قال القاضي عياض و أما الآخرة فالناس أيضا مختلفو الحال على ما ذكروه و سنذكر من ذلك ما فيه كفاية في الباب بعد هذا
و الحشر الثالث : حشرهم إلى الموقف على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله قال الله تعالى { و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا }
و الرابع : حشرهم إلى الجنة و النار قال الله تعالى : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } أي ركبانا على النجب و قيل : على الأعمال كما تقدم و قد وردت أخبار منها ما رواه النعمان سعد ] عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : أما إنهم ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة و سمي المتقون وفدا لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه فهم لا يتباطئون لكنهم يجدون و يسرعون و الملائكة تتلقاهم بالبشارات قال الله تعالى { و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } فيزيدهم ذلك إسراعا و حق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا بالطاعات { و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا } أي عطاشا و قال { و نحشر المجرمين يومئذ زرقا } و قال : { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما } و قال : { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا }
مسلم [ عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله : الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ] قال قتادة حين بلغه : بلى و عزة ربنا أخرجه البخاري أيضا :
فصل : قال أبو حامد : و ذكر هذا الفصل و في طبع الآدمي إنكار ما لم يأنس و به و لم يشاهده و لو لم يشاهد الإنسان الحية و هي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل و المشي بالرجل أيضا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك فإياك أن تنكر شيئا من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تشاهد عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارا لها فاحضر رحمك الله في قلبك صورتك و أنت قد وقفت عاريا ذليلا مدحورا متحيرا مبهوتا منتظرا لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء
باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو و في أرض المحشر
و ذكر الصخرة و قوله تعالى { و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب } الآية
أبو نعيم قال حدثنا أبي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا محمد قال قال حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول : قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس : لأضعن عليك عرشي و لأحشرن عليك خلقي و ليأتينك يومئذ داود راكبا و قال بعض العلماء في قوله تعالى : { و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب } قال : إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي : أيتها العظام البالية و الأوصال المتقطعة و يا عظاما نخرة و يا أكفانا فانية و يا قلوبا خلوية ويا أبدانا فاسدة و يا عيونا سائلة قوموا لعرض رب العالمين قال قتادة : المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس قال كعب : و هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا و قيل : باثني عشر ميلا ذكره القشيري و الأول ذكره المارودي و قيل : إن المنادي جبريل و الله أعلم قال عكرمة : ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم يوم يسمعون الصحية بالحق يريد النفخ في الصور { ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا } إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر { ذلك حشر علينا يسير } أي هين سهل
فإن قيل : فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها و هم أموات ؟
قيل له : إن نفخة الإحياء تمتد و تطول فتكون أوائلها للإحياء و ما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء و يسمعون ما يكون للإزعاج و يحتمل أن تتطاول تلك النفخة و الناس يحيون منها أولا فأولا و كلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج و قد تقدم أن الأرواح في الصور فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده { فإذا هم من الأجداث } أي القبور { إلى ربهم ينسلون } و هذا يبين لك ما ذكرنا و بالله توفيقنا
و قال محمد بن كعب القرظي : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة و تطوي السماء و تتناثر النجوم و تذهب الشمس و القمر و ينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ فذلك قول الله عز و جل { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } الآية و قال الله عز و جل { إذا السماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا البحار فجرت } فجر عذبها في ملحها و ملحها في عذبها في تفسير قتادة { و إذا القبور بعثرت } أي أخرج ما فيها من الأموات و قال تعالى { إذا السماء انشقت * و أذنت لربها } أي سمعت و أطاعت { و حقت } أي و حق لها أن تفعل { و إذا الأرض مدت } تمد مد الأديم و هذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط و ألقت ما فيها من الأموات فصاروا على ظهرها
مسلم [ عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد ]
و خرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب عن عبد الله بن مسعود : [ يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط و أظمأ ما كانوا قط و أعرى ما كانوا قط و أنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه و من سقا لله سقاه و من كسا لله كساه و من عمل لله كفاه و من نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم
[ و روي من حديث معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع ثم قال : تحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين و بدل صورهم فمنهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير و بعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم و وجوههم يسحبون عليها و بعضهم عمي يترددون و بعضهم صم بكم لا يعلقون و بعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا تقدرهم أهل الجمع و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلبون على جذوع النار و بعضهم أشد نتنا من الجيف و بعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت و الحرام و المكس و أما المنكسون رؤوسهم و وجوههم فأكلة الربا و العمي من يجوز في الحكم و الصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم و الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصاص الذين يخالف قولهم فعلهم و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران و المصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان و الذين هم أشد نتنا من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله تعالى من أموالهم و الذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء ]
و قال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و من الناس من يحشر بفتنته الدنيوية فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده و يقول سحقا لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه يقول : أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين و كذلك يبعث السكران سكران و الزامر زامرا و كل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله قال : و مثل الحديث الذي روي في الصحيح أن شارب الخمر يحشر و الكوز معلق في عنقه و القدح بيده و هو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق و قال أيضا في الكتاب : فإذا استوى كل أحد قاعدا على قبره فمنهم العريان و منهم المكسو و الأسود و الأبيض و منهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف و منهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقا برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنسا و جنا و طيرا و وحشا فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله و يقول له : قم فانهض إلى المحشر فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلا و منهم من يشخص عمله حمارا و منهم من يشخص له كبشا تارة يحمله و تارة يلقيه و يجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه و عن يمينه و مثله يسرس بين يديه في الظلمات و هو قوله تعالى { يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم } و ليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار و يتردد المرتابون و المؤمن ينظر إلى قوة حلكتها و شدة حندسها و يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم و بأيمانهم لأن الله تعالى يكشف للعبد المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة كما فعل بأهل الجنة و أهل النار حيث يقول فاطلع فرآه في سواء الجحيم و كما قال سبحانه { و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } لأن أربعا لا يعرف قدرها إلا أربع : لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى و لا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء و لا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء و السقم و لا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ و في نسخة : و لا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم و من الناس من يبقى على قدميه و على طرف بنانه و نوره يطفأ تارة و يشتعل أخرى و إنما هم عند البعث على قدر إيمانهم و أعمالهم و قد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية و الحمد لله
باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض
منها قوله تعالى { و يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم } و قال تعالى { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما } و في آية ثالثة إنهم يقولون { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } و هذا كلام و هو مضاد للبكم و التعارف تخاطب و هو مضاد للصم و البكم معا و قال الله تعالى { فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين } و السؤال لا يكون إلا بالاسماع و إلا لناطق يتسع للجواب و قال { نحشر المجرمين يومئذ زرقا } و قال { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } و قال { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون } و النسلان و الاسراع مخالفان للحشر على الوجوه
و الجواب : لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا و بعثوا من قبورهم فليست حالهم حالة واحدة و لا موقفهم و لا مقامهم واحدا و لكن لهم مواقف و أحوال و اختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم و أحوالهم و جملة ذلك أنها خمسة أحوال : حال البعث من القبور و الثانية حال السوق إلى مواضع الحساب و الثالثة حال المحاسبة و الرابعة حال السوق إذا دار الجزاء و الخامسة حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها
فأما حال البعث من القبور : فإن الكفار يكونون كاملي الحواس و الجوارح لقول الله تعالى { يتعارفون بينهم } و قوله { يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } و قوله { فإذا هم قيام ينظرون } و قوله : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } إلى قوله { ترجعون }
و الحالة الثانية : حال السوق إلى موضع الحساب و هم أيضا في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز و جل { احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون } { من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } { وقفوهم إنهم مسؤولون } و معنى فاهدوهم أي دلوهم و لا دلالة لأعمى أصم و لا سؤال لأبكم فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار و أسماع و ألسنة ناطقة
و الحالة الثالثة : و هي حالة المحاسبة و هم يكونون فيها أيضا كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم و يقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم و تشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم فيسمعونها و قد أخبر الله تعالى أنهم يقولون { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } و أنهم يقولون لجلودهم { لم شهدتم علينا } و ليشاهدوا أحوال القيامة و ما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها و تصرف الأحوال بالناس فيها
و أما الحالة الرابعة : و هي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم و أبصارهم و ألسنتهم لقوله تعالى { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم } و يحتمل أن يكون قوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار و الأسماع و المنطق
و الحالة الخامسة حال الإقامة في النار و هذه الحالة تنقسم إلى بدو و مآل فبدوها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب و شفير جهنم عميا و بكما و صما إذلالا لهم تمييزا عن غيرهم ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار و ما أعد الله لهم فيها من العذاب و يعاينوا ملائكة العذاب و كل ما كانوا به مكذبين فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين و لهذا قال الله تعالى { و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } و قال { لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين } و قال { كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم } إلى قوله { و قالت أولاهم لأخراهم } و قال { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء } و أخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } و أن أهل الجنة ينادونهم { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } و أنهم يقولون { يا مالك ليقض علينا ربك } فيقول لهم { إنكم ماكثون } و أنهم يقولون لخزنة جهنم { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } فيقولون لهم { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } و أما العقبى و المال فإنهم إذا قالوا : { أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فقال الله تعالى { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و كتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم و هو أن يؤتى بكبش أملح و يسمى المكوت ثم يذبح على الصراط بين الجنة و النار و ينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم و قد يجوز أن يسلبوا الأبصار و الكلام لكن سلب السمع يقين لأن الله تعالى يقول : { لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون } فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير و الشهيق و يحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه و كذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم : و في آذاننا وقر و من بيننا و بنيك حجاب و قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه و إن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترا منه لئلا يروه و لا يسمعوا كلامه و قد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه و سلم مثله فقال : ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم و إن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا و النطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا و الله أعلم
باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلا و في أول من
يكسى منهم و في أول ما يتكلم من الإنسان
مسلم [ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال : أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده و عدا علينا إنا كنا فاعلين ألا و إن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا و إنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح { و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } إلى قوله { العزيز الحكيم } قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
أخرجه البخاري و الترمذي [ عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ذكره قال : و أشار بيده إلى الشام فقال : ههنا إلى ههنا تحشرون ركبانا و مشاة و تجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سيعين أمة أنتم خيرها على الله و أكرمهم على الله و إن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ] و في رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة [ و إن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه ]
فصل : قوله [ غرلا ] أي غير مخنوتين النقي الحواري و هو الدرمك من الدقيق و العفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلا و الفدام مصفاة الكوز و الابريق قاله الليث قال أبو عبيدة : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق و قوله [ أول من يكسى إبراهيم ] فضيلة عظيمة لإبراهيم و خصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه و سلم يجده معلقا بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من تنشق عنه الأرض و لا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقا بل هو أفضل من وافى القيامة على ما يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة و المقام المحمود إن شاء الله تعالى
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له : و يجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه و الله أعلم
قلت : هذا حسن لو لا ما جاء منصوصا خلافه فقد روى ابن المبارك في رقائقه : أخبرنا سفيان عن عمر بن قيس عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين ثم يكسى محمد صلى الله عليه و سلم حلة حبرة عن يمين العرش ذكره البيهقي أيضا
و روى عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي و أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليه و سلم ثم النبيون و الرسل عليهم السلام ثم يكسى المؤذنون و تتلاقهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب و يشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له
و ذكر أبو نعيم الحافظ من [ حديث الأسود و علقمة و أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم الحديث و فيه : فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قياما لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون و الآخرون ] و ذكر الحديث
و خرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء و الصفات [ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم تحشرون حفاة عراة و أول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة و يؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش و يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش ] و هذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه و سلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر و عرقه و حر الشمس و غير ذلك من أهواله
فصل : و تكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين و الآخرين لله عز و جل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام فتعجل له كسوته أمانا له ليطمئن قلبه و يحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر و حفظا لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة و يحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه و نزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله و كان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز و جل فلما صبر و احتسب و توكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا و الآخرة و جزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و هذا أحسنها و الله أعلم
و إذا بدئ في الكسوة بإبراهيم و ثنى بمحمد صلى الله عليه و سلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام
قاله الحليمي و قوله [ تجدون على أفواهكم الفدام ] الفدام : مصفاة الكوز و الإبريق قاله الليث قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق قال سفيان : و فدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم و هذا مثل

باب منه و بيان قوله تعالى : لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
مسلم عن [ عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت يا رسول الله : الرجال و النساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ]
الترمذي [ عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحشرون حفاة عراة غرلا فقالت امرأة : أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ] قال حديث حسن صحيح
فصل : قلت : هذا الباب و الذي قبله يدل على أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلا أي غير مخنوتين كما بدأنا أول خلق نعيده قال العلماء : يحشر العبد غدا و له من الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع منه عشو يرد في القيامة عليه حتى الختان
و قد عارض هذا الباب ما روى أبو داود في سننه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها و قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي دفن فيها ] قال ابو عمر بن عبد البر : و قد احتج بهذا الحديث من قال : إن الموتى يبعثون جملة على هيئاتهم و حمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أمر أن يزمل في ثيابه و يدفن فيها و لا يغسل عنه دمه و لا يغير عليه شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس و عائشة رضي الله عنهما قالوا : و يحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم و الله أعلم
قلت : و مما يدل على قول الجماعة مما يواقف حديث عائشة و ابن عباس قوله الحق : { و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } و قوله : { كما بدأكم تعودون } و لأن الملابس في الدنيا أموال و لا مال في الآخرة زالت الأملاك بالموت و بقيت الأموال في الدنيا و كل نفس يومئذ فإنما يقيها المكاره ما وجب لها بحسن عملها أو رحمة ميتدأة من الله عليها فأما الملابس فلا غنى فيها يومئذ إلا ما كان من لباس الجنة على ما تقدم في الباب قبل
و ذهب أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إلى [ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها و سائر الأمم عراة ] و رواه أبو سفيان مسندا
قال المؤلف رحمه الله : و هذا الحديث لم أقف عليه و الله أعلم بصحته و إن صح فيكون معناه فإن أمتي الشهداء تحشر بأكفانها حتى لا تتناقض الأخبار و الله أعلم و لا يعارض هذا الباب ما تقدم أول الكتاب من أن الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم فإن ذلك يكون في البرزخ فإذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة ما عدا الشهداء و الله أعلم
باب
ذكر أبو بكر أحمد بن علي حديث ثابت [ عن عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أحشر يوم القيامة بين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل المدينة و مكة ] غريب من حديث مالك تفرد به عبد الله بن إبراهيم عنه و يقال لم يروه غير عبد العزيز بن عبد الله الهاشمي البغدادي عن الغفاري

الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى
يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة
الترمذي [ عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينظر غلى يوم القيامة فليقرأ { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت } ] قال : هذا حديث حسن
فصل : قلت : و إنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء و انفطارها و تكور شمسها و انكدار نجومها و تناثر كواكبها إلى غير ذلك من أفزاعها و أهوالها و خروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم بعد نشر صحفهم و قراء كتبهم و أخذها بأيمانهم و شمائلهم أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه قال الله تعالى { إذا السماء انشقت } و قال { إذا السماء انفطرت } و قال : { و يوم تشقق السماء بالغمام } فتراها واهية منفطرة متشققة كقوله تعالى : { و فتحت السماء فكانت أبوابا } و يكون الغمام سترة بين السماء و الأرض و قيل : إن [ الباء ] بمعنى [ عن ] أي تشقق عن سحاب أبيض و يقال : انشقاقها لما يخلص غليه من حر جهنم و ذلك إذا بطلت المياه و برزت النيران فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن و تتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم و رفعه و قد قيل : إن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر أو تحمر ثم تصفر كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة ثم إلى الغبرة قاله الحليمي
و قوله تعالى : { إذا الشمس كورت } قال ابن عباس رضي الله عنه تكويرها إدخالها في العرش و قال : ذهاب ضوئها قاله الحسن و قتادة و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى و قال الربيع بن خيثم كورت رمى بها و منه كورته فتكور أي سقط
قلت : و أوصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لا تها و جمهعا فهي تكور ثم يمحى ضوءها ثم يرمى بها و الله أعلم
و قوله تعالى : { و إذا النجوم انكدرت } أي انتثرت قيل تتناثر من أيدي الملائكة لأنهم يموتون و في الخبر أنها معلقة بين السماء و الأرض بسلاسل بأيدي الملائكة و قال ابن عباس رضي الله عنه : انكدرت تغيرت و أصل الانكدار الانصباب فتسقط في البحار فتصير معها نيرانا إذا ذهبت المياه
و قوله { و إذا الجبال سيرت } هو مثل قوله { و تسير الجبال } أي تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا و تكون كالعهن و تكون هباء منبثا و تكون سرابا مثل السراب الذي ليس بشيء و قيل : إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم كما تصير السماء من حرها كالمهل قال الحليمي : و هذا و الله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء و الأرض فإذا ارتفعت و زيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء و الأرض ما ذكر
قوله { و إذا العشار عطلت } أي عطلها أهلها فلم تحلب من الشغل بأنفسهم و العشار : الإبل الحوامل واحدها عشراء و هي التي أتي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع و بعد ما تضع و إنما خص العشار بالذكر لأنها أعز ما يكون على العرب فأخبر أنه تعطل يوم القيامة و معناه : أنهم إذا قاموا من قبورهم و شاهد بعضهم بعضا و رأوا الوحوش و الدواب محشورة و فيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها و لم يهمهم أمرها و يحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا و أهل العشار يرونها فلا يجدون إليها سبيلا و قيل : العشار السحار يعطل مما يكون فيه و هو الماء فلا يمطر و قيل : العشار الديار تعطل فلا تسكن و قيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع و القول الأول أشهر و عليه من الناس الأكثر
و قوله : { و إذا الوحوش حشرت } أي جمعت و الحشر الجمع و قد تقدم
و قوله : { و إذا البحار سجرت } أي أوقدت و صارت نارا رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه و قال قتادة : غار ماؤها فذهب و قال الحسن و الضحاك : فاضت قال ابن أبي زمنين { سجرت } حقيقته ملئت فيقضي بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا و هو معنى قول الحسن و يقال : إن الشمس تلف ثم تلقى في البحار فمنها تحمى و تنقلب نارا قال الحليمي : و يحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة فإذا كورت و ألقيت في البحر فصارت نارا ازدادت امتلاء
و قوله : { و إذا النفوس زوجت } تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها اليهود باليهود و النصارى بالنصارى و المجوس بالمجوس و كل من كان يعبد من دون الله شيئا يلحق بعضهم ببعض و المنافقون بالمنافقين و المؤمنون بالمؤمنين و قال عكرمة : المعنى تقرن بأجسادها أي ترد إليها و قيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان و قيل : يقرن المؤمنون بالحور العين و الكافرون بالشياطين
و قوله : { و إذا الموؤدة سئلت } يعني بنات الجاهلية كانوا يدفنونهن أحياء لخصلتين
إحدهما : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به
الثانية : مخافة الحاجة و الإملاق و سؤال الموؤدة على وجه التوبيخ لقاتلها كما يقال للطفل إذا ضرب لم ضربت و ما ذنبك ؟ و قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها لانها قتلت بغير ذنب و بعضهم يقرأ { و إذا الموؤدة سئلت } تعلق الجارية بأبيها فتقول بأي ذنب قتلتني ؟ و قيل : معنى سئلت يسأل عنها كما قال { إن العهد كان مسؤولا }
و قوله : { و إذا الصحف نشرت } أي للحساب و سيأتي
و قوله : { و إذا السماء كشطت } قيل معناه طويت كما قال الله تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } أي كطي الصحيفة على ما فيها فاللام بمعنى [ على ] يقال : كشطت السقف أي قلعته فكان المعنى قلعت فطويت و الله أعلم و الكشط و القشط سواء و هو القلع و قيل : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم و لا يعرف في الصحابة من اسمه سجل
و قوله : { و إذا الجحيم سعرت } أي أوقدت
و قوله : { و إذا الجنة أزلفت } أي قربت لأهلها و أدنيت { علمت نفس ما أحضرت } أي من عملها و هو مثل قوله : { علمت نفس ما قدمت و أخرت } و مثل قوله : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم و أخر } فهو يوم الانشقاق و يوم الانفطار و يوم التكوير و يوم الانكدار و يوم الانتثار و يوم التسيير قال الله تعالى : { و تسير الجبال سيرا } { و إذا الجبال سيرت } و يوم التعطيل و يوم التسجير و يوم التفجير و يوم الكشط و الطي و يوم المد لقوله تعالى : { و إذا الأرض مدت } إلى غير ذلك من أسماء القيامة و هي الساعة الموعود أمرها و لعظمها أكثر الناس السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنزل الله عز و جل على رسوله { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة } و كل ما عظم شأنه تعددت صفاته و كثرت أسماؤه و هذا جميع كلام العرب ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه و تأكد نفعه لديهم و موقعه جمهوا له خمسمائة اسم و له نظائر فالقيامة لما عظم أمرها و كثرت أهوالها سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة و وصفها بأوصاف كثيرة منها ما ذكرناه مما وقع في هذه السور الثلاث
و قيل : إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها فتوقف بين يدي الله تعالى و يوم الجمعة فيها زاهراء مضيئة يعرفها الخلائق فيوم القيامة يوم يتضمن الأيام كلها فسمى بكل حال يوما فقيل : { يوم ينفخ في الصور } ثم قيل : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } ثم قيل : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } فهذه حالة أخرى ثم قيل : يوم تعرضون ثم قيل : { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } قهذه أحوال فقد يجري يوم القيامة بطوله على هذه الأحوال كل حال منها كاليوم المتجدد و لذلك كررت في قوله تعالى : { و ما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين } لآن ذلك اليوم و مابعده يوم و اليوم العظيم متضمن لهذه الأيام فهو لله يوم و للخلائق أيام فقد عرفت أيامهم في يومه و قد بطل الليل و النهار قاله الترمذي الحكيم و مما قيل في معنى ما ذكرنا من النظم قول بعضهم :
( مثل لنفسك أيها المغرور ... يوم القامة و السماء تمور )
( إذ كورت شمس النهار و أدنيت ... حتى على رأس العباد تسير )
( و إذا النجوم تساقطت و تناثرت ... و تبدلت بعد الضياء كدور )
( و إذا البحار تفجرت من خوفها ... و رأيتها مثل الجحيم تفور )
( و إذا الجبال تقلعت بأصولها ... فرأيتها مثل السحاب تسير )
( و إذا العشار تعطلت و تخربت ... خلت الديار فما بها معمور )
( و إذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ... و تقول للأملاك أين نسير )
( و إذا تقاة المسلمين تزوجت ... من حور عين زانهن شعور )
( و إذا الموؤدة سئلت عن شأنها ... و بأي ذنب قتلها ميسور )
( و إذا الجليل طوى السما بيمينه ... طي السجل كتابه المنشور )
( و إذا الصحائف عند ذاك تساقطت ... تبدى لنا يوم القصاص أمور )
( و إذا الصحائف نشرت فتطايرت ... و تهتكت للمؤمنين ستور )
( و إذا السماء تكشطت عن أهلها ... و رأيت أفلاك السماء تدور )
( و إذا الجحيم تسعرت نيرانها ... فلها على أهل الذنوب زفير ) ( و إذا لجنان تزخرفت و تطيبت ... لفتى على طول البلاء صبور ) ( و إذا الجنين بأمه متعلق ... يخشى القصاص و قلبه مذعور )
( هذا بلا ذنب يخاف جناية ... كيف المصر على الذنوب دهور )
و منها الساعة قال الله تعالى { و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } و قال { و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } { و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } و قال { و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } و هو في القرآن كثير و الساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء الزمان غير محدود و في العرف على جزء من أربعة و عشرين جزءا من يوم و ليلة و الذين هما أصل الأزمنة و تقول العرب أفعل كذا الساعة و أنا الساعة في أمر كذا تريد الوقت الذي أنت فيه و الذي يليه تقريبا له و حقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف و اللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه و هو المسمى بالآن و سميت به القيامة إما لقربها فإن كل آت قريب و إما أن تكون سميت بها تنبيها على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود و تكسر العظام و قيل : إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة و قيل : إنما سميت بالساعة لأن الله تعالى يأمر السماء أن تمطر بماء الحيوان حتى تنبت الأجساد في مدافنها و مواضعها حيث كانت من بحر أو بر و تستقل و تتحرك بحياتها بماء الحيوان و ليست فيها أرواح ثم تدعى الأرواح فأرواح المؤمنين تتوقد نورا و أرواح الكافرين تتوهج ظلمة فإذا دعا الأرواح ألقاها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه خرجت من الصور ثم أمرت أن تلحق الأجساد فتبعث إلى الأجساد في أسرع من اللمحة و أنما سميت الساعة لسعي الأرواح إلى الأجساد في تلك السرعة فهي سائغ و جمعها ساعة كقولك بائع و باعة و ضائع و ضاعة و كائل و كالة فوصف أن سائر أموره في السرعة كلمح البصر و أمر السائق أقرب من لمح البصر قاله الترمذي الحكيم
و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن و هب بن منبه قال : إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء و قطرت العظاة دما و منها القيامة قال الله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } و هي في العربية مصدر قام يقوم و دخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب و اختلف في تسميتها بذلك على أربعة أقوال
الأول : لوجود هذه الأمور فيها
الثاني : لقيام الخلق من قبورهم إليها قال الله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا }
الثالث : لقيام الناس لرب العالمين كما روى مسلم [ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يوم يقوم أحدكم في رشحه إلى نصف أذنيه ] قال ابن عمر رضي الله عنهما [ يقومون مائة سنة ] و يروى عن كعب [ يقومون ثلاثمائة سنة ]
الرابع : لقيام الروح و الملائكة صفا قال الله تعالى { يوم يقوم الروح و الملائكة صفا }
قال علماؤنا : و اعلم أن كل ميت مات فقد قيامته و لكنها قيامة صغرى و كبرى فالصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه و فراق أهله و انقطاع سعيه و حصوله على عمله إن كان خيرا فخير و إن كان شرا فشر و القيامة الكبرى هي التي تعم الناس و تأخذهم أخذة واحدة و الدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه و سلم لقوم من الأعراب و قد سألوه متى القيامة ؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال : [ إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم ] أخرجه مسلم و غيره و قال الشاعر :
( خرجت من الدنيا و قامت قيامتي ... غداة أقيل الحاملون جنازتي )
( و عجل أهلي حفر قبري و صبروا ... خروجي و تعجيلي إليه كرامتي )
( كأنهم لم يعرفوا قط سيرتي ... غداة أتى يومي علي و ساعتي )
و منها : يوم النفخة قال الله تعالى { يوم ينفخ في الصور } و قد مضى القول فيه
و منها : يوم الزلزلة و يوم الرجفة قال الله تعالى { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } و قد تقدم
و منها : يوم الناقور كقوله تعالى { فإذا نقر في الناقور } و قد تقدم القول فيه و الحمد لله
و منها : القارعة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها يقال : قد أصابتهم قوارع الدهر أي أهواله و شدائده قالت الخنساء :
( تعرفني الدهر نهشا و حزا ... و أوجعني الدهر قرعا و غمزا )
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه و صغرياتها
و منها : يوم البعث و حقيقته إثارة الشيء عن خفاء و تحريكة عن سكون قال عنترة :
( و عصابة شم الأنوف بعثهم ... ليلا و قد مال الكرا بطلاها )
و قال امرؤ القيس :
( و فتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين غات و نسوان )
و قد تقدم القول فيه و في صفته و الحمد لله و منها : يوم النشور و هو عبارة عن الإحياء يقال : قد أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم الله فحييوا و منه قوله تعالى { و انظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نحييها و قد يكون معناه التفريق من ذلك قولك أمرهم نشر
و منها : يوم الخروج قال الله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } فأوله الخروج من القبور و آخره خروج المؤمنين من النار ثم لا خروج و لا دخول على ما يأتي
و منها : يوم الحشر و هو عبارة عن الجمع و قد يكون مع الفعل إكراه قال الله تعالى : { و أرسل في المدائن حاشرين } أي من يسوق السحرة كرها و قد مضى القول في الحشر مستوفي و الحمد لله
و منها : يوم العرض قال الله تعالى : { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } و قال : { و عرضوا على ربك صفا } و حقيقتة إدراك الشيء بإحدى الحواس ليعلم حاله و غايته السمع و البصر فلا يزال الخلق قياما في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما شاء الله أن يقوموا حتى يلهموا أو يهتموا فيقولون : قد كنا نستشفع في الدنيا فهلم فلنسال الشفاعة إلى ربنا فيقولون : أئتوا آدم الحديث و سيأتي
قال ابن العربي : و في كيفية العرض أحاديث كثيرة المعول منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقات :
الأول : الحديث المشهور الصحيح رواه [ أبي هريرة و أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما و اللفظ له قال : إن ناسا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب و هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فها سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام و النصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر و غير أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيز بن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة و لا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا قيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما تخذ الله من صاحبة و لا ولد فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال : فماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم و لم نصاحبهم فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفونه بها فيقولون : نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون اللهم سلم سلم ] و ذكر الحديث و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى
الثاني : صح حديث [ عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من نوقش الحساب عذب قلت يا رسول الله أليس الله يقول { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } قال : ليس ذلك الحساب ذلك العرض ] و سيأتي
الثالث : روى الحسن [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ] وسيأتي
الرابع : روي عن [ أنس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج ] الحديث و سيأتي
الخامس : ثبت عن [ أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري و اللفظ له يؤتى بعبد يوم القيامة فيقال له ألم أجعل لك سمعا و بصرا و مالا و ولدا و تركتك ترأس و ترتع فكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا فيقول : لا فيقال له : اليوم أنساك كما نسيتني ] و هذا حديث صحيح قلت : خرجه مسلم و الترمذي مطولا
السادس : ثبت من طرق صحاح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيضع عليه كفنه فيقول له عبدي تذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا فلا يزال يقرره حتى يرى أنه هلك ثم يقول له : عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ]
السابع : و في الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا و آخر أهل النار خروجا من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه و ارفعوا عنه كبارها ] و ذكر الحديث
الثامن : و في الصحيح [ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول : أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها ]
و روى مسلم [ يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول لهم : و هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك ] و ذكر حديث الشفاعة قال الله تعالى { و يوم يعرض الذين كفروا على النار } و ذلك قوله في الحديث المتقدم [ ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ] قال القاضي أبو بكر بن العربي : و هذا مما أغفله الأئمة في التفسير
التاسع : العرض على الله و لا أعلمه في الحديث إلا قوله في النص المتقدم حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر و فاجر أتاهم رب العالمين و ذكر الحديث
قلت : إذا تتبعت الأحاديث في هذا الباب على هذا السياق كان الحسن و الصحيح منها أكثر من تسعة
و قد خرج عن [ أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ] الحديث و سيأتي
و قوله في الحديث الآخر [ إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله ]
و خرج مسلم عن [ عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان ] الحديث و سيأتي
و خرج البخاري عن [ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب ] الحديث وسيأتي
و يتضمن من غير رواية البخاري عرض اللوح المحفوظ ثم إسرافيل ثم جبرائيل ثم الأنبياء نبيا نبيا صلوات الله عليهم أجمعين و سيأتي
و خرج الترمذي و ابن ماجه حديث الرجل الذي ينشر عليه تسعة و تسعون سجلا و سيأتي
و هذا كله من باب العرض على الله و إذا تتبعت الأحاديث كانت أكثر من هذا في مواطن مختلفة و أشخاص متباينة و الله أعلم و في بعض الخبر أنه يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار و لا تعرض قبائحهم على الله تعالى و لا يكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق
قلت : و أما ما وقع ذكره في الحديث من كشف الساق و ذكر الصورة فيأتي إيضاحه ذلك و كشفه إن شاء الله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
و أما ما جاء من طول هذا اليوم و وقوف الخلائق فيه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقد جاء من حديث [ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقلت : ما أطول هذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ] ذكره قاسم بن أصبغ و قيل : غير هذا و سيأتي
و منها : يوم الجمع و حقيقته في العربية ضم واحد إلى واحد فيكون شفعا أو زوجا إلى زوج فيكون جمعا قال الله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } و قال { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } و هو في القرآن كثير
و منها : يوم التفرق قال الله تعالى { و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * و أما الذين كفروا و كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } و هو معنى قوله تعالى { فريق في الجنة و فريق في السعير }
و منها : يوم الصدع و الصدر أيضا قال الله تعالى { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } و قال يومئذ يصدعون و معناهما معنى الإسم الذي قبله
و منها : يوم البعثرة و معناه تتبع الشيء المختلط مع غيره حتى يخلص منه فيخلص الله تعالى الأجسام من التراب و الكافرين من المؤمنين و المنافقين ثم يخلص المؤمنين من المنافقين كما في الحديث الصحيح : [ إن الله تعالى يجمع الأوليين و الآخرين في صعيد واحد ] خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
و منها : ما روي [ أنه يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم ] و هو صحيح أيضا و سيأتي و قال صلى الله عليه و سلم [ يؤخذ برجال ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ]
و منها : يوم الفزع و حقيقته ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة عليها خلاف العادة فإن استمر كان جبنا و عند ذلك تتشوق النفس إلى ما يقويها فلأجل ذلك قالوا : فزعت من كذا أي ضعفت عن حمله عن طريانه على خلاف العادة و فزعت إلى كذا أي تشوقت نفسي عند ذلك إلى ما يقويها على ما نزل بها والآخرة كلها خلاف العادة و هي فزع كلها و في التنزيل لا يحزنهم الفزع الأكبر و قد اختلف فيه فقيل هو قوله لا بشرى يومئذ للمجرمين و قيل إذا طبقت النار على أهلها و ذبح الموت بين الجنة و النار و قال الحسن : هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار و عنه أن الفزع الأكبر النفخة الآخرة و تتلقاهم الملائكة بالبشارة حتى يخرجوا من قبورهم
و منها : يوم التناد بتخفيف الدال من النداء و تشديدها من ند إذا ذهب و هو قال تعالى { يوم تولون مدبرين } و هو الذهاب في غير قصد و روي أيضا عن [ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات و الأرض ] الحديث و قد تقدم التي يقول الله ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله الجبال و يرج الأرض بأهلها رجا و هي التي يقول الله { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة } فيميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع و تضع الحوامل و تشيب الولدان و تولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا و هو الذي يقول الله تعالى { يوم التناد * يوم تولون مدبرين } قال ابن العربي : و قد رويت في ذلك آثار كثيرة هذا أمثلها فدعوها فالمعنى الواحد يكفينا منها و من هولها و من تحقيق المعنى لها
قلت : قد بينا أقوال العلماء في ذلك عند ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في باب أين تكون الناس فتأمله هناك
و منها : يوم الدعاء و هو النداء أيضا
و النداء على ثمانية و جوه فيما ذكر ابن العربي :
الأول : نداء أهل الجنة أهل النار بالتقريع
الثاني : نداء أهل النار لأهل الجنة بالاستغاثة كما أخبر الله عنهم
الثالث : يدعى كل أناس بإمامهم و هو قوله [ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ] قال المؤلف : و يقال بكتابهم و قيل : نبيهم قال سري السقطي : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى يا أمة عيسى و يا أمة محمد غير المحبين لله فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا
الرابع : نداء الملك ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا و إن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا و سيأتي
الخامس : النداء عند ذبح الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت و ياأهل النار خلود فلا موت
السادس : نداء أهل النار يا حسرتنا و ياويلنا
السابع : قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
الثامن : نداء الله تعالى أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيت ؟ فيقولون : و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أعطيتكم أفضل من ذلك رضائي
الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى
يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة
قال المؤلف رضي الله عنه : و نداء تاسع ذكره أبو نعيم عن مروان بن محمد قال : قال أبو حازم الأعرج : يخاطب نفسه يا أعرج ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا و كذا و كذا فتقوم معهم ثم ينادي يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة و في التنزيل يوم يناديهم فيقول { أين شركائي } الآية التي في القصص و حم السجدة و يوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين و بالنداء في الأخبار كثير يأتي بيانها و ذكرها في باب من يدخل الجنة بغير حساب
و منها : يوم الواقعة و أصل وقع في كلام العرب كان و وجد و جاءت الشريعة في تأكيد ذلك بثبوت ما وجد قال الله تعالى : { و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } و المراد بالقول هنا إخبار الباري عن الساعة و أنها قريبة و من أعظم علاماتها الدابة و سيأتي ذكرها و ما للعلماء فيها من الأشراط إن شاء الله تعالى و قوله كاذبة مصدر كالباقية و العاقبة أي ليس لوقعتها مقالة كاذبة
و منها : الخافضة الرافعة أي ترفع قوما في الجنة و تخفض أخرى في النار و الخفض و الرفع يستعملان عند العرب في المكان و المكانة و العز و الإهانة و نسب سبحانه الخفض و الرفع للقيامة توسعا و مجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل و الزمان و غيرهما مما لم يمكن منه الفعل يقولون ليل قائم و نهار صائم و في التنزيل { بل مكر الليل و النهار } و الخافض و الرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده فرفع أولياءه في أعلى الدرجات و جعل أعداءه في أسفل الدركات قال الله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا } و [ قال صلى الله عليه و سلم في حديث جابر رضي الله عنه : نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس ] قال ابن العربي و هذا حديث فيه تخليط في كتاب مسلم لم يتقنه رواية و معناه : أن جميع الخلق على بسيط من الأرض سواء إلا محمدا صلى الله عليه و سلم و أمته فإنهم يرفعون جميعهم على شبه من الكوم و يخفض الناس عنهم و في رواية : [ أكون أنا و أمتي يوم القيامة على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فذلك المقام المحمود ]
قلت : و هذا الرفع في المكان بحسب الزيادة في المكانة قال ابن العربي : و هي أنواع فرفع محمدا صلى الله عليه و سلم بالشفاعة في أول الخلق و بأنه أول من يدخل الجنة و يقرع بابها و رفع العادلين بالحديث الصحيح المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن و كلتا يديه يمين و رفع القراء إلى حيث انتهت قراءتهم يقال : اقرأ و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها و سيأتي ورفع الشهداء فقال في الحديث الصحيح [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] الحديث و سبأتي و رفع كافل اليتيم فقال صلى الله عليه و سلم [ أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة ] و أشار مالك بالسبابة و الوسطى يريد في الجوار و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغائر في أفق السماء و أن أبا بكر و عمر منهم و أنعما و رفع عائشة على فاطمة رضي الله عنهما فإن عائشة مع النبي صلى الله عليه و سلم و فاطمة مع علي رضي الله عنهما ]
و منها : يوم الحساب و معناه أن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان و إساءة يعدد عليهم نعمه ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير و للشر بالشر
و جاء عن النبي أنه قال : [ ما منكم من أحد إلا و سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان ] فقيل إن الله يحاسب المكلفين بنفسه و يخاطبهم معا و لا يحاسبهم واحدا بعد واحد و المحاسبة حكم فلذلك تضاف إليه كما يضاف الحكم إليه قال الله تعالى : { ألا له الحكم } و قال { و هو خير الحاكمين }
و في الخبر : أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له : يا شيخ ما أنصفت غذوتك بالنعم صغيرا فلما كبرتك عصيتني أما إني لا أكون لك كما كنت لنفسك اذهب فقد غفرت لك ما كان قبل و إنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب فإذا وقف تضعضعت أركانه و اصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله : أما استحييتني أما راقبتني أما خشيت نقمتي أما علمت أني مطلع عليك خذوه إلى أمه الهاوية و قيل : إن الملائكة يحاسبون بأمر الله كما أن الحكام يحكمون بأمر الله تعالى و قد قال الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا } إلى قوله { و لا يكلمهم الله } و إن من لم يكن بهذه الصفة فإن الله تعالى يكلمه فيكلم المؤمنين و يحاسبهم حسابا يسيرا من غير ترجمان إكراما لهم كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بالكليم و لا يكلم الكفار فتحاسبهم الملائكة و يميزهم بذلك عن أهل الكرامة فتتسع قدرته لمحاسبة الخلق كلهم معا كما تتسع قدرته لإحداث خلائق كثيرة معا
قال الله تعالى : { ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة } أي إلا كخلق نفس واحدة
و يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه و سئل عن محاسبة الخلق فقال : كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة و في صحيح مسلم [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟ قالوا : لا قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة قالةا : لا قال : فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال : فيلقى العبد فيقول : أيأفل ألم أكرمك و أسودك و أزوجك و أسخر لك الخيل و الإبل و أذرك ترأس و ترتع ؟ فيقول : بلى فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا فيقول : إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول له و يقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك و بكتابك و برسلك و صليت و تصدقت و صمت و يثني بخير ما استطاع قال : فيقول ها هن إذا ثم يقول الآن نبعث شاهدا عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه و يقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه و لحمه و عظام بعمله و ذلك ليعذر من نفسه و ذلك المنافق و ذلك الذي يسخط الله عليه و قد قال الله تعالى { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي حاسبا فعيلا بمعنى فاعل و إذا نظر فيها و رأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له لا إله إلا الله في كفة فرجحت له السموات و الأرض و في رواية فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة ] و سيأتي و قال [ من نوقش الحساب عذب ]
و منها : يوم السؤال و الباري سبحانه و تعالى يسأل الخلق في الدنيا و الآخرة تقريرا لإقامة الحجة و إظهارا للحكمة قال الله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } و قال { و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } و قال : { و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } و هو في القرآن كثير و قال : { ليسأل الصادقين عن صدقهم } و قال : { و إذا الموؤدة سئلت } و قال : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } قيل : عن لا إله إلا الله و قال : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } و قال عليه السلام [ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ] الحديث و سيأتي
[ و روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع و مسؤول عن رعيته و الرجل راع على أهل بيته و هو مسؤول عنهم و المرأة راعية على بيت زوجها و هي مسؤولة عنه و العبد راع على مال سيده و هو مسؤول عنه ألا فكلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته ]
ومنها : يوم الشهادة و يوم يقوم الأشهاد
و الشهادة على أربعة أنواع :
شهادة محمد و أمته تحقيقا لشهادة الرسل على قومها
الثاني : شهادة الأرض و الأيام و الليالي بما عمل فيها و عليها
الثالث : شهادة الجوارح قال الله تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم } و قال : { و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } و ذلك بين أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
الرابع : حديث أنس رضي الله عنه و فيه و يختم على فيه و يقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله و سيأتي بيان هذا الباب كله إن شاء الله تعالى
و مناه : يوم الجدال قال الله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } أي تخاصم و تحاج عن نفسها و جاء في الخبر : أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي من شدة أهوال يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه و سلم فإنه يسأل في أمته على ما يأتي
و في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار يا كعب : خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا فقال كعب : يا أمير المؤمنين و الذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات و لا يهمك إلا نفسك و إن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي قال يا كعب : اين نجد ذلك في كتاب الله تعالى ؟ قال : قوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون }
و قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية : ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم يكن لي يد أبطش بها و لا رجل أمشي بها و لا عين أبصر بها و لا أذن أسمع بها و لا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب و نجني فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها و لا قدم أسعى بها و لا بصر أبصر به و لا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع الشمس فيه نطق لساني و به أبصر عيني و به مشت رجلي و به سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب و نجني قال : فيضرب الله لهما مثلا أعمى و مقعد أدخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر و المقعد لا ينالها فنادى المقعد للأعمى ائتني فاحملني آكل و أطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمرة فعلى من يكون العذاب قالا : عليهما قال : عليكم جميعا العذاب
قال المؤلف رضي الله عنه و أرضاه : و من هذا الباب قول الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا إلى غير ذلك مما في معناه حسب ما يأتي
و منها : يوم القصاص و فيه أحاديث كثيرة يأتي ذكرها في باب إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الحاقة و سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها قاله الطبري كأنه جعلها من باب : ليلي نائم كما تقدم
و قيل : سميت حاقة لأنها كانت من غير شك و قيل : سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار
و منها يوم الطامة معناها الغالبة من قولك طم الشيء إذا علا و غلب و لما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء قال الحسن : الطامة النفخة الثانية و قيل : حين يساق أهل النار إلى النار
و منها : يوم الصاخة قال عكروة : الصاخة : النفخة الأولى و الطامة : النفخة الثانية قال الطبري أحسبه من صخ فلان فلانا إذا أصمه قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم و إنها المسمعة و هذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان :
( أصم بك الناعي و إن كنت أسمعا )
و قال آخر :
( أصمني شرهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بشر يورث الصمما )
و لعمرو الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا و تسمع أمور الآخرة و بهذا كله كان يوما عظيما كما قال الله تعالى في وصفه بالعظيم وكل شيء كبر في أجزائه فهو عظيم كذلك ما كبر في معانيه و بهذا المعنى كان الباري عظيما لسعة قدرته و علمه و كثرة ملكه الذي لا يحصى و لما كان أمر الآخرة لا ينحصر كان عظيما بالإضافة إلى الدنيا و لما كان محدثا له أول صار حقيرا بالإصافة إلى العظيم الذي لا يحد
و منها : يوم الوعيد و هو أن الباري سبحانه أمر و نهى و وعد و أوعد فهو أيضا يوم الوعد و الوعد للنعيم و الوعيد للعذاب الأليم و حقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة و الوعد الخبر عنى المثوبة عند الموافقة و قد ضل في هذه المسألة المبتدعة و قالوا : إن من أذنب ذنبا واحدا فهو مخلد في النار تخليد الكفار أخذا بظاهر هذا اللفظ في آي فلم يفهموا العربية و لا كتاب الله و أبطلوا شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سيأتي الرد عليهم في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الدين و هو في لسان العرب الجزاء قال الشاعر :
( حصادك يوما ما زرعت و إنما ... يدان الفتى فيه كما هو دائن )
و قال آخر :
( و اعلم يقينا أن ملكك زائل ... و اعلم بأنك كما تدين تدان )
و منها : يوم الجزاء قال الله تعالى : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } و قال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } و هو أيضا يوم الوفاء قال الله تعالى : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } أي حسابهم و جزاؤهم و الجنة جزاء الحسنات و النار جزاء السيئات قال الله تعالى في المعنيين { جزاء بما كانوا يكسبون } و { جزاء بما كانوا يعملون } و قال في جهة الوعيد كذلك { نجزي كل كفور }
و منها : يوم الندامة و ذلك أن المحسن إذا رأى جزاء إحسانه و الكافر جزاء
كفره ندم المحس أن لا يكون مستكثرا و ندم المسيء أن لا يكون استعتب فإذا صار الكافر إلى عذاب لا نفاد له تحسر فلذلك سمي يوم الحسرة قال الله تعالى : { و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } و ذلك عند ذبح الموت على ما يأتي و هم في غفلة يعني الآن عن ذلك اليوم و الحسرة : عبارة عن استشكاف المكروه بعد خفائه
و منها : يوم التبديل قال الله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } و قد تقدم القول في ذلك مستوفى
و منها : يوم التلاق قال الله تعالى : { لينذر يوم التلاق } و هو عبارة عن اتصال المعنيين بسبب من أسباب العلم و الجسمين و هو أنواع أربعة :
الأول : لقاء الأموات لمن سبقهم إلى الممات فيسألونهم عن أهل الدنيا كما تقدم
و الثاني : عمله و قد تقدم
الثالث : لقاء أهل السموات لأهل الأرض في المحشر و قد تقدم
الرابع : لقاء الخلق للباري سبحانه و تعالى و ذلك يكون في عرصات القيامة و في الجنة على ما يأتي
و منها : يوم الآزفة تقول العرب أزف كذا أي قرب قال الشاعر :
( أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برحالنا و كأن قد )
و هي قريبة جدا و كل آت قريب و إن بعد مداه قال الله تعالى : { و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } و ما يستبعد الرجل من الساعة و مدته ساعة
و منها : يوم المآب و معناه الرجوع إلى الله تعالى و لم يذهب عن الله شيء فيرجع إليه و إنما حقيقته أن العبد يخلق الله فيه ما شاء من أفعاله لما خلق فيه علما و خلق فيه إيثارا و اختيارا ظن الناس أنه شيء أو أن له فعلا فإذا أماته و سلب ما كان أعطاه أذعن و آب في وقت لا ينفعه الإياب و لم يزل عن الله تعالى في حال فهو الأواب
و منها : يوم المصير و هو يوم المآب بعينه قال الله تعالى : { و لله ملك السموات و الأرض و إلى الله المصير } فالخلق سائرون إلى أمر الله تعالى و آخر ذلك ذار القرار و هي الجنة أو النار قال الله تعالى في حق الكافرين : { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار }
و منها : يوم القضاء وهو أيضا يوم الحكم و الفصل و سيأتي أن أول ما يقضى فيه الدماء و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدى منها حقها ] الحديث و فيه كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد و الفصل هو الفرق و القطع فيفصل يومئذ بين المؤمن و الكافر و المسيء و المحسن قال الله تعالى : { يوم القيامة يفصل بينكم } الآية و هو يوم الحكم لأن إنفاذ الحكم هو إنفاذ العلم قال الله تعالى : { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } الآية و قال { ذلكم حكم الله يحكم بينكم }
و منها : يوم الوزن قال الله تعالى : { و الوزن يومئذ الحق } الآية و سيأتي الكلام في الميزان و وزن الأعمال فيه في أبواب إن شاء الله
و منها : يوم عقيم و هو في اللغة عبارة عن من لا يكون له ولد و لما كان الولد يكون بين الأبوين و كان الأيام تتوالى قبل و بعد جعل الاتباع بالتعدية فيها كهيئة الولادة و لما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم
و منها : يوم عسير و هذا في حق الكافرين خاصة و العسر ضد اليسر فهو عسير على الكافرين لأنهم لا يرون فيه أملا و لا يقطعون فيه رجاء حتى إذا خرج المؤمنون من النار طلبوا مثل ذلك فيقال لهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فحينئذ يكون المنع الصريح على ما يأتي بيانه في أبواب النار إن شاء الله تعالى و أما المؤمنون فتنحل عقدهم بيسر إلى يسر فينحل طول الوقوف إلى تعجيل الحساب و تثقيل الموازين و جواز الصراط و الضلال بالأعمال و لا تنحل للكافرين من هذه العقد عقدة واحدة إلا إلى أشد منها حتى إلى جهنم دار القرار
و منها : يوم مشهود سمي بذلك لأنه يشهده كل مخلوق و قيل : سمي بذلك لأن الشهداء يشهدون فيه على ما يأتي و الله أعلم
و منها : يوم التغابن سمي بذلك لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله : فريق في الجنة و فريق في السعير و حقيقته في لسان العرب : ظهور الفضل في المعاملة لأحد المتعاملين و الدنيا و الآخرة دار العملين و حالين و كل واحد منهما لله و لا يعطى أحدهما إلا لمن ترك نصيبه من الأخرى : قال الله تعالى { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } و قال : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب } و من أراد الآخرة فسعيه مشكور و حظه في الآخرة موفور
و منها : يوم عبوس قمطرير و القمطرير : الشديد و قيل الطويل و أما العبوس فهو الذي يعبس فيه سمي باسم ما يكون فيه كما يقال ليل قائم و نهار صائم و كلوح الوجه و عبوسه هو قبض ما بين العينين و تغير السحنة عن عادتها الطلقة يقال : يوم طلق إذا كانت شمسه نيرة فاترة و إذا كانت شمسه مدجية قد غطاها السحاب قيل : يوم عبوس و أول العبوس و الكلوح عند الخروج من القبور و رؤية الأعمال في الصور القبيحة كما تقدم و آخر ذلك كلوح النار و هو الكلوح الأعظم يشوي الوجوه و يسقط الجلود على ما يأتي و مع العبوس تشخص الأبصار و هي ثبوتها راكدة على منظر واحد لهول لا ينتقل منه إلى غيره كما قال سبحانه { ليوم تشخص فيه الأبصار }
و منها : يوم تبلى السرائر و معناه إخراج المخبآت بالاختبار بوزن الأعمال في الصحف و يكشف الساق عند السجود على ما يأتي
و منها : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و هو مثل قوله { و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون } و قال : { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } فكل نفس بما كسبت رهينة لا يغنى أحد عن أحد شيئا بل ينفصل كل واحد عن أخيه و أبيه و لذلك كان يوم الفصل و يوم الفرار قال الله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتا } و قال تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } أما إنه يجزي و يقضي و يعطي و يغني بغير اختياره من حسناته ما عليه من الحقوق على ما يأتي بيانه في أحاديث المفلس إن شاء الله تعالى
و منها : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا والدع الدفع أي يدفعون إلى جهنم و يسحيون فيها وجوههم كما قال تعالى : { يوم يسحبون في النار على وجوههم }
و منها : يوم التقلب و هو التحول قال الله تعالى : { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار } أي قلوب الكفار و أبصارهم فتقلب قلوب الكفار انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا هي ترجع إلى أماكنها و لا هي تخرج فأما تقلب الأبصار فالزرقة بعد الحكل و العمى بعد البصر و قيل : تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة و الخوف من الهلاك و الإبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم و إلى أي ناحية يؤخذ بهم و قيل : إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك و كذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة
و منها : يوم الشخوص و الإقناع قال الله تعالى : { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } أي لا تغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء
و قال ابن عباس رضي الله عنه : تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يغتمضون { مهطعين } أي مديمي النظر
قال مجاهد و الضحاك : { مقنعي رؤوسهم } أي رافعي رؤوسهم و إقناع الرأس رفعه قاله ابن عباس و مجاهد و قال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد فإن قيل : فقد قال الله تعالى في غير هذه الآية { خاشعة أبصارهم } و قال : { خشعا أبصارهم } فكيف يكون الرافع رأسه الناظر نظرا طويلا حتى إن طرفه لا يرتد إليه خاشع البصر ؟
فالجواب أنهم يخرجون حال المضي إلى الموقف خاشعة أبصارهم و في هذه الحال وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار و إذا توافوا و ضمهم الموقف و طال القيام عليهم فإنهم يصيرون من الحيرة كأنهم لا قلوب لهم و يرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل و لا يرتد إليهم طرفهم كأنهم قد نسوا الغمض أو جلهوه فهو تعسير عليهم
و منها : { هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون }
و ذلك حين يقال لهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و تطبق عليهم جهنم على ما يأتي بيانه في أبواب النار
و منها : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } و إن أذن لهم بأن يمكنوا منها لا بأن يقال لهم اعتذروا كقوله { ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا } الآية و كقوله { ربنا أخرجنا منها } الآية
و منها : { و لا يكتمون الله حديثا }
و منها : يوم الفتنة قال الله تعالى { يوم هم على النار يفتنون } أي يعذبون من قولك فتنت الذهب إذا رميت به في النار
و منها : { يوم لا مرد له من الله } يريد يوم القيامة أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به و جعل له أجلا و وقتا
و منها : يوم الغاشية و سميت بذلك لأنها تغشى بإفزاعها أي تعمهم بذلك و منه غاشية السرج و منها : فيومئذ لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد
و منها : يوم لا بيع فيه و لا خلال قال الله تعالى { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال } و قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة } و الخلة و الخلال الصداقة و المودة
و منها : يوم لا ريب فيه و إن وقع فيه رب الكفار أي شك فليس فيه ريب لقيام الأدلة الظاهرة عليه كما قال الله تعالى { أفي الله شك } فليس في الباري شك لقيام الأدلة عليه و لشهادة أفعاله و لاقتضاء المحدث أن يكون له محدث و لكن قد شك فيه قوم و نفاه آخرون و لم يوجب ذلك شكا فيه لقيام الأدلة عليه فكذلك يوم القيامة لا ريب و لا شك فيه مع النظر في الدليل و العلم فإذا خلق الله تعالى الرين على القلب كان الشك قال الله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور }
و منها : { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه } و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الأذان : دخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له : اتق الله و احذر يوم الأذان فقال : و ما يوم الأذان ؟ قال : قوله تعالى { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } فصعق هشام فقال طاووس : هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة
و منها : يوم الشفاعة قال الله تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } و قال تعالى { و لا يشفعون إلا لمن ارتضى } و قال { لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } و قال { فما لنا من شافعين } و سيأتي بيانه
و منها : يوم العرق و سيأتي بيانه في أحاديث في الباب بعد هذا بحول الله وقوته
و منها يوم القلق و الجولان و هو عبارة عند عدم الاستقرار و الثبوت يقال : قلق الرجل يقلق قلقا إذا لم يستقر و مثله جال يجول إذا لم يثبت
و منها : يوم الفرار قال الله تعالى { يوم يفر المرء من أخيه * و أمه و أبيه * و صاحبته و بنيه } فيفر كل واحد من صاحبه حذرا من مطالبته إياه إما لما بينهم من التبعات أو لئلا يروا ما هو فيه من الشدة و قال عبد الله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما يتبين له من عجزهم و قلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب و الهموم عنه و لو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى و قال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم و أول من يفر من ابنه نوح و أول من يفر من امرأته لوط قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم و هذا فرار التبري نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة و صحبه الكرام البرزة و جعلنا ممن حشر في زمرتهم و لا خالف بنا على طريقهم و مذهبهم بمنه و كرمه آمين و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم
قال المؤلف : و قد سرد تسمية هذه الأيام على التوالي من غير تفسير غير واحد من العلماء منهم ابن نجاح في سبل الخيرات و أبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كالإحياء و غيره و القتبي في كتاب عيون الأخبار و هذا تفسيرها حسب ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين و ربما زدنا عليه في ذلك و الحمد لله على ذلك و لا يمتنع أن تسمي غير ما ذكرنا بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام و التضايق و اختلاف الأقدام الخزي و الهوان و الذل و الافتقار و الصغار و الانكسار و يوم الميقات و المرصاد إلى غير ذلك من الأسماء و سيأتي التنبية على ذلك إن شاء الله تعالى في الباب بعد هذا
باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام و الأمور الجسام
قال المحاسبي في كتاب التوهم و الأهوال : يحشر الله الأمم من الإنس و الجن عراة أذلاء قد نزع الملك من ملوك الأرض و لزمهم الصغار بعد عتوهم و الذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه ثم أقبلت الوحوش من أماكنها منكسة رؤوسها بعد توحشها من الخلائق و انفرادها ذليلة من هول يوم النشور من غير ريبة و لا خطية أصابتها حتى وقفت من وراء الخلق بالذلة و الانكسار لذلك الجبار و أقبلت الشياطين بعد تمردها و عتوها خاضعة ذليلة للعرض على الملك الديان حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها و جنها و شياطينها و وحوشها و سباعها و أنعامها و هوامها تناثرت نجوم السماء من فوقهم و طمست الشمس و القمر فأظلما عليهم و مارت سماء الدنيا من فوقهم فدارت من فوقهم بعظمها فوق رؤوسهم و هي خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعهم و تمزقت و تفطرت لهول يوم القيامة من عظم يوم الطامة ثم ذابت حتى صارت مثل الفضة المذابة كما قال الجبار تبارك و تعالى { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } و قال { يوم تكون السماء كالمهل * و تكون الجبال كالعهن } أي كالصوف المنفوش و هو أضعف الصوف و هبطت الملائكة من حافاتها إلا الأرض بالتقديس لربها فتوهم انحدارهم من السماء لعظم أجسامهم و كثرة أخطارهم و هول أصواتهم و شدة فرقهم من خوف ربهم فتوهم فزعك حينئذ و فزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم فأخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسي رؤوسهم العظيم هول يومهم قد تسربلوا أجنحتهم و نكسوا رؤوسهم بالذلة و الخضوع لربهم و كذلك ملائكة كل سماء إلى السماء السابعة قد أضعف أهل كل سماء على أهل السماء الذين قبلهم في العدة و عظم الأجسام و الأصوات حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع و الأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين ثم أدنيت من الخلائق قاب قوسين أو قوس فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن فمن بين مستظل بظل العرش و بين مضح بحر الشمس قد صهرته و اشتد فيها كربه و أقلقته و قد ازدحمت الأمم و تضايقت و دفع بعضهم بعضا و اختلفت الأقدام و انقطعت الأعناق من العطش قد اجتمع عليهم في مقامهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم و تزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض ثم على أقدامهم ثم على قدر مرابتهم و منازلهم عند ربهم من السعادة و الشقاء فمنهم من يبلغ العرق منكبيه و حقويه و منهم إلى شحمة أذنيه و منهم من قد ألجمه العرق فكاد أن يغيب فيه
قلت : ذكر المحاسبي و غيره أن انفطار السماء انشقاقها بعد جمع الناس في الموقف و قد قدمنا أن ذلك يكون قبل ذلك و هو ظاهر القرآن كما ذكرنا و الله اعلم و قد جاء ذلك مرفوعا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و قد تقدم
و ما ذكره المحاسبي مروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا و جمع الخلائق بصعيد واحد جهنم و إنسهم فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء عن أهلها فينتشرون على وجه الأرض فلأهل السماء أكثر من أهل جميع الأرض جهنم و إنسهم بالضعف
الحديث بطول ما ذكره ابن المبارك في رقائقه قال : أخبرنا عوف عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي قال أخبرنا شهر بن حوشب قال : حدثني ابن عباس فذكره قال ابن المبارك و أخبرني جويبر عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمر الرب فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض و من فيها ثم يأمر السماء التي تليها فينزلون فيكونون صفا خلف ذلك الصف ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فينزل الملك الأعلى في بهائه و جلاله و ملكه و بجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله تعالى { يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } و السلطان العذر و ذلك قوله عز و جل { و جاء ربك و الملك صفا صفا } و قال { و انشقت السماء فهي يومئذ واهية * و الملك على أرجائها } يعني على حافاتها يعني بأرجائها ما تشفق منها فبيناهم كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب
قلت : و لا يصح إسنادهما فإن شهرا و جبيرا قد تكلم فيها و ضعفوهما
قال البخاري في التاريخ جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال لي علي قال يحيى : كنت أعرف جويبرا بحديثين ثم أخرج هذه الأحاديث بعد فضعفه و أما شهر فقال مسلم في صدر كتابه سئل ابن عوف عن حديث شهر و هو قائم على أسكفة الباب فقال : إن شهرا تركوه قال مسلم : يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه و قال عن شعبة و قد لقيت شهرا فلم أعتد به
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة نحوا مما ذكر المحاسبي عن ابن عباس رضي الله عنه و الضحاك فقال إن الخلائق إذا اجتمعوا في صعيد واحد الأولين و الآخرين أمر الجليل جل و جلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنسانا و شخصا من المبعوثين إنسا و جنا و وحشا و طيرا و حولوهم إلى الأرض الثانية و هي أرض بيضاء من فضة نورية و صارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات ثم إن الله سبحانه و تعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدقون بهم واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة فإذا هم أكثر منهم ثلاثين ضعفا ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين صفا ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم ستين مرة ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم سبعين مرة و الخلق تتداخل و تندمج حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام و تخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان و إلى الصدر و إلى الحقوين و إلى الركبتين و منهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام و منهم من تصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء و كيف لا يكون القلق و العرق و الأرق و قد قربت الشمس من رؤوسهم حتى لو مد أحدهم يده لنالها و يضاعف حرها سبعين مرة
و قال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيتئها يوم القيامة لأحرقت الأرض و ذابت الصخر و جفت الأنهار فبينما الخلائق يموجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } و هم على أنواع في المحشر على ما تقدم في حديث معاذ و الملوك كالذر كما قد ورد في الخبر في وصف المتكبرين و ليس هم كهيئة الذر غير أن الأقدام عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم و انخفاضهم و قوما يشربون ماء باردا عذبا صافيا لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم
و عن بعض السلف أنه نام فرأى القيامة قد قامت و كأنه في الموقف عطشان و صبيان صغار يسقون الناس قال : فناديتهم ناولوني شربة فقال لي واحد منهم ألك فينا ولد ؟ فقلت : لا فقال : فلا إذا و لهذا فضل التزويج و لهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في الإحياء و قوم قدموا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر و هي الصدقة الطيبة لا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتاب الإحساء و هو بعض أسرار القرآن فتوجل له القلوب و تخشع الأبصار لعظيم نقره و تشتاف الرؤوس من المؤمنين و الكافرين يظنون أن ذلك عذاب يزداد بهم في هول يوم القيامة فإذا بالعرش تحمله ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة و أفواج الملائكة و أنواع الغمام بأصوات التسبيح لهم هرج عظيم لا تطيقه العقول حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة فتطرق الرؤوس و تخنس و تشفق البرايا و ترعب الأنبياء و تخاف العلماء و تفزع الأولياء و الشهداء من عذاب الله سبحانه الذي لا يطيق شيء إذ غشاهم نور حتى غلب عليه نور الشمس التي كانوا في حرها فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام و الجليل سبحانه لا يكلمهم كلمة واحدة فحينئذ يذهب الناس إلى آدم فيقولون : يا أبا البشر الأمر علينا شديد و أما الكافر فيقول : يا رب أرحني و لو إلى النار من شدة ما يرى من الهول يقولون : أنت الذي خلقك الله بيده و أسجد لك ملائكته و نفخ فيك من روحه اشفع لنا في فصل القضاء و ذكر أمر الشفاعة من نبي إلى نبي و أن ما بين إتيانهم من نبي إلى نبي ألف عام حتى تنتهي الشفاعة إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه من أمر الشفاعة في أحاديث إن شاء الله تعالى و نحو من هذا ذكره الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له قال : فإذا كان يومئذ جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد و كورت الشمس و انكدرت النجوم و مارت السماء فوق الخلائق مورا و تفطرت من عظيم هول ذلك اليوم و تشققت بالغمام المنزل من عليهن فوقهن ثم صارت وردة كالدهان و كشطن سماء سماء و نزلت الملائكة تنزيلا و قام الخلائق و طال قيامهم أقل ما قيل في قيامهم مقدار أربعين عاما إلى ثلاثمائة عام و أياما كان فاليوم يسعه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من صاحب إبل ] الحديث و فيه [ وردت عليها أولاها ] في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة و سيأتي بكماله و هم في قيامهم ذلك في الظلمة دون الجسر كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان عراة غرلا أعطش ما كانوا و أجوع ما كانوا عليه قط عراة فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله عز و جل و لا يطعم إلا من أطعم لله و لا يكسى يومئذ إلا من كسا لله و لا يكفى إلا من اتكل على الله و مصداق هذا من كتاب الله عز و جل قوله الحق { يوفون بالنذر } إلى قوله تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي من إزالة الجوع و العطش و العرى إلى غير ذلك من أهوال القيامة و أفزاعها على ما يأتي بيانه في هذا الباب الذي يليه
أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال : تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين قال : فيعرفون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل قال سلمان : حتى يقول الرجل غرغر فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ائتوا أباكم آدم فيشفع لكم الحديث بطوله و سيأتي مرفوعا من حديث أبي هريرة و أخرجه ابن المبارك قال : أنبأنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوسين فتعطى حر عشر سنين و ليس على أحد يومئذ طحرية و لا يرى فيها عورة مؤمن و لا مؤمنة لا يضر حرها يومئذ مؤمنا و لا مؤمنة و أما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم طبخا فإنما تقول أجوافهم : [ غق غق ] قال نعيم : الطحرية : الخرقة و أخرجه هناد بن السري حدثنا قبيضة عن سفيان عن سليمان التيمي فذكره سواء إلا أنه قال [ و لا يجد حرها ] بدل [ و لا يضر ] و قال [ و أما الكافر أو الآخرون فتطبخهم طبخا حتى يسمع لأجوافهم غق غق ]
مسلم [ عن سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال [ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه و منهم من يكون إلى ركبتيه و منهم من يكون إلى حقويه و منهم من يلجمه إلجاما ] قال : و أشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده إلى فيه ] و أخرجه الترمذي و زاد قوله تكحل به العين فتصهرهم الشمس
و ذكر ابن المبارك أخبرنا مالك بن مغول عن عبيد الله بن العيزار قال : إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن و السعيد الذي يجد لقدميه موضعا يضعهما عليه و إن الشمس تدنى من رؤوسهم حتى لا يكون بينها و بين رؤوسهم إما قال ميلا أو ميلين ثم يزاد في حرها بضعة و ستون ضعفا و عند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى ألا إن فلان بن فلان قد ثقلت موازينه و سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ألا فلان ابن فلان قد خفت موازينه و شقى شقاء لا يسعد بعده أبدا
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا و إنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم يشك ثور أيهما ] قال : أخرجه البخاري [ و عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال : يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه ] أخرجه البخاري و الترمذي و قال : حديث صحيح مرفوعا و موقوفا
و روى هناد بن السري قال : حدثنا محمد بن فضيل عن ضرار بن مرة عن عبد الله بن المكتب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال له رجل إن أهل المدينة ليوفون الكيل يا أبا عبد الرحمن قال : و ما يمنعهم أن يوفوا الكيل
و قد قال الله تعالى { ويل للمطففين } حتى بلغ { يوم يقوم الناس لرب العالمين }
قالت : إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة و عظمه
و خرج الوائلي [ من حديث ابن وهب قال : حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن ابن هانئ عن أبي عبد الرحمن الحيلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف بكم إذا جمعكم الله عز و جل كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ] ؟ قال الوائلي غريب جيد الإسناد
و قد خرج مسلم لابن وهب عن أبي هانئ نفسه عن الحيلي عن عبد الله أحاديث ابن المبارك قال : أخبرنا الأوزاعي قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : إن للناس يوم القيامة جولة و هو قوله عز و جل { يقول الإنسان يومئذ أين المفر } و قوله : { لو ترى إذ فزعوا فلا فوت } و في حديث جويبر عن الضحاك : فينزل الملك و مجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله : { يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } و السلطان العذر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خوفني جبريل من يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ربي ذنبي ما تقدم و ما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم أحدهما ينسيك المغفرة ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله
فصل : قلت : ظاهر ما رواه ابن المبارك عن سلمان أن الشمس لا يضر حرها مؤمن و لا مؤمنة العموم في المؤمنين و ليس كذلك لحديث المقداد المذكور بعده و إنما المراد لا يضر حرها مؤمنا كامل الإيمان أو من استظل بظل عرش الرحمن كما في الحديث الصحيح [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] الحديث رواه الأئمة مالك و غيره و سيأتي في الباب بعد هذا
و كذلك ما جاء أن المرء في ظل صدقته و كذلك الأعمال الصالحة أصحابها في ظلها إن شاء الله و كل ذلك من ظل العرش و الله أعلم
و أما غير هؤلاء فمتفاوتون في العرق على ما دل عليه حديث مسلم قال ابن العربي : و كل واحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه و إلى جانبيه مثلا يمين من يبلغ كعيبه و من الجهة الشمال من يبلغ ركبتيه و من أمامه من يكون عرقه إلى نصفه ومن خلفه من يبلغ العرق صدره و هذا خلاف المعتاد في الدنيا فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة أخذهم الماء أخذا واحدا و لا يتفاوتون كما ذكرنا مع استواء الأرض و مجاورة المحل و هذا من القدرة التي تخرق العادات في زمن الآيات
و قال الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : و لا يبعدون عليك هذا يرحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد و موقف سواء يشرب أحدهم أو بعض من الحوض و لا يشرب الغير و يكون النور يسعى بين يدي البعض في الظلمات مع قرب المكان و ازدحام الناس و يكون أحدهم يغرق في عرقه حتى يلجمه أو يبلغ منه عرقه ما شاء الله جزاء لسعيه في الدنيا و الآخرة في ظل العرش على قرب المكان و المجاورة كذلك كانوا في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس و الكافر في ظلام كفره و المؤمن في وقاية الله و كفايته و الكافر و العاصي في خذلان الله لهما و عدم العصمة و المؤمن السني يكرع في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و يروى ببرد اليقين و يمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء و المبتدع عطشان إلى ما روى المؤمن به حيران لا يشعر سالك في مسالك ضلالات البدع و هو لا يدري كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير و لا ينفعه دواء إنما هي بواطن و ظواهر بطنت فتشعر لذلك و تفطن و استعن بالله يعنك و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل
و قال أبو حامد : و اعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج و جهاد و صيام و قيام و تردد في قضاء حاجة مسلم و تحمل مشقة في أمر بمعروف أو نهي عن منكر فسيخرجه الحياء و الخوف في صعيد القيامة و يطول فيه الكرب و لو سلم ابن آدم من الجهل و الغرر لعلم أن تعب العارف في تحمل مصاعب الدنيا أهون أمرا و أقصر زمانا من عرق الكرب و الانتظار في القيامة فإنه يوم عظيم شديد طويل مدته
و ذكر أبو نعيم عن أبي حازم أنه قال : لو نادى مناد من السماء أمن أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من هول ذلك الموقف و معاينة ذلك اليوم 

💥💥💥💥💥ج333333.💥💥   

    كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي


باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة و من كربها مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ] ذكر الحديث
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : [ حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا عبد الله بن نافع قال : حدثني ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و نحن في مسجد المدينة فقال إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه و رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك و رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم و رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم و رأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه و أرواه و رأيت رجلا من أمتي و النبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده و أقعده بجنبي و رأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة و من خلفه ظلمة و عن يمينه ظلمة و عن شماله ظلمة و من فوقه ظلمة و من تحته ظلمة فهو متحير فيها فجاءته حجته و عمرته فاستخرجاه من الظلمة و أدخلاه في النور و رأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه و رأيت رجلا من أمتي يتقي شرر النار و وهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه و ظلا على رأسه و رأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر فاستنفذه من أيديهم و أدخلاه مع ملائكة الرحمة و رأيت رجلا من أمتي جانبا على ركبتيه بينه و بين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله و رأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه و رأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه و رأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه و جله من الله فاستنقذه من ذلك و مضى و رأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار و رأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده و مضى و رأيت رجلا من أمتي على الصراط و رأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب و أدخلته الجنة ]
قلت : هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة و الله أعلم
و قد ينجي منها كلها ما ثبت في صحيح مسلم [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس و كان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز و جل أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي ]
و خرج [ عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا مات فدخل الجنة فقيل له ما كنت تعمل ؟ فقال : إني كنت أبايع الناس فكنت أنظر المعسر و أتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له ] فقال له المسعود رضي الله عنه : و أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم من طرق و خرجه البخاري
و روى مسلم [ عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر قال الله فقال الله قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينس عن معسر أو يضع عنه ]
[ و عن أبي اليسر و اسمه كعب بن عمرو رضي الله عنه أن سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ] خرجه مسلم
و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : من أنظر مديونا فله بكل يوم عند الله وزن أحد ما لم يطلبه
و روى الأئمة [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل و شاب نشأ في عبادة الله و رجل قلبه معلق بالمساجد و رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال : إني أخاف الله و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ] : معنى في ظله أي في ظل عرشه و قد جاء هكذا تفسيرا في الحديث
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أشبع جائعا و كسا عريانا و آوى مسافرا أعاذه الله من أهوال يوم القيامة ]
و خرج الطبراني سليمان بن أحمد عن يزيد الرقاشي [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لقم أخاه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة ] و في التنزيل تحقيقا لهذا الباب و جامعا له قوله الحق { يوفون بالنذر } إلى قوله { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } مع قوله { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } مع قوله في غير موضع بعد ذكر الأعمال الصالحة { فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون }
باب
ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن يحيى ابن خالد قال : حدثنا محمد بن سلام قال : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة و لا الصوم و لا الحج و لا العمرة قال : و ما يكفرها يا رسول الله ؟ قال : الهموم في طلب المعيشة ] قال أحمد بن يحيى : فقلت : كيف سمعت هذا من يحيى بن بكير فلم يسمعه أحد غيرك ؟ قال : كنت عند يحيى جالسا فجاءه رجل فذكر ضعفه فقال : قال ابن بكير : حدثنا مالك فذكره
باب في الشفاعة العامة لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم لأهل المحشر
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم يوما يلحم فرفع إليه الذراع و كانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة و هل تدرون بم ذاك يجمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي و ينفذهم البصر و تدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم و الكرب ما لا يطيقون و لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض : أئتوا آدم فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح أن أول الرسل إلى الأرض و سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربنا ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله خليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و ذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى : أنت رسول الله فضلك الله برسالته و بتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله و كلمت الناس في المهد و كلمة منه ألقاها إلى مريم و روح منه فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغصب قبله مثله و لم يغضب بعده مثله و لم يذكر ذنبا نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيأتون فيقولون : يا محمد أنت رسول الله و خاتم الأنبياء و غفر الله لك ما تقدم و ما تأخر اشفع لنا إلى ربك ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي و يلهمني من محامده و حسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه و اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عيله من الباب الأيمن من أبواب الجنة و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب و الذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة و هجر أو كما بين مكة و بصري ] و في البخاري كما بين مكة و حمير
فصل : هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا محمد صلى الله عليه و سلم من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله عليه السلام : [ لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته و إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ] رواه الأئمة البخاري و مسلم و غيرهما و هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليجعل حسابهم و يراحوا من هول الموقف و هي الخاصة به صلى الله عليه و سلم و قوله : [ أقول يا رب أمتي أمتي ] اهتمام بأمر أمته و إظهار محبته فيهم و شفقته عليهم و قوله : فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته و غيرهم و كان طلبه هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه صلى الله عليه و سلم المحمود الذي وعده و لذلك قال كل نبي : لست لها لست لها حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه و سلم فقال : [ أنا لها ]
و روى مسلم [ عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك ] و في رواية فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيأتون آدم و ذكر الحديث
و ذكر أبو حامد أن بين إتيانهم من آدم إلى نوح ألف عام و كذا بين كل نبي إلى محمد صلى الله عليه و سلم
و ذكر أيضا أن الناس في الموقف على طبقات مختلفة و أنواع متباينة بحسب جرائمهم كمانع الزكاة و الغال و الغادر على ما يأتي بيانه و آخرون قد عظمت فروجهم و هي تسيل صديدا يتأذى بنتنها جيرانهم و آخرون قد صلبوا على جذوع النيران و آخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح ما يكون و هؤلاء المذكرون هم الزناة و اللوطية و الكاذبون و آخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي و هم آكلوا الربا و كل ذي ذنب قد بدا سوء ذنبه قاله في كتاب كشف علوم الآخرة و ذكر في آخر الكتاب أن الرسل يوم القيامة على المنابر و الأنبياء و العلماء على منابر صغار و منبر كل رسول على قدره و العلماء العاملون على كراسي من نور و الشهداء و الصالحون كقراء القرآن و المؤذنون على كبثان من مسك و هذه الطائفة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين يطلبون الشفاعة من آدم و نوح حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : ويلهم رؤوس المحشر ممن يشفع لهم و يريحهم مما هم فيه و هم رؤساء أتباع الرسل فيكون ذلك
باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من نبي يومئذ آدم و من سواه إلا تحت لوائي و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر قال :
فيفزع الناس فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أيونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول : أنا أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحا فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا و لكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منها كذبة كذبة إلا ما حل بها عن دين الله و لكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول : إني قتلت نفسا و لكن ائتوا عيسى فيقول : إني عبدت من دون الله و لكن ائتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فيأتوني فأنطلق معهم ] قال ابن جدعان قال أنس : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا ؟ فيقال : محمد فيفتحون لي و يرحبون فيقولون مرحبا فأخر ساجدا لله فيلهمني من الثناء و الحمد فيقال لي ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع و قل يسمع لقولك و هو المقام المحمود الذي قال الله فيه { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ] قال سفيان : ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها قال الترمذي حديث حسن
و خرجه أبو داود الطيالسي بمعناه [ عن ابن عباس فقال : حدثنا حماد سلمة قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من نبي إلا و له دعوة كلهم قد تنجزها في الدنيا و إني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ألا و إني سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد تحته آدم صلى الله عليه و سلم و من دونه و لا فخر و يشتد كرب ذلك اليوم على الناس فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا عز و جل حتى يقضي بيننا ] الحديث و فيه : [ فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا فيقول إني لست هنا كم إني اتخذت و أمي إلهين من دون الله و لكن أرأيتم لو أن متاعا في وعاء قد ختم عليه أكان بوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا فيقول : إن محمدا صلى الله عليه و سلم قد خصه اليوم و قد غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأتيني الناس فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضى بيننا فأقول أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء و يرضى فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد أين محمد صلى الله عليه و سلم و أمته ؟ فأقوم و تتبعني أمتي غرا محجلين من أثر الطهور قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فنحن الآخرون الأولون و أول من يحاسب و يفرج لنا في الأمم عن طريقنا و يقولون كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ] و ذكر الحديث
و في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس يصبرون يوم القيامة جثيا كل أمة تتبع نبيها تقول يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود
و روى الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } سئل عنها قال : هي الشفاعة ] قال : هذا حديث صحيح
فصل : قوله : فيفزع الناس ثلاث فزعات إنما ذلك و الله أعلم حين يؤتى بالنار تجر بأزمتها و ذلك قبل العرض و الحساب على الملك الديان فإذا نظرت إلى الخلائق فارت و ثارت و شهقت إلى الخلائق و زفرت نحوهم و توثبت عليهم غضبا لغضب ربهم على ما يأتي بيانه في كتاب النار إن شاء الله تعالى فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها قد أسبلوا الدموع من أعينهم و نادى الظالمون بالويل و الثبور ثم تزفر الثانية فيزداد الرعب و الخوف في القلوب ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق لوجوههم و يشخصون بأبصارهم و هم ينظرون من طرف خفي خوفا أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها أجارنا الله منها
فصل : و اختلف الناس في المقام المحمود على خمسة أقوال :
الأول : أنه الشفاعة للناس يوم القيامة كما تقدم قاله حذبفة بن اليمان و ابن عمر رضي الله عنهم
الثاني : إنه أعطاؤه عليه السلام لواء الحمد يوم القيامة قلت : و هذا القول لا تنافي بينه و بين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد و يشفع
و روى الترمذي [ عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا و أنا خطيبهم إذا وفدوا و أنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي فأنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر ] و في رواية [ أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا و أنا قائدهم إذا وفدوا و أنا خطيبهم إذا أنصتوا و أنا شفيعهم إذا أيسوا و أنا مبشرهم إذا أبلسوا لواء الكرم بيدي و أنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون ]
الثالث : ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله محمدا صلى الله عليه و سلم معه على كرسيه و روت في ذلك حديثا
قلت : و هذا قول مرغوب عنه و إن صح الحديث فيتأول على أنه يجلس مع أنبيائه و ملائكته قال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : و مجاهد و إن كان أحد أئمة بتأويل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا و الثاني في تأويل قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } قال : تنتظر الثواب و ليس من النظر
الرابع : إخراجه طائفة من النار روى مسلم عن يزيد الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ثم نخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و إذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله : ما هذا الذي تحدثون و الله تعالى يقول { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فما هذا الذي تقولون فقال : أتقرأ القرآن ؟ فقلت : نعم فقال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم يعني الذي بيعثه الله عز و جل ؟ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم الذي يخرج الله به من يخرج و ذكر الحديث
و في البخاري [ من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و قد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم و أدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال : ثم تلا هذه الآية { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه و سلم
الخامس : ما روي أن مقامه المحمود شفاعته رابع أربعة و سيأتي الأوزاعي
فصل : إذا أثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فيشفع هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف مؤمنهم و كافرهم ليراحوا من هول موقفهم فاعلم أن العلماء اختلفوا في شفاعاته و كم هي فقال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث شفاعات العامة و شفاعة في السبق إلى الحنة و شفاعة في أهل الكبائر و قال ابن عطية في تفسيره : و المشهور أنهما شفاعتان فقط العامة و شفاعة في إخراج المذنبين من النار و هذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون و يشفع العلماء
قال القاضي عياض شفاعات نبينا صلى الله عليه و سلم يوم القيامة خمس شفاعات :
الأولى : العامة
الثانية : إدخال قوم الجنة بغير حساب
الثالثة : في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفعه فيهم نبينا صلى الله عليه و سلم و من شاء أن يشفع و يدخلون الجنة و هذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج و المعتزلة فمنعتها على أصولهم الفاسدة و هي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين و التقبيح
الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا و غيره من الأنبياء و الملائكة و إخوانهم من المؤمنين
قلت : و هذه المشافعة أنكرتها المعتزلة أيضا و إذا منعوها فيمن استوجب النار بذنبه و إن لم يدخلها فأحرى أن يمنعوها فيمن دخلها
الخامسة : في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها و ترفيعها قال القاضي عياض : و هذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة و لا تنكر شفاعة الحشر الأول
قلت : و شفاعة سادسة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه كما رواه مسلم ] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه [ فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قيل له : لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها و يدخلون الجنة
فصل : و اختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النبوة صغائر من الذنوب يؤاخذون بها و يعاتبون عليها و يشفقون على أنفسهم منها أم لا بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر و من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته و تسقط مروءته إجماعا ؟ عند القاضي أبي بكر و عن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة و عند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم فقال الطبري و غيره من الفقهاء و المتكلمين و المحدثين : تقع الصغائر منهم خلافا للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله و احتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل و ثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث و هذا ظاهر لا خفاء به
و قال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر لأنا أمرنا باتياعهم في أفعالهم و آثارهم و سيرهم مطلقا من غير التزام قرينة فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة و الإباحة و الحظر أو المعية و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني و اختلفوا في الصغائر و الذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم و مال بعضهم إلى تجويزها و لا أصل لهذه المقالة
و قال بعض النتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : و الذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم و نسبها إليهم و عاتبهم عليها و أخبروا بها عن نفوسهم و تنصلوا منها و استغفروا منها و تابوا و كل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويل جملتها و إن قبل ذلك آحادها و كل ذلك مما لا يزري بمناصبهم و إنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور و على جهة الخطأ و النسيان أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلىغيرهم حسنات و في حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم و علو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع عملهم بالأمن و الأمان والسلامة و هذا هو الحق
و لقد أحسن الجنيد رضي الله عنه حيث قال : حسنات الأربار سيئات المقربين فهم صلوات صلى الله عليه و سلم عليهم و سلامه و إن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم و لا قدح في رتبهم بل تلافاهم و اجتباهم و هداهم و مدحهم و زكاهم و اصطفاهم صلوات الله عليهم و سلامه
باب
ذكر ابن المبارك قال : ] أخبرنا رشدين بن سعد قال : أخبرني عبد الرحمن بن زياد عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر حديث الشفاعة و فيه فيقول عيسى عليه السلام أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني و يجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافر قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد جد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك قد أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ثم يعظهم لجهنم و يقول عند ذلك { و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم } الآية
باب من أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم
البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ]
و روى [ زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة قيل يا رسول الله : ما إخلاصها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ] خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب
باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب و إعطاء الكتب باليمين و الشمال و من أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة و في كيفية و قوفهم للحساب و ما يقبل منهم من الأعمال و في دعائهم بأسماء آباهم و بيان قوله { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } و في تعظيم خلق الإنسان الذي يدخل الناس به النار أو الجنان و ذكر القاضي العدل و من نوقش عذب
قال الترمذي : و روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر و إنما يخف الحساب على من حاسب نفسه في الدنيا ] و قال عطاء الخراساني : يحاسب العبد يوم القيامة عند معارفة ليكون أشد عليه ذكره أبو نعيم
البخاري [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حوسب يوم القيامة عذب قالت فقلت يا رسول الله : أليس قد قال الله { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ؟ فقال : ليس ذلك الحساب إنما ذلك عرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ] أخرجه مسلم و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا عمر بن العلاء اليشكري قال : حدثني صالح بن طبرج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول و ذكر عندها القضاة فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط ]
الترمذي [ عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال و معاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه و أخذ بشماله ] قال أبو عيسى و لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه و قد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم
قلت : قوله وقد رواه بعضهم هو وكيع بن الجراح ذكره ابن ماجه قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا و كيع عن علي بن علي فذكره
قال الترمذي :
و تكلم يحيى بن سعيد القطان في علي بن علي و خرجه أبو بكر البزار أيضا [ عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال و أما الثالثة فتطاير الكتب يمينا و شمالا ]
و ذكره الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين قال : فروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن الناس يعرضون ثلاث عرضات يوم القيامة فأما عرضتان فجدال و معاذي و أما العرضة الثالثة فتطاير الصحف فالجدال لأهل الأهواء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا و قامت حجتهم و المعاذير لله تعالى يعتذر الكريم إلى آدم و إلى أنبيائه و يقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعثهم إلى النار فإنه يجب أن يكون عذره عند أنبيائه و أوليائه ظاهرا حتى لا تأخذهم الحيرة و لذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا أحد أحب إليه المدح من الله و لا أحد أحب إليه العذر من الله و العرضة الثالثة للمؤمنين و هو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتبهم في تلك الخلوات من يريد أن يعاتبهم حتى يذوق و بال الحياء و يرفض عرقا بين يديه و يفيض العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء ثم يغفر لهم و يرضى عنهم ]
و ذكر أبو جعفر العقيلي [ من حديث نعيم بن سالم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم الموقف بعث الله ريحا فتطيرها بالإيمان و الشمائل أول خط فيها : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } ]
أبو داود [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل و عند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله من وراء ظهره و عند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز ]
و ذكر أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب [ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه و له شعاع كشعاع الشمس فقيل له : أين يكون أبو بكر يا رسول الله ؟ قال : هيهات زفته الملائكة إلى الجنان ]
و خرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد له [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تبارك و تعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين و أحكم الحاكمين و أسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم و يسروا جوابكم فإنكم مسؤلون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي طفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ]
و أسند سمرة بن عطية قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب و في صحيفته أمثال الجبال من الحسنات فيقول رب العزة تبارك و تعالى : صليت يوم كذا و كذا ليقال : فلان صلى أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص صمت يوم كذا و كذا ليقال : صام فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص تصدقت يوم كذا و كذا ليقال : تصدق فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص فما زال يمحى شيء بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء فيقول ملكاه : ألغير الله كنت تعمل ؟
قلت : و مثل هذا لايقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفع معناه الدار قطني في سننه [ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز و جل فيقول الله تعالى : ألقوا هذا و اقبلوا هذا فتقول الملائكة : و عزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز و جل ـ و هو أعلم ـ : إن هذا كان لغيري و لا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي ] خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } قال : يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه و يمد له في جسمه ستون ذراعا و يبيض و جهه و يجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فبنطلق إلى أصحابه فيرونه من بعد فيقولون : اللهم آتنا بهذا و بارك لنا في هذا حتى يأتيهم و يقول : أبشروا لكل مسلم مثل هذا قال : و أما الكافر فيسود و جهه و يمد في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم و يلبس تاجا من نار فيراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال : فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه فيقول : أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب
و روي أن عيسى عليه السلام مر بقبر فوكزه برجله و قال : يا صاحب هذا القبر قم بإذن الله فقام إليه رجل و قال : ياروح الله ما الذي أردت فإني لقائم في الحساب منذ سبعين سنة حتى أتتني الصيحة الساعة أن أجب روح الله فقال عيسى : يا هذا لقد كنت كثير الذنوب و الخطايا ما كان عملك ؟ فقال : و الله يا روح الله ما كنت إلا حطابا أحمل الحطب على رأسي آكل حلالا و أتصدق فقال عيسى : يا سبحان الله حطابا يحمل الحطب على رأسه يأكل حلالا و يتصدق و هو قائم في الحساب منذ سبعين سنة ثم قال له : يا روح الله كان من توبيخ ربي لي أن قال : اكتراك عبدي لتحمل له حزمة فأخذت منها عودا فتخللت به و ألقيته في غير مكانه امتهانا منك بي و أنت تعلم أني أنا الله المطلع عليك و أراك
فصل : قال الله تعالى { و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق و قال إبراهيم بن أدهم كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله فإذا مات طويت و إذا بعث نشرت و قيل له { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } و قال ابن عباس رضي الله عنه : طائره عمله { و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } قال الحسن : يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي
و قال أبو السوار العدوي : و قرأ هذه الآية { و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال : هما نشرتان و طية أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها بعد البعث حوسبوا بها قال الله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فدل على أن المحاسبة تكون عند إتيان الكتب لأن الناس إذا بعثوا لا يكون ذاكرين لأعمالهم قال الله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله و نسوه }
و قد تقدم القول في محاسبة الله تعالى لخلقه في يوم الحساب من أسماء القيامة فإذا بعثوا من قبورهم إلى الموقف و قاموا فيه ما شاء تعالى على ما تقدم حفاة عراة و جاء و قت الحساب يريد الله أن يحاسبهم فيه أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه فأولئك هم السعداء و منهم من يؤتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره و هم الأشقياء فعند ذلك يقرأ كل كتابه و أنشدوا :
( مثل و قوفك يوم العرض عريانا ... مستوحشا قلق الأحشاء حيرانا )
( و النار تلهب من غيظ و من حنق ... على العصاة و رب العرش غضبانا )
( اقرأ كتابك ياعبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفا غير ما كانا )
( لما قرات و لم تنكر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا )
( نادى الجليل : خذوه يا ملائكتي ... و امضوا بعبد عصى للنار عطشانا )
( المشركون غدا في النار يلتهبوا ... و المؤمنون بدار الخلد سكانا )
فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب و نصبت الموازين و قد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق أين فلان ابن فلان هلم إلى العرش على الله تعالى و قد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك و اسم أبيك إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذ قرع النداء قلبك فعلمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك و اضطربت جوارحك و تغير لونك و طار قلبك تحظى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه و الوقوف بين يديه و قد رفع الخلائق إليك أبصارهم و أنت في أيديهم و قد طار قلبك و اشتد رعبك لعلمك أين يراد بك
فتوهم نفسك و أنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها و لا مخبأة أسررتها و أنت تقرأ ما قيها بلسان كليل و قلب منكسر و الأهوال محدقة بك من بين يديك و من خلفك فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكرتها و كم من شيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها و أبداها و كم من عمل ظننت أنه سلم لك و خلص فرده عليك في ذلك الموقف و أحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيما فيا حسرة قلبك و يا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك { فأما من أوتي كتابه بيمينه } فعلم أنه من أهل الجنة { فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } و ذلك حين يأذن الله فيقرأ كتابه
فإذا كان الرجل رأسا في الخير يدعوا إليه و يأمر به و يكثر تبعه عليه دعي باسمه و اسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض في باطنه السيئات و في ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق و يصفر وجهه و يتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه سيئاتك و قد غفرت لك فيفرح عند ذلك فرحا شديدا ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا حتى إذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض و جهه و يؤتى بتاج فيوضع على رأسه و يكسى حلتين و يحلى كل مفصل فيه و بطول ستين ذراعا و هي قامة آدم و يقال له : انطلق إلى أصحابك فبشرهم و أخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فإذا أدبر قال { هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه } قال الله تعالى { فهو في عيشة راضية } أي مرضية قد رضيها { في جنة عالية } في السماء { قطوفها } ثمارها و عناقيدها { دانية } أدنيت منهم فيقول لأصحابه هل تعرفونني ؟ فيقولون قد غمرتك كرامة الله من أنت فيقول أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } أي قدمتم في أيام الدنيا
و إذا كان الرجل رأسا في الشر يدعو إليه و يأمره به فيكثر تبعه عليه و نودي باسمه و اسم أبيه فيتقدم إلى حسابه فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات و في ظاهره السيئات فيبدأ بالحسنات فيقرؤها و يظن أنه سينجو فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه : هذه حسناتك و قد ردت عليك فيسود وجهه و يعلوه الحزن و يقنط من الخير ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا و لا يزداد و جهه إلا سودا فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه : هذه سيئاتك و قد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل قال : فينظر إلى النار و تزرق عيناه و يسود و جهه و يكسى سرابيل القطران و يقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فينطلق و هو يقول : { يا ليتني لم أوت كتابيه * و لم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية } يعني الموت { هلك عني سلطانيه } تفسير ابن عباس رضي الله عنهما هلكت عني حجتي قال تعالى { خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه } أي اجعلوه يصلى الجحيم { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } و الله أعلم بأي ذراع قال الحسن و قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبعون ذراعا بذراع الملك و سيأتي في كتاب النار لهذه السلسلة مزيد بيان فاسلكوه فيها أي تدخل من فيه حتى تخرج من دبره قاله الكلبي و قيل : بالعكس و قيل : يدخل عنقه فيها ثم يجر بها و لو أن حلقة منها وضعت على جبل لأذابته فينادي أصحابه فيقول هل تعرفونني فيقولون لا ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت فيقول أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذا
و أما من أوتي كتابه وراء ظهره فتخلع كتفه اليسرى فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه و قال مجاهد : يحول مجاهد و جهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك فتوهم نفسك إن كنت من السعداء و قد خرجت على الخلائق مسرور الوجه قد حل لك الكمال و الحسن و الجمال كتابك في يمينك آخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا
أما إن كنت من أهل الشقاوة فيسود و جهك و تتخطى الخلائق كتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل و الثبور و ملك آخذ بضبيعك ينادي على رؤوس الخلائق ألا إن فلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
قلت : قوله ألا إن فلان ابن فلان دليل على أن الإنسان يدعى في الآخرة باسمه و اسم أبيه و قد جاء صريحا من حديث [ أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم و أسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ] خرجه أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو عمر بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال : حدثنا زكريا بن يحي قال : حدثنا هشيم عن داود بن عمر عن عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء فذكره

باب في قوله تعالى يوم تبيض وجوه و تسود وجوه
الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو إمامة رؤوسا منصوبة على برج دمشق فقال أبو أمامة : [ كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ] ثم قرأ قوله تعالى { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه } إلى آخر الآية فقلت لأبي أمامة الباهلي : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه ] قال : هذا حديث حسن
و خرج أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب [ عن مالك بن سليم الهروي أخي غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى { يوم تبيض و جوه و تسود وجوه } قال : يعني تبيض و جوه أهل السنة و تسود و جوه أهل البدعة ] و قال مالك بن أنس رضي الله عنه هي في أهل الأهواء و قال الحسن هي في المنافقين و قال قتادة في المرتدين و قال أبي بن كعب هي في الكفار و هو اختيار الطبري اللهم بيض و جوهنا يوم تبيض و جوه أو ليائك و لا تسود و جوهنا يوم تسود و جوه أعدائك بحق رسلك و أنبيائك و أصفيائك بفضلك ياذا الفضل العظيم و كرمك يا كريم

باب في قوله تعالى و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية
ابن المبارك قال : أخبرنا الحكم و أبو الحكم ـ شك ـ نعيم عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بني أسد قال : قال عمر لكعب : و يحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة قال نعيم : يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا و هو ينظر إلى عمله قال ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش و ذلك قوله تعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } قال الأسدي : الصغيرة ما دون الشرك و الكبيرة الشرك [ إلا أحصاها ] قال كعب : ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فحسناته باديات للناس و هو يقرأ سيئاته فذكر معنى ما تقدم و كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول : يا ويلتنا ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر قال ابن عباس رضي الله عنه : الصغيرة التبسم و الكبيرة الضحك بعني ما كان من ذلك في معصية الله
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم [ ضرب بصغائر الذنوب مثلا فقال : إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض و حضر صنيع القوم فانطلق كل رجل منهم يحتطب فجعل الرجل يجيء بالعود و الآخر بالعودين حتى جمعوا سوادا و أججوا نارا فشووا خبزهم و أن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله و اتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ]
أنبأنا الشيخان [ أبو محمد عبد الوهاب القرشي و الإمام أبو الحسن الشافعي قالا : أخبرنا السلفي قال : أخبرنا الثقفي أخبرنا أبو طاهر محمد بن مخمش الزيادي إملاء بنيسابور قال : أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي قال : أخبرنا محمد بن حماد الأبيوردي قال : أخبرنا أنس بن عياض الليثي عن أبي حازم لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم و محقرات الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ] غريب من حديث أبي حازم سلمة بن دينار تفرد به عنه أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي و لقد أحسن القائل :
( خل الذنوب صغيرها و كبيرها ها ذاك التقي
... واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى )
( لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى )
و قال جماعة من العلماء : إن الذنوب كلها كبائر قال بعضهم : لا تنظر إلى صغر الذنب و لكن انظر من عصيت فهي من حيث المخالفة كبائر و الصحيح أن فيها صغائر و كبائر ليس هذا موضع الكلام في ذلك و قد بيناه في سورة النساء في كتاب جامع أحكام القرآن و الله أعلم

باب ما يسأل عنه العبد و كيفية السؤال
قال الله تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
و قال : { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } و قال { قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم } أي ما عملتموه و قال { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره } أي يسأل عن ذلك و يجازي عليه و الآيات في هذا المعنى كثيرة و قال { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الناس يا رسول الله : عن أي نعيم نسأل فإنما هما الأسودان و العدو حاضر و سيوفنا على عواتقنا ؟ قال : إن ذلك سيكون و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة يعني العبد أن يقال له ألم أنصح لك جسمك و نرويك من الماء البارد ] قال الترمذي : حديث غريب
و خرج أبو نعيم الحافظ [ من حديث الأعمش عن أبي وائل شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يخطو خطوة إلا سئل عنها ما أراد بها ]
مسلم [ عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن جسده فيما أبلاه ؟ و عن عمله ما عمل فيه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ ] خرجه الترمذي و قال فيه : حديث حسن صحيح رواه عن ابن عمر عن ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي و قال فيه : حديث غريب لا أعرفه إلا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث الحسين بن قيس و الحسين يضعف في الحديث
و في الباب [ عن أبي برزة و أبي سعيد قلت : و معاذ بن جبل أخبرناه الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب بثغر الإسكندرية قراءة عليه قال : قرأ على البيهقي و أنا أسمع قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد سنة أربع و سبعين و أربعمائة قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران المعدل قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة في شوال سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة قال : أخبرنا أبو سعيد الفضل بن محمد الجندي إملاء في المسجد الحرام سنة تسع و تسعين و مائتين قال : أخبرنا صامت بن معاذ الجندي أخبرنا عبد الحميد عن سفيان بن سعيد الثوري عن صفوان بن سليم عن عدي بن عدي عن الصالحي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن شبابه فيما أبلاه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ و عن عمله ماذا عمل فيه ؟ ]
و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب [ أخبرنا أحمد بن خالد الحلبي أخبرنا يوسف بن يونس الأفطس قال : أخبرنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله ]
مسلم [ عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر رضي الله عنه كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف قال فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم قال : فيعطى صحيفة حسناته و أما الكفار و المنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ] أخرجه البخاري و قال في آخره : { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين }
[ و روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة خلا الله عز و جل بعبده المؤمن يوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملك مقرب و لا نبي مرسل و ستر عليه من ذنوبه ما يكرهه أن يقف عليها ثم يقول لسيئاته كوني حسنات ]
قال المؤلف : خرجه مسلم بمعناه و سيأتي آنفا إن شاء الله تعالى
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الديباج له حدثنا هارون بن عبد الله قال : حدثنا سيار قال : قال جعفر قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : يدني الله العبد منه يوم القيامة و يضع عليه كفنه فيستره من الخلائق كلها و يدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول له : اقرأ يا ابن آدم كتابك قال : فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه و يمر بالسيئة فيسود لها وجهه قال : فيقول الله تعالى له : أتعرف يا عبدي ؟ قال : فيقول نعم يا رب أعرف قال : فيقول : إني أعرف بها منك قد غفرتها لك قال : فلا تزال حسنة تقبل فيسجد و سيئة تغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه إلا ذلك حتى ينادي الخلائق بعضها بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص قط و لا يدرون ما قد لقي فيما بينه و بين الله تعالى مما قد وقفه عليه
قلت : نسخة من هنا إلى الفصل قوله لا يزول أخبرنا الشيخ الراوية القرشي عبد الوهاب قراءة عليه بثغر الإسكندرية حماه الله قال : قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ حدثنا الحاجب أبو الحسن بن العلاء و قال : أخبرنا أبو القاسم بن بشران أخبرنا الأجري حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى السونيطي حدثنا أحمد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه و تخبأ كبارها فيقال له : عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا ثلاث مرات قال : و هو يقر ليس ينكر قال : و هو مشفق من الكبائر أن تجيء قال : فإذا أراد الله به خيرا قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول حين طمع : يا رب إن لي ذنوبا ما رأيتها ها هنا قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه ثم تلا { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ] خرجه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا الأعمش فذكره
فصل : قوله [ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل ] : عام لأنه نكرة في سياق النفي لكنه مخصوص بقوله عليه السلام [ يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ] على ما يأتي
و بقوله تعالى لمحمد عليه السلام : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن و قد تقدم الحديث
و بقوله تعالى : { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
قوله عليه السلام : [ و عن عمله ما عمل فيه ]
قلت : هذا مقام مخوف لأنه لم يقل و عن عمله ما قال فيه و إنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق الله في ذلك و أخلصه حتى يدخل فيمن أثنى الله عليه بقوله : { أولئك الذين صدقوا } أو خالف علمه بفعله فيدخل في قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف و رثوا الكتاب } الآية و قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب } و قوله : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و سيأتي ذكرها في أبواب النار إن شاء الله تعالى قوله : [ حتى يضع عليه كنفه ] أي ستره و لطفه و إكرامه فيخاطب خطاب الملاطفة و يناجيه مناجاة المصافاة و المحادثة فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف فيقول الله تعالى : ممتنا عليه و مظهرا فضله لديه : فإني قد سترتها عليك في الدنيا أي لم أفضحك بها فيها و أنا أغفرها لك اليوم ثم قيل هذه الذنوب تاب منها كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال : إن الله يغفر الذنوب و لكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة و إن تاب منها
قال المؤلف : و لا يعارض هذا ما في التنزيل و الحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها و الله أعلم
و قيل في صغائر اقترفها و قيل كبائر بينه و بين الله تعالى اجترحها و أما ما كان بينه و بين العباد فلا بد فيها من القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي و قيل : ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه و يدخل تحت كسبه و يثبت في نفسه و إن لم يعلمه و هذا اختيار الطبري و النحاس و غير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسرا لقوله تعالى : { و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة و الله أعلم
و قد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة و آي القرأن و الحمد لله
و روي عن ابن مسعود أنه قال : ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة و هذا مأخوذ من حديث النجوى و من قوله عليه السلام : [ يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة ] خرجه مسلم
و في صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة ] و روى [ من ستر على مسلم عورته ستر الله عورته يوم القيامة ] قال أبو حامد : فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم و احتمل في حق نفسه تقصيرهم و لم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس و لم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة
فصل : و في قوله : [ سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم ] نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين و العرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم :
( و لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... و لا أختشى من روعة المتهدد )
( و إني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي و منجز موعدي )
قال ابن العربي : إنه كذلك عند العرب و أما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبدا خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقابا فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع و هو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد و الوعيد عامة فخصصتها الشريعة و بينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر كقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء } و قوله تعالى : { و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } الآية و كقوله تعالى : { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو } و بالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه و سلم و من شاء من الخلق من بعده
باب ما جاء أن الله تعالى يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان
مسلم [ عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار و لو بشق تمرة ] زاد ابن حجر قال الأعمش : و حدثني عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدي مثله و زاد فيه [ و لو بكلمة طيبة ] أخرجه البخاري و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
ابن المبارك قال : [ أخبرنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن و قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له : أعطيتك و خولتك و أنعمت عليك فماذا صنعت ؟ فيقول : يا رب جمعته و ثمرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فيقول الله تعالى : أرني ما قدمت فيقول : فإذا عبد لم يقدم خيرا فيمضي به إلى النار ] خرجه ابن العربي في سراج المريدين و زاد فيه بعد قوله كأنه بذج و قال فيه حديث صحيح من مراسيل الحسن و قال الهروي كأنه بدوج من الذل
قال أبو عبيد : هو ولد الضأن و جمعه بدجان و قال الجوهري : البدوج من الضأن بمنزلة العقود من أولاد المعز و أنشدوا :
( قد هلكت جارتنا من الهمج ... و إن تجع تأكل عقودا أو بدج )
قلت : و قوله : ما منكم من أحد مخصوص بما ذكرناه في الباب قبل أي ما منكم ممن لا يدخل الجنة بغير حساب من أمتي إلا وسيكلمه الله و الله أعلم فتكفر في عظيم حياتك إذا ذكرك ذنوبك شقاها إذ يقول : يا عبدي أما استحييت مني فبارزتني بالقبح و استحييت من خلقي فأظهرت لهم الجميل أكنت أهون عليك من سائر عبادي استخففت بنظري إليك فلم تكترث به و استعظمت نظر غيري ألم أنعم عليك فماذا غرك بي ؟
و عن ابن مسعود قال : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ يا ابن آدم ألم أكن رقيبا على عينيك و أنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك ألم أكن رقيبا على أذنيك ؟ و هكذا عن سائر الأعضاء فكيف ترى حياءك و خجلك و هو يعد عليك إنعامه و معاصيك و أياديه و مساويك ؟ فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله وعد المؤمن أن يستر عليه و لا يطلع عليه غيره كما ذكرنا و ذلك بفضل منه
و هل يكلم الكفار عند المحاسبة لهم ؟ فيه خلاف تقدم بيانه في أسماء القيامة و يأتي أيضا في باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما بالله عز و جل مستوفي إن شاء الله تعالى
فصل : فإن قيل : أخبر الله تعالى عن الناس أنهم مجزيون محاسبون و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم و هل يكلمهم الله ؟ فالجواب أن الله تعالى أخبر أن الإنس و الجن يسألون فقال خبرا عما يقال لهم { يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } الآية و هذا سؤال فإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله و لما كانت الجن ممن يخاطب و يعقل قال منكم و إن كانت الرسل من الإنس و غلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث و أيضا لما كان الحساب عليهم دون الخلق قال منكم فصير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرضة القيامة فلما صاروا في تلك العرضة في حساب واحد في شأن الثواب و العقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة لأن بدء خلقهم للعبودية كما قال تعالى : { و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } و الثواب و العقاب على العبودية إلا أن الجن أصلهم من مارج من نار و أصلنا من تراب و خلقهم غير خلقنا و منهم مؤمن و كافر و عدونا إبليس عدو لهم يعادي مؤمنهم و يوالي كافرهم و فيهم أهواء شيعية و قدرية و مرجئة و هو معنى قوله : { كنا طرائق قددا }
و قيل : إن الله تعالى لما قال : { و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دخل في الجملة الجن و الإنس فثبت للجن من وعد الجنة لعموم الآية ما ثبت للإنس
فإن قيل : فما الحكمة في ذكر الجنة مع الإنس في الوعيد و ترك إفراده الإنس عنهم في الوعد ؟
فالجواب : أنهم قد ذكروا أيضا في الوعد لأنه سبحانه يقول : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين } ثم قال : { و لكل درجات مما عملوا } و إنما أراد لكل من الإنس و الجن فقد ذكروا في الوعد مع الإنس
فإن قيل : فقد ذكر يخاطب الجن والإنس في النار لأن الله تعالى قال : { و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق } إلى قوله { و لوموا أنفسكم } { قال قرينه ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد } و لم يأت عن تفاوض الفريقين في الجنة خبر قيل : إنما ذكر من تفاوضهم في النار أن الواحد من الإنس يقول للشيطان الذي كان قرينه في الدينا إنه أطغاني و أضلني فيقول له قرينه : ربنا ما أطغيته و لكنه كان ضالا بنفسه و لا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة فيهما إلى التفاوض فلذلك سكت عنهما و أيضا فإن الله تعالى أخبر الناس أن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يتخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد و العصيان و هذا المعنى مقصود في الأخبار فلهذا سكت عن ذلك في الوعد به
باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس و في حسبه لهم حتى
ينصفوا منه
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ] البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارا و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ]
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس من لا درهم له و لا متاع قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة و يأتي قد شئتم هذا و قذف هذا و أكل هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ]
و خرج ابن ماجه [ حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء حدثنا عمي محمد بن سواء عن حسين المعلم عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات و عليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار و لا درهم من ترك دنيا أو ضياعا فعلى الله و رسوله ]
الحارث بن أبي أسامة [ و عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الله العباد أو قال الناس ـ شك ـ و أومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما قال : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد و من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة و واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة و لا ينبغي لأحد من أهل النار و واحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة قال : قلنا : كيف و إنما نأتي الله عراة حفاة قال بالحسنات و السيئات ]
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا الحديث الذي أراد البخاري بقوله و رحل جابر عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد
سفيان بن عيينة عن مسعر عن عمرو بن مرة قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني الربيع بن خيثم و كان من معادن الصدق قال : إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضيا له منكم في الدنيا يحبس لهم فيأخذونه فيقول : يا رب ألست تراني حافيا ؟ فيقول : خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن له حسنات يقول : زيدوا على سيئاته من سيئاتهم و ذكر أبو عمر بن عبد البر من [ حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين ]
و روى أبو نعيم الحافظ بإسناده عن زاذان أبي عمر قال : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز و اليمنة قد سبقوني إلى المجلس فقلت يا عبد الله من أجل أبي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء و أقصيتني قال : ادن فدنوت حتى ما كان بيني و بينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين و الآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة بأن يدون لها الحق على ابنها أو أختها أو أبيها أو على زوجها ثم قرأ ابن مسعود { فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون } فيقول الرب تعالى للعبد : ائت هؤلاء حقهم فيقول : يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خبر ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ { إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما } و إن كان عبدا شقيا قالت الملائكة رب فنيت حسناته و بقي طالبون فيقول للملائكة : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته و صكوا له صكا إلى النار
و عنه [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان لو كان أكثر من ذلك ]
و روى رزين عن أبي هريرة قال : كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة هو لا يعرفه فيقول : مالك إلي و ما بيني و بينك معرفة ؟ فيقول : كنت تراني على الخطايا و على المنكر و لا تنهاني و قال ابن مسعود : تفرح المرأة يوم القيامة أن يكون لها حق و على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو أختها { فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون }
ابن ماجه [ عن جابر رضي الله عنه قال : لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرة البحر قال : ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي و جمع الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري و أمرك عنده غدا قال يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ]
فصل : أنكر بعض المتغفلة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجابا برأيهم و تحكما على كتاب الله تعالى و سنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم بعقول ضعيفة و أفهام سخيفة فقالوا : لا يجوز في حكم الله تعالى و عدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها و يؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها و هذا زعموا جورا و أولوا قول الله تعالى { و لا تزر وازرة وزر أخرى } فكيف تصح هذه الأحاديث و هي تخالف ظاهر القرآن و تستحيل في العقل ؟
و الجواب : أن الله سبحانه و تعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد و لم يعد و لم يوعد على ما تحملته عقولهم و يدركونها بأفهامهم بل وعدوا وعدا بمشيئته و إرادته و أمر و نهي بحكمته و لو كان كلما لا تدركه العقول مردودا لكان أكثر الشرائع مستحيلا على موضوع عقول العباد و ذلك أن الله تعالى أوجب بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة و كثير من الأئمة و أوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأئمة و سائر من يقول بالعقل و غيره في نجاسته و قذارته و نتنه و أوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش فبأي عقل يستقيم هذا و بأي رأي تجب مسواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه و تزيد على الريح نتنا و قذرا قد أوجب الله قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم و عند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم و دون ذلك ثم سوى بين هذا القدر من المال و بين مائة ألف دينار فيكون القطع فيهما سواء و أعطى الأم من ولدها الثلث ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن ترث الإخوة من ذلك شيئا فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليما وانقيادا من صاحب الشرع إلى غير ذلك فكذلك القصاص بالحسنات و السيئات و قد قال و قوله الحق : { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس } الآية و قال : { و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم } و قال : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم } و هذا يبين قوله تعالى { و لا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى إذا لم تتعد فإذا تعدت و استطالت بغير ما أمرت فإنها تحمل عليها و يؤخذ منها بغير اختيارها كما تقدم في أسماء القيامة عند قوله تعالى { و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا }
فصل : و إذا تقرر هذا فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه كما قال عمرو رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا و إنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا و يتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز و جل و يرد المظالم إلى أهلها حبة حبة و يستحل كل من تعرض له بلسانه و يده و سطوته بقلبه و يطيب قلوبهم حتى يموت و لم يبق عليه فريضة و لا مظلمة فهذا يدخل الجنة بغير حساب فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه فهذا يأخذ بيده و هذا يقبض على ناصيته وهذا يتعلق بلبته و هذا يقول ظلمتني و هذا يقول شتمتني و هذا يقول استهزأت بي و هذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني و هذا يقول جاورتني فأسأت جواري و هذا يقول عاملتني فغششتني و هذا يقول بايعتني و أخفيت عني عيب متاعك و هذا يقول كذبت في سعر متاعك و هذا يقول رأيتني محتاجا و كنت غنيا فما أطعمتني و هذا يقول وجدتني مظلوما و كنت قادرا على دفع الظلم فداهنت الظلم و ما راعيتني فبينما أنت كذلك و قد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم و احكموا في تلابيبك أيديهم و أنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا و قد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار و قد ضعفت عن مقاومتهم و مددت عنق الرجاء إلى سيدك و مولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة و توقن نفسك بالبوار و تتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم حيث قال : { و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } إلى قوله { لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء }
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس و تناولك أموالهم و ما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل و شوفهت بخطاب السيئات و أنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك و تنقل إلى أخصامك عوضا عن حقوقهم كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب
فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء و مكائد الشيطان فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك و أخذوها و يقال : لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيا و له خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضي خصمه و قيل : يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم ذكره القشيري في التحبير له عند اسمه المقسط الجامع
قال أبو حامد : و لعلك لو حاسبت نفسك و أنت مواظب على صيام النهار و قيام الليل لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا و يجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام و الشهوات و التقصير في الطاعات ؟ و كيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء ؟ { و يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا } فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك ؟ فتقول : أين حسناتي ؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك و ترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط فيقال : هذه سيئات الذين اغتبتهم و شتمتهم و قصدتهم بالسوء و ظلمتهم في المعاملة و المبايعة و المجاورة و المخاطبة و المناظرة و المذاكرة و المدارسة و سائر أصناف المعاملة فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أموالهم و التعرض لأعراضهم و أبشارهم و تضييق قلوبهم و إساءة الخلق في معاشرتهم فإن ما بين العبد و بين الله خاصة المغفرة إليه أسرع و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب عنها و عسر عليه استحال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم على ما يأتي بيانه في باب إرضاء الخصوم بعد هذا إن شاء الله تعالى
فصل : قوله في الحديث : فيناديهم بصوت استدل به مكن قال بالحرف و الصوت و أن الله يتكلم بذلك تعالى الله عما يقوله المجسمون و الجاحدون علوا كبيرا و إنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى و أمره و مثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل نادى الأمير و بلغني نداء الأمير كما قال تعالى : { و نادى فرعون في قومه } و إنما المراد نادى المنادي عن أمره و أصدر نداءه عن إذنه و هو كقولهم أيضا : قتل الأمير فلانا و ضرب فلانا و ليس المراد توليه لهذه الأفعال و تصديه لهذه الأعمال و لكن المقصود صدورها عن أمره و قد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى و الرشاد : ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم
و مثله ما جاء في حديث التنزيل مفسرا فيما أخرجه النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله عز و جل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ] صححه أبو محمد عبد الحق و كل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه و أن ذلك من باب حذف المضاف و الدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات
فإن قال بعض الأغبياء : لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه [ أنا الديان ] و ليس يصدر هذا الكلام حقا و صدقا إلا من رب العالمين
قيل له : إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى و ينبئ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين و الدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى { إني أنا الله } فليس يرجع إلى القارئ و إنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى و دال عليه بأصواته و هذا بين و قد أتينا عليه في الصفات من كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا
فصل : و اختلف االناس في حشر البهائم و في قصاص بعضها من بعض فروي عن ابن عباس أن حشر الدواب و الطير موتها و قال الضحاك : و روي عن ابن عباس في رواية أخرى : أن البهائم تحشر و تبعث قال أبو ذر و أبو هريرة و عمرو بن العاص و الحسن البصري و غيرهم و هو الصحيح لقوله تعالى : { و إذا الوحوش حشرت } و قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و الطير و الدواب و كل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار { و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } و نحوه عن ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص و في الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله تعالى { وجوه يومئذ عليها غبرة } أي غبار و قالت طائفة : الحشر في قوله تعالى { ثم إلى ربهم يحشرون } راجع الكفار و ما تخلل من قوله تعالى { و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء } كلام معترض و إقامة حجج و أما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب و القصاص فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه و أنه لا محيص لمخلوق عنه و عضدوا ذلك بما روي في غير الصحيح عن بعض رواياته من الزيادة فقال : حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء و للحجر لما ركب الحجر و العود لما خدش العود قالوا فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد للاعتبار و التهويل لأن الجمادات لا تعقل خطابها و لا عقابها و ثوابها و لم يصر إليه أحد من العقلاء و متخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء أجاب بعض من قال إنها تحشر و تبعث بأن قال إن من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمر من أمور الدنيا و الآخرة إلا على سنة مسنونة و حكمة موزونة
و من قال هنا بما قالته طائفة من المتوسمة بالعلم المتسمة بالفقه و الفهم على الزعم أن الجامد لا يفقه و الحيوان غير الإنسان لا يعقل و إنما هو منزل في الحيوان و لسان حال في الجامد و النامي و قال إن الله تعالى يقول في الضالين المكذبين { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } و لو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص و التقصير و الله سبحانه قد وصفه بالموت و الصمم في موضع التبصير و التذكير فقال : { و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } و قال { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } { صم بكم عمي فهم لا يرجعون }
قيل له : ليس الأمر كما ذكرت و لا الحق على شيء مما زعمت و أنه ليس عليك من حيث الزعم و رؤية النفس في درجة العلم أبدا من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها إن شئت فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم عز و جل بالموت و الصمم كما وصفهم بالعمى و البكم و ليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتى و لا صم و لا بعميان و لا بكم و إنما هم أموات بالعقول و الأذهان عن صفة الإيمان و حياة دار الحيوان صم عن كلمة الأحياء عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء كذلك وصف الأنعام بضلال و ليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها و حكمتها إنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا فكيف يكون ذلك و الله تعالى يقول { و ما من دابة في الأرض } إلى قوله { يحشرون } فوربك لنحشرهم جما غفيرا و لنحاسبن حسابا يسيرا و لو كان من عند غير الله و لوجدوا فيه اختلافا كثيرا و أنه تعالى لا يسأل إلا عاقلا و لا يحاسب إلا مفضولا و ضلا و إنما جعل لكل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق و أجناس العوالم دار دنيا و دار أخرى و جعل لها أفلاكا و آفاقا و ظلما و أضواء فكل في فلكه و أفقه بليله و نهاره و سمعه و بصره و علمه و فهمه و حاكم من عقله أو جهله و قائم بنحلته و حكمته و سنته و شرعته فأدنى و أعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى و تعلم منا أكثر مما نعلم و إنها لتشاهد من نقصنا و قلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به و إعمال العقل فيه ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل و تحقيق المعرفة فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها و أفقها لا تسمع و لا تعقل إلا ميزا ما قدر ما تتسخر به و تتذلل طبعا فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير و أما ما نحن بسبيله من تصرفات و تعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا و الأفقية التي اقتطعتها منا فهي في طرقاتنا ضلال و بتعملاتنا و أحوال تصرفاتنا جهال و أما من حيث شرعتها و باطن رؤيتها فعارفة عقال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخذ الجمل القضم الذي ند و امتنع بحائط بني النجار و غلب الخلق عن أخذه و الوصول إليه حتى جاء صلى الله عليه و سلم فلما مشي إليه ورآه الجمل برك لديه و جعل يمر بمشفره على الأرض بين يديه تذللا و تسخيرا فقال صلى الله عليه و سلم هات الخطام فلما خطمه و رأى الناس يعجبون منه رد رأسه إليهم فقال ألا تعجبون أو كما قال إنه ليس شيء بين السماء و الأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الجن و الإنس ] و ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ما دابة إلا و هي مصيخة بأذنها يوم الجمعة تنتظر قيام الساعة ] و قال صلى الله عليه و سلم [ لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا مدر و لا شيء إلا شهد له يوم القيامة ]
قال المؤلف رحمه الله : خرجه مالك في موطئه و ابن ماجه في سننه و اللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري و قد تقدم أن الميت يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان و في رواية إلا الثقلين و الأخبار في هذا المعنى كثيرة قد أتينا على جملة منها في هذا الكتاب فكل حيوان و جماد محشور لما عنده من الإدراك و المشاهدة و الحضور من حيث هي لا من حيث نحن قال الله تعالى { و إن من شيء إلا يسبح بحمده } و قال { و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال } و قال عز من قائل : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب } لا يقال إن هذا السجود و التسبيح لسان حال ليس بلسان المقال فإنا نقول هذا مجاز و الله سبحانه يقص الحق كما أخبر في كتابه إن الحكم إلا الله يقص الحق
و من نظر بنور الله جاز العين إلى المعنى و حل الرمز و فك المعمى و هم إنما نظروا من حيث هم و من حيث العقل البشري و لم ينظروا الحياة الفلكية من حيث هي فغابوا عن الحضور و جمدوا على القصور و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
قلت : هذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري المذكور و هو صحيح و كذلك حديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها و هو صحيح و كذلك حديث أبي سعيد الخدري في شهادة المال صحيح و سيأتي
و قد روى ليث ابن أبي سليم [ عن عبد الرحمن بن مروان عن الهزيل عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بشاتين تنتطحان فقال : إن الله تعالى ليقضين يوم القيامة لههذ الجلحاء من هذه القرناء ]
و ذكر ابن وهب أخبرني ابن لهيعة و عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر فسمعه رافعا صوته يقول : أما و الله لولا يوم الخصومة لسؤتك قال ثابت : فدخلت فقلت ما شأنك يا أبا ذر ؟ قال : هذه قلت و ما عليك إن رأيتك تضربها قال [ و الذين نفسي بيده أو نفس محمد بيده لتسئلن الشاة فيما نطحت صاحبتها و ليسئلن الجماد فيما نكب أصبع الرجل ]
و روي عن شعبة [ عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاتين تنتطحان فقال : يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لكن الله يدري و يقضي بينهما يوم القيامة ] أخرجه أبو داود الطيالسي فقال حدثنا شعبة قال : أخبرني الأعمش قال سمعت منذر الثوري يحدث عن أصحاب له عن أبي ذر بلفظه و معناه و قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الجن و الإنس و الدواب و الوحوش فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنتطحها فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني ترابا فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت ترابا ]
و ذكر عبد الكريم الإمام أبو القاسم القشيري في التحبير له فقال : و في خبر الوحوش و البهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم سجود هذا يوم الثواب و العقاب و تقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بني آدم و يقال أن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل ثناؤه لثواب و لا لعقاب و إنما يحشركم تشهدون فضائح بني آدم ذكره القشيري في اسمه المقسط الجامع و هذا قول ثابت فتأمله
فصل : ظن بعض العلماء أن الصيام مختص بعامله موفرا له أجره و لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها متمسكا بقوله تعالى [ الصيام لي و أنا أجزي به ]
و أحاديث هذا الباب ترد قوله و أن الحقوق تؤخذ من سائر الأعمال صياما كان أو غيره و قيل : إن النوم إذا لم يكن معلوما لأحد و لا مكتوبا في الصحف هو الذي يستره الله و يخبؤه عليه حتى يكون له جنة من العذاب فيطرحون أولئك عليه سيئاتهم فيذهب عنهم و يقيه الصوم فلا يضر أصحابها لزوالها عنهم و لا له لأن الصوم جنته قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : و هو تأويل حسن إن شاء تعالى و لا تعارض و الحمد لله
باب
أبو داود [ عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه في حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ] صححه أبو محمد عبد الحق
باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة
روينا في الأربعين و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله تعالى [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه فقيل له : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز و جل فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته فقال يا رب ما بقي من حسناتي شيء فقال يا رب فليحمل من أوزاري و فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال إن ذلك اليوم ليوم يحتاج الناس فيه إلى أن تحمل عنهم أوزارهم ثم قال الله تعالى للطالب حقه ارفع بصرك فانظر إلى الجنان فرفع بصره ما أعجبه من الخير و النعمة فقال : لمن هذا يا رب ؟ فقال : لمن أعطاني ثمنه قال و من يملك ثمن ذلك ؟ قال أنت قال : بم إذا ؟ قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ]
و عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : يجيء المؤمن يوم القيامة قد أخذه صاحب الدين فيقول ديني على هذا فيقول الله تعالى أنا أحق من قضى عن عبدي قال : فيرضى هذا من دينه و يغفر لهذا و قال ابن أبي الدنيا و حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل قال بلغني أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه بيعني ما يتحمل المتحملون من أجلي و ما يكابدون في طلب مرضاتي أتراني أنسى لهم عملا كيف و أنا أرحم الراحمين بخلقي لو كنت معاجلا بالعقوبة أحدا أو كانت العقوبة من شأني لعاجلت بها القانطين من رحمتي و لو يرى عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن ظلموه ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم في جواري إذا ما اتهموم فضلي و كرمي
فصل : قلت : و هذا لبعض الناس ممن أراد الله بها أن لا يعذبه بل يعفو عنه و يغفر له و يرضى عنه خصمه و قد يكون هذا في الظالمين الأوابين و هو قوله تعالى { إنه كان للأوابين غفورا } و الأواب : الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه كذا تأوله أبو حامد و هو تأويل حسن أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيثة حسنة من عمل صالح يغفر الله له به و يرضى خصماؤه كما تقدم و ظاهر حديث أنس الخصوص بذينك الرجلين لقوله رجلان و لفظ التثنية لا يقتضي الجمع إلا ما روي في الحديث : [ مثل المنافق كالشاة العابرة بين الغنمين ] خرجه مسلم و ليس هذا موضعه و لو كان ذلك في جميع الناس ما دخل أحد النار و كذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها و ادخلوا الجنة برحتمي ] ما دخل أحد النار و هذا واضح فتأمله
باب أول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه و سلم
روى ابن ماجه [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نحن آخر الأمم و أول من يحاسب يقال : أين الأمة الأمية و نبيها ؟ فنحن الآخرون الأولون ] و في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما : [ فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محلجين من آثار الوضوء فتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ] خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه و قد تقدم
باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله : الصلاة و أول ما يقضى فيه بين
الناس : الدماء و في أول من يدعى للخصومة
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ] أخرجه البخاري أيضا و النسائي و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح و للنسائي أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة و أول ما يقضي بين الناس الدماء ]
و في البخاري [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة ] يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش قال أبو ذر و فيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآية و الخبر بهذا مشهور صحيح خرجه البخاري و مسلم و غيرهما
و [ عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه فيكون أول ما يقضى بينهم في الدماء و يأتي كل قتيل قتل في سبيل الله فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه و تشخب أوداجه دما فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى له ـ و هو أعلم ـ : فيم قتلته ؟ فيقول : رب قتلته لتكون العزة لي : فيقول الله تعالى : تعست ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها و لا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها و كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه و إن شاء رحمه ] خرجه الغيلاني أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزار المعروف بالشافعي
[ حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي حدثنا أبو عاصم الضحاك عن مخلد حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب و خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه : هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست و يذهب به إلى النار ]
و خرجه ابن المبارك موقوفا على عبد الله بن مسعود قال : حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله فذكر معناه
و خرجه الترمذي في جامعه قال [ حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال حدثنا ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته و رأسه بيده و أوداجه تشخب دما يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدينه من العرش ] قال : هذا حديث حسن غريب
مالك عن يحيى بن سعيد قال : بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله و إن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله
قلت : و هذا الحديث و إن كان موقوفا بلاغا فقد رواه أبو داود الترمذي و النسائي مرفوعا بهذا المعنى [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز و جل لملائكته : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلك لفظ أبي داود و قال الترمذي حديث حسن غريب و خرجه ابن ماجه أيضا
فصل : قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك و الله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها و سجودها و لم يدر قدر ذلك و أما من تعمد تركها أو شيئا منها ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا و اشتغل بالتطوع عن أداء فرضه و هو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه و الله أعلم
و قد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير ] عن عمرو بن قيس السكري عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه و سجوده و خشوعه زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم [ قال أبو عمرو : هذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه و ليس بالقوي و إن كان صح كان معناه أخرج من صلاة قد أتمها عند نفسه و ليس في الحكم بتامة
قلت : ينبغي للإنسان أن يحافظ على أداء فرضه فيصليه كما أمر من إتمام ركوع و سجود و حضور قلب فإن غفل عن شيء من ذلك فيجتهد بعد ذلك في نفله و لا يتساهل فيه و لا في تركه و من لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى أن لا يحسن النفل لا جرم بل تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان و الخلل في التمام لخفة النفل عندهم و تهاونهم به و لعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه و يظن به العلم بنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك فكيف بالجهال الذيم لا يعلمون و إذا كان هذا فكيف يكمل بهذا النفل ما نقص من الفرض هيهات هيهات ! فاعلموه أن الصلاة إذا كانت بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } ! و قال جماعة من العلماء : التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة و تمام ركوع و سجود و نحو ذلك و هو مع ذلك يصليها و لا يمتنع من القيام بها في وقتها و غير وقتها قالوا : فأما من تركها أصلا و لم يصلها فهو كافر
و روى الترمذي ] عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود [ و قال : حديث حسن صحيح و العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و من بعدهم يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع و السجود
قال الشافعي و أحمد و إسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع و السجود فصلاته فاسدة لحديث النبي صلى الله عليه و سلم ] لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود [
و روى البخاري عن زيد بن وهب عن حذيفة و رأى رجلا لا يتم ركوعه و لا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة : ما صليت و لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه و سلم و أخرجه النسائي أيضا عنه عن حذيفة أنه رأى رجلا يصلي فخفف فقال له حذيفة : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاما قال : ما صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة النبي ثم قال : إن الرجل ليخفف الصلاة و يتم و يحسن و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا قد أتينا عليها في غير هذا الباب و هي تبين لك المراد من قوله تعالى : { أضاعوا الصلاة }
و روى النسائي ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على ذلك [ و هذا نص و قال أبو عمر رضي الله عنه : و من ضيعها فهو لما سواها أضيع
قلت : و لا اعتبار بقول من قال إن الواجب من أركان الصلاة و من الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم و هو أبو حنيفة و أشار إلى ذلك القاضي عبد الوهاب في تلقينه و هو يروي ] عن ابن القاسم لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة فدخل في الذم المترتب على ذلك بقوله عليه السلام تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا [ رواه مالك في موطئه و مسلم في صحيحه و الأحاديث الثابتة تقضي بفساد صلاته كما بيناه مع قوله عليه السلام : ] أما الركوع فعظموا فيه الرب و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم [ خرجه مسلم
و في موطأ مالك ] عن يحيى بن سعيد عن النعمان بن مرة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ترون في الشارب و السارق و الزاني قال : و ذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله و رسوله أعلم قال : هن فواحش و فيهن عقوبة و أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا : يا رسول الله و كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها [
و روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : ] حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها و سجودها قالت : الصلاة حفظك الله كما حفظني فترفع و إذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها و لا سجودها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه فمن لم يحافظ على أوقات الصلاة لم يحافظ على الصلاة كما أن من لم يحافظ على وضوئها و ركوعها و سجودها فليس بمحافظ عليها و من لم يحافظ عليها فقد ضيعها و من ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه و لا دين لمن لا صلاة له
باب منه
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك و فرقت من الناس ]
و رواه الفريابي قال : [ حدثنا سفيان بن زيد عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله عليه فيه مقال فلا يقول فيه فيقول يوم القيامة ما منعك إذا رأيت كذا و كذا أن تقول فيه فيقول له أي ربي خفت الناس فيقال : إياي كنت أحق أن تخاف ] قال الوائلي أبو نصر و رواه أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله اليربوعي الكوفي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عمر بن قيس عن عمرو بن مرة المعنى واحد و هذا محفوظ من الطريقين عن عمرو بن مرة و مخرجه من الكوفة
باب منه
ذكر أبو نعيم الحافظ : [ حدثنا عبد الله محمد بن جعفر من أصل كتابه حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا حدثنا إسماعيل بن عمرو حدثنا مندل عن أسد بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه و لا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه ] هذا حديث غريب من حديث أسد و عكرمة لم يروه عنه فيما أعلم إلا مندل بن علي الغنوي
باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما الله عز و
جل
قال الله تعالى : { اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } و قال : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون } و قال : { و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } الآية و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من [ حديث معاوية بن حيدة القرشي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام و أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه ] و قد تقدم
مسلم [ عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم نضحك فقال : هل تدرون لم أضحك ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلا قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا و بالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه و بين الكلام قال : فيقول بعدا لكن و سحقا فعنكن كنت أناضل ] الترمذي [ عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : ألم أجعل لك سمعا و بصرا و مالا و ولدا و سخرت لك الأنعام و الحرث و ترأس و تربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول : لا فيقول : اليوم أنساك كما أنسيتني ] قال هذا حديث صحيح غريب و أخرجه مسلم عن أبي هريرة بأطول من هذا و قد تقدم
البخاري [ عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملك الأرض ذهبا كنت تفتدى به ؟ فيقول : نعم فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك ] و أخرجه مسلم و قال بدل [ قد كنت ] [ كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك ]
فصل : قوله عليه السلام [ فأول مايتكلم من الإنسان فخذه ] يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك زيادة في الفضيحة و الخزي على ما نطق به الكتب في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش و يخلو قلبه عندها من ذكر الله تعالى فلا يفعل ما بفعل خائفا مشفقا فيجزيه الله بمجاهرته بفحشه على رؤوس الأشهاد
و الوجه الآخر : أن يكون هذا فيمن يقرأ كتابه و لا يعرف بما ينطق به بل يجحد فيختم الله على فيه عند ذلك و تنطق منه الجوارح التي لم تكن ناطقة في الدنيا فتشهد عليه سيئاته و هذا أظهر الوجهين يدل عليه أنهم يقولون لجلودهم أي لفروجهم في قول زيد بن أسلم لم شهدتم علينا ؟ فتمردوا في الجحود فاستحقوا من الله الفضح و الإخزاء نعوذ بالله منهما
فصل : قوله [ و تركتك ترأس و تربع ] أي ترأس على قومك بأن يكون رئيسا عليهم و يأخذ الربع مما يحصل لهم من الغنائم و الكسب و كانت عادتهم أن أمراءهم كانوا يأخذون من الغنائم الربع و يسمونه المرباع قال شاعرهم :
( لك المرباع منها و الصفايا ... و حكمك و النشيطة و الفضول )
و قال آخر :
( منا الذي ربع الجيوش لصلبه ... عشرون و هو يعد في الأحياء )
يقال : ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة قال الأصمعي : ربع في الجاهلية و خمس في الإسلام
و قوله : اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي و معرفتي
فإن قيل : فهل يلقى الكافر ربه و يسأله ؟ قلنا : نعم بدليل ما ذكرنا و قد قال تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم } في أحد التأويلين و قال : { و لو ترى إذ وقفوا على ربهم } و قال : { أولئك يعرضون على ربهم } و قال { و عرضوا على ربك صفا } الآيتين و قال : { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } و قال : { و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم } إلى قوله { و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } و الآي في هذا المعنى كثير
فإن قيل : قد قال الله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } و قال عليه السلام : [ و يخرج عنق من النار فيقول : وكلت بثلاث بكل جبار عنيد و كل من جعل مع الله إلها آخر و بالمصورين ]
قلنا : هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن و الحساب و تطاير الكتب في اليمين و الشمال و تعظيم الخلق كما تقدم و يدل عليه قوله : و بالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلا بد لهم من سؤال و حساب و بعده يكونون أشد الناس عذابا و إن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكرارا في الكلام على أنا نقول :
قال بعض العلماء : ذكر الله تعالى الحساب جملة و جاءت الأخبار بذلك و في بعضها ما يدل على أن كثيرا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب فصار الناس إذا ثلاث فرق : فرقة لايحاسبون أصلا و فرقة تحاسب حسابا يسيرا و هما من المؤمنين و فرقة تحاسب حسابا شديدا يكون منها مسلم و كافر و إذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب
و قد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف و توضع الموازين و تدعى الخلائق للحساب
فإن قيل : فقد قال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } و قال : { و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } و قال : { و لا يكلمهم الله } و هذا يتناول بعمومه جميع الكفار
قلنا : القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال و كلام و موطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي و الأخبار و الله المستعان
قال عكرمة : القيامة مواطن يسأل في بعضها و لا يسأل في بعضها و قال ابن عباس : لا يسألون سؤالا شفا و راحة و إنما يسألون سؤال تقريع و توبيخ لم عملتم كذا و كذا و القاطع لهذا قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون }
قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله : و قد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم و كل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها و عاندوها فإنهم يبكتون عليها و يسألون عنها عن الرسل و تكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم
و قال تعالى : { و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } و الآي في هذا المعنى كثيرة و من تأمل آخر سورة المؤمنين { فإذا نفخ في الصور } إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك و الحمد لله على ذلك
و ذكر ابن المبارك عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة : تنشر الصحف و توضع الموازين و يدعى الخلائق للحساب و شهر : ضغفه مسلم في كتابه و غيره
فإن قيل : فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة قالوا : و لأن الحساب إنما يراد للثواب و الجزاء و لا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه و لأن المحاسب له هو الله تعالى و قد قال : { و لا يكلمهم الله يوم القيامة }
قلنا : ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات و الأحاديث الواردة في ذلك و هو الصحيح و معنى [ لا يكلمهم الله ] أي بما يحبونه قال الطبري : و في التنزيل { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و قد قيل إن معنى قوله تعالى : { و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } { لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان } سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحدا يوم القيامة أن يقال ما كان دينك و ما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمنا أو كان كافرا لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور و يكون المشركون سود الوجوه زرقا مكروبين فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار و تميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم و من قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن و انصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه و دينه و نبيه أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها و من قاله يحتج بقوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين و من قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى و رسله فقد سألهم عما كانوا يعملون و ذلك هو المراد
باب ما جاء في شهادة الأرض و الليالي و الأيام بما عمل فيها و عليها و في
شهادة المال على صاحبه و قوله تعالى : و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { يومئذ تحدث أخبارها } قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدا أو أمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل يوم كذا كذا و كذا فهذه أخبارها ] قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
أبو نعيم [ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد و أنا فيما تعمل عليك غدا شهيد فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا و يقول الليل مثل ذلك ] غريب من حديث معاوية تفرد عنه زيد العمى و لا أعلمه مرفوعا عن النبي إلا بهذا الإسناد
ابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من سجد في موضع عن شجر أو حجر شهد له عند الله يوم القيامة قال : و أخبرني ابن أبي خالد رضي الله عنه قال : سمعت أبا عيسى يحيى بن رافع يقول : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه : يقول : { و جاءت سكرة الموت بالحق } وقال تعالى : { و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد } قال : سائق يسوقها إلى أمر الله و شاهد يشهد عليها بما عملت
و خرج مسلم [ من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و إن هذا المال خضر حلو و نعم صاحب السلم هو لمن أعطى منه المسكين و اليتيم و ابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل و لا يشبع و يكون عليه شهيدا يوم القيامة و قد تقدم أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا حجر و لا مدر إلا شهد له يوم القيامة ] رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم و رواه الأئمة مالك و غيره
قال المؤلف : فتفكر يا أخي و إن كنت شاهدا عدلا بأنك مشهود عليك في كل أحوالك من فعلك و مقالك و أعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا تخفى عليه خافية عين و لا يغيب عنه زمان و لا أين قال الله تعالى { لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه و فادم عليه يجازي على الصغير و الكبير و القليل و الكثير سبحانه لا إله إلا هو
باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة
ابن المبارك قال : أخبرنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال عن سليمان بن راشد أنه بلغه أن امرأ لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و لا يمتدح عبدا في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد قلت : هذا صحيح يدل على صحته من الكتاب قول الحق { ستكتب شهادتهم و يسألون } و قوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } و الله أعلم
باب ما جاء في سؤال الأنبياء و في شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم
قال الله تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين } و قال : { فوربك لنسألنهم أجمعين } فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام { فيقول : ماذا أجبتم } قيل : في تفسيرها كانوا قد علموا و لكن ذهبت عقولهم و عزبت أفهامهم و نسوا من شدة الهول و عظيم الخطب و صعوبة الأمر فقالوا : { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } ثم يقربهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام و يقال : إن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم فيذهلون عن الجواب ثم إن الله يثبتهم و يحدث لهم ذكرا فيشهدون بما أجابت به أممهم و يقال إنما قالوا ذلك تسليما كما فعل المسيح في قوله { تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } و الأول أصح لأن الرسل يتفاضلون و المسيح من أجلهم لأنه كلمة الله و روحه قاله أبو حامد
و خرج ابن ماجه حدثنا أبو كريب و أحمد بن سنان قالا : [ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجيء النبي يوم القيامة و معه الرجل و يجيء النبي و معه الرجلان و يجيء النبي و معه الثلاثة و أكثر من ذلك فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فتدعى أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيقال : هل بلغ هذا ؟ فيقولون : نعم فيقول : و ما علمكم بذلك ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا صلى الله عليه و سلم بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه قال فذلك قوله تعالى : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا } ]
و ذكره البخاري أيضا بمعناه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك و سعديك يارب فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فيشهدون أنه قد بلغ فذلك قوله : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا } ]
أخرجه ابن المبارك في رقائقه مرسلا بأطول من هذا فقال : [ أخبرني رشدين ابن سعد قال : أخبرني ابن أنعم المغافري عن حبان بن أبي جبلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل عليه السلام فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغت جبريل فيدعى جبريل عليه السلام فيقول : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم يا رب قد بلغني فيخلي عن إسرافيل و يقال لجبريل هل بلغت عهدي ؟ فيقول جبريل : نعم قد بلغت الرسل فيدعي الرسل فيقول : هل بلغكم جبريل عهدي ؟ فيقولون : نعم فيخلي عن جبريل ثم يقال للرسل هل بلغكم عهدي ؟ فيقولون : قد بلغنا أممنا فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المصدق و منهم المكذب فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون محمد و أمته فتدعى أمة محمد فيقول : تشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم رب شهدنا أن قد بلغوا فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا و أنزلت إلينا عهدك و كتابك و قصصك علينا إنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب : صدقوا فذلك قوله عز و جل : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا } و الوسط العدل { لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيد } ] قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد إلا من كان في قلبه حنة على أخيه
قلت : و ذكر هذا الخبر أبو محمد في كتاب العاقبة له فذكر بعد قوله : و الوسط العدل ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم ينادي كل إنسان باسمه واحدا واحدا و يسألون واحدا واحدا و تعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها و كثيرها حسنها و قبيحها
قال المؤلف : و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم و يقتص للجماء من القرناء و يفصل بين الوحش و الطير ثم يقول لهم : كونوا ترابا فتسوى بهم الأرض و حينئذ { يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } و يتمنى الكافر فيقول : { يا ليتني كنت ترابا } ثم يخرج النداء من قبل الله تعالى : أين اللوح المحفوظ ؟ فيؤتى به له هرج عظيم فيقول الله تعالى : أين ما سطرت فيك من توارة و زبور و إنجيل و فرقان ؟ فيقول : يارب نقله مني الروح الأمين فيؤتى به يرعد و تصك ركبتاه فيقول الله تعالى : يا جبريل هذا اللوح المحفوظ يزعم أنك نقلت منه كلامي و وحيى أصدق ؟ قال : نعم يا رب قال : فما فعلت فيه ؟ قال : أنهيت التوراة إلى موسى و أنهيت الزبور إلى داود و أنهيت الإنجيل إلى عيسى و أنهيت الفرقان إلى محمد عليه السلام و أنهيت إلى كل رسول رسالته و إلى أهل الصحف صحائفهم فإذا بالنداء يا نوح فيؤتى به يرعد و تصطك فرائصه فيقول : يانوح زعم جبريل أنك من المرسلين قال : صدق فقيل له : ما فعلت مع قومك ؟ قال دعوتهم ليلا نهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فإذا بالنداء يا قوم نوح فيؤتى بهم زمرة واحدة فيقال : هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة فيقولون : يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء و ينكرون الرسالة فيقول الله : يا نوح ألك بينة ؟ فيقول : نعم يا رب بينتي عليهم محمد و أمته فيقولون : كيف و نحن أول الأمم و هم آخر الأمم ؟ فيؤتى بالنبي صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا نوح يستشهد فيشهد له تبليغ الرسالة فيقرأ صلى الله عليه و سلم { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } إلى آخر السورة فيقول الجليل جل جلاله : قد وجب عليكم الحق و حقت كلمة العذاب على الكافرين فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل و لا حساب ثم ينادي : أين هود ؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح فيستشهد عليهم بالنبي صلى الله عليه و سلم و خيار أمته فيتلو { كذبت عاد المرسلين } فيؤمر بهم إلى النار مثل أمة نوح ثم ينادي : يا صالح و يا ثمود فيأتون فيستشهد صالح عندما ينكرون فيتلوا النبي صلى الله عليه و سلم { كذبت ثمود المرسلين } إلى آخر القصة فيفعل بهم مثلهم و لا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بيانا و ذكرهم فيه إشارة كقوله تعالى { و قرونا بين ذلك كثيرا } و قوله { ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها } و قوله { و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات } و في ذلك تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم تارخ و تارح و دوحاو أسرا و ما أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم إبراهيم و في كل ذلك لا يرفع لهم ميزان و لا يوضع لهم حساب و هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و الترجمان يكلمهم لأن الرب تعالى من نظر إليه و كلمه لم يعذبه ثم ينادي بموسى ابن عمران فيأتي و هو كأنه ورقة في ريح عاصف قد اصفر لونه و اصطكت ركبتاه فيقول له : يا ابن عمران جبريل يزعم أنه بلغك الرسالة و التوراة فتشهد له بالبلاغ ؟ قال : نعم : قال فارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك من ربك فيرقى المنبر ثم يقرأ فينصت له كل من في الموقف فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسنها يوم أنزلت حتى تتوهم الأحبار أنهم ما عرفوها يوما ثم ينادي يا داود فيأتي و هو يرعد و كأنه ورقة في ريح عاصف تصطك ركبتاه فيصفر لونه فيقول الله جل ثناؤه يا داود : زعم جبريل أنه بلغك الزبور فتشهد له البلاغ ؟ فيقول : نعم يا رب فيقال له : ارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك فيرقى ثم يقرأ و هو حسن الناس صوتا و في الصحيح أنه صاحب المزامير ثم ينادي المنادي أين عيسى بن مريم ؟ فيؤتى به على باب المرسلين فيقول : { أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله } ثم يحمد تحميدا ما شاء الله تعالى و يثنى عليه كثيرا ثم يعطف على نفسه بالذم و الاحتقار و يقول { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } فيضحك الله و يقول { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل فيقول : نعم ثم يرقى و يقرأ فتشخص إليه الرؤوس لحسن ترديده و ترجيعه فإنه أحكم الناس به رواية فيأتي به غضا طريا حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا به قط ثم ينقسم قومه فرقتين المجرمون مع المجرمين و المؤمنون مع المؤمنين ثم يخرج النداء أين محمد ؟ فيؤتى به صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن فيقول : نعم يا رب فيقال له ارجع إلى منبرك و اقرأ فيتلوا صلى الله عليه و سلم القرآن فيأتي به غضا طريا له حلاوة و عليه طلاوة و يستبشر به المتقون و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة و المجرمون و جوههم مغبرة مقترة فإذا تلا النبي القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط
و قد قيل للأصمعي تزعم أنك أحفظهم لكتاب الله قال : يا ابن أخي يوم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم كأني ما سمعته فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرداقات الجلال : { و امتازوا اليوم أيها المجرمون } فيرتج الموقف و يقوم فيه روع عظيم و الملائكة قد امتزجت بالجن و الجن بيني آدم و الكل لجة واحدة ثم يخرج النداء : يا آدم ابعث بعث النار فيقول : كم يا رب ؟ فيقال له : من كل ألف تسع مائة و تسعة و تسعون إلى النار و واحد إلى الجنة على مايأتي بيانه فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق رضي الله عنه : نحن حفنات بحفنات الرب سبحانه و تعالى على مايأتي إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في الشهداء عند الحساب
قال العلماء : و تكون المحاسبة بمشهد من النبيين و غيرهم قال الله تعالى { و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق } و قال { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا } و شهيد كل أمة نبيها و قيل إنهم كتبة الأعمال و هو الأظهر فتحضر الأمة و رسولها فيقال للقوم : ماذا أجبتم المرسلين و يقال للرسل ماذا أجبتم ؟ فتقول الرسل لا علم لنا على ما تقدم في الباب قبل ثم يدعى كل واحد على الانفراد فالشاهد عليه صحيفة عمله و كاتبها فإنه قد أخبر في الدنيا أن عليه ملكين يحفظان أعماله و ينسخانها
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن المنادي ينادي من قبل الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق و المغرب فيه جميع أعمال الخلائق فما صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا و ذلك أن أعمال الخلائق تعرض على الله في كل يوم فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم و هو قوله تعالى { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } ثم ينادي بهم فردا فردا فيحاسب كل واحد منهم فإذا الأقدام تشهد و اليدان و هو قوله تعالى { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون } و قد جاء في الخبر أن رجلا منهم يوقف بين يدي الله تبارك و تعالى فيقول له : يا عبد السوء كنت مجرما عاصيا فيقول : ما فعلت ؟ فيقال له : عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول كذبوا علي فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار فيجعل يلوم جوارحه فتقول له : ليس عن اختيارنا { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } و قد تقدم هذا المعنى مستوفى وتقدم أن الأرض و الأيام و الليالي و المال ممن تشهد و إذا قال الكافر لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني ختم علي فيه فتشهد أركانه كما تقدم
باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته
ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو حدثنا أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه و سلم أمته غدوة و عشية فيعرفهم بسماهم و أعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تبارك و تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا }
فصل : قلت : قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الخميس و يوم الأثنين و على الأنبياء و الآباء و الأمهات يوم الجمعة و لا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا عليه السلام بالعرض كل يوم و يوم الجمعة مع الأنبياء و الله أعلم
باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة و فضيحة الغادر و الغال في الموقف و قت
الحساب
مسلم [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه و جبينه و ظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار قيل يا رسول الله : فالإبل ؟ قال : و لا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها و من حقها حلبها يوم و ردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها و تعضه بأفواهها قيل : يا رسول الله فالبقر و الغنم ؟ قال : و لا صاحب بقر و لا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء و لا جلحاء و لا غضباء تنطحه بقرونها و تطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار ] و ذكر الحديث أخرجه البخاري بمعناه
و روى مالك موقوفا و النسائي و البخاري مرفوعا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا { و لا يحسبن الذين يبخلون } الآية ] وذكر مسلم [ من حديث جابر قال و لا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل ] و ذكر الحديث
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله : أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ] أخرجه البخاري أيضا
[ و عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان ]
[ و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ] و ذكر أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا قرة بن خالد عن عبد الملك بن عمير عن رافع بن شداد عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة ]
فصل : علماؤنا رحمهم الله [ في قوله تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه و سلم أي يأت به حاملا له على ظهره و رقبته معذبا بحمله و ثقله و مرعوبا بصوته و موبخا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ] و كذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث
قال أبو حامد : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و مانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف و مانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به برا كان أو شعيرا أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل و الثبور و مانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدارت بجيده و ثقل على كاهله كأنه طوق بكل و حي في الأرض و كل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحا عليه و هو قوله تعالى { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
قلت : و هذه الفضيحة التي أوقعها الله بالغال و مانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر و جعل الله هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر و يفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر :
( أسمى و يحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها في المجمع )
فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل و مواسم الحج و كذلك يطاف بالجاني مع جنايته و ذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك و شهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل يعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة
قلت : و هذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز و التشبيه و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بالحقيقة فهو أولى [ و قد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها و يقسمها فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال يا رسول الله : هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة قال : أسمعت بلالا ثلاثا ؟ قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ]
فصل : و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا و يؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول الله تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ] ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له و قوله : [ يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة ] دليل على أن في الآخرة للناس ألوية فمنها ألوية خزي و فضيحة يعرف بها أهلها و منها ألوية حمد و ثناء و تشريف و تكريم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لواء الحمد بيدي ] و روي لواء الكرم و قدم و تقدم
و روى الزهري [ عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ] فعلى هذا من كان إماما و رأسا في أمر ما معروفا به فله لواء يعرف به خيرا كان أو شرا و قد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويها بهم و إكراما لهم و الله أعلم و إن كانوا غير معروفين قال النبي صلى الله عليه و سلم [ رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ] و قال [ إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ] أخرجهما مسلم
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : و في الحديث الصحيح [ أن أول ما يقضي الله فيه الدماء و أول من يعطى الله أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي الله تعالى منهم و يقول لهم : اذهبوا إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية و تجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم و معهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى يزفونهم كما تزف العروس فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف و صفة أحدهم الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء ؟ و يريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين و صفة المبتلى صبر و حلم كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي : أين الشباب المتعففون ؟ فيؤتى بهم إلى الله فيرحب بهم نعما و يقول ما شاء الله أن يقول ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام و يصير أمامهم إلى ذات اليمين و صفة الشباب صبر و علم و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من الأئمة ثم يخرج النداء أين المتحابون في الله ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيرحب بهم و يقول ما شاء الله أن يقول ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و صفة المتحاب في الله صبر و علم و حلم لا يسخط و لا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه و من ضاهاه من الأئمة ثم يخرج النداء أين الباكون ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فتوزن دموعهم و دم الشهداء و مداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفا و هذا بكى طمعا و هذا بكى ندما و تجعل بيد نوح عليه السلام فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحيى عليه السلام ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم فيضحك لهم الجليل جل جلاله و يقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون فيشفع العالم في جيرانه و إخوانه و يأمر كل واحد منهم ملكا ينادي في الناس : ألا إن فلانا العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له ]
و في الصحيح أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء و يعقد لهم راية بيضاء و تجعل بيد إبراهيم عليه السلام فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيقول لهم مرحبا بمن كانت الدنيا سبحنهم ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام و يصير إلى ذات اليمين ثم ينادي أين الأغنياء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلام و يصير أمامهم في ذات اليمين
و في الحديث : [ أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله ؟ فيقولون : أعطانا الله ملكا و غبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم : من أعظم ملكا : أنتم أم سليمان ؟ فيقولون : بل سليمان فيقال : ما شغله ذلك عن القيام بحق الله و الدأب في ذكره ثم يقال : أين أهل البلاء ؟ فيؤتى بهم أنواعا فيقال لهم : أي شيء شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بأنواع من الآفات و العاهات شغلتنا عن ذكره و القيام بحقه فيقال لهم : من أشد بلاء : أنتم أم أيوب ؟ فيقولون بل أيوب فيقال لهم : ما شغله ذلك عن حقنا و الدأب لذكرنا ثم ينادي : ابن الشباب العطرة و المماليك فتقول الشباب : أعطانا الله جمالا و حسنا فتنا به فكنا مشغولين عن القيام بحقه و كذلك المماليك فيقولون : شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم : أنتم أكثر جمالا أم يوسف عليه السلام فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و لا الدأب لذكرنا ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم أنواعا فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم : من أشد فقرا أنتم أم عيسى عليه السلام ؟ ! فيقولون : بل عيسى فيقول لهم : ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و الدأب لذكرنا فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه ]
فصل : و قوله [ هذه غدرة فلان ابن فلان ] دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم و أسماء آبائهم و قد تقدم هذا في غير موضع و في هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم و هذا الحديث خلاف قولهم خرجه البخاري و مسلم و حسبك
فصل : و قوله [ فيكوي بها جنبه ] الحديث إنما خص الجنب و الجبهة و الظهر بالكي لشهرته في الوجه و شناعته و في الجنب و الظهر لأنه آلم و أوجع و قيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولا و الجنب لأزوراره عن السائل ثانيا و الظهر لانصرافه إذا راد في السؤال و أكثر منه فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك و الله أعلم
و قالت الصوفية : لما طلبوا الجاه و المال شان الله وجوههم و لما طووا كشحا عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم و لما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها و اعتمادا عليها كويت ظورههم
فصل : و قوله { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قيل : معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى و إنما هو سبحانه و تعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا و قيل : قدر مواقفهم للحساب عن الحسن و قال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة
و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ و الذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ] و قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال : يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة
و في الحديث [ لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار ] ذكره ابن عزير في غريب القرآن له و بطح : ألقي على وجهه قاله بعض المفسرين و قال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه و منه سميت بطحاء مكة لانبساطها و بقاع قرقر أي موضع مستو واسع و أصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء و جمعه قيعان و العقصاء : الملتوية القرن و الجلحاء : التي لا قرن لها و العضباء : المكسورة داخلة القرن يريد : إنها كلها ذوات قرون صحاح و يمكن بها النطح و الطعن حتى يكون أشد لألمه و أبلغ في عذابه و الله أعلم
باب منه و ذكر الولاة
ذكر الغيلاني أبو طالب قال : [ حدثنا أبو بكر الشافعي قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يفكه الله بعدله أو يوبقه بجرمه ] و قال [ عمر لأبي ذر رضي الله عنهما : حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعته يقول : يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعا لله في عمله عما مضى فيه و إن كان عاصيا لله عز و جل انحرف به الجسر فهوى به في جهنم مقدار خمسين عاما ] فقال عمر : من يطلب العمل بعد هذا يا أبا ذر ؟ قال : من سلت الله أنفه و ألصق خذه بالتراب ذكره أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله
و روى الأئمة [ عن أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال : هذا لكم و هذا أهدي لي فقام النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم و هذا أهدي لي أفلا أجلس في بيت أبيه و أمه فينظر أيهدي إليه أم لا لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء و إن كان بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال : اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ] و روى أبو داود [ عن بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ]
باب ما جاء في حوض النبي صلى الله عليه و سلم في الموقف و سعته و كثره
أوانيه و ذكر أركانه و من عليها
ذهب صاحب القوت و غيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو بعد الصراط و الصحيح أن للنبي صلى الله عليه و سلم حوضين : أحدهما في الموقف قبل الصراط و الثاني في الجنة و كلاهما يسمى كوثرا على ما يأتي و الكوثر في كلام العرب الخير الكثير و اختلف في الميزان و الحوض أيهما قبل الآخر فقيل : الميزان قبل و قيل : الحوض قال أبو الحسن القابسي : و الصحيح أن الحوض قبل
قلت : و المعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم كما تقدم فيقدم قبل الصراط و الميزان و الله أعلم و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة و حكى بعض السلف من أهل التصنيف : أن الحوض يورد بعد الصراط و هو غلط من قائله قال المؤلف : هو كما قال و قد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال [ بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل رجل من بيني و بينهم فقال : هلم فقلت إلى أين ؟ فقال : إلى النار و الله قلت ما شأنهم فقال إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج من بيني و بينهم رجل فقال لهم : هلم فقلت إلى أين ؟ قال إلى النار و الله قلت : ما شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ]
قلت : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه فمن جازه سلم من النار على ما يأتي و كذا حياض الأنبياء عليهم السلام تكون أيضا في الموقف على ما يأتي
و روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوقوف بين يدي الله تعالى هل فيه ماء ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن فيه لماء و إن أولياء الله تعالى ليردون حياض الأنبياء و يبعث الله سبعين ألف ملك بأيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء ]
مسلم [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما آنية الحوض ؟ قال : و الذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء و كواكبها في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل ]
[ و عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمين أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه فقال : من مقامي إلى عمان و سئل عن شرابه فقال : أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل يغت فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب و الأخر من ورق ] في غير كتاب مسلم يعب فيه ميزابان من الكوثر الحديث و في أخرى ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليه قدح
مسلم [ عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك و انحر * إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : فإنه نهر و عدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب إنه من أمتي فيقال : ما تدري ما أحدث بعدك ] و في رواية أخرى : [ ما أحدث ]
[ و عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي مسيرة شهر و زواياه سواء و ماؤه من الورق و ريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبدا ] أخرجه البخاري
[ و عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أمامكم حوضا كما بين جربا و أذرح فيه أباريق كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ]
قال عبيد الله فسألته فقال قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث أخرجه البخاري
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن لهو أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل باللبن و لآنيته أكثر من عدد النجوم و إني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه قالوا : يا رسول الله أتعرفنا يومئذ ؟ قال : نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غير محجلين من أثر الوضوء ]
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن لي حوضا ما بين الكعبة و بيت المقدس أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء و إني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة ]
فصل : ظن بعض الناس أن هذه التحديات في أحاديث الحوض اضطراب و اختلاف و ليس كذلك و إنما تحدث النبي صلى الله عليه و سلم بحديث الحوض مرات عديدة و ذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطبا لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها فيقول لأهل الشام ما بين أذرح و جربا و لأهل اليمن من صنعاء إلى عدن و هكذا و تارة آخرى يقدر بالزمان فيقول : مسيرة شهر و المعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب و الزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها و الله أعلم
و لا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض و إنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مسامتة هذه الأقطار أو في الموضع تكون بدلا من هذه المواضع في هذه الأرض و هي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم و لم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم تطهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء و يغت : معناه يصب و يشخب أي يسيل و العقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردته و تسكن قافه و تضم فيقال : عقر و عقر كعسر و عسر قاله في الصحاح و الهمل من النعم الضوال من الإبل واحدها هامل قاله الهروي و المعنى أن الناجي منهم قليل كهمل النعم و يقال : إن على أحد أركانه أبا بكر و على الثاني عمر و على الثالث عثمان و على الرابع عليا
قلت : هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفعه صاحب الغيلانيات من حديث [ حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن على حوضي أربعة أركان فأول ركن منها في يد أبي بكر و الركن الثاني في يد عمر و الركن الثالث في يد عثمان و الركن الرابع في يد علي رضي الله عنهم أجمعين
فمن أحل أبا بكر و أبغض عمر لم يسقه أبو بكر و من أحب عمر و أبغض أبا بكر لم يسقه عمر و من أحب عثمان و أبغض عليا لم يسقه عثمان و من أحب عليا و أبغض عثمان لم يسقه علي ] و ذكر الحديث
باب منه
ذكر أبو داود الطيالسي : قال : [ حدثنا شعبة قال : أخبرني عمرو بن مرة قال : سمعت أبا حمزة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أنتم بجزء من مائة ألف أو سبعين ألف جزء ممن يرد على الحوض و كانوا يومئذ ثمانمائة أو تسعمائة ] و الله أعلم
باب فقراء المهاجرين أول الناس و رود الحوض على النبي صلى الله عليه و
سلم
ابن ماجه [ عن الصنابجي الأحمسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا إني فرطكم على الحوض و إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي ]
و خرج [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي ما بين عدن إلى إيلة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل أكاويبه كعدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا و أول الناس من يرد على الحوض فقراء المهاجرين : الدنس ثيابا الشعث رؤوسا الذين لا ينكحون المتنعمات و لا تفتح لهم أبواب السدد قال : فبكى عمر حتى ابتلت لحيته فقال : لكني نكحت المتنعمات و فتحت لي أبواب السدد لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ و لا أدهن رأسي حتى تشعث ] خرجه الترمذي
عن أبي سلام الحبشي قال : بعث إلي عمر بن عبد العزيز فحملت على البريد قال : فلما دخل عليه قال يا أمير المؤمنين : لقد شق مركبي البريد فقال : يا أبا سلام ما أردت أن أشق عليك و لكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان عن النبي في الحوض فأحببت أن تشافهني به
قال أبو سلام : [ حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد ] فذكره بمعناه و قال حديث حسن غريب
و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : [ أول من يرد الحوض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الذابلون الناحلون السائحون الذي إذا جنهم الليل استقبلوه بالحزن ]
باب ذكر من يطرد عن الحوض
البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي فيقال لي : لا تدرلي ما أحدثوا بعدك ]
و [ عن أبي هريرة أنه كان يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يرد علي الحوض رهط من أصحابي فيخلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري ]
مسلم [ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم و سيؤخذ ناس دوني فأقول : يا رب مني و من أمتي فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ؟ و الله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم ] و في حديث أنس [ فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب من أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ] و قد تقدم و كذلك حديث البخاري [ إذا زمرة حتى إذا عرفتهم ] تقدم أيضا و في الموطأ و غيره من حديث أبي هريرة فقالوا : كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك يا رسول الله ؟ الحديث و فيه قال : [ فإنهم يأتون غرا محجلين من أثر الوضوء ]
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله و لم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه و أشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين و فارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها و الروافض على تباين ضلالها و المعتزلة على أصناف أهوائها فهؤلاء كلهم مبدلون و كذلك الظلمة المسرفون في الجور و الظلم و تطميس الحق و قتل أهله و إذلالهم و المعلنون بالكبائر المستحفون بالمعاصي و جماعة أهل الزيغ و الأهواء و البدع ثم البعد قد يكون في حال و يقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال و لم يكن في العقائد و على هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ثم يقال لهم سحقا و إن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يظهرون الإيمان و يسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم : سحقا سحقا و لا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان
و قد يقال : إن من أنفذ الله عليه و عيده من أهل الكبائر إنه و إن ورد الحوض و شرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش و الله أعلم
و روى الترمذي [ عن كعب بن عجرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشى أبوابهم فصدقهم في كذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه و لا يرد على الحوض و منه غشى أبوابهم و لم يصدقهم في كذبهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو مني و أنا منه و سيرد على الحوض يا كعب بن عجرة : الصلاة برهان و الصبر جنة حصينة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب و خرجه أيضا في كتاب الفتن و صححه
و خرج الأوزاعي أبو عمر في مسنده قال : [ حدثني عمرو بن سعد قال : حدثني يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : حوضي ما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء أو كعدد نجوم نجوم السماء له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا و سيأتيه قوم ذابلة شفاههم لا يطمعون منه قطرة واحدة من كذب به اليوم لم يصب منه الشرب يومئذ ]
و خرج الترمذي الحكيم في نوادرالأصول [ من حديث عثمان بن مظعون عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في آخره : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ] و قد ذكرناه بكماله في آخر كتاب قمع الحرص بالزهد و القناعة
باب ما جاء أن لكل نبي حوضا
الترمذي [ عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن لكل نبي حوضا و أنهم يتباهون أيهم أكثر وارده و إني أرجو أن أكون أكثرهم وارده ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب رواه قتادة عن الحسن عن سمرة و قد رواه الأشعث ابن عبد الملك عن الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه غير سمرة و قال البكري المعروف بابن الواسطي : لكل نبي حوض إلا صالحا فإن حوضه ضرع ناقته و الله سبحانه و تعالى أعلم
باب ما جاء في الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه و سلم في الجنة
البخاري [ عن أنس بن مالك عن النبي قال : بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر ] ـ شك هدبة ـ خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و زاد [ ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح و خرجه ابن وهب قال : [ أخبرني شبيب عن أبان عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : حين عرج به إلى السماء قال : رأيت نهرا عجاجا مثل السهم يطرد أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل حافتاه قباب من در مجوف فقلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا نهر الكوثر الذي أعطاك ربك قال : فضربت بيدي إلى حمأته فإذا هو مسك أذفر ثم ضربت بيدي إلى رضواضه فإذا هو در ]
الترمذي [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب و مجراه الدر و الياقوت تربته أطيب من المسك و ماؤه أحلى من العسل و أبيض من الثلج ] هذا حديث حسن و الله أعلم
تم الجزء الأول
من كتاب التذكرة في أحوال الموتى و أمور الآخرة
و يليه
الجزء الثاني حسب تقسيم النسخة المصورة
أبواب الميزان باب ما جاء في الميزان و أنه حق
قال الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } و قال { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه * فأمه هاوية } قال العلماء : و إذا انقضى الحساب كان بعد وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقدير الأعمال و الوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها قال الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية
و قال { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه } إلى آخر السورة
و قال { و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } الآيتين في الأعراف و المؤمنين
و هذه الآيات إخبار لوزن أعمال الكفار لأن عامة المعنيين بقوله خفت موازينه في هذه الآيات هم الكفار و قال في سورة المؤمنين { فكنتم بها تكذبون } و في الأعراف { بما كانوا بآياتنا يظلمون } و قال { فأمه هاوية } و هذا الوعيد بإطلاقه للكفار و إذا جمع بينه و بين قوله { و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين } ثبت أن الكفار يسألون عما خالفوا فيه الحق من أصل الدين و فروعه إذ لم يسألوا عما خالفوا فيه أصل دينهم من ضروب تعاطيهم و لم يحاسبوا به و لم يعتد بها في الوزن أيضا فإذا كانت موزونة دل على أنهم يحاسبون بها وقت الحساب و في القرآن ما يدل أنهم مخاطبون بها مسؤولون عنها محاسبون بها مجزيون على الإخلال بها لأن الله تعالى يقول : { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } فتوعدهم على منعهم الزكاة و أخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم { ما سلككم في سقر } الآية فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان و البعث و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و أنهم مسؤولون عنها محتسبون مجزيون على الإخلال بها
و في البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة و اقرأوا إن شئتم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ]
قال العلماء : معنى هذا الحديث أنه لا ثواب لهم و أعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين يوم القيامة و من لا حسنة له فهو في النار قال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا و قيل : يحتمل أن يريد المجاز و الاستعارة كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ و الله أعلم و فيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم و الاشتغال بها عن المكارم بل يدل على تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه و السمن و قد قال صلى الله عليه و سلم [ إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين ]
باب منه و بيان كيفية الميزان و وزن الأعمال فيه و من قضى لأخيه حاجة
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة و تسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : أفلك عذر ؟ فقال : لا يا رب فيقول : بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء ] قال حديث حسن غريب و أخرجه ابن ماجه في سننه و قال بدل قوله في أول الحديث [ إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق ] و ذكر الحديث
و قال محمد بن يحيى : البطاقة : الرقعة أهل مصر يقولون للرقعة بطاقة و في الخبر [ إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه و سلم بأبي أنت و أمي ما أحسن وجهك و ما أحسن خلقك فمن أنت ؟ فيقول : أنا نبيك محمد و هذه صلاتك علي التي كنت تصلي علي قد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها ] ذكره القشيري في تفسيره و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده [ من حديث مالك بن أنس و العمري عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قضى لأخيه حاجة كنت واقفا عند ميزانه فإن رجح و إلا شفعت له ]
فصل : قال المؤلف : الميزان حق و لا يكون في حق كل أحد بدليل قوله عليه السلام فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه الحديث و قوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } الآية و إنما يكون لمن بقي من أهل المحشر ممن خلط عملا صالحا و آخر سيئا من المؤمنين و قد يكون للكافرين على ما ذكرنا و يأتي
و قال أبو حامد : و السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان و لا يأخذون صحفا و إنما هي براءات مكتوبة لا إله إلا الله محمد رسول الله هذه براءة فلان ابن فلان قد غفر له و سعد سعادة لا يشقى بعدها فما مر عليه شيء أسر من ذلك لمقام
قلت : و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن قال : [ تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينتشر لهم ديوان و يصب عليهم الأجر صبا بغير حساب ] ذكره القاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله
و خرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب و يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسامهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله تعالى لهم ] هذا حديث غريب من حديث جابر الجعفي و قتادة و تفرد به قتادة عن جابر عن ابن عباس عن مجاعة ابن الزبير
[ و روى الحسين بن علي رضوان الله عليهما قال : قال لي جدي صلى الله عليه و سلم : يا بني عليك بالقناعة تكن أغنى الناس و أد الفرائض تكن أعبد الناس يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا و قرأ صلى الله عليه و سلم { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ] ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب روضة المشتاق
فصل : فإن قيل : أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه فتقابل الحسنات بالسيئات فتوجد حقيقة الوزن و الكافر لا يكون له حسنات فما الذي يقابل بكفره و سيئاته و أن يتحقق في أعماله الوزن ؟
فالجواب : إن ذلك على الوجهين
أحدهما : أن الكافر يحضر له ميزان فيوضع كفره أو كفره و سيئاته في إحدى كفتيه ثم يقال له : هل لك من طاعة تضعها في الكفة الآخرى ؟ فلا يجدها فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة و تقع الكفة المشغولة فذلك خفة ميزانه و هذا ظاهر الآية لأن الله تعالى وصف الميزان بالخفة لا الموزون و إذا كان فارغا فهو خفيف
و الوجه الآخر : أن الكافر يكون منه صلة الأرحام و مؤاساة الناس و عتق المملوك و نحوهما مما لو كانت من المسلم لكانت قربة و طاعة فمن كان له مثل هذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع و توضع في ميزانه غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها و لم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه الخيرات من ميزانه خفيفا و لو لم يكن له إلا خيرا واحد أو حسنة واحدة لأحضرت و وزنت كما ذكرنا
فإن قيل : لو احتسبت خيراته حتى يوزن لجوزي بها جزاء مثلها و ليس له منها جزاء لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن عبد الله ابن جدعان و قيل له : إنه كان يقري الضيف و يصل الرحم و يعين في النوائب فهل ينفعه ذلك ؟ فقال : [ لا لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] و سأله عدي بن حاتم عن أبيه مثل ذلك فقال : [ إن أباك طلب أمرا فأدركه ] يعني الذكر فدل أن الخيرات من الكافر ليست بخيرات و أن وجودها و عدمها بمنزلة واحدة سواء
و الجواب : أن الله تعالى قال { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } و لم يفصل بين نفس و نفس فخيرات الكافر توزن و يجزى بها إلا أن الله تعالى حرم عليه الجنة فجزاؤه أن يخفف عند بدليل حديث أبي طالب فإنه قيل له : يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك و ينصرك فهل نفعه ذلك ؟ فقال [ نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح و لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ] و ما قاله عليه السلام في ابن جدعان و أبي عدي إنما هو في أنهما لا يدخلان الجنة و لا يتنعمان بشيء من نعيمها و الله أعلم
فصل : أصل ميزان موزان قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها قال ابن فورك : و قد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها و من المتكلمين من يقول كذلك و روي ذلك عن ابن عباس أن الله تعالى يقالب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة و قد تقدم بهذا المعنى
و الصحيح ان الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة و بها تخف كما دل عليه الحديث الصحيح و الكتاب العزيز قال الله عز و جل { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين } و هذا نص قال ابن عمر : توزن صحائف الأعمال و إذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلا على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار و روي عن مجاهد و الضحاك و الأعمش أن الميزان هنا بمعنى العدل و القضاء و ذكر الوزن و الميزان ضرب مثل كما يقول هذا الكلام في وزن هذا و في وزنه أي يعادله و يساويه و إن لم يكن هناك وزن
قلت : و هذا القول مجاز و ليس بشيء و إن كان شائعا في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي و وصفه بكفتين و لسان و إن كل كفة منهما طباق السموات و الأرض
و قد جاء أن كفة الحسنات من نور و الأخرى من ظلام و الكفة النيرة للحسنات و الكفة المظلمة للسيئات و جاء في الخبر أن الجنة توضع عن يمين العرش و النار عن يسار العرش و يؤتى بالميزان فينصب بين يدي الله تعالى كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجن و كفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار و ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
و روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال : توضع الموازين يوم القيامة فلو وضعت فيهن السموات و الأرض لوسعهتن فتقول الملائكة : يا ربنا ما هذا ؟ فيقول : أزن به لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة عند ذلك : ربنا ما عبدناك حق عبادتك و قال ابن عباس رضي الله عنهما : توزن الحسنات و السيئات في ميزان له لسان و كفتان قال علماؤنا : و لو جاز حمل الميزان على ما ذكروه لجاز حمل الصراط على الدين الحق و الجنة و النار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان و الأفراح و الشياطين و الجن على الأخلاق المذمومة و الملائكة على القوى المحمودة و هذا كله فاسد لأنه رد لما جاء به الصادق و في الصحيحين : فيعطي صحيفة حسناته فيخرج له بطاقة و ذلك يدل على الميزان الحقيقي و أن الموزون صحف الأعمال كما بينا و بالله توفيقنا
و لقد أحسن من قال :
( تذكر يوم تأتي الله فردا ... و قد نصبت موازين القضاء )
( و هتكت الستور عن المعاصي ... و جاء الذنب منكشف الغطاء )
فصل : قال علماؤنا رحمهم الله : الناس في الآخر ثلاث طبقات متقون لا كبائر لهم و مخلطون و هم الذين يوافون بالفواحش و الكبائر و الثالث الكفار
فأما المتقون : فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة و صغائرهم إن كانت لهم الكفة الآخرى فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنا و تثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح و ترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي
و أما المخلطون فحسناتهم توضع في الكفة النيرة و سيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل و لو بصؤابة دخل الجنة و إن كانت السيئات أثقل و لو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله و إن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي هذا إن كانت للكبائر فيما بينه و بين الله و أما إن كانت عليه تبعات و كانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات لكثرة ما عليه من التبعات فيحمل عليه من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع هذا ما تقتضيه الأخبار على ما تقدم و يأتي
قال أحمد بن حرب : تبعث الناس يوم القيامة على ثلاث فرق : فرقة أغنياء بالأعمال الصالحة و فرقة فقراء و فرقة أغنياء ثم يصيرون فقراء مفاليس في شأن التبعات
و قال سفيان الثوري : إنك أن تلقى الله عز و جل بسبعين ذنبا فيما بينك و بينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك و بين العباد
قال المؤلف : هذا صحيح لأن الله غني كريم و ابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئة إن كانت عليه حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره و ثوابه
و أما الكافر فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة و لا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة لفراغها و خلوها عن الخير فيأمر الله بهم إلى النار و يعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره و آثامه
و أما المتقون فإن صغائرهم تكفر باجتنابهم الكبائر و يؤمر بهم إلى الجنة و يثاب كل واحد منهم بقدر حسناته و طاعته فهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن لأن الله تعالى لم يذكر إلا من ثقلت موازينه و من خفت موازينه و قطع لمن ثقلت موازينه بالإفلاح و العيشة الراضية و لمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد أن وصفه بالكفر و بقي الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فبينهم النبي صلى الله عليه و سلم حسب ما ذكرناه
و إنما توزن أعمال المؤمن المتقي لإظهار فضله كما توزن أعمال الكافر لخزيه و ذله فإن أعماله توزن تبكيتا له على فراغه و خلوه عن كل خير فكذلك توزن أعمال المتقي تحسينا لحاله و إشارة لخلوه من كل شر و تزيينا لأمره على رؤوس الأشهاد و أما المخلط السيء بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة على ما يأتي
فصل : فإن قيل : أخبر الله عن الناس أنهم محاسبون مجزيون و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم و هل توزن أعمالهم ؟
فالجواب : أنه قد قيل إن الله تعالى لما قال { و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دخل في الجملة الجن و الإنس فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية ما ثبت للإنس و قال { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين } ثم قال { و لكل درجات مما عملوا } و إنما أراد لكل من الجن و الإنس فقد ذكروا في الوعد و الوعيد مع الإنس و أخبر تعالى أن الجن يسألون فقال خبرا عما يقال لهم : { يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } و هذا سؤال و إذا ثبت بعض السؤال ثبت كله و قد تقدم هذا و قال تعالى { و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } إلى قوله { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين } و هذا يدل صريحا على أن حكمهم في الآخرة كالمؤمنين و قال حكاية عنهم { و أنا منا المسلمون و منا القاسطون } الآيتين
و لما جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم زادهم كل عظيم و علف دوابهم كل روث فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجان فجعلهم إخواننا و إذا كان كذلك فحكمهم كحكمنا في الآخرة سواء و الله أعلم و قد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب ما جاء أن الله يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان
فصل : قوله في الحديث : [ فيخرج له بطاقة فيه أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ] ليست هذه شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في كفة شيء و في أخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة و السيئات في كفة فهذا غير مستحيل لأن العبد يأتي بهما جميعا و يستحيل أن يأتي الكفر و الإيمان جميعا عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة و الكفر في كفة فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان و أما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات قاله الترمذي الحكيم رحمه الله
و قال غيره : إن النطق بها زيادة ذكر على حسن نية و تكون طاعة مقبولة قالها على خلوة و خفية من المخلوقين فتكون له عند الله تبارك و تعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم بعظم قدرها و محل موقعها و ترجح بخطاياه و إن كثرت و بذنوبه و إن عظمت ولله الفضل على عباده و يتفضل على من يشاء بما شاء
قلت : و يدل على هذا قوله في الحديث فيقول : [ بلى إن لك عندنا حسنة و لم يقل إن لك إيمانا و قد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي ؟ فقال : من أعظم الحسنات ] خرجه البيهقي و غيره
و يجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا [ كما في حديث معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله وجبت له الجنة ] رواه صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ و قد تقدم أول الكتاب
و قيل : يجوز حمل هذه الشهادة على الشهادة التي هي الإيمان و يكون ذلك في كل مؤمن ترجح حسناته و يوزن إيمانه كما توزن سائر حسناته و إيمانه يرجح سيئاته كما في هذا الحديث و يدخله النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه و يدخله الجنة بعد ذلك و هذا مذهب قوم يقولون : إن كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه و كل مؤمن يثقل ميزانه و يتأولون قوله الله تعالى { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } أي الناجون من الخلود و هو في قوله { فهو في عيشة راضية } يوما ما و كذلك في قول النبي صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه [ لا إله إلا الله وجبت له الجنة ] إنه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه
قلت : هذا تأويل فيه نظر يحتاج إلى دليل من خارج ينص عليه و الذي تدل عليه الآي و الأخبار أن من ثقل ميزانه فقد نجا و سلم و بالجنة أيقن و علم أنه لا يدخل النار بعد ذلك و الله أعلم و قال عليه السلام : [ ما شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن ] خرجه الترمذي عن أبي الدرداء و قال فيه حديث حسن صحيح و قد تقدم من حديث [ سمرة بن جندب : و رأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه و كذلك الأعمال الصالحة دليل على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ]
و ذكر القشيري في التحبير له : يحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت بعضهم في المنام فقلت ما فعل الله بك ؟ فقال : وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات فجاءت صرة من السماء و سقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم و ذكر أبو عمر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده عن حماد بن زيد عن أبي حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله عز و جل { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة } قال : يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فتخفف فيجاء بشيء أمثال الغمام أو قال مثل السحاب فيوضع في ميزانه فترجح فيقال له : أتدري ما هذا فيقول : لا فيقال له : هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس أو نحو ذلك
باب منه
الترمذي [ عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : إن لي مملوكين يكذبونني و يخونونني و يعصونني و أشتمهم و أضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : بحسب ما خانوك و عصوك و كذبوك و عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل قال : فتنحى الرجل فجعل يبكى و يهتف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما تقرأ كتاب الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية ؟ فقال الرجل : و الله يا رسول الله ما أجد لي و هؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار كلهم ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان
و قد روى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث و عن وهب بن منبه في قوله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة } قال : إنما يوزن من الأعمال خواتيمها و إذ أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير و إذا أراد الله به شرا ختم له بشر عمله ذكره أبو نعيم
قال المؤلف هذا صحيح يدل عليه قوله عليه السلام [ و إنما الأعمال بالخواتيم ] و الله تعالى أعلم
باب منه و ذكر أصحاب الأعراف
ذكر خيثمة بن سليمان في مسنده [ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم توضع الموازين يوم القيامة فتوزن السيئات و الحسنات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار قيل يا رسول الله : فمن استوت حسناته و سيئاته ؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطعمون ]
و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا أبو بكر الهذلي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة و من كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو ترجح قال و من استوت حسناته و سيئاته كان من أصحاب الأعراف و ذكر الحديث
و قال كعب الأحبار : إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا فيمر أحدهما بصاحبه و هو يجر إلى النار فيقول له أخوه : و الله ما بقي لي إلا حسنة أنجو بها خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى و أبقى أنا و إياك من أصحاب الأعراف قال : فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد له حسنة ترجح ميزانه و قد اعتدلت بالسوية فيقول الله تعالى رحمة منه : اذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة فيصير يجوس خلال العالمين فيما يجد أحدا يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول له خفت أن يخف ميزاني فأنا أحوج منك إليها فييأس فيقول له رجل : ما الذي تطلب ؟ فيقول : حسنة واحدة فلقد مررت بقوم لهم منها الألف فبخلوا علي فيقول له الرجل : لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة و ما أظنها تغني عني شيئا خذها هبة مني إليك فينطلق فرحا مسرورا فيقول الله له : ما بالك و هو أعلم فيقول : رب اتفق من أمري كيت و كيت ثم ينادي سبحانه بصاحبه الذي وهبه الحسنة فيقول له سبحانه : كرمي أوسع من كرمك خذ بيد أخيك و انطلقا إلى الجنة و كذا تستوي كفتا الميزان لرجل فيقول الله تعالى له : لست من أهل الجنة و لا من أهل النار فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان فيها مكتوب أف فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا فيؤمر به إلى النار قال : فيطلب الرجل أن يرده الله تعالى فيقول : ردوه فيقول له أيها العبد العق لأي شيء تطلب الرد إلي فيقول : إلهي رأيت أني سائر إلى النار و إذ لا بد لي منها و كنت عاقا لأبي و هو سائر إلى النار مثلي فضعف علي به عذابي و أنقذه منها قال : فيضحك الله تعالى و يقول : عققته في الدينا و بررته في الآخرة خذ بيد أبيك و انطلقا إلى الجنة
فصل : ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفط الجمع و جاء السنة بلفظ الإفراد و الجمع فقيل : يجوز أن يكون هنالك موازين للعمل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من الأعمال كما قال :
( ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان )
( تتصرف الأشياء في ملكوته ... و لك شيء مدة و أوان )
و يمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع كما قال تعالى { كذبت عاد المرسلين } و { كذبت قوم نوح المرسلين } و إنما هو رسول واحد و قيل : المراد بالموازين جمع موزون أي الأعمال الموزونة لا جمع ميزان
و خرج اللالكائي في سننه عن أنس رفعه : أن ملكا موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق كلها : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا و إن خف نادى الملك : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا و خرج عن حذيفة قال : [ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ]
فصل : و أما أصحاب الأعراف فيقال : إنهم مساكين أهل الجنة ذكر هناد بن السري قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن مجاهد عن حبيب عن عبد الله بن الحارث قال : أصحاب الأعراف ينتهي بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قصب الذهب قال : أراه قال مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه اغتسالة فيبدو في نحورهم شامة بيضاء ثم يعودون فيغتسلون فكلما اغتسلوا زادت بياضا فيقال لهم : تمنوا فيتمنون ما شاءوا قال : فيقال لهم لكم ما تمنيتم و سبعين ضعفا قالوا : فهم مساكين أهل الجنة و في رواية : فإذا دخلوا الجنة و في نحورهم تلك الشامة البيضاء فيعرفون بها قال : فهو يسمون في الجنة مساكين أهل الجنة
و اختلف العلماء في تعيينهم على اثني عشر قولا :
الأول : ما تقدم ذكره في الحديث و هو قول ابن مسعود و كعب الأحبار كما ذكرنا و ذكره ابن وهب عن ابن عباس
الثاني : قوم صالحون فقهاء علماء قاله مجاهد
الثالث : هم الشهداء ذكره المهدوي
الرابع : هم فضلاء المؤمنين و الشهداء فرغوا من شغل أنفسهم و تفرغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري
الخامس : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم قاله شرحبيل بن سعد و ذكر الطبري في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أنه تعادل عقوقهم و استشهادهم
السادس : هم العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياضالوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه ذكره الثعلبي عن ابن عباس
السابع : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم و هم في كل أمة ذكره الزهراوي و اختاره النحاس
الثامن : هم قوم أنبياء قاله الزجاج
التاسع : هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام و المصائب في الدنيا فوقفوا و ليست لهم كبائر فحيسبون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم حكاه ابن عطية القاضي أبو محمد في تفسيره
العاشر : ذكره ابن وهب عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف الذين ذكر الله في القرآن أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة و ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام و كان جسيم أمرهم لله فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه و قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين و إذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض وجوههم
قال ابن عباس : أدخل الله أصحاب الأعراف الجنة و في رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود و كانوا آخر أهل الجنة دخولا الجنة
قال ابن عطية : و تمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون
الحادي عشر : أنهم أولاد الزنا ذكره أبو نصر القشيري عن ابن عباس
الثاني عشر : أنهم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل دخالهم الجنة و النار قاله أبو مجلز لاحق بن حميد فقيل له : لا يقال للملائكة رجال فقال : إنهم ذكور و ليسوا بإناث فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما وضع على الجن في قوله تعالى { و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن }
و الأعراف : سور بين الجنة و النار قيل : هو جبل أحد يوضع هناك
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق أنس و غيره ذكره أبو عمر بن عبد البر و غيره حسب ما ذكرناه في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الأعراف و الحمد لله
حكاية
روي عن بعض الصالحين رضي الله عنه أنه قال : أخذتني ذات ليلة سنة فنمت فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت و كأن الناس يحاسبون فقوم يمضي بهم إلى الجنة و قوم يمضي بهم إلى النار قال : فأتيت إلى الجنة فناديت أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنة في محل الرضوان ؟ فقالوا : بطاعة الرحمن و مخالفة الشيطان ثم أتيت إلى باب النار فناديت يا أهل النار : بماذا نلتم النار ؟ قالوا : بطاعة الشيطان و مخالفةالرحمن قال : فنظرت فإذا أنا بقوم موقوفون بين الجنة و النار فقالوا لي : لنا ذنوب جلت و حسنات قلت فالسيئات منعتنا من دخول الجنة و الحسنات منعتنا دخول النار و أنشدوا :
( نحن قوم لنا ذنوب كبار ... منعتنا من الوصول إليه )
( تركتنا مذبذبين حيارى ... أمسكتنا من القدوم عليه )
باب إذا كان يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد فإذا بقي في هذه الأمة
منافقون امتحنوا و ضرب الصراط
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه و لصاحب التصاوير تصاويره و لصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون و يبقى المسلمون ] و ذكر الحديث بطوله
و خرج مسلم [ أن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا : لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس و يتبع من كان يعبد القمر القمر و يتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيث و تبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه و يضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا و أمتي أول من يجوز و لا يتكلم يومئذ إلا الرسل و دعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم و في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان ؟ قالوا نعم يا رسول الله قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله و منهم المجازى حتى ينجى ] و ذكر الحديث و سيأتي
فصل : ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له بعد قوله : يفهم رؤوس المحشر لطلب من يشفع و يريحهم مما هم فيه و هم رؤوساء أتباع الرسل فيكون ذلك ثم يؤمر آدم عليه السلام بأن يخرج بعث النار من ذريته و هم سبعة أصناف البعثان الأولان يلتقطهم عنق النار من بين الخلائق لقط الحمام حب السمسم و هم أهل الكفر بالله جحدوا و عتوا و أهل الكفر بالله إعراضا و جهلا ثم يقال لأهل الجمع : أين ما كنتم تعبدون من دون الله لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فمن كان يعبد من دون الله شيئا اتبعه حتى يقذف به في جهنم قال الله عز و جل : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون } و قال : { فكبكبوا فيها هم و الغاوون * و جنود إبليس أجمعون }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تمد الأرض مد الأديم يوم القيامة لعظمة الله عز و جل ثم لا يكون لبشر من بني آدم منها إلا موضع قدميه ثم ادعى أنا أول الناس فأخر ساجدا ثم يؤذن لي فأقول يا رب : خبرني هذا جبريل صلى الله عليه و سلم و هو عن يمين عرش الرحمن تبارك و تعالى أنك أرسلته إلي و جبريل ساكت لا يتكلم حتى يقول الله عز و جل صدق ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أقطار الأرض فذلك المقام المحمود ثم يبعث المقام المحمود ثم يبعث البعث الرابع و هم قوم وحدوا الله و كذبوا المرسلين جهلوا صفات الله جل جلاله و ردوا عليه كتابه و رسله ثم يبعث البعث الخامس و السادس و هم أهل الكتابين يأتون عطاشا يقال لهم : ما كنتم تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا رب فاسقنا فيقال لهم : ألا ترون فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيردونها سقوطا فيها ثم تقع المحنة بالمنافقين و المؤمنين في معرفة ربهم و تميزه من المعبودات من دونه فيذهب الله المنافقين و يثبت المؤمنين ثم ينصب الصراط مجازا على متن جهنم أعادنا الله منها أرق من الشعر و أحد من الموسى كما وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسقط أهل البدع في الباب السادس منه أو الخامس و أهل الكبائر في السابع أو السادس و إنما يسقط الساقط بعدما يعجز عن عمله و يخلص المؤمنون على درجاتهم في تفاوتهم في النجاة و يحبسون على قنطرة بين الجنة و النار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا صفوا و هذبوا أدخلوا الجنة و من ذلك المقام يوقف أصحاب الأعراف ]
قال المؤلف : هكذا ذكر الترتيب و هو ترتيب حسن و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى
فصل : قوله : [ هل تضارون ] بضم التاء و فتحها و بتشديد الراء و تخفيفها و ضم التاء و تشديد الراء أكثر و أصله تضارون أسكنت الراء الأولى و أدغمت مع الثانية و ماضيه ضورر على ما لم يسم فاعله و يجوز أن يكون مبينا للفاعل بمعنى تضاررون بكسر الراء إلا إنها سكنت الراء و أدغمت و كله من الضر المشدد و أما التخفيف فهو من ضاره يضيره و يضوره مخففا
و المعنى أن أهل الجنة إذا امتن الله عليهم برؤيته سبحانه تجلى لهم ظاهرا بحيث لا يحجب بعضهم بعضا و لا يضره و لا يزاحمه و لا يجادله كما يفعل عند رؤية الأهلة بل كالحال عند رؤية الشمس و القمر ليلة تمامه
و قد روى تضامون من المضامكة و هي الازدحام أيضا أي لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلة
و روي تضامون بتخفيف الميم من الضيم الذي هو الذل أي لا يذل بعضكم بعضا بالمزاحمة و المنافسة و المنازعة و سيأتي هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى
قوله : فإنكم ترونه كذلك هذا تشبيه للرؤية و حالة الرائي لا المرئي لأن الله سبحانه لا يحاط به و ليس كمثله شيء و لا يشبهه شيء
و قوله : فيأيتهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون هذا موضع الامتحان ليميز المحق من المبطل و ذلك أنه لما بقي المنافقون و المراؤون متلبسين بالمؤمنين و المخلصين زاعمين أنهم منهم و أنهم عملوا مثل أعمالهم و عرفوا الله مثل معرفتهم امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة قالت الجميع أنا ربكم فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك و التعوذ منه لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله عز و جل في دار الدنيا و أنه منزه عن صفات هذه الصور إذ سماتها سمات المحدثين
و لهذا قال في حديث أبي سعيد الخدري فيقولون : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم لشرح اختصار مسلم كتاب مسلم و هذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء و لعلهم الذين اعتقدوا الحق و جزموا عليه من غير بصيرة و لذلك كان اعتقادهم قابلا للانقلاب و الله أعلم
قلت : و يحتمل أن يكونوا المنافقين و المرائين و هو أشبه و الله أعلم لأن في الامتحان الثاني يتحقق ذلك لأن في حديث أبي سعيد بعد قوله حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفوه بها ؟ فيقولون : نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد اتقاء و رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوا فيها فيقول : أنا ربكم ؟ فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و سيأتي قوله : فيأتيهم الله في صورة التي يعرفون أي يتجلى لهم في صفته التي هو عليها من الجلال و الكمال و التعالي و الجمال بعد أن رفع الموانع عن أبصارهم فيتبعونه أي يتبعون أمره أو ملائكته و رسله الذين يسوقونهم إلى الجنة و الله أعلم
و الدعوى : الدعاء قال الله تسبحاته و تعالى : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } أي دعاؤهم و الكلاليب : جمع كلوب و السعدان : نبت كثير الشوك شوكه كالخطاطيف و المحاجن ترعاه الإبل فيطيب لبنها تقول العرب : مرعى و لا كالسعدان و الموبق : المهلك أوبقه ذنبه : أهلكه
و منه الحديث : اجتنبوا السبع الموبقات و قوله تعالى : { أو يوبقهن بما كسبوا } و المجازى : الذي جوزء بعمله
و قوله : { يكشف عن ساق } كشف الساق عبارة عن معظم الأمر و شدته ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : يوم كرب و شدة أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال : شدة الأمر و جده قال مجاهد و قال ابن عباس هي أشد ساعة في القيامة
و قال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل : كشف الأمر عن ساقه و الأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج إلى الجد شمر عن سقاه فاستعير الساق و الكشف عنها في موضع الشدة و كذا قال القتبي قال : يوم يكشف عن ساق هذا من الاستعار فسمي الشدة ساقا لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر في ساقه فاستعيرت في موضع شدة قال الشعر :
( و كنت إذا جاري دعا لمصيبة ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري )
و قال آخر :
( فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها ... و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا )
و قال آخر يصف سنة شديدة :
( قد شمرت عن ساقها )
و قال آخر :
( كشفت لهم عن ساقها ... و بدا من الشر البراح )
و قال آخر :
أبشر عناق إنه شر باق قد سن لي قومك ضرب الأعناق و قامت الحرب بنا على ساق
و الشعر في هذا المعنى كثير :
و قيل : يكشف عن شاق جهنم و قيل : عن ساق العرش
فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة كما في صحيح البخاري فإنه تعالى على التبعيض و الأعضاء و أن ينكشف و يتغطى و معناه أي يكشف على العظيم من أمره
و قال الخطابي : إنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة فيحتمل أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أهوال القيامة و شدتها ما يرتفع معه سواتر الأمتحان فيميز عند ذلك أهل اليقين و الإخلاص فيؤذن لهم في السجود و ينكشف الغطاء عن أهل النفاق فتعود ظهورهم طبقا واحدا لا يستطيعون السجود قال : و قد تأوله بعض الناس فقال : لا ينكر أن يكون الله سبحانه قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم فيجعل ذلك سببا لبيان ما شاء من حكمه في أهل الإيمان و أهل النفاق
قال الخطابي : و فيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة و قد يحتمله معنى اللغة سمعت أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي فيما عدة من المعاني المختلفة الواقعة تحت هذا الاسم قال : و الساق النفس و منه قول علي رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتل الخوارج فقال : و الله لأقاتلنهم حتى و لو تلفت ساقي يريد نفسه و قال أبو سليمان و قد يحتمل على هذا أن يكون المراد التجلي لهم و كشف الحجب عن أبصارهم حتى إذا رأوه سجدوا له قال : و لست أقطع به القول و لا أراه واجبا فيما أذهب إليه من ذلك
قال المؤلف : هذا القول أحسن الأقوال إن شاء وقد جاء فيه حديث حسن ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسير سورة ن و القلم فقال : [ حدثنا الخليل بن أحمد : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا هدبة قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة بن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قال قوم إلى ما كانوا يعبدون و يبقى أهل التوحيد فيقال لهم : ما تنتظرون و قد ذهب الناس ؟ فيقولون : إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا و لم نره قال : و تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : نعم فيقال : فكيف تعرفونه و لم تروه ؟ قالوا : إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا و تبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى { يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون } فيقول الله تعالى : عبادى ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم من اليهود و النصارى في النار ]
قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو فحدثك أبوك بهذا الحديث فحلفت له ثلاث أيمان فقال عمر : ما سمعت من أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا
قال المؤلف : فهذا الحديث يبين لك معنى كشف الساق و أنه عبارة عن رؤيته سبحانه و هو معنى ما في صحيح مسلم و الحديث يفسر بعضه بعضا فلا إشكال فيه و الحمد لله
و قد ذكر البيهقي [ عن روح بن جناج عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } قال : عن نور عظيم يخرون له سجدا ] تفرد به روح بن جناح و هو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها و موالي عمر بن عبد العزيز فيهم كثرة
قال المؤلف : الحديث الذي قبله أبين و أصح إسنادا فليعول عليه و قد هاب الإمام أبو حامد الغزالي القول فيه و أشفق من تأويله فقال في كتاب كشف علم الآخرة : ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس كلهم تعظيما له و تواضعا إلى الكفار الذين قد أشركوا به أيام حياتهم و عبدة الحجارة و الخشب و ما لم ينزل به سلطانا فإن صياصي أصلابهم تعود حديدا فلا يقدرون على السجود و هو قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون }
[ و روي البخاري في تفسيره مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكشف الله عن ساقه النبي يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة ] و قد أشفقت من تأويل الحديث و عدلت عن منكر به و كذا أشفقت من صفة الميزان و زيفت قول واصفيه و جعلته متحيزا إلى العالم الملكوتي فإن الحسنات و السيئات أعراض و لا يصح وزن الأعراض إلا بميزان ملكوتي
قال المؤلف : قد ذكرنا الميزان و بينا القول فيه و في الأعمال الموزونة غاية البيان بالأخبار الصحيحة و الحسان و بينا القول هنا في كشف الساق بحيث لم يبق فيه لأحد ريب ولا مخالفة و لا شقاق فالله الحمد على ما به أنعم و فهم و علم
باب كيف الجواز على الصراط و صفته و من يحبس عليه و يزل عنه و في شفقة
النبي صلى الله عليه و سلم على أمته عند ذلك و في ذكر القناطر قبله و السؤال عليها و بيان قوله تعالى : و إن منكم إلا واردها
روي عن بعض أهل العلم أنه قال : لن يجوز أحد الصراط حتى يسأل في سبع قناطر أما القنطرة الأولى : فيسأل عن الإيمان بالله و هي شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجاز بها مخلصا و الإخلاص قول و عمل جاز ثم يسأل على القنطرة الثانية عن الصلاة فإن جاؤ بها تامة جاز ثم يسأل على القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تاما جاز ثم يسأل على القنطرة الرابعة عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز ثم يسأل في الخامسة عن الحج و العمرة فإن جاء بهما تامتين جاز ثم يسأل في القنطرة السادسة عن الغسل و الوضوء فإن جاء بهما تأمين جاز ثم يسأل في السابعة و ليس في القناطر أصعب منها فيسأل عن ظلامات الناس
و ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه إذا لم يبق في الموقف إلا المؤمنون و المسلمون و المحسنون و العارفون و الصديقون و الشهداء و الصالحون و المرسلون ليس فيهم مرتاب و لا منافق و لا زنديق فيقول الله تعالى : يا أهل الموقف من ربكم ؟ فيقولون : الله فيقول لهم : أتعرفونه ؟ فيقولون : نعم فيتجلى لهم ملك عن يسار العرش لو جعلت البحار السبع في نقره إبهامه لما ظهرت فيقول لهم بأمر الله : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه لما ظهرت فيقول لهم أنا ربكم : فيقولون : نعوذ بالله منك فيتجلى لهم الرب سبحانه في صورة غير صورته التي كانوا يعرفونه و سمعوا و هو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول : أهلا بكم ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط و الناس أفواج : المرسلون ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ثم المؤمنون ثم العارفون ثم المسلمون منهم المكبوب لوجهه و منهم المحبوس في الأعراف و منهم قوم قصروا عن تمام الإيمان فمنهم من يجوز الصراط مائة عام و آخر يجوز على ألف و مع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عيانا لا يضام في رؤيته
فتوهم نفسك يا أخي إذا صرت على الصراط و نظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها و علا لهيبها و أنت تمشي أحيانا و تزحف أخرى قال :
( أبت نفسي تتوب فما احتيالي ... إذا برز العباد لذي الجلال )
( و قاموا من قبورهم سكارى ... بأوزار كأمثال الجبال )
( و قد نصب الصراط لكي يجوزوا ... فمنهم من يكب على الشمال )
( و منهم من يسير لدار عدن ... تلقاه العرائس بالغوالي )
( يقول له المهمين يا وليي ... غفرت لك الذنوب فلا تبالي )
و قال آخر :
( إذا مد الصراط على جحيم ... تصول على العصاة و تستطيل )
( فقوم في الجحيم لهم ثبور ... و قوم في الجنان لهم مقيل )
( و بان الحق و انكشف الغطاء ... و طال الويل و اتصل العويل )
و ذكر مسلم [ من حديث أبي هريرة فيأتون محمدا صلى الله عليه و سلم فيؤذن لهم و ترسل الأمانة و الرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا و شمالا فيمر أولهم كالبرق الخاطف ]
قال : قلت بأبي أنت و أمي و أي شيء كمر البرق ؟ قال : [ ألم تر إلى البرق كيف يمر و يرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطير و شد الرجال تجري بهم أعمالهم و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل و لا يستطيع السير إلا زاحفا ]
قال : [ و في حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أموت بأخذه فمخدوش ناج و مكردس في النار و الذي نفس محمد بيده : إن قعر جهنم لسبعون خريفا ] ؟
و روي [ من حديث حذيفة أيضا و ذكر مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري و فيه : ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله و ما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شوكة يقال لها السعدان : فيمر المؤمنون كطرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكردس في نار جهنم ] الحديث و سيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى
و في رواية قال أبو سعيد الخدري : [ بلغني أن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف ] و في رواية [ أرق من الشعر ] رواها مسلم
و خرج ابن ماجه حديث أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يوضع الصراط بينم ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم و مخدوج به ثم ناج و محتبس به و منكوس فيها ]
و ذكر ابن المبارك قال : حدثنا هشام بن حسان عن موسى عن أنس عن عبيد بن عمير [ أن الصراط مثل السيف على جسر جهنم و أن لجنبتيه كلاليب و حسكا و الذي نفسي بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة و مضر ]
و أخبرنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال قال : [ بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر و على بعض الناس مثل الوادي الواسع ] أعمل
قال : و أخبرنا عوف عن عبد بن سفيان العقيلي قال : [ يجوز الناس يوم القيامة على الصراط على قدر إيمانهم و أعمالهم فيجوز الرجل كالطرف في السرعة و كالسهم المرمى و كالطائر السريع الطيران و كالفرس الجواد المضمر و يجوز الرجل يعدو عدوا و الرجل يمشي مشيا حتى سكون آخر من ينجو يحبو حبوا ]
و ذكر هناد بن السري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا سفيان حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعفراء قال : قال عبد الله [ يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم ] قال : [ فيمر الناس على قدر أعمالهم أولهم كلمح البرق ثم كمر الريح ثم كأسرع البهائم ثم كذلك حتى يمر الرجل سعيا و حتى يمر الرجل ماشيا ثم يكون آخرهم يتلبط على بطنه يقول يا رب لم أبطأت بي ؟ فيقول : لم أبطئ بك إنما أبطأ بك عملك ]
قال : و حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن قتادة قال : قال عبد الله ابن مسعود : [ تجوزون الصراط بعفو الله و تدخلون الجنة برحمة الله و تقتسمون المنازل بأعمالكم ]
أبو داود [ عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حمى مؤمنا من منافق أراه قال : بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم و من رمى مؤمنا بشيء شينه حبسه الله عز و جل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الزالون على الصراط كثير و أكثر من يزل عنه النساء ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي
و قال المصطفى صلى الله عليه و سلم : [ فإذا صار الناس على طرف الصراط نادى ملك من تحت العرش : يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط و ليقف كل عاص منكم و ظالم فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها و ما أشد حرها يتقدم فيها من كان في الدينا ضعيفا مهينا و يتأخر عنها من كان في الدنيا عظيما مكينا ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك بالجواز على الصراط على قدر أعمالهم في ظلمتهم و أنوارهم فإذا عصف الصراط بأمتي نادوا : و امحمداه فأبادر من شدة إشفاقي عليهم و جبريل آخد بحجزتي فأنادي رافعا صوتي رب أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي و لا فاطمة ابنتي و الملائكة قيام عن يمين الصراط و يساره ينادون : رب سلم سلم و قد عظمت الأهوال و اشتدت الأوجال و العصاة يتساقطون عن اليمين و الشمال و الزبانية يتلقونهم بالسلاسل و الأغلال و ينادونهم : أما نهيتم عن كسب الأوزار ؟ أما خوفتم عذاب النار ؟ أما أنذرتم كل الإنذار أما جاءكم النبي المختار ؟ ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي أيضا في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق
فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط و دقته ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته ثم قرع سمعك شهيق النار و تغيظها و قد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك و اضطراب قلبك و تزلزل قدمك و ثقل ظهرك بالأوزار المنعة لك من المشي على بساط الأرض فضلا عن حدة الصراط فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته و اضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني و الخلائق بين يديك يزلون و يعثرون و تتناولهم زبانية النار بالخطاطيف و الكلاليب و أنت إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم و تعلو أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه و مرتقى ما أصبعه و مجاز ما أضيقه
فصل : ذهب بعض من تكلم على أحاديث هذا الباب في وصف الصراط بأنه أدق من الشعر و أحد من السيف أن ذلك راجع إلى يسره و عسره على قدر الطاعات و المعاصي و لا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى لخفائها و غموضها و قد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي : دقيق فضرب المثل له بدقة الشعر فهذا و الله أعلم من هذا الباب
و معنى قوله : [ و أحد من السيف ] : أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى الملائكة في إجازة الناي على الصراط يكون في نفاذ حد السيف و مضيه إسراعا منهم إلى طاعته و امتثاله و لا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحدة و قوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد
و إما أن يقال : إن الصراط نفسه أحد من السيف و أدق من الشعر فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه و أن فيه كلاليب و حسكا أي أن من يمر عليك يقع على بطنه و منهم من يزل ثم يقوم و فيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه و في ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه موطئ الأقدام و معلوم أن رقة الشعر لا يحتمل هذا كله و قال بعض الحفاظ : إن هذه اللفظة ليست ثابتة
قال المؤلف : ما ذكره القاتل مردود بما ذكرنا من الأخبار و أن الإيمان يجب بذلك و أن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن فيجزيه أو يمشيه و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة و لا استحالة في ذلك للآثار الواردة في ذلك و ثباتها بثقل الأئمة العدول { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور } ؟
و عن يحيى بن اليمان : رأيت رجلا نام و هو أسود الرأس و اللحية شاب يملأ العين فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا و إذا بنهر من نار و جسر يمر الناس عليه فدعى فدخل الجسر فإذا هو كحد السيف يمر يمينا و شمالا فأصبح أبيض الرأس و اللحية
فصل : أحاديث هذا الباب تبين لك معنى الورود المذكور في القرآن في قوله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها }
روي عن ابن عباس و ابن مسعود و كعب الأحبار أنهم قالوا : الورود المرور على الصراط رواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم
و ذكر أبو بكر النجاد سلمان قال : [ حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السليطي حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال : حدثنا سليم بن منصور بن عمار قال : حدثني أبي منصور بن عمار قال : حدثني بشر بن طلحة الخزامي عن خالد بن الدريك عن يعلى منبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ] و قيل : الورود الدخول روي عن ابن مسعود و عن ابن عباس أيضا و خالد بن معدان و ابن جريج و غيرهم و حديث أبي سعيد الخدري نص في ذلك على ما يأتي فيدخلها العصاة بجرائمهم و الأولياء بشفاعتهم
و روي [ عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الورد الدخول لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم { ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا } ]
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن رجل عن خالد بن معدان قال : قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار فقال : إنكم مررتم بها و هي خامدة
قال ابن المبارك و أخبرنا سعيد الجيزي عن أبي الليل عن غنيم عن أبي العوام عن كعب أنه تلا هذه الآية : { و إن منكم إلا واردها } قال : هل تدرون ما ورودها ؟ قالوا : الله أعلم قال : فإن ورودها أن يجاء بجهنم و تمسك للناس كأنها متن إهالة حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلق برهم و فاجرهم نادى مناد : أن خذي أصحابك و ذرى أصحابي فتخسف بكل ولي لها لهي أعلم بهم من الوالد بولده و ينجو المؤمنون
و قال مجاهد : و رود المؤمنين هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا و هي حظ المؤمن من النار فلا يردها
و أسند أبو عمر بن عبد البر في ذلك حديثا في التمهيد [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد مريضا من وعك به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبشر فإن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار ]
و قالت طائفة : الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز و يصلاها قدر عليه دخولها ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى و احتجوا بحديث ابن عمر : [ إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي ] الحديث
و قيل : المراد بالورود الإشراف على جهنم و الإطلاع عليها و القرب منها و ذلك أنهم يحضرون موضع الحساب و هو بقرب جهنم فيرونها و ينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه و يصار بهم إلى الجنة و نذر الظالمين أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى : { و لما ورد ماء مدين } أي أشرف عليه لا أنه دخله [ و روت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل النار أحد من أهل بدر و الحديبية قال : فقلت يا رسول الله : و أين قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ثم ننجي الذين اتقوا } ] خرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم عند حفصة الحديث
و قيل : الخطاب للكفار في قوله تعالى : { و إن منكم إلا واردها } روى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } قال : هذا خطاب للكفار و روي عنه أنه كان يقرأ { و إن منهم } ردا على الآيات التي قبلها من الكفار قوله : { فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم } و { أيهم أشد } { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا * وإن منكم } و كذلك قرأ عكرمة و جماعة
و قالت فرقة : المراد منكم : الكفرة و المعنى : قل لهم يا محمد و إن منكم
و قال الجمهور : المخاطب العالم كله و لا بد من ورود الجميع و عليه نشأ الخلاف في الورود كما ذكرنا و الصحيح أن الورود : الدخول لحديث أبي سعيد كما ذكرنا
و في مسند الدرامي أبي محمد [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل في مشيه ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ] خرجه الأئمة قال الزهري كأنه يريد هذه الآية { و إن منكم إلا واردها } ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده و هذا يبين لك ما ذكرناه لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا و سلاما على المؤمنين و ينجون منها سالمين قال : خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا إنا نرد النار ؟ فيقال : قد وردتموها فلقيتموها رمادا
قلت : و الذي يجمع شتات الأقوال : أن يقال إن من وردها و لم تؤذه بلهبها و حرها فقد أبعد عنها و نجي منها نجانا الله منها بفضله و كرمه و جعلنا ممن وردها سالما و خرج منها غانما
و روي ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري لابن عباس { لا يسمعون حسيسها } فقال له ابن عباس : أمجنون أنت ؟ فأين قوله تعالى : { و إن منكم إلا واردها } و قوله : { فأوردهم النار } و قوله : { إلى جهنم وردا } و لقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالما و أدخلني الجنة فائزا
و قد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود و الجهل بالصدر كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه يقول : ليت أمي لم تلدني فتقول له امرأته : يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك و هداك إلى الإسلام قال : أجل و لكن الله قد بين لنا أنا واردوا النار و لم يبين لنا أنا صادرون
و عن الحسن قال : قال رجل لأخيه أي أخي هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم قال : فهل أتاك أنك خارج منها ؟ قال : لا قال : ففيم الضحك إذا ؟ قال : فما رئي ضاحكا حتى مات
و روي عن ابن عباس أنه قال في هذ المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي : [ أما أنا و أنت فلا بد أن يدرها فأما أنا فينجيني الله منها و أما أنت فما أظنه ينجيك ]
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي عاصم قال : بكى ابن رواحة فبكت امرأته فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : بكيت حين رأيتك تبكي فقال عبد الله : إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا ؟ و في معناه قيل :
( و قد أتانا ورود النار ضاحية ... حقا يقينا و لما يأتنا الصدر )
باب ما جاء في شعار المؤمنين على الصراط
الترمذي [ عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : شعار المؤمنين على الصراط : رب سلم سلم ] قال : حديث غريب
و في صحيح مسلم : [ و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم ] و قد تقدم
باب فيمن لا يوقف على الصراط طرفة عين
ذكر الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة : [ أخبرنا محمد بن الحجاج قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الربعي حدثنا علي بن الحسين أبو عبيد قال : حدثنا زكريا ابن يحيى أبو السكن قال : حدثني عبد الله بن صالح الهماني قال : حدثني أبو همام القرشي عن سليمان بن المغيرة عن قيس بن مسلم عن طاووس عن أبي هريرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم علم الناس سنتي و إن كرهوا ذلك و إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ] قال : و هذا غريب الإسناد و المتن حسن
باب منه
أبو نعيم قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا خير بن عرفة قال : حدثنا هانئ بن المتوكل قال : حدثنا ربيعة سليمان بن ربيعة عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أحسن الصدقة في الدنيا جاز على الصراط و من قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته ] قال : هذا حديث غريب من حديث محمد تفرد بن سليمان عن موسى
و ذكر الختلي أبو القاسم حدثنا عثمان بن سعيد أبو عمرو الأنطاكي قال : حدثنا علي بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا شيخ يكنى أبا جعفر قال : رأيت في منامي كأني واقف على قناطر جهنم فنظرت إلى هول عظيم فجعلت أفكر في نفسي كيف العبور على هذه ؟ فإذا قائل يقول من خلفي : يا عبد الله ضع حملك و اعبر فقلت : و ما حملي ؟ قال : دع الدنيا و اعبر قال : و حدثني أبو بكر خليفة الحارث بن خليفة قال : قال : حدثنا عمرو بن جرير حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا الدرداء يقول لابنه : يا بني لا يكن بيتك إلا المسجد فإن المساجد بيوت المتقين سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من يكن المسجد بيته ضمن الله لو بالروح و الرحمة و الجواز على الصراط ]
قلت : و هذا الحديث يصحح ما ذكرناه من الرؤيا فإن من سكن المسجد و اتخذه بيتا و أعرض عن الدنيا و أهله و أقبل إلى الآخرة و عمل لها
باب ثلاثة مواطن لا يخطئها النبي صلى الله عليه و سلم لعظم الأمر فيها و
شدته
الترمذي [ عن أنس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يشفع لي يوم القيامة قال : أنا فاعل إن شاء الله قال : فأين أطلبك ؟ قال : أول ما تطلبني على الصراط قلت : فإن لم ألقك ؟ قال : فاطلبني عند الميزان قلت
: فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن ] قال : هذا حديث حسن و قد تقدم من حديث عائشة أنه عليه السلام قال : [ أما ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان و عند تطاير الصحف و عند الصراط ]
باب في تلقي الملائكة للأنبياء و أممهم بعد الصراط و في هلاك أعدائهم
ابن المبارك عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيا نبيا و أمة أمة حتى يكون آخرهم مركزا محمد و أمته و يضرب الجسر على جهنم و ينادي مناد أين أحمد و أمته ؟ فيقول نبي الله صلى الله عليه و سلم و تتبعه أمته برها و فاجرها حتى إذا كان على الصراط طمس الله ابصار أعدائه فتهافتوا في النار يمينا و شمالا و يمضي النبي صلى الله عليه و سلم و الصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على طريق الجنة على يمينك على شمالك حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي من الجانب الآخر ثم يدعى نبي نبي و أمة أمة حتى يكون آخرهم نوحا رحم الله نوحا
باب ذكر الصراط الثاني و هو القنطرة التي بين الجنة و النار
اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين : أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم و خفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه و لا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حسبوا على صراط آخر خاص لهم و لا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا ا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه و أربى على الحسنات بالقصاص جرمه
البخاري [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلص المؤمنون من النار فيحسبون على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و نقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا ]
فصل : قلت : معنى يخلص المؤمنون من النار أي يخلصون من الصراط المضروب على النار و دل هذا الحديث على أن المؤمنين في الآخرة مختلفو الحال قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حسبوا على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و طيبوا قال لهم رضوان و أصحابه سلام عليكم بمعنى التحية طبتم فادخلوها خالدين
و قد ذكر الدراقطني حديثا ذكر فيه : أن الجنة بعد الصراط
قلت : و لعله أراد بعد القنطرة بدليل حديث البخاري و الله أعلم أو يكون ذلك في حق من دخل النار و خرج بالشفاعة فهؤلاء لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة و النار يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم ] و لا تعارض بين هذا و بين حديث البخاري فإن الحديثين مختلفا المعنى لاختلاف أحوال الناس و كذلك لا تعارض بين قوله عليه السلام [ لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة ] و بين قول عبد الله بن سلام إن الملائكة تدلهم على
طريق الجنة يمينا و شمالا فإن هذا يكون فيمن لم يحبس على قنطرة و لم يدخل النار فيخرج منها فيطرح على باب الجنة و قد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع فإذا وصلت بهم الملائكة إلى باب الجنة كان كل أحد منهم أعرف بمنزلة في الجنة و موضعه فيها منه بمنزله كان في الدنيا و الله أعلم و هو معنى قوله { و يدخلهم الجنة عرفها لهم } قال أكثر أهل التفسير : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم
و قيل : إن هذا التعريف إلى المنازيل بدليل و هو أن الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه و حديث أبي سعيد الخدري يرده و الله أعلم
باب من دخل النار من الموحدين مات و احترق ثم يخرجون بالشفاعة
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون و لكن ناسا أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ] فقال رجل من القوم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كان يرعى الغنم بالبادية
فصل : هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر و ذلك تكريما لهم حتى لا يحسوا ألم العذاب بعد الاحتراق بخلاف الحي الذي هو من أهلها و مخلد فيها { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } و قيل : يجوز أن تكون إماتتهم عبارة عن تغيبه إياهم عن آلامها بالنوم و لا يكون ذلك موتا على الحقيقة فإن النوم قد يغيب عن كثير من الآلام و الملاذ و قد سماه الله موتا فقال الله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها } فهو وفاة و ليس بموت على الحقيقة الذي هو خروج الروح عن البدن و كذلك الصعقة قد عبر الله بها الموت في قوله تعالى { فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله }
و أخبر عن موسى عليه السلام أنه خر صعقا و لم يكن ذلك موتا على الحقيقة غير أنه لما غيب عن أحوال المشاهدة من الملاذ و الآلام جاز أن يسمى موتا و كذلك يجوز أن يكون أماتهم غيبهم عن الآلام و هم أحياء بلطيفة يحدثها الله فيهم كما غيب النسوة اللاتي قطعن أيديهن بشاهد ظهر لهن فغيبهن فيه عن آلامهن و التأويل الأول أصح لما ذكرناه على الحقيقة كما أن أهلها أحياء على الحقيقة و ليسوا بأموات
فإن قيل : فما معنى إدخالهم النار و هم فيها غير عالمين ؟ قيل : يجوز أن يدخلهم تأديبا لهم و إن لم يعذبهم فيها و يكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجون فإن الحبس عقوبة لهم و إن لم يكن معه غل و لا قيد و الله أعلم و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب النار إن شاء تعالى
و قوله : ضبائر ضبائر معناه جماعات جماعات الواحدة ضبارة بكسر الضاد و هي الجماعة من الناس و بثوا : فرقوا و الحبة بكسر الحاء بزر البقول و حميل السيل ما احتمله من غثاء و طين و سيأتي إن شاء الله تعالى
باب فيمن يشفع لهم قبل دخول النار من أجل أعمالهم الصالحة و هم أهل الفضل
في الدنيا
ذكر أبو عبد الله محمد بن ميسرة الجبلي القرطبي في كتاب التبيين له روى أبي و ابن وضاح من حديث أنس يرفعه قال : يصف أهل النار فيقرنون فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان : أما تذكر رجلا سقاك شربة ماء يوم كذا و كذا ؟ فيقول : إنك لأنت هو قال : فيقول نعم قال فيشفع فيه فيشفع و يقول الرجل منهم يا فلان لرجل من أهل الجنة : أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا و كذا ؟ فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه
قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه بمعناه قال : [ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير و علي بن محمد قالا : حدثنا الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يصف الناس يوم القيامة صفوفا و قال ابن نمير أهل الجنة فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان : أما تذكر يوم استسقيتني فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له و يمر الرجل على الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهورا فيشفع له ] قال ابن نمير و يقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا و كذا فذهبت لك فيشفع له
و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن الثوري حدثنا الأعمش عن شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليوفيهم أجورهم يوم القيامة و يزيدهم من فضله قال : أجورهم يدخله الجنة و يزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا ]
و ذكر أبو جعفر الطحاوي أيضا [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة صفوفا و أهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول يا فلان : تذكر يوم اصطنعت معروفا إليك ؟ فيقول : اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا قال فيقال له خذ بيده و أدخله الجنة برحمة الله عز و جل ] قال أنس رضي الله عنه أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله
قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة : و رأيت في الكتاب الذي يقال إنه الزبور [ إني أدعو عبادي الزاهدين يوم القيامة فأقول لهم : عبادي إني لم أزو عنكم الدنيا لهواتكم علي و لكن أردت أن تستوفوا نصيبكم موفورا اليوم فتخللوا الصفوف فمن أحببتموه في الدنيا أو قضى لكم حاجة أو رد عنكم غيبة أو أطعمكم لقمة ابتغاء وجهي و طلب مرضاتي فخذوا بيده و أدخلوه الجنة ]
فصل : و ذكر أبو حامد في آخر كتاب الآحياء [ قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار و يقول يا فلان هلى تعرفني ؟ فيقول : لا و الله ما أعرفك من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في الدنيا يوما فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك قال : قد عرفت قال فاشفع لي بها عن ربك فيسأل الله تعالى و يقول : إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال هل تعرفني فقلت : لا من أنت ؟ قال أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي بها فشفعني فيشفعه الله تعالى فيؤمر به فيخرج من النار ] و الله تعالى أعلم
باب في الشافعين لمن دخل النار و ما جاء أن النبي صلى الله عليه و سلم
يشفع رابع أربعة و ذكر من يبقى في جهنم بعد ذلك
ابن ماجه [ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ]
و ذكر ابن السماك أبو عمرو عثمان بن أحمد قال : حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان قال : أخبرنا علي بن عاصم قال : حدثنا خالد الحذاء عن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود يشفع نبيكم رابع أربعة : جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه و سلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء و يبقى قوم من جهنم فيقال لهم { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * و لم نك نطعم المسكين } إلى قوله : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فهؤلاء الذين يبقون في جهنم
قال المؤلف رحمه الله : و قيل إن هذا هو المقام المحمود لنبينا صلى الله عليه و سلم خرجه أبو داود الطيالسي قال حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء عن عبد الله قال : ثم يأذن الله عز و جل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل عليه الصلاة و السلام ثم يقوم إبراهيم خليل الله صلى الله عليه و سلم ثم يقوم موسى أو عيسى عليه السلام قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه و سلم رابعا فيشفع لا يشفع لأحد بعده في أكثر مما يشفع و هو المقام المحمود الذي قال الله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
ابن ماجه [ عن عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم قالوا : يا رسول الله : سواك ؟ قال : سواي قلت : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : أنا سمعته ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح غريب و لا نعرف لابن الجدعاء غير هذا الحديث الواحد
قال المؤلف رحمه الله : و خرجه البيهقي في دلائل النبوة و قال في آخره قال عبد الوهاب الثقفي قال هشام بن حيان كان الحسن يقول إنه أويس القرني و ذكر ابن السماك قال : [ حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا شبابة بن سوار حدثنا حريز بن عثمان عن عبد الله بن ميسرة و حبيب بن عدي الرحبي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين : ربيعة و مضر قال قيل يا رسول الله و ما ربيعة من مضر ؟ قال إنما أقول ما أقول قال : فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أمتي من يشفع للفئام و منهم من يشفع للقبيلة و منهم من يشفع للعصبة و منهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة ] قال : حديث حسن
و ذكر البزار في مسنده [ عن ثابت أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليشفع للرجلين و الثلاثة ] و ذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب : [ أن لكل رجل من الصحابة رضي الله عنهم شفاعة ] ذكره ابن المبارك قال : [ أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكون في أمتي رجل يقال له : صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا و كذا ]
فصل : إن قال قائل : كيف تكون الشفاعة لمن دخل النار و الله تعالى يقول { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } و قال : { و لا يشفعون إلا لمن ارتضى } و قال : { و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى } و من ارتضاء الله لا يخزيه قال الله تعالى { يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم } الآية ؟ قلنا : هذا مذهب أهل الوعيد الذين ضلوا عن طريق و حادوا عن التحقيق
و أما مذهب أهل السنة الذين جمعوا بين الكتاب و السنة فإن الشفاعة تنفع العصاة العصاة من أهل الملة حتى لا يبقى منهم أحد إلا دخل الجنة و الجواب عن الآية الأولى ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه أن معنى { من تدخل النار } من يخلد و قال قتادة : يدخل مقلوب يخلد و لا تقول كما قال أهل حروراء فيكون قوله على هذا { فقد أخزيته } على بابه من الهلاك أي أهلتكه و أبعدته و مقته و بهذا قال سعيد بن المسيب فإن الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار دليله قوله في آخر الآية { و ما للظالمين من أنصار } أي الكفار
و إن قدرنا الآية في العصاة من الموحدين فيحتمل أن يكون الخزي بمعنى الحياء يقال : خزي يخزي خزاية إذا استحي فهو خزيان و امرأة خزناية كذا قال أهل المعاني فخزي المؤمنين يومئذ : استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها و الخزي للكافرين هو هلاكهم فيها من غير موت و المؤمنون يموتون فافترقوا في الخزي و الهوان ثم يخرجون بشفاعة من أذن الله له في الشفاعة و برحمة الرحمن و شفاعته على ما يأتي في الباب بعد هذا و عند ذلك يكونون مرضيين قد رضي عنهم ثم لا يأتي الإذن في أحد حتى يرضى لا يبقى عليه من قصاص ذنبه إلا ما تجيزه الشفاعة فيؤذن فيه فيلحق بالفائزين الراضين و الحمد لله رب العالمين
و أما قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه } فمعناه : لا يعذبه و لا يعذب الذين آمنوا و إن عذب العصاة و أماتهم فإنهم يخرجهم بالشفاعة و برحمته على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا و الله أعلم
باب منه في الشفعاء و ذكر الجهنميين
ذكر ابن المبارك قال [ أخبرنا رشدين بن سعد عن يحيى عن أبي عيد الرحمن الختلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصيام و القرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : رب منعته الطعام و الشراب و الشهوات بالنهار فشفعني فيه و يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ]
و ذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه و فيه بعد قوله في نار جهنم : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار
و خرجه ابن ماجه و لفظه [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا خلص الله المؤمنين من النار و آمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين الذين دخلوا النار قال يقول ربنا إخواننا كانوا فذكره بمعناه يقولون ربنا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه و إلى ركبتيه يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ثم يقول الله عز و جل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ربنا لم نذر فيها خيرا ]
و [ كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما } فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين في البخاري و بقيت شفاعتي بدل قوله و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط عادوا حمما فيلقيقهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر و أخضر و ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قالوا يا رسول الله : كأنك كنت ترعى بالبادية قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا و أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ]
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له [ حدثنا أحمد بن أبي الحارث قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد عن معمر راشد عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتابا من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي فأنا أرحم الراحمين قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال : و أكثر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله ]
فصل : هذا الحديث بين أن الإيمان يزيد و ينقص حسب ما بيناه في آخر سورة آل عمران من كتاب جامع أحكام القرآن فإن قوله : أخرجوا من في قلبه مثقلا دينار و نصف دينار و ذرة يدل على ذلك و قوله : من خير يريد من إيمان و كذلك ما جاء ذكره في الخبر في حديث قتادة عن أنس و كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ما يزن برة ما يزن ذرة أي من الإيمان بدليل الرواية الأخرى التي رواها معبد بن هلال العنبري [ عن أنس و فيها فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ] الحديث بطوله أخرجه مسلم فقوله : [ من إيمان ] أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان و منه قوله تعالى { و ما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم
و قد قيل : إن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول : أخرجوا من عمل عملا بنية من قلبه كقوله [ الأعمال بالنيات ] و في هذا المعنى خبر عجيب يأتي ذكره آنفا إن شاء الله تعالى
و يجوز أن يراد به رحمة على مسلم رقة على يتيم خوفا من الله رجاء له توكلا عليه ثقة به مما هي أفعال القلوب دون الجوارح وسماها إيمانا لكونها في محل الإيمان
و الدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا و لم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد له و نفي الشركاء و الإخلاص بقوله لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله [ أخرجوا أخرجوا ] ثم هو سبحانه بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال و قد جاء هذا مبينا فيما رواه الحسن عن أنس و هي الزيادة التي زادها علي بن معبد في حديث الشفاعة ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا قال فيقال لي محمد ارفع رأسك و قل يسمع لك و سل تعطه و اشفع تشفع فأقول : يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال : ليس ذاك لك أو قال ليس ذلك إليك و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبروتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله
و ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول [ عن محمد بن كعب القرطي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب على جباههم عتقاء الرحمن فيسألون أن يمحوا ذلك الاسم عنهم فيمحوه ] و في رواية [ فيبعث الله ملكا فيمحوه عن جباههم ] الحديث و سيأتي يقال : محا لوحه يمحوه محوا و يمحيه محيا و محاه أيضا فهو ممحو و ممحى صارت الواو ياء لكسر ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل و أنشد الأصمعي :
( كما رأيت الورق الممحيا )
و انمحى انفعل و امتحى لغة فيه ضعيفة قاله الجوهري
و ذكره أبو بكر البزار في مسنده [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون و أما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرسل الله عليهم من مائها فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و يدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة : الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم ]
البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين ]
الترمذي [ عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين ] قال : حديث حسن
[ و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] خرجه الترمذي و صححه أبو محمد عبد الحق
و خرجه أبو داود الطيالسي و ابن ماجه [ من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] زاد الطيالسي قال : فقال لي جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له و للشفاعة ؟ قال أبو داود و حدثناه محمد بن ثابت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
و ذكر أبو الحسن الدراقطني [ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم أنا لشرار أمتي فقالوا : فكيف أنت لخيارها ؟ قال : أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم و أما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي ]
و خرج ابن ماجه [ حدثنا إسماعيل بن أسد حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السلوي حدثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن حراش عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرت بين الشفاعة و بين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم و أكفى أترونها للمتقين ؟ لا و لكنها للخاطئين المذنبين المتلوثين ]
قلت : [ و أنبأنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الله بن علي بن خلف الكوفي إجازة عن أبيه الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي قال : قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها و أنا حاضر أسمع قيل لها : أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد النعالي فأقرت به و قالت : نعم قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه البزار أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصغار حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السكوني عن زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن خراش عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خيرت بين الشفاعة و نصف أمتي فاخترت الشفاعة أترونها للمتقين لا و لكنها للخاطئين المتلوثين ؟ ]
و خرج ابن ماجه قال : [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر قال سمعت سليم بن عامر يقول سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة قلنا : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها قال : هي لكل مسلم ] و ما الخبر العجيب الذي وعدنا بذكره فذكره الكلاباذي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر الفوائد له حدثنا أبو النصر محمد بن إسحاق الرشادي قال حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة قال : كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا : أن ألحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنوا من ابن أخي فقلت : إنا لله هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت فقال أحدهما لصاحبه : انزل إليه فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة فقال له صاحبه : إنا لله و إنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس له من الخير شيء ويحك عد فانظر فعاد فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم عاد فشم بطنه فقال ما رأى فيه صوما ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة فقال : ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس معه من الخير شيء اصعد حتى أنزل أنا فنزل الآخر فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة قال : ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه فقال : الله أكبر تكبيرة في سبيل الله يريد بها وجه الله بإنتاكية قال ثم فاضت نفسه و شممت في البيت رائحة المسك فلما صليت الغداة قلت لأهل المسجد : هل لكم في رجل من أهل الجنة ؟ و حدثتهم حديث ابن أخي فلما بلغت ذكر إنتاكية قالوا ليست بإنتاكية هي إنطاكية قلت لا و الله لا أسمتيها إلا كما سماها الملك
قال علماؤنا : فهذا أنجته تكبيرة أراد بها وجه الله تعالى و هذه التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي شهادة الإيمان بالله تعالى كما قررناه فشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم و الملائكة و النبيين و المؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق و من لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار فضلا و كرما وعدا منه حقا و كلمة صدقا { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده الموفي بعهده
فصل : قلت : جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكتب على جباههم عتقاء الرحمن و هذا تعارض
و وجه الجمع بين الحديث أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم و بعضهم سيماهم في رقابهم و قد جاء في حديث جابر و فيه بعد إخراج الشافعين ثم يقول الله تبارك و تعالى أنا الله أخرج بعلمي و رحمتي فيخرج أضعاف ما خرجوا و أضعافهم و يكتب في رقابهم عتقاء الله عز و جل فيدخلون الجنة فيسمون فيها بالجهنميين
قلت : و قد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص قال الله تعالى { فتحرير رقبة } و قال عليه السلام [ و لم ينس حق الله في رقابها و لا ظهورها ] و قد تعبر العرب بالرقاب عن جملة المال قال الشاعر :
( غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... علقت لضحكته رقاب المال )
فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد و جابر رضي الله عنهما فيخرجون اللؤلؤ يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و لا تعارض على هذا و الله أعلم
فصل : إن قال قائل لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم و هو اسم شريف لأنه سبحانه أضافه إليه كما أضاف الأسماء الشريفة فقال : نبيي و بيتي و عرشي و ملائكتي و قد جاء في الخبر : إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله و لم يسألوه محوه ؟ قيل : إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله تعالى لأنهم أنفوا أن ينسوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء و استحيوا من إخوانهم لأجل ذلك فلما من عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم و قد روي مرفوعا : [ إنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار فيرسل الله ريحا من تحت العرش يقال لها المثيرة فتهب على وجوههم فتمحي الكتابة و تزيدهم بهجة و جمالا و حسنا ]
أخبرنا الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب عرف بابن رواحة قرأت عليه قال قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ أخبرنا الحاجب أبو الحسن العلاف أخبرنا أبو القاسم بن بشران أخبرنا الآجري أبو بكر محمد بن الحسين حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سعيد الأنصاري حدثنا علي بن مسلم الطوسي حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال : حدثني عمرو بن رفاعة الربعي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها و لا يحيون و أهلها الذين يخرجون منها إذا أسقطوا فيها كانوا فحما حتى يأن الله فيخرجهم فيلقيهم على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فيرش أهل الجنة عليهم الماء فينبتون ثم يدخلون الجنة يسمون الجهنميين ثم يطلبون من الرحيم عز و جل فيذهب ذلك الاسم عنهم و يلحقون بأهل الجنة و أما سيماء المتحابين فعلامة شريفة و نسبة رفيعة فلذلك لم يسألوا محوها و لا طلبوا زوالها و إزالهتا ] و الله أعلم
فإن قيل : ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة قد يلحقه تنغيص ما و الجنة لا تنغيص فيها و لا نكد
قيل له : هذه الأحاديث تدل على ذلك و أن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم : و قد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فيه النجاسات أنه لاحكم لها كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة و هو تشبيه حسن
قلت : و قد يلحق الجميع خوف ما عند ذبح الموت على الصراط على ما يأتي : و بعده يكونون آمنين مسرورين قد زال عنهم كل متوقع و الله أعلم
فصل : إن قال قائل : كيف يشفع القرآن و الصيام و إنما ذلك عمل العاملين ؟ قيل له : و قد تقدم هذا المعنى و نزيده وضوحا فنقول أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك خرجه ابن ماجه في سننه من حديث بريدة و إسناده صحيح فقوله : يجيء القرآن أي ثواب قارئ القرآن
و قد جاء في صحيح مسلم [ من حديث النواس بين سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالقرآن يوم القيامة و أهله الذين كانوا يعملون به تتقدمه سورة البقرة و آل عمران و ضرب لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نستيهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ]
قال علماؤنا فقوله [ تحاجان عن صاحبهما ] أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث [ أنه من قرأ { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة } خلق الله سبعين ألف ملك يستغفرون إلى يوم القيامة ]
قلت : و كذلك يخلق الله من ثواب القرآن و الصيام ملكين كريمين فيشفعان له و كذلك إن شاء الله سائر الأعمال الصالحة كما ذكره ابن المبارك في دقائقه : أخبرنا رجل عن زيد بن أسلم قال : بلغني أن المؤمن يتمثل له عمله يوم القيامة في أحسن صورة و أحسن ما خلق الله وجها و ثيابا و أطيبه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء أمنه و كلما تخوف شيئا هون عليه فيقول له : جزاك الله من صاحب خيرا من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني و قد صحبتك في قبرك و في دنياك أنا عملك كان و الله حسنا فلذلك تراني حسنا و كان طيبا فلذلك تراني طيبا تعال فاركبني فطال ما ركبتك في الدنيا و هو قوله تعالى : { و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } الآية حتى يأتي به إلى ربه عز و جل فيقول يا رب إن كل صاحب عمل في الدنيا قد أصاب في عمله و كل صاحب تجارة و صانع قد أصاب في تجارته غير صاحبي هذا قد شغل في نفسه فيقول الله تعالى : فما تسأل ؟ فيقول المغفرة و الرحمة أو نحو هذا فيقول : فإني قد غفرت له ثم يكسى حلة الكرامة و يجعل عليه تاج الوقار فيه لؤلؤة تضيء من مسيرة يومين ثم يقول : يا رب إن أبويه قد شغل عنهما و كل صاحب عمل و تجارة قد كان يدخل على أبويه من عمله فيعطى أبويه مثل ما أعطى
و يتمثل للكافر عمله في أقبح ما يكون صورة و أنتن رائحة و يجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده و كلما تخوف شيئا زاده خوفا منه فيقول : بئس الصاحب أنت و من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا و كان منتنا فلذلك تراني منتنا فطأطئ رأسك أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فذلك قوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة }
قلت : مثل هذا لا يقاب من جهة الرأي و معناه يستند [ من حديث قيس بن عاصم المنقري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي و تدفن معه و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإن كان صالحا فلا تأنس إلا به و إن كان فاحشا فلا تستوحش إلا منه و هو فعلك ]
و ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة و رائحة طيبة فلا يجد رائحتها و لا يرى صورتها إلا مؤمن فيجدون لها رائحة و أنسا فيقول الكافر و العاصي المصر : ما لنا ماوجدنا ماوجدتم و لا رأينا ما رأيتم فتقول التوبة : طال ما تعرضت لكم في الدنيا فما أردتموني فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني فيقولون : نحن اليوم نتوب فينادي مناد من تحت العرش : ههيات ذهبت أيام المهلة و انقضى زمان التوبة فلو جئتموني بالدنيا و ما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم و لا رحمت عبرتكم فعند ذلك تنأى التوبة عنهم و تبعد ملائكة الرحمة عنهم و ينادي مناد من تحت العرش : يا خزنة النار هلموا إلى أعداء الجبار ] و هذا بين فما ذكرناه و بالله توفيقنا و الله أعلم
باب معرفة المشفوع فيهم بأثر السجود و بياض الوجوه
قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون أدخلتهم النار فيقول لهم : اذهبوا فمن عرفتم أخرجوه و ذكر الحديث
و خرج مسلم من [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه بعد قوله منهم المجازى حتى ينجى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد و أراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود و حرم الله على النار أن تأكل آثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ] و ذكر الحديث
و خرج [ عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا درات وجوههم حتى يدخلوا الجنة ]
فصل : هذا الحديث أدل دليل على أن أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا تسود لهم وجوه و لا تزرق لهم أعين و لايغلون بخلاف الكفار و قد جاء هذا المعنى منصوصا في [ حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوههم و لا تزرق أعينهم و لا يغلون بالأغلال و لا يقرنون بالشياطين و لا يضربون بالمقامع و لا يطرحون في الأدراك منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج و منهم من يمكث فيها يوما ثم يخرج و منهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج و أكثرهم مكثا فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة ] الحديث بطوله و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى خرجه الترمذي في نوادر الأصول
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إنه يؤتى بأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم شيوخا و عجائز و كهولا و نساء و شبابا فإذا نظر إليهم مالك خازن النار قال : من أنتم معشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغل و لم توضع عليكم الأغلال و السلاسل و لم تسود وجوهكم و ما ورد علي أحسن منكم فيقولون : يا مالك نحن أشقياء أمة محمد صلى الله عليه و سلم دعنا نبكي على ذنوبنا فيقول لهم : ابكوا فلن ينفعكم البكاء
فكم من شيخ وضع يده على لحيته و يقول : وا شيبتاه وا طول حسرتاه وا ضعف قوتاه و كم من كهل ينادي وا مصيبتاه وأطول مقاماه و كم من شاب ينادي وا أسفاه وا شباباه على تغيير حسناه و كم من امرأة قد قبضت على ناصيتها و شعرها و هي تنادي وا سوأتاه واهتك أستارها فيبكون ألف عام فإذا النداء من قبل الله : يا مالك أدخلهم النار في أول باب منها فإذا همت النار أن تأخذهم فيقولون بجمعهم : لا إله إلا الله فتنفر عنهم النار خمسمائة عام ثم يأخذون في البكاء فتشتد أصواتهم و إذا النداء من قبل الله تعالى : يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الأول من النار فعند ذلك يسمع لها صلصلة كالرعد القاصف فإذا همت النار أن تحرق القلوب زجرها مالك و جعل يقول : لا تحرقي قلبا فيه القرآن و كان وعاء الإيمان فإذا بالزبانية قد جاءوا بالحميم ليصبوه في بطونهم فيزجرهم مالك فبقول : لا تدخلوا الحميم بطونا أخمصها رمضان و لا تحرق النار جباها سجدت لله تعالى فيعودون فيها حمما كالغاسق المحلو لك و الإيمان يتلألأ في القلوب و سيأتي لهذا مزيد بيان في آخر أبواب النار نجانا الله منها و لا يجعلنا ممن يدخلها فيحترق فيها
فصل : قوله : [ إذا فرغ الله ] مشكل و في التنزيل : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } و معناه المبالغة في التهديد و الوعيد من عند الله تعالى لعباده كقول القائل سأفرغ لك و إن لم يكن مشغولا عنه بشغل و ليس بالله تعالى شغل تعالى عن ذلك
و قيل : المعنى : سنقصد لمجازاتكم و عقوبتكم كما يقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصد قصدك و فرغ بمعنى قصد و أحكم قال جرير بن نمير الجعفي :
( الآن و قد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا )
يريد ؟ و قد قصدت نحوه فمعنى فرغ الله من القضاء بين العباد أي تمم عليهم حسابهم و فصل بينهم لأنه لا يشغلهم شأن عن شأن سبحانه و تعالى *التالي ان شاء الله ... ج4 وج5 وج6.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج4وج5 وج6. كتاب : التذكرة المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

 كتاب : التذكرة المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي    باب ما يرجى من رحمة الله تعالى و...