
كتاب : التذكرة
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي
باب ما يرجى من رحمة الله تعالى و مغفرته و عفوه يوم القيامة قال الحسن : يقول الله تعالى يوم القيامة : [ جوزوا الصراط بعفوي و ادخلوا الجنة برحمتي و اقتسموها بأعمالكم ]
و قال عليه السلام : [ ينادي منادي من تحت العرش : يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها فيما بينكم و ادخلوا الجنة برحمتي ]
و روي أن إعرابيا سمع ابن عباس يقرأ : { و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } فقال الأعرابي : و الله ما أنقذكم منها و هو يريد أن يوقعهم فيها فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه
و قال الصنابحي دخلت على عبادة بن الصامت و هو في الموت فبكيت فقال : مهلا لم تبكي ؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثا واحدا و سوف أحدثكموه اليوم و قد أحيط بنفسي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار ] خرجه مسلم و غيره من الأئمة
و خرج مسلم [ من حديث سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات و الأرض مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض فجعل في الأرض منها رحمة واحدة فيها تعطف الوالدة على ولدها و الطير و الوحوش بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ] أخرجه ابن ماجة من حديث أبي سعيد
و في بعض الطرق لأبي هريرة [ فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على تلك التسعة و التسعين فأكملها مائة رحمة فرحم بها عباده يوم القيامة ]
قلت : [ أخبرناه عاليا الشيخ الإمام الحافظ المسند ابو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عمرو البكري التيمي من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قراءة عليه بالصنورة المنصورة بالديار المصرية في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب الفرد سنة سبع و أربعين و ستمائة قال : حدثنا الشيخ المسند أبو حفص عمر بن محمد بن معمر الدارقري قدم علينا من دمشق قال : أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الكاتب ببغداد أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن عيلان البزاز أخيرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا موسى بن سهل الوشا أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبي ديب قال : سمعت أبا عثمان النهدي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله تعالى السموات و الأرض أنزل مائة رحمة كل رحمة طباقهما فقسم رحمة واحدة منها بين جميع الخلائق فمنها يتعاطفون فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على التسعة و التسعين فأكملها مائة يرحم الله بها عباده يوم القيامة حتى إن أبليس ليتطاول لها رجاء أن ينال منها شيئا ]
و قال ابن مسعود : لن تزال الرحمة بالناس حتى إن إبليس ليهتز صدره يوم القيامة مما يرى من رحمة الله تعال وشفاعة الشافعين و قال الأصمعي : كان رجل يحدث بأهوال يوم القيامة و أعرابي جالس يسمع فقال : يا هذا من يلبي هذا من العباد ؟ قال : الله فقال الأعرابي : إن الكريم إذا قدر عفا و غفر
و روى ابن ماجة [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { هو أهل التقوى و أهل المغفرة } قال : فقال الله تعالى : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله آخر فمن اتقى ألا يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له ] و خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و قال حديث حسن غريب
و روي [ عن عبد الله بن أبي أوفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده الله أرحم بعبده من الوالدة الشفيقة بولدها ]
و روى مسلم [ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بسبي و إذا بامرأة من السبي تبتغي ولدا لها إذ وجدت صبيا في السبي فأخذته فألصقته ببطنها و أرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها قلنا : لا و الله و هي قادرة على أن تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أرحم بعباده من هذه بولدها ] أخرجه البخاري أيضا
و قال أبو غالب كنت أختلف إلى أبي أمامة بالشام فدخلت يوما على فتى مريض من جيران أبي أمامة و عنده عم له و هو يقول له : يا عدو الله ألم آمرك ؟ ألم أنهك ؟ فقال الصبي : ياعماه لو أن الله تعالى دفعني إلى والدتي كيف كانت صانعة بي ؟ قال : كانت تدخلك الجنة قال : إن ربي الله أشفق من والدتي و أرحم بي منها و قبض الفتى من ساعته فلما جهزه عمه و صلى عليه و أراد أن يضعه في لحده فدخلت القبر مع عمه فلما سواه صاح و فزع فقلت له : ما شأنك ؟ قال : فسح لي في قبره و ملئ نورا فدهشت منه
و قال هلال بن سعد يؤمر بإخراج رجلين من النار فيقول الله تعالى لهما : كيف وجدتما مقيلكما ؟ فيقولان : شر مقيل فيقول الله تعالى : ذلك بما قدمت أيديكما و ما أنا بظلام للعبيد ثم يأمر بصرفهما إلى النار فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها و يتلكأ الآخر فيؤمر بردهما و يسألهما عن حالهما فيقول الذي عدا : قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لمخالفتك ثانية و يقول الذي تلكأ : حسن ظني بك أن لا تردني إليها بعدما أخرجتني منها فيؤمر بهما إلى الجنة
قال المؤلف رحمه الله : و هذا الخبر رفعه الترمذي أبو عيسى بمعناه [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما فقال الرب تبارك و تعالى : أخرجوهما فلما أخرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما ؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا قال : إن رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتمامن النار فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها له بردا و سلاما و يقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول الله تبارك و تعالى : ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني لأرجو أن تعيدني بعدما أخرجتني فيقول الله تعالى : لك رجاؤك فيدخلان الجنة برحمته ]
قال : أبو عيسى إسناد هذا الحديث ضعيف لأنه عن رشدين بن سعد ورشدين بن ضعيف عن ابن أنعم الإفريقي و الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث
[ و عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى : أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام ] حديث غريب
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن إسحاق بن سويد قال : صحبت مسلم بن يسار عاما إلى مكة فلم أسمعه يتكلم بكلمة حتى بلغنا ذات عرق قال : ثم حدثنا قال : بلغني أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول : انظروا في حسناته فينظر في حسناته فلا يوجد له حسنة فيقول : انظروا في سيئاته فتوجد له سيئات كثيرة فيؤمر كثيرة فيؤمر به إلى النار فيذهب إلى النار و هو يلتفت فيقول : رده إلي لم تلتفت ؟ فيقول : أي رب لم يكن هذا ظني أورجائي فيك ـ شك إبراهيم ـ فيقول : صدقت فيؤمر به إلى الجنة
قلت : و هذا الحديث رفعه ابن المبارك قال : [ أخبرنا رشدين بن سعد قال : حدثني أبو هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك أن فضالة بن عبيد و عبادة بن الصامت رضي الله عنهما حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم القيامة و فرغ الله من قضاء الخلق فيبقى رجلان فيؤمر بهما إلى النار فيلتفت أحدهما فيقول الجبار تبارك و تعالى و ردوه فيردوه فيقال له : لم التفت ؟ فيقول : كنت أرجو أن تدخلني الجنة فيؤمر به إلى الجنة قال : فيقول : لقد أعطاني ربي حتى إني لو أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئا ] قالا : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكره يرى السرور في وجهه
قال المؤلف : و في هذا المعنى خبر الرجل الذي ترفع له شجرة بعد أخرى حتى يخرج من النار إلى أن يدخل الجنة خرجه مسلم في الصحيح و سيأتي
باب منه و في أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين و في أول ما يقولون له أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا عبد الله المبارك قال : حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله زحر عن خالد بن أبي عمران عن أبي عياش عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز و جل للمؤمنين يوم القيامة و بأول ما يقولون له ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فإن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا ربنا قال : و ما محملكم على ذلك ؟ قال : فيقولون : عفوك و رحمتك و رضوانك فيقول : فإني قد أوجبت لكم رحمتي ]
باب منه
ذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة و يشدد على نفسه و يقنط الناس من رحمة الله ثم مات قال : إي رب مالي عندك ؟ قال : النار قال : فأين عبادتي و اجتهادي ؟ قيل له : إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا و أنا أقنطك من رحمتي
و قال مقاتل : قال علي بن أبي طالب كرم الله و جهه : الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى و لم يرخص لهم في معاصي الله عز و جل
باب حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات مسلم [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ] خرجه البخاري أيضا و الترمذي و قال : حديث صحيح غريب
و خرج الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله الجنة أرسل جبريل إلى الجنة فقال : انظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها و نظر إليها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها قال : فرجع إليه و قال : و عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها قال : فأمر بها فحفت بالمكاره فقال : فأرجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها قال : فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت ألا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال : و عزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
فصل : المكاره : كل ما يشق على النفس و يصعب عليها عمله كالطهارة في السبرات و غيرها من أعمال الطاعات و الصبر على المصائب و جميع المكروهات و الشهوات : كل ما يوافق النفس و يلائمها و تدعو إليه و يوافقها و أصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتحظى فمثل صلى الله عليه و سلم المكاره و الشهوات بذلك فالجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره و الصبر عليها و النار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات و فطام النفس عنها
و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مثل طريق الجنة و طريق النار بتمثيل آخر فقال : [ طريق الجنة حزن بربوة و طريق النار سهل بسهوة ] ذكره صاحب الشهاب
و الحزن : هو الطريق الوعر المسلك و الربوة : هو المكان المرتفع و أراد به أعلى ما يكون من الروابي و السهوة : بالسين المهملة هو الموضع السهل الذي لا غلط فيه و لا وعورة
و قال القاضي أو بكر بن العربي في سراج المريدين له و معنى قوله عليه السلام : [ حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ] أي جعلت على حافاتها و هي جوانبها و يتوهم الناس أنه ضرب فيها المثل فجعله في جوانبها من الخارج و لو كان ذلك ما كان مثلا صحيحا و إنما هي من داخل و هذه صورتها :
الجنة النار
الصبر الألم الجاه المال النساء
المكاره الغزو
و عن هذا قال ابن مسعود : حفت الجنة بالمكاره و النار حفت بالشهوات فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراء و كل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث و عن حقيقة الحال فإن قيل : فقد حجبت النار بالشهوات قلنا : المعنى واحد لأن الأعمى عن التقوى : الذي أخذت سمعه و بصره الشهوات يراها و لا يرى النار التي هي فيها و إن كانت باستيلاء الجهالة و رين الغفلة على قلبه كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ و هي محجوبة عنه و لا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه و تعلق باله بها و جهله بما جعلت فيه و حجبت
باب احتجاج الجنة و النار و صفة أهلهما البخاري [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجت الجنة و النار فقالت هذه : يدخلني الجبارون و المتكبرون و قالت هذه : يدخلني الضعفاء و المساكين فقال الله لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء و قال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء و لكل واحدة منكما ملؤها ] خرجه مسلم و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح
فصل : قال الحاكم أو عبد الله في علوم الحديث : سئل محمد خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم تحاجت النار و الجنة فقالت هذه : يدخلني الضعفاء من الضعيف قال الذي يبرىء نفسه من الحول و القوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة
قال المؤلف : و مثل هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و الله أعلم
و أما المساكين : فالمراد بهم المتواضعون و هم المشار إليهم في قوله عليه السلام : [ اللهم أحييني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين ] و لقد أحسن من قال :
( إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين )
( ذاك الذي عظمت في الله رغبته ... و ذاك يصلح للدنيا و للدين )
و معنى [ تحاجت الجنة و النار ] أي حاجت كل واحدة صاحبتها و خاصمتها و سيأتي بيانه عند قوله عليه السلام : [ اشتكت النار إلى ربها ]
باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار و في شرار الناس من هم ؟
مسلم [ عن عياض بن عمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوما في خطبته : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم و عفيف ضعيف متضعف ذو عيال
قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا و لا مالا و الخائن الذي لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانة و رجل لا يصبح و لا يمسي إلا و هو يخادعك عن أهلك و مالك و ذكر البخل والكذب و الشنظير الفحاش ]
[ و عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبر قسمه ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر ] و في رواية : [ زنيم متكبر ] خرجه ابن ماجه أيضا
[ أبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة الجواظ و لا الجعظري ] قال : الجواظ : الغليظ الفظ
ابن ماجه [ عن ابن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله رسول الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي تمرد على الله و أبى أن يقول لا إله إلا الله ]
[ و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل النار إلا شقي قيل يا رسول الله و من الشقي ؟ قال : من لم يعمل لله بطاعته و لم يترك له معصية ]
[ و عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا و هو يسمع و أهل النار من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شرا و هو يسمع ]
مسلم [ عن أنس قال : مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و جبت و جبت و جبت و مر بجنازة فأثنى عليها شرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و جبت و جبت و جبت فقال عمر : فداك أبي و أمي مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت : وجبت وجبت وجبت و مر بجنازة فأثني عليها شرا فقلت : وجبت وجبت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض ] قالها ثلاثا
و قالت عائشة رضي الله عنها : الجنة دار الأسخياء و النار دار البخلاء
و قال زيد بن أسلم : أمرك الله تعالى أن تكون كريما فيدخلك الجنة و نهاك أن تكون بخيلا فيدخلك النار
و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن كعب القرظي [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله و من أحب أن يكون اكرم الناس فليتق الله و من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من أكل وحده و منع رفده و جلد عبده أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من يبغض الناس و يبغضونه قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من لا يقيل عثرة و لا يقبل معذرة و لا يغفرذنبا قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من لا يرجى خيره و لا يؤمن شره إن عيسى بن مريم قائم في بني إسرائيل خطيبا فقال : يا بني أسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموها و قال : مرة فتظلموهم و لا تظلموا ظالما و لا تكافئوا طالما فيبطل فضلكم عند ربكم يا بني إسرائيل الأمر ثلاث : أمر بين رشده فاتبعوه و أمر بين غيه فاجتنبوه و أمر اختلف فيه فردوه إلى الله عز و جل ]
قال أبو نعيم و هذا الحديث لا يحفظ بهذا السياق عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس
فصل : قوله : ذو سلطان مقسط و ما بعده مرفوع على أنها صفات لذو و هي بمعن صاحب و المقسط : العادل و المتصدق : المعطي الصدقات و الموفق : المسدد لفعل الخيرات و رفيق القلب : لينه عند التذكرة و الموعظة و يصلح أن يكون بمعنى الشفيق
و قوله : [ ضعيف متضعف ] يعني ضعيف في أمور الدنيا قوي في أمر دينه كما قال عليه السلام : [ المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف و في كل خير ] الحديث خرجه مسلم
أما من كان ضعيفا في أمور دينه لا يعني بها فمذموم و ذلك من صفات أهل النار كما قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له أي لا عقل له و من لا عقل له ينفك به عن المفاسد و لا ينزجر به عنها فحسبك به ضعفا و خسارة في الدين و قد قيل في الزبير : إنه المال و ليس بشيء لأن النبي صلى الله عليه و سلم فسر ذلك بقوله الذين هم فيكم تبع لا يتبعون أهلا و لامالا
قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : فيعني بذلك أن هؤلاء ضعفاء العقول فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية و لا فضيلة نفسية و لا دينية بل يهملون أنفسهم إهمال الأنعام ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال و الحرام و هذه الأوصاف الخبيثة الذاتية هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية
و قد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير راوي الحديث : و الله لقد أدركتهم في الجاهلية و إن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطاولها و يخفى بمعنى يظهر و هو من الأضداد
و قوله : و ذكر البخل و الكذب هكذا الرواية المشهورة بالواو الجامعة و الكذب و قد رواه ابن أبي جعفر عن الطبراني بأو التي للشك قاله القاضي عياض و لعله الصواب و به تصح القسمة لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة : الضعيف الذي وصفه و الخائن الذي و صف و الرجل المخادع الذي وصف
قال : و ذكر البخل و الكذب ثم ذكر الشنظير و الفحاش فرأى هذا القائل أن الرابع هو أحد الصنفين و قد يحتمل لأن يكون الرابع قد جمعها على رواية واو العطف كما جمعهما في الشنظير الفحاش
و قوله : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم و عفيف متعفف ذو عيال
قال القاضي عياض : كذا قيدناه بخفض مسلم عطفا على ما قبله و في رواية أخرى و مسلم عفيف بالرفع و حذف الواو شيخنا انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
و العفيف : الكثير العفة و هي الانكفاف عن الفواحش و عن ما لا يليق و المتعفف : المتكلف العفة و الشظير : السيء الخلق و يقال شنظيرة أيضا قاله الجوهري و أنشد قول أعرابية :
( شنظيرة زوجنيه أهلي ... من حمقه يحسب رأسي رجلي )
( كأنه لم ير أنثى قبلي )
و ربما قالوا شنذيرة بالذال المعجمة لقربها من الظاء لغة أو لثغة و الفحاش الكثير الفحش و قيل الشنظير : هو الفحاش قال صاحب العين : يقال شنظر بالقوم إذا شتم أعراضهم و الشنظير : الفحاش من الرجال القلق و كذلك من الإبل و الجواظ : الجموع المنوع و منه قوله تعالى : { و جمع فأوعى }
و قيل : الجواظ الكثير اللحم المختال و قيل : هو الجافي القلب و العتل : قيل : الجافي الشديد الخصومة و قيل : هو الأكول الشروب الظلوم
قال المؤلف : و يقال : إنه الفظ الغليظ الذي لا ينقاد لخبر و الجعظري : الفظ الغليظ القصير و جاء في تفسيره في بعض الأحاديث هم الذين لا تصدع رؤوسهم
قال شيخنا : و الزنيم : المعروف بالشر و قيل : اللئيم و أما الزنيم المذكور في القرآن فرجل معين له زنمة كزنمة التيس و قيل : هو الوليد و كان له زنمة تحت أذنه و قيل هو الملصق بالقوم و قيل : هم الأخنس بن شريق
و قوله عليه السلام : [ من أثنيتم عليه شرا و جبت له النار ] يعارضه قوله عليه السلام [ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ] أخرجه البخاري و الثناء بالشر : سب فقيل ذلك خاص بالمنافقين الذين شهدت الصحابة فيهم بما ظهر لهم و لذلك قال عليه السلام : [ و جبت به النار ] و المسلم لا تجب له النار و اختار هذا القول القاضي عياض
و قيل : ذلك جائز فيمن كان يظهر الشر و يعلن به فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق
و قيل : إن النهي إنما هو بعد الدفن و أما قبله فممنوع لقوله عليه السلام : [ لا تسبوا الأموات ] فالنهي عن سب الأموات متأخر فيكون ناسخا و الله أعلم
و قوله : [ أنتم شهداء الله في الأرض ] معناه عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل و الصدق و العدالة لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق فلا يدخل في الحديث و كذلك لو كان القائل فيه عدوا له و إن كان فاضلا لأن شهادته في حياته لو كانت عليه كانت غير مقبولة و كذلك الحكم في الآخرة و الله أعلم
و قيل إن تكرار [ أنتم شهداء الله في الأرض ] ثلاثا إشارة إلى القرون الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
قلت : الأول أصح لأن الله تعالى مدح هذه الأمة بالفضل العدالة إلى يوم القيامة قال الله تعالى { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } يعني في الآخرة كما تقدم فلا يشهد إلى العدول
و قد خرج البخاري [ عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : مر على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال و جبت ثم مر عليه بأخرى فأثنوا عليها شرا أو قال غير ذلك فقال و جبت فقيل يا رسول الله قلت لهذا و جبت و لهذا و جبت فقال : المؤمنون شهداء الله في الأرض ] و خرجه ابن ماجه بهذا الإسناد و قال شهادة القوم و المؤمنون شهود الله في الأرض و في البخاري أيضا [ عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قلنا : و ثلاثة ؟ قال : و ثلاثة : فقلنا : و إثنان ؟ قال : و اثنان ثم لم نسأله عن الواحد ] قال أبو محمد عبد الحق و هذا الحديث مخصوص و الله أعلم و الذي قبله يعطي العموم و إن كثرت شهوده و انطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير و الثناء الصالح كانت له الجنة و الله أعلم
قال المؤلف رحمه الله : و من هذا المعنى ما ذكره هناد بن السري أخبرنا إسحاق الرازي عن أبي سنان عن عبد الله بن السائب قال : مرت جنازة بعبد الله بن مسعود فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ قال الرجل : ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ و كيف أنظر ؟ قال : ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض قال أبو محمد : و غير مستنكر إذا أحب الله عبدا أمر أن يلقى على ألسنة المسلمين الثناء عليه و في قلوبهم المحبة له قال الله تعالى { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا }
و قال عليه السلام : [ إذا أحب الله عبدا قال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وذكر في البغضاء مثل ذلك ] و هذا حديث صحيح خرجه البخاري و مسلم قال أبو محمد عبد الحق : و قد شوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثر الثناء عليهم و صرفت القلوب إليهم في حياتهم و بعد مماتهم و منهم من كثر المشيعون لجنازته و كثر الحاملون لها و المتشغلون بها و ربما كثر الله الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس
ذكر قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : أخبرنا محمد يزيد الرفاعي قال مات عمرو بن قيس الملائي بناحية فارس فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى فلما دفن نظروا فلم يروا أحدا قال الرفاعي : سمعت هذا ممن لا أحصى كثرة و كان سفيان الثوري يتبرك بالنظر إلى عمرو بن قيس هذا
و لما مات أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلى عليه من المسلمين ما لا يحصى فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض فوجد موقف ألفي ألف و ثلاثمائة ألف أونحوها و لما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره فصل عليه ما لا يحصى و لما مات الأوزاعي رضي الله عنه اجتمع للصلاة عليه من الخلق ما لا يحصى و روي أنه أسلم في ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود و النصارى نحو من ثلاثين ألفا لما روأوا من كثرة الخلق على جنازته و لما رأوا من العجب في ذلك اليوم
و لما مات سهل بن عبد الله التستري رحمه الله انكب الناس على جنازته و حضرها من الخلق ما لا يعلمه إلا الله تعالى و كانت في البلد ضجة فسمع بها يهودي شيخ كبير فخرج فلما رأى الجنازة صاح و قال : هل ترون ما أرى ؟ قالوا : و ما ترى ؟ قال : أرى قوما ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثم أسلم و حسن إسلامه و يقال : إن الكعبة لم تخل من طواف طائف يطوف بها إلا يوم مات المغيرة بن حكيم فإنها خلت لانحشار الناس لجنازته تبركا بها و رغبة في الصلاة عليه
و قد شوهد من جنائز الصالحين من يشيعها الطير و يسير معها حيث سارت منهم : أبو الفيض ذو النون المصري و أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي حدث بذلك الثقات : قاله أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له
باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا ] قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب الرواية بالياء بلا خلاف و تحكم أبو اليد الكتاني فرواه بالثناء المثلثة و هي المنتصبة و هذا خطأ منه و تصحيف و خرجه مسلم أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ]
فصل : للعلماء في تأويل هذا الحديث و جهان :
أحدهما : أنها مثلها في الخوف و الهيبة و الطير أكثر الحيوانات خوفا حتى قالوا أحذرمن غراب و قد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا
الثاني : أنه مثلها في الضعف و الرقة كما جاء في الحديث الآخر في أهل اليمن هم أرق قلوبا و أضعف أفئدة
قلت : و يحتمل وجها ثالثا أنها مثلها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا كما روي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر أهل الجنة البله ] و هو حديث صحيح أي البله عن معاصي الله و الله أعلم
قال الأزهري : الأبله في كلامهم على وجوه : يقولون عيش أبله إذا كان ناعما و منه أخذ بلهنية العيش قال بعضهم : و طالما عشت في بلهنية
و الأبله الذي لا عقل له و الأبله الذي طبع على الخير و هو غافل عن الشر لا يعرفه و قال هذا هو المراد بالحديث
و قال العتبي : البله هم الذين غلب عليهم سلامة الصدور و حسن الظن بالناس و أنشد :
( و لقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها )
يعني أنها أغراء لا دهاء فيها :
قلت : و نظير ما ذكرناه و ما قاله هؤلاء من الكتاب قوله تعالى { إلا من أتى الله بقلب سليم } و قوله عليه السلام و قد سئل أي الناس أفضل ؟ قال : [ الصادق اللسان المخموم القلب قالوا : أما الصادق اللسان فقد عرفناه أنه ذلك فما المخموم القلب ؟ قال : النقي الذي لا غل فيه و لا حسد ] ذكره أبو عبيده و العرب تقول خممت البيت أي كنسته و منه سميت الخمامة و هي مثل القمامة و الكناسة
و قال بعض العلماء في البله وجها آخر لطيفا و هو : أنهم سموا بذلك لقصورهم عن كمال المعرفة بحق الله تعالى و رؤية استحقاقه العبادة و إيثار طلبه و الشغف بحبه و خدمته و طلب رضاه الذي هو جنة الخلد إذا وقفوا بخواطرهم على الجنة و نعيمها و عبدوه و أطاعوا في نيل درجاتها و لذاتها غافلين عن مراقبة جلاله و ملاحظة كماله بعكوف همهم على نيل نعمه و أفضاله فهم بله أيضا بالإضافة إلى العقلاء عن الله عز و جل ذوي الألباب المقبلة على مشاهدة عظمة الله تعالى المتوجهين بكليتهم إليه المشغولين به عما لديه و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في سياق قوله : [ أكثر أهل الجنة البله و عليون لأولي الألباب ] و في الخبر : أن طائفة من العقلاء بالله عز و جل تزفهم الملائكة إلى الجنة و الناس في الحساب فيقولون للملائكة : إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون : إلى الجنة فيقولون : إنكم لتحمولوننا إلى غير بغيتنا فتقول لهم الملائكة : و ما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } و لعل من هذا القبيل من يسأل الله الجنة إلا أن سؤاله إياها لا لها بل موافقة لمولاه لما علم أنه يحب أن يسأل من ثوابه و يستعاذ من عذابه فوافق مولاه
في إيثاره لا لحظ نفسه كما قال عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال [ أما أنا فأقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة و عافني من النار و لا أدري ما دندنتك و لا دندنه معاذ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم حولها ندندن ]
قلت : خرجه أبو داود في سننه و ابن ماجه أيضا
فصل : قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب : قوله صنفان من أهل النار لم أرهما الصنف فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء و السوط في اللغة اسم العذاب و إن لم يكن له ثم ضرب قال الفراء
و قال ابن فارس في المجمل السوط من العذاب النصيب و السوط خلط الشيء بعضه ببعض و إنما سمي سوطا لمخالطته و إنما أراد النبي صلى الله عليه و سلم عظم السياط و خروجها عن حد ما يجوز به الضرب في التأديب و هذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن و غيره
و قوله نساء كاسيات عاريات يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الذين لانكشافهن و إبدائهن بعض محاسنهن
و قيل : كاسيات ثيابا رقاقا يظهر ما خلفها و ما تحتها فهن كاسيات في الظاهر عاريات و في الحقيقة
و قيل : كاسيات في الدنيا بأنواع الزنية من الحرام و ما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة ثم قال عليه السلام [ مائلات مميلات ] قيل : معناه زائغات عن طاعة الله تعالى و طاعة الأزواج و ما يلزمهن من صيانة الفروج و التستر عن الأجانب و مميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن
و قيل : مائلات متبخترات في مشهين مميلات يملن رؤوسهن و أعطافهن من الخيلاء و التبختر و مميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن و طيب رائحتهن
و قيل : يتمشطن الميلاء و هي مشطة البغايا و المميلات : اللواتي يمشطن غيرهن المشة الميلاء قال صلى الله عليه و سلم [ رؤوسهن كأسنمة اليخت ] معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر و المقانع و يجعلن على رؤوسهن شيئا يمسي عندهم التازة لا عقص الشعر و الذاوئب المباح للنساء حسب ما ثبت في الصحيح عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي الحديث
باب ما جاء في أكثر أهل الجنة و أكثر أهل النار مسلم [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين و إذا أصحاب الجد محبوسون إلى أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار و قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ]
[ و من حديث ابن عباس في حديث كسوف الشمس : و رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط و رأيت أكثر أهلها النساء قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن قيل أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير و يكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك ما تكره قالت ما رأيت منك خيرا قط ]
[ و عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أقل ساكني الجنة النساء ]
فصل : قال علماؤنا : إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى و الميل إلى عاجل زينة الدنيا لنقصان عقولهن أن تنقذن بصائرها إلى الأخرى فيضعفن عن عمل الآخرة و التأهب لها و لميلهن إلى الدنيا و التزين بها و لها ثم مع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الأخرى لما لهم فيهن من الهوى و الميل لهن فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى و أعمالها من المقتين
و عن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أيها الناس لا تطيعوا للنساء أمرا و لا تأمنوهن على مال و لا تدعوهن يدبرن أمر عشير فإنهن إن تركن و ما يردن أفسدن الملك و عصين المالك و جدناهن لا دين لهن في خلواتهن و لا ورع لهن عند شهواتهن اللذة بهن يسيرة و الحيرة بهن كثيرة فأما صوالحهن ففاجرات و أما طوالحهن فعاهرات و أما المعصومات فهن المعدومات فيهن ثلاث خصال من اليهود : يتظلمن و هن ظالمات و يحلفن و هن كاذبات و يتمنعن و هن راغبات فاستعيذوا بالله من شرارهن و كونوا على حذر من خيارهن و السلام
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ] و سيأتي
و قال : [ ما رأيت من ناقصات عقل و دين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء ] و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث المتقدم : [ مائلات مميلات ] قال الحافظ بن دحية : تحفظوا عباد الله منهن و تجبنوا غيهن و لا تثقوا بودهن و لا عهدهن ففي نقصان عقولهن و دينهن ما يغني عن الإطناب فيهن
باب منه
البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من يأتي قيل : و من يأبى يا رسول الله قال : من أطاعتي دخل الجنة و من عصاني فقد أبى ]
و ذكر ابن أبي الدنيا قال : حدثنا محمد بن علي حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث قال : سمعت فضيل بن عياض يقول : سمعت ابن عياض يقول : يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقتها فتشرف على الخلائق فيقال : هل تعرفون هذه ؟ فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها بها قطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي و أشياعي فيقول الله : تعالى : ألحقوا بها أتباعها و أشياعها
باب ما جاء أن العرفاء في النار [ عن أبي داود عن غالب القطان عن رجل عن أبيه عن جده الحديث و فيه أن أباه أرسله إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أنه قال : إن أبي شيخ كبير و هو عريف الماء و أنه يسألك أن تجعل إلالعرافة بعده فقال : إن العرافة حق و لا بد الناس من عرفاء و لكن العرفاء في النار ] و في الصحيح في قصة هوازن : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم
فصل : قال علماؤنا : العريف هنا القيام بأمر القبيلة و المحلة يلي أمورهم و يتعرف أخبارهم و يعرف الأمير منه أحوالهم و قوله العرافة حق و يريد أن فيها مصحلة للناس ورفقا لهم ألا تراه يقول و لا بد للناس من عرفاء و قوله في النار : معناه التحذير من الرئاسة و التأمر على الناس لما فيه من الفتنة و الله أعلم
باب منه
أبو داود الطياليسي قال : [ حدثنا هشام بن عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويل للأمناء و ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء و الأرض و أنهم لم يلوا عملا ]
باب لا يدخل الجنة صاحب مكس و لا قاطع رحم قال الله تعالى : { و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به و تبغونها عوجا } نزلت في المكاسين و العشارين في قول بعض العلماء و قال تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله } الآية
مسلم [ عن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة قاطع ] قال ابن أبي عمر قال سفيان يعني قاطع رحم رواه البخاري
أبو داود [ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يدخل الجنة صاحب مكس ]
فصل : قال علماؤنا صاحب المكس هو الذي يعشر أموال الناس و يأخذ من التجار و المختلفين ما لا يجب عليهم إذا مروا به مكسا باسم العشر أو الزكاة و ليس هو الساعي الذي يأخذ الصدقات و الحق الواجب للفقراء و
قد قمنا أن التبديل إذا كان في الأعمال و ليس في العقائد صاحبه في المسيئة و إن عذب فإنه يخرج بالشفاعة على ما تقدم و هكذا القول في أهل الكبائر المتوعد عليها بالنار و اللعنة يخرجون بالشفاعة إذا ارتكبوها على غير وجه الاستحلال
باب ما جاء في أول ثلاثة يدخلون الجنة و أول ثلاثة يدخلون النار أبو بكر بن شيبة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد و رجل عفيف متعفف ذو عيال و عبد أحسن عبادة ربه و أدى حق مواليه و أول ثلاثة يدخلون النار : أمير متسلط و ذو ثروة من مال لا يؤدي حقه و فقير فخور ]
باب ما جاء في أول من تسعر بهم جهنم مسلم [ عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبك و لكنك قاتلت ليقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل تعلم العلم و علمه و قرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال : قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم و علمته و من قرآت فيك القرآن قال : كذبت و لكنك تعلمت ليقال عالم و قرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل وسع الله عليه و أعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] خرجه أبو عسيى الترمذي بمعناه و قال في آخره ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ركبتي فقال : [ يا أبا هريرة : أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ]
باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب مسلم [ عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين لا يسترقون و لا يتطيرون و لا يكتوون و على ربهم يتوكلون ]
الترمذي [ عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم و لا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا و ثلاث حثيات من حثيات ربي ] قال الترمذي : هذا حديث غريب و قد أخرجه ابن ماجه أيضا
و خرج أبو بكر البزار [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا مع كل واحد من السبعين ألفا سبعون ألفا ] و خرج أيضا هو و أبو عبد الله الحكيم الترمذي [ عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر : يا رسول الله فهلا استزدته ؟ قال : استزدته فأعطاني مع كل من السبعين ألفا سبعين ألفا فقال عمر : يا رسول الله فهلا استزدته ؟ قال : لقد استزدته فأعطاني هكذا ] و فتح أبو وهب يديه قال أبو وهب قال هشام هذا من الله لا يدري ما عدده
و خرج الترمذي الحكيم أيضا [ عن نافع أن أم قيس حدثته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج آخذا بيدها في سكة من سكك المدينة حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال يبعث من ها هنا سبعون ألفا يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب فقام رجل فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : أنت منهم فقام آخر فقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : سبققك بها عكاشة ] قال أبو عبد الله فهذا العدد من مقبرة واحدة فكيف بسائر مقابر أمته و إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت منهم كأنه رأى فيه أنه منهم و الآخر لم يره بموضع ذلك فقال سبقك بها عكاشة و أم قيس هي بنت محصن أخت عكاشة بن محصن الأسدي
قلت : خرجه مسلم في صحيحه بمعناه
فصل : لا تظن أن من استوفى و اكتوى لا يدخل الجنة بغير حساب فإن النبي صلى الله عليه و سلم رقى نفسه و أمر بالرقي و كذلك كوى أصحابه و نفسه فيما ذكر الطبري و غيره فمحمل النبي عن رقى مخصوصة بدليل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لآل عمرو بن حزم ] اعرضوا على رقابكم لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك [ و كذلك الكي الذي لا يوجد عنه غني فمن فعله في محله و على شرطه لم يكن ذلك مكروها في حقه و لا منقصا له من فضله و يجوز أن يكون من السبعين ألفا و قد كوى النبي صلى الله عليه و سلم نفسه فيما ذكره الطبري في كتاب آداب النفوس له ذكره الحليمي في كتاب المنهاج في الدين له
و اختلفت الرواية في الكي فروي أن النبي صلى الله عليه و سلم اكتوى من الكلم الذي أصابه في وجهه يوم أحد و كوى سعد بن زرارة من الشوكة و كوى سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن و أبي بن كعب المخصوص بأنه أقرأ الأمة للقرآن و قد اكتوى عمران بن حصين و قطع رجله عروة بن الزبير فمن اعتقد أن هؤلاء لا يصلحوا أن يكونوا من السبعين ألفا ففساد كلامه لا يخفى
باب منه
] أخبرنا ابن رواح إجازة قال : حدثنا السلفي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك بن جعفر قراءة عليه و أنا أسمع بأصبهان سنة إحدى و تسعين و أربعمائة قال : أخبرنا أبو القاسم علي بن عمر ضبن إسحاق بن إبراهيم الأسدباذي الهمذاني قراءة عليه في شعبان سنة تسع و أربعمائة قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق بن السني الحافظ قال : أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد المطيقي قال : حدثنا أبو بكر بن زنجويه قال
حدثنا عثمان بن صالح قال : حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي جحيرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب رجل غسل ثوبه فلم يجد له خلفا و رجل لم ينصب على مستوقدده بقدرين قط و رجل دعي بشراب فلم يقل له أيهما تريد و قال ابن مسعود : من احتفر بئرا بفلاة من الأرض إيمانا و احتسابا دخل الجنة بلا حساب
باب منه
ذكر أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقول ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة قالوا قبل الحساب ؟ قالوا : نعم قالوا : من أنتم ؟ قالوا : أهل الفضل قالوا : و ما كان فضلكم ؟ قالوا لنا إذا جهل علينا حلمنا و إذا ظلمنا صبرنا و إذا أسى علينا غفرنا قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ثم ينادي مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس و هم قليل فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك فيقولون نحن أهل الصبر قالوا : و ما كان صبركم ؟ قالوا : صبرنا أنفسنا على طاعة الله و صبرناها عن معاصي الله قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين قال : ثم ينادي مناد ليقم جيران الله فيقوم ناس من الناس و هم قليل فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك قالوا : و لم جاورتم الله في داره ؟ قالوا : كنا نتزاور في الله و نتجالس في الله و نتبادل في الله عز و جل قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين
و ذكر [ من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد ينادي مناد من تحت بطنان العرش : أين أهل المعرة بالله أين المحسنون ؟ قال : فيقوم عنق من الناس حتى يقفوا بين يدي الله تعالى فيقول و هو أعلم بذلك : من أنتم ؟ فيقولون نحن أهل المعرفة بك الذي عرفتنا إياك و جعلتنا أهلا لذلك فيقول : صدقتم ثم يقول ما عليكم من سبيل ادخلوا الجنة برحمتي ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لقد نجاهم الله من أهوال يوم القيامة ] قال أبو نعيم : هذا طريق مرضي لولا الحارث بن منصور الوراق و كثرة وهمه
ابن المبارك عن ابن عباس قال : [ إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الحامدون لله تعالى على كل حال فيقومون فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي ثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانت { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا و مما رزقناهم ينفقون } قال : فيقومون فيسرحون إلى الجنة قال : ثم ينادي ثالثة ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانوا { لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله } الآية فيسرحون إلى الجنة
و روي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين عبادي الذين أطاعوني و حفظوا عهدي بالغيب فيقومون كأن وجوههم البدر أو الكوكب الدري ركبانا على نجائب من نور أزمتها من الياقوت الأحمر تطير بهم على رؤوس الخلائق حتى يقوموا بين يدي العرش فيقول الله لهم : السلام على عبادي الذين أطاعوني و حفظوا عهدي بالغيب أنا اصطفيتكم و أنا أحببتكم و أنا اخترتكم اذهبوا فأدخلوا الجنة بغير حساب فلا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فيفتح لهم أبوابها ثم إن الخلائق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض : يا قوم أين فلان ابن فلان و ذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون }
باب منه
ذكر الميانشي القرشي أبو جعفر عمر بن حفص [ من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فيأمر الله تعالى جبريل أن يأتيهم فيسألهم من هم فيأتيهم فيسألهم فيقولون : نحن أصحاب الحديث فيقول الله تعالى لهم : ادخلوا الجنة طال ما كنتم تصلون على نبي صلى الله عليه و سلم ] و خرج [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من نور عليها قبال من در ثم ينادي مناد : أين الفقهاء و أين الأئمة و أين المؤذنوون ؟ اجسلوا على هذه فلا روع عليكم اليوم و لا حزن حتى يفرغ الله فيما بينه و بين العباد من الحساب ]
و روى يزيد بن هارون [ عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مسألة واحدة بتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة و خير له من عتق رقبه من ولد إسماعيل و إن طالب العلم و المرأة المطيعة لزوجها و الولد البار بوالديه يدخلون الجنة بغير حساب ] ونقلته من الزيادات بعد الأربعين لإسماعيل بن عبد الغافر رحمه الله قال : حدثنا يحيى عن الحسن ابن علي حدثنا يزيد بن هارون فذكره
باب منه
أبو نعيم [ عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف فقال أبو بكر يا رسول الله : زدنا قال : و هكذا و أشار سليمان بن حرب بيده كذلك قال يا رسول الله : زدنا فقال عمر رضي الله عنه : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق عمر ] هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس تفرد به عن قتادة أبو هلال و اسمه محمد بن سليم الراسبي ثقة بصري
فصل : لا يحملنك يا أخي شيء من هذا الحديث و لا الذي قبله و لا ما وقع في صحيح مسلم من قوله عليه السلام مخبرا عن الله تعالى كما تقدم : فيقبض قبضة من النار على التجسيم و قد تقدم القول في هذا المعنى عند قوله : و يطوى السموات بيمينه و إنما المعنى أن الله تعالى يخرج من النار خلقا كثيرا لا يأخذهم عد و لا يدخلون تحت حصير فيخرجون دفعة واحدة بغير شفاعة أحد و لا ترتيب خروج بل كما يلقي القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة فعبر عن ذلك بالحفنة و الحثوة و القبضة فاعلم ذلك
باب أمة محمد صلى الله عليه و سلم شطر أهل الجنة و أكثر مسلم [ عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تبارك و تعالى : يا آدم فيقول : لبيك و سعديك و الخير في يديك قال فيقول : أخرج بعث النار من ولدك قال و ما بعث ؟ قال من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون و تسعون قال فذلك حين يشيب الصغير و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد قال : فاشتد ذلك عليهم قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل ؟ قال : أبشروا فإن من يأجوج و مأجوج ألفا و منكم واحد ثم قال : و الذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة فحمدنا الله و كبرنا ثم قال : و الذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة فحمدنا الله و كبرنا ثم قال : و الذي نفسي بيده أن تكونوا شطر أهل الجنة إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الدابة ] خرجه البخاري
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يكون الخلائق يوم القيامة مائة و عشرين صفا طول كل صف مسيرة أربعين ألف سنة و عرض كل صف عشرون ألف سنة قيل له يا رسول الله : كم المؤمنون ؟ قال : ثلاثة صفوف قيل له : و المشركون ؟ قال : مائة و سبعة عشر صفا قيل له : فما صفة المؤمنين من الكافرين ؟ قال : المؤمنون كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ] ذكر هذا الخبر القتيبي في عيون الأخبار له و هو غريب جدا مخالف لصفوف المؤمنين الوارد في الأحاديث
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال [ حدثنا بن نمير قال حدثني موسى الجهني عن الشعبي قال : سمعته يقول قال نبي الله صلى الله عليه و سلم أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : فيسركم أن تكونوا نصف أهل الجنة ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : إن أمتي يوم القيامة ثلثي أهل الجنة إن الناس يوم القيامة عشرون و مائة صف و إن أمتي من ذلك ثمانون صفا ] و رواه مرفوعا [ عن عبد الله بن مسعود و فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الجنة يوم القيامة عشرون و مائة صف أنتم منها ثمانون صفا ] في إسناده الحرث بن حضيرة ضعيف ضعفه مسلم في صدر كتابه
و خرج ابن ماجه و الترمذي [ عن بريدة بن حصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة عشرون و مائة صف ثمانون منها من هذه الأمة و أربعون من سائر الأمم ] قال أبو عيسى هذا حديث غريب
فصل : تقدم من حديث عبد الله بن عمر و فيه ثم يقول : اخرجوا بعث النار و في هذا يقال لآدم اخرج بعث النار فقيل إن آدم لما أمر أولا بالإخراج أمر هو و الملائكة أن يخرجوا و يميزوا أهل الجنة و أهل النار و الله أعلم
و قول الصحابة رضوان الله عليهم : أين ذلك الرجل يريدون من الواحد الذي لا يدخل النار توهما منهم أن القضية واردة فيهم فقال صلى الله عليه و سلم [ إن من يأجوج و مأجوج تسعمائة و تسعة و تسعين و منكم رجلا ] و أطلق لفظ البشارة و بين أن الألف كلها في النار لكن من غير هذه الأمة المحمدية و من هذه الأمة واحدة في الجنة على ما يقتضيه ظاهر هذا اللفظ و إذا كان كذلك استغرق العدد جميع أمة محمد صلى الله عليه و سلم فكانوا في الجنة أو أكثرهم لأن يأجوج و مأجوج لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطوف بين يديه من صلبه على ما يأتي بيانه من ذكرهم في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى و الله أعلم
باب في ذكر أبواب جهنم و ما جاء فيها و في أهوالها و أسمائها أجارنا الله منها برحمته و فضله إنه ولي ذلك و القادر عليه
ذكر الله عز و جل النار في كتابه و و صفها على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم و نعتها فقال عز و جل من قائل : { كلا إنها لظى * نزاعة للشوى } الشوى : جمع شواة و هي جلدة الرأس و قال : { و ما أدراك ما سقر * لا تبقي و لا تذر * لواحة للبشر } أي مغيرة يقال : لاحته الشمس و لوحته إذا غيرته و قال { و ما أدراك ما هيه * نار حامية } و قال { لينبذن في الحطمة } أي ليرمين فيها { و ما أدراك ما الحطمة } الآية
ذكر ابن المبارك [ عن خالد بن أبي عمران بسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن النار لتأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت ثم تعود كما كانت ثم تستقبله أيضا فتطلع على فؤاده و هو كذلك أبدا ] فذلك قوله تعالى { نار الله الموقدة } الآية و قال : { و إذا الجحيم سعرت } أي أوقدت و أضرمت و قال { و سيصلون سعيرا } و قال { و أعتدنا لهم عذاب السعير } و قال { و الذين كفروا لهم نار جهنم } الآية و قال { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } و سيأتي بيان هذا فأوعد بها الكافرين و خوف الطغاة و المتمردين و العصاة من الموحدين لينجزوا عما نهاهم عنه فقال و قوله الحق : { فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين } و قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } و قال : { ذلك يخوف الله به عباده } و الآي في هذا المعنى كثير و الله تعالى أعلم
باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر قال : لما خلقت النار فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها فلما خلق الله آدم سكن ذلك عنهم و ذهب ما كانوا يجدون
و قال ميمون بن مهران : لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلا خر على وجهه فقال لهم الجبار جل جلاله : ارفعوا رؤوسكم أما عملتم أني خلقتكم لطاعتي و عبادتي و خلقت جهنم لأهل معصيتي خلقي فقالوا : ربنا لا نأمنها حتى نرى أهلها فذلك قوله تعالى : { و هم من خشيته مشفقون } فالنار عذاب الله فلا ينبغي لأحد أن يعذب بها و قد جاء النهي عن ذلك فقال : لا تعذبوا بعذاب الله و الله أعلم
باب ما جاء في البكاء عند ذكر النار و الخوف منها [ ابن وهب عن زيد بن أسلم قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و معه إسرافيل فسلما على النبي صلى الله عليه و سلم و إذا إسرافيل منكسر الطرف متغير اللون فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا جبريل : ما لي أرى إسرافيل منكس الطرف متغير اللون ؟ قال : لاحت له آنفا حين هبط لمحة من جهنم فلذلك الذي ترى من كسر طرفه ]
ابن المبارك قال : [ أخبرنا محمد بن مطرف عن الثقة : أن فتى من الأنصار دخلته خشية من ذكر النار فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجاءه في البيت فلما دخل النبي صلى الله عليه و سلم اعتنقه الفتى فخر ميتا فقال النبي صلى الله عليه و سلم جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار قد فلذ كبده ]
و روي أن عيسى عليه السلام مر بأربعة آلاف امرأة متغيرات الألوان عليهن مدارع الشعر و الصوف فقال عيسى عليه السلام : [ ما الذي غير ألوانكم معاشر النسوة ؟ قلن : ذكر النار غير ألواننا يا ابن مريم إن من دخل النار لا يذوق فيها بردا و لا شرابا ] ذكره الخرائطي في كتاب القبور
و روي أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى { و إن جهنم لموعدهم أجمعين } فر ثلاثة أيام هاربا من الخوف لا يعقل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقال له يا رسول الله أنزلت هذه الآية قوله عز و جل : { إن جهنم لموعدهم أجمعين } فو الذي بعثك بالحق نبيا لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى { إن المتقين في جنات و عيون } الآية ذكره الثعلبي و غيره
باب ما جاء فيمن سأل الله الجنة و استجار به من النار الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة و من استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار ]
و روى البيهقي [ عن أبي سعيد الخدري أو عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي هريرة أن أحدهما حدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم حار ألقى الله سمعه و بصره إلى أهل السماء و أهل الأرض فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر نار جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي استجار بي منك و إني أشهدك أني أجرته و إذا كان يوم شديد البرد ألقى الله سمعه و بصره إلى أهل السماء و أهل الأرض فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم : قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي منك و من زمهريك أشهدك أني قد أجرته ] فقالوا و ما زمهرير جهنم ؟ قال : جب يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بعضه من بعض
باب ما في تقرر من الكتاب و السنة تقرر من الكتاب و السنة أن الأعمال الصالحة و الإخلاص فيها مع الإيمان موصلة إلى الجنان و مباعدة من النيران و ذلك يكثر أيراده و القطع به مع الموافاة على ذلك يغني عن ذكر ذلك و يكيفك الآن من ذلك ما ثبت في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ] خرجه النسائي
[ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا ] و خرجه أبو عيسى الترمذي [ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه و بين النار خندقا كما بين المشرق و المغرب ] و يروي [ ما بين السماء و الأرض ] قال : هذا حديث غريب من حديث أبي أمامة
و خرج الطبراني سليمان بن أحمد [ حدثنا عمارة بن وثيمة المصري قال : حدثنا أبي وثيمة بن موسى بن الفرات قال : حدثنا إدريس بن يحيى الخولاني عن رجاء بن أبي عطاء عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أطعم أخاه حتى يشبعه و شقاه من ماء حتى يرويه بعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندق مسيرة مائة عام ]
و في كتاب أبي داود [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من توضأ فأحسن الوضوء و عاد أخاه المسلم يوعد من جهنم سبعين خريفا ] قلت يا أبا حمزة : و ما الحزيف ؟ قال : العام
و في الصحيحين [ عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من استطاع منكم أن يستتر من النار و لو بشق تمرة فليفعل ] لفظ مسلم
باب ما جاء في جهنم و أنها أدراك و لمن هي قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } فالنار دركات سبعة أي طبقات و منازل و إنما قال : أدراك و لم يقل درجات لاستعمال العرب لكل ما تسافل درك و لما تعالى درج فيقول للجنة درج و للنار درك فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار و هي الهاوية لغلظ كفرهم و كثرة غوائلهم و تمكنهم من أذى المؤمنين
ابن وهب قال : حدثني ابن يزيد قال : قال كعب الأحبار : إن في النار لبئرا ما فتحت أبوابها بعد مغلقة ما جاء على جهنم منذ خلقها الله تعالى إلا تستعيذ بالله من شر ما في تلك البئر مخافة إذا فتحت تلك البئر أن يكون فيها من عذاب الله ما لا طاقة لها به و لا صبر لها عليه و هي الدرك الأسفل من النار
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن خيثمة عن ابن مسعود في قوله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار قال : و أخبرنا إبراهيم بن هارون الغنوي قال : سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي يقول : سمعت عليا يقول : هل تدرون كيف أبواب جهنم ؟ قال : هي مثل أبوابنا هذه ؟ قال : لا بل هي هكذا بعضها فوق بعض
و قال العلماء : أعلى الدركات جهنم و هي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه و سلم و هي التي تخلو من أهلها فتصفق الرياح أبوابها ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية و قد يقال للدركات : درجات لقوله تعالى : { و لكل درجات مما عملوا }
و وقع في كتب الزاهد و الرقائق أسماء هذه الطبقات و أسماء أهلها من أهل الأديان على ترتيب لم يرد في أثر صحيح
قال الضحاك : في الدرك الأعلى المحمديون و في الثاني النصارى و في الثالث اليهود و في الرابع الصائبون و في الخامس المجوس و في السادس مشركو العرب و في السابع المنافقون
و قال معاذ بن جبل و ذكر العلماء السوء من العلماء : من إذا وعظ عنف و إذا وعظ أنف فذلك في الدرك الأول من النار و من العلماء من يأخذ علمه بأخذ السلطان فذلك في الدرك الثاني من النار و من العلماء من يخزن علمه فذلك في الدرك الثالث من النار و من العلماء من يتخير العلم و الكلام لوجوه الناس و لايرى سفلة الناس له موضعا فلذلك في الدرك الرابع من النار و من العلماء من يتعلم كلام اليهود و النصارى و أحاديثهم ليكثر حديثهم فذلك في الدرك الخامس من النار و من العلماء من ينصب نفسه للفتيا يقول للناس سلوني فذلك الذي يكتب عند الله متكلف و الله لا يحب المتكلفين فذلك في الدرك السادس من النار و من العلماء من يتخذ علمه مروءة و عقلا فذلك في الدرك السابع من النار ذكره غير واحد من العلماء
قلت : و مثله لا يكون رأيا و إنما بدر توقيفا ثم من هذه الأسماء ما هو اسم علم للنار كلها بجملتها نحو جهنم و سقر و لظى و سموم فهذه أعلام ليست لباب دون باب فاعلم ذلك و في التنزيل { و وقانا عذاب السموم } يريد النار بجملتها كما ذكرنا أجارنا الله منها بمنه و كرمه آمين
باب ما جاء أن جهنم تسعر كل يوم و تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة أبو نعيم قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن بحر قال : حدثنا سوار بن عبد العزيز عن النعمان ابن المنذر عن مكحول عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن جهنم تسعر في كل يوم و تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة فإنها لا تسعر يوم الجمعة و لا تفتح أبوابها ] غريب من حديث عبد الله و مكحول لم نكتبه إلا من حديث النعمان
قال المؤلف رحمه الله : و لهذا المعنى كانت النافلة جائزة في يوم الجمعة عند قائم الظهيرة دون غيرها من الأيام و الله أعلم
باب ما جاء في قول الله تعالى لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم
قال الله تعالى في محكم كتابه { لها سبعة أبواب } و قال { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها }
[ و عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد ] خرجه الإمامان الحافظان الترمذيان أبو عبد الله و أبو عيسى و قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول
قلت : مالك بن مغول أبو عبد الله البجلي الكوفي إمام ثقة خرج له البخاري و مسلم و الأئمة
قال أبي بن كعب : [ لجهنم سبعة أبواب أشدهما غما و كربا و حرا و أنتنها ريحا للزناة الذين ارتكبوا بعد العلم ]
و روى سلام الطويل [ عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى : { لها سبعة أبواب } الآية : جزء أشركوا بالله و جزء شكوا في الله و جزء أغفلوا عن الله و جزء آثروا شهواتهم على الله و جزء شفوا غيظهم بغضب الله و جزء صيروا رغبتهم بحظهم عن الله و جزء عتوا على الله ] ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له و قال : فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية و الشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم أو يشكون في شريعته أنها من عنده أولا و الغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه و هم الدهرية و المؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي لتكذيبهم رسل الله و أمره و نهيه و الشافون غيظهم بغضب الله تعالى هم القائلون أنبياء الله و سائر الداعين له المعذبون ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم و المصيرون رغبتهم بحظهم من الله تعالى هم المنكرون للبعث و الحساب منهم يعبدون أي شيء يرغبون فيه لهم جميع حظهم من الله تعالى و العاتون على الله هم الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا فلا يتفكرون و لا يعتبرون و لا يستدلون و الله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه و سلم إن كان الحديث ثابتا
[ و قال بلال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في مسجد المدينة وحده فمرت به أعرابية فصلت خلفه و لم يعلم بها فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } فخرت الأعرابية مغشيا عليها و سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وجبتها فانصرف و دعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت و جلست فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا هذه ما لك ؟ فقالت : هذا شيء من كتاب الله أو شيء من تلقاء نفسك ؟ فقال يا أعرابية : بل هو من كتاب الله المنزل فقالت كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها ؟ قال يا أعرابية بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل باب على قدر أعمالهم فقالت : و الله إني إمرأة مسكينة لا مال لي و لا لي إلا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا رسول الله : بشر الأعرابية أن الله قد قد غفرها لها و حرم عليها أبواب جهنم و فتح لها أبواب الجنة كلها ] و الله أعلم
باب منه و في بعد أبواب جهنم بعضها عن بعض و ما أعد الله تعالى فيها من العذاب
ذكر عن بعض أهل العلم في قول الله تعالى : { لكل باب منهم جزء مقسوم } قال : من الكفار و المنافقين و الشياطين و بين الباب و الباب خمسمائة عام
فالباب الأول : يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال و النساء فيأكل لحومهم و هو أهون عذابا من غيره
و الباب الثاني : يقال له لظى نزاعة للشوى يقول أكله اليدان و الرجلان تدعو من أدبر عن التوحيد و تولى عما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
و الباب الثالث : يقال له سقر و إنما سمي سقر لأنه يأكل اللحم دون العظم
الباب الرابع : يقال لها الحطمة فقال قال الله تعالى : { و ما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة } تحطم العظام و تحرق الأفئدة قال الله تعالى : { التي تطلع على الأفئدة } تأخذه النار من قدميه و تطلع على فؤاده و ترمي بشرر كالقصر كما قال تعالى : { إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر } الآية يعني سودا فتطلع الشرر إلى السماء ثم تنزل فتحرق وجوههم و أيديهم و أبدانهم فيبكون الدمع حتى ينفد ثم يبكون الدماء ثم يبكون القيح حتى ينفد القيح حتى لو أن السفن أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت
و الباب الخامس : يقال له الجحيم و إنما سمي جحيما لأنه عظيم الجمرة الجمرة الواحدة أعظم من الدنيا
و الباب السادس : يقال له السعير و إنما سمي السعير لأنه يسعر بهم و لم يطف منذ خلق فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب و فيه الحيات و العقارب و القيود و السلاسل و الأغلال و فيه جب الحزن ليس في النار عذاب أشد منه إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزنا شديدا
و الباب السابع : يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبدا و فيه بئر الهبهاب و ذلك قوله تعالى : { كلما خبت زدناهم سعيرا } إذا فتح الهبهاب يخرج منه نار تستعيذ منه النار و فيه الذين قال الله تعالى : { سأرهقه صعودا } أو هو جبل من نار يوضع أعداء الله على وجوههم على ذلك الجبل مغلولة أيديهم إلى أعناقهم مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم و الزبانية وقوف على رؤوسهم بأيديهم مقامع من حديد إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان
و أبواب النار : حديد فرشها الشوك غشاوتها الظلمة أرضها نحاس و رصاص و زجاج النار من فوقهم و النار من تحتهم لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل أوقد عليها ألف عام حتى احمرت و ألف عام حتى ابيضت و ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة مدلهمة مظلمة قد مزجت بغضب الله ذكره القتبي في عيون الأخبار
و ذكر ابن عباس أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها و لا لهب و هي كما قال الله تعالى { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } على كل باب سبعون ألف جبل في كل جبل سبعون ألف شعب من النار في كل شعب سبعون ألف شق من النار في كل شق سبعون ألف واد في كل واد سبعون ألف قصر من نار في كل قصر سبعون ألف بيت من نار في كل بيت سبعون ألف قلة من سم فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء فيطير منها سرادق عن يمين الناس و آخر عن شمالهم و سرادق أمامهم و سرادق فوقهم و آخر من ورائهم فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم و كل ينادي رب سلم رب سلم
و قال وهب بن منبه : بين كل بابين مسيرة سبعين سنة كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا و يقال إن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منها سبعون واديا قعر كل واد منها سبعون عام لكل واد منها سبعون ألف شعب في كل شعب منها سبعون ألف مغارة في جوف كل مغارة سبعون ألف شق في كل شق منها سبعون ألف ثعبان في شدق كل ثعبان سبعون ألف عقرب لكل عقرب منها سبعون ألف فقارة في كل فقارة منها قلة سم لا ينتهي الكافر و لا المنافق حتى يواقع ذلك كله ذكره ابن وهب في كتاب الأهوال له و مثله لا يقال من جهة الرأي فهو توقف لأنه إخبار عن مغيب و الله تعالى أعلم
باب ما جاء في عظم جهنم و أزمتها و كثرة ملائكتها و في عظم خلقها و تفلتها من أيديهم و في قمع النبي صلى الله عليه و سلم إياها وردها عن أهل الموقف
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ]
و ذكر ابن وهب [ قال : حدثني زيد بن أسلم قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فناجاه فقام النبي صلى الله عليه و سلم منكس الطرف فأرسلوا إلى علي فقالوا : يا أبا الحسن ما بال النبي صلى الله عليه و سلم محزونا منذ خرج جبريل عنه فأتاه علي فوضع يده على عضديه من خلفه و قبل بين كتفيه و قال : ما هذا الذي نراه منك يا رسول الله ؟ فقال : يا أبا الحسن أتاني جبريل فقال لي : { إذا دكت الأرض دكا دكا } الآية و جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع فأخذوها ]
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أنهم يأتون بها تمشي على أربع قوائم و تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك بيد كل واحد حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها بحلقة واحدة على كل حلقة سبعون ألف زبني لو أمر زبني منهم أن يدك الجبال لدكها و أن يهد الأرض لهداها و أنها إذا انفلتت من أيديهم لم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها فيجثو كل من في الموقف على الركب حتى المرسلون و يتعلق إبراهيم و موسى و عيسى بالعرش هذا قد نسي الذبيح و هذا قد نسي هارون و هذا قد نسي مريم عليهم السلام و كل واحد منهم يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم غيرها قال : و هو الأصح عندي صلى الله عليه و سلم يقول [ أمتي أمتي سلمها يا رب و نجها يا رب ] و ليس في الموقف من تحمله ركبتاه و هو قوله تعالى : { و ترى كل أمة جاثية } الآية و عند تفلتها تكبو من الغيظ و الحنق و هو قوله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا } أي تعظيما لغيظها و حنقها يقول الله تعالى : { تكاد تميز من الغيظ } أي تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمر الله تعالى و يأخذ بخطامها و يقول [ ارجعي مدحورة إلى خلقك حتى يأتيك أهلك أفواجا ] فتقول : خلي سبيلي فإنك يا محمد حرام علي فينادي مناد من سرادقات العرش اسمعي منه و أطيعي له ثم تجذب و تجعل عن شمال العرش و يتحدث أهل الموقف بجذبها فيخف وجلهم و هو قوله تعالى : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } و هناك تنصب الموازين على ما تقدم
فصل : هذا يبين لك ما قلناه أن جهنم اسم علم لجميع النار و معنى : يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه فتدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط كما تقدم و الزمام ما يزم به الشيء أي يشد و يربط به و هذه الأزمة التي تساق بها جهنم تمنع من خروجها على أرض المحشر فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت بأخذ من شاء الله بأخذه على ما تقدم و يأتي و ملائكتها كما وصفهم الله غلاظ شداد
و قد ذكر ابن وهب [ حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في خرنة جهنم : ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق و المغرب ]
و قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة و قوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمعة فيدفع بتلك الضربة بسعين ألف إنسان في قعر جهنم
و أما قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } فالمراد رؤساؤهم على ما يأتي و أما جملتهم فالعبارة عنهم كما قال الله تعالى : { و ما يعلم جنود ربك إلا هو }
فصل : قال العلماء : إنما خص النبي بردها و قمعها و كفها عن أهل المحشر دون غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم لأنه رآها في مسراه و عرضت عليه في صلاته حسب ما ثبت في الصحيح قال و في ذلك فوائد ثمان :
الأولى : أن الكفار لما كانوا يستهزئون به و يكذبونه في قوله و يؤذونه أشد الأذى أراه الله تعالى النار التي أعدها للمستخفين به و بأمره تطييبا لقلبه و تسكينا لفؤاده
الثانية : الإشارة في ذلك إلى أن من طيب قلبه في شأن أعدائه بالإهانة و الانتقام فالأولى أن يطيب قلبه في شأن أوليائه و أحبابه بالتحية و الشفاعة و الإكرام
الفائدة الثالثة : و يحتمل أن عرضها عليه ليعلم منة الله تعالى حين أنقذهم منها ببركته و شفاعته
الفائدة الرابعة : و يحتمل أنه عرضها عليه ليكون في القيامة إذا قال سائر الأنبياء نفسي نفسي يقول نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أمتي أمتي و ذلك حين تسجر جهنم و لذلك أمر الله عز و جل محمدا صلى الله عليه و سلم فقال جل من قائل : { يوم لا يخزي الله النبي } الآية
قال الحافظ أبو الخطاب : و الحكمة في ذلك أن يفرغ إلى شفاعة أمته و لو لم يؤمنه لكان مشغولا بنفسه كغيره من الأنبياء
الفائدة الخامسة : أن سائر الأنبياء لم يروا قبل يوم القيامة شيئا منها فإذا رأوها جزعوا و كفت ألسنتهم عن الخطيئة و الشفاعة من هولها و شغلهم أنفسهم عن أممهم و أما نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فقد رأى جميع ذلك فلا يفزع منه مثل ما فزغوا ليقدر على الخطبة و هو المقام المحمود الذي وعده به ربه تبارك و تعالى في القرآن المجيد و ثبت في صحيح السنة
الفائدة السادسة : فيه دليل فقهي على أن الجنة و النار قد خلقتا خلافا للمعتزلة المنكرين لخلقها و هو يجزي على ظاهر القرآن في قوله تعالى : { أعدت للمتقين } { أعدت للكافرين } و الاعداد دليل الخلق و الإيجاد
الفائدة السابعة : و يحتمل أنه أراه إياها ليعلم خسة الدنيا في جنب ما أراه فيكون في الدنيا أزهد و على شدائدها أصبر حتى يؤديه إلى الجنة فقد قيل : حبذا محنة تؤدي بصاحبها إلى الرخاء و بؤسا لنعمة تردي بصاحبها إلى البلاء
الفائدة الثامنة : و يحتمل أن الله تعالى أراد ألا يكون لأحد كرامة إلا يكون لمحمد صلى الله عليه و سلم مثلها و لما كان لإدريس عليه السلام كرامة الدخول إلى الجنة قبل يوم القيامة أراد الله تعالى أن يكون ذلك لصفه و نجيه و حبيبه و أمينه على وحيه محمد صلى الله عليه و سلم و كرم و عظم و بجل و وقر قال ذلك جميعه الحافظ بن دحية رضي الله عنه في كتاب الابتهاج في أحاديث المعراج
باب منه و في كلام جهنم و ذكر أزواجها و أنه لا يجوزها إلا من عنده جواز روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو هذه الآية { يوم تبدل الأرض غير الأرض } الآية قال النبي صلى الله عليه و سلم : أين يكون الناس يوم القيامة يا جبريل ؟ قال يا محمد : يكونون على أرض بيضاء لم يعمل عليها خطيئة قط { و تكون الجبال كالعهن المنفوش } قال : الصوف تذوب الجبال من مخافة جهنم يا محمد : إنه ليجاء بجهنم يوم القيامة تزف زفا عليها سبعون زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك حتى تقف بين يدي الله تعالى فيقول لها : يا جهنم تكلمي فتقول : لا إله إلا الله و عز تك و عظمتك لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك و عبد غيرك لا يجوزني إلا من عنده جواز فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا جبريل ما الجواز يوم القيامة ؟ قال أبشر و بشر ألا من شهد أن لا إله إلا الله جاز جسر جهنم قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الحمد لله الذي جعل أمتي أهل لا إله إلا الله ]
و خرج الحافظ أبو محمد عبد الغني الحافظ [ من حديث سليمان بن عمرو يتيم أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا جمع الخلائق في صعيد يوم القيامة أقلبت النار يركب بعضها بعضا و خزنتها يكفونها و هي تقول : و عزة ربي لتخلين بيني و بين أزواجي أو لأغشين الناس عنقا واحدا فيقولون من أزواجك ؟ فتقول كل متكبر جبار ]
باب ما جاء أن التسعة عشر خزنة جهنم قال الله تعالى : { عليها تسعة عشر }
ابن المبارك قال : أخبرنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن رجل من بني تميم قال : كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية { و ما أدراك ما سقر } الآية { عليها تسعة عشر } فقال : ما تسعة عشر ؟ قال : تسعة عشر ألف ملك قال : أو تسعة عشر ملكا قلت : لا بل تسعة عشر ملكا قال : و أنى تعلم ذلك ؟ فقلت : لقول الله عز و جل : { و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } قال : صدقت هم تسعة عشر ملكا بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضرب فيهوي بها سبعين ألف خريف
و خرج الترمذي [ عن جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم هل يعلم نبيكم عدة خزنة جهنم ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم فقال : و بماذا غلبوا ؟ قال : سألهم اليهود هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال : فماذا قالوا ؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا قال : لا يغلب قوم سألوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا لكنهم سألوا نبيهم فقال أرنا الله جهرة علي بأعداء الله إني سائلهم عن تربة الجنة و هي الدرمك فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : هكذا و هكذا في مرة عشرة و في مرة تسعة قالوا : نعم قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : ما تربة الجنة ؟ قال : فسكتوا ثم قالوا : خبزة يا أبا القاسم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الخبز من الدرمك ] قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث خالد عن الشعبي عن جابر
باب ما جاء في سعة جهنم و عظم سرادقها و بيان قوله تعالى و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين
قال الله تعالى : { إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها }
ابن المبارك قال : [ أخبرنا عنبسة بن سعيد عن حبيب بن أبي عميرة عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أتدري ما سعة جهنم ؟ قال : قلت : لا
قال : أجل و الله ما تدري أن بين شحمة أذن أحدهم و بين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري منها أودية القيح و الدم قلت : لها أنهارا ؟ قال : لا بل أودية ثم قال : أتدري ما سعة جسر جهنم ؟ قلت : لا قال : قلت : أجل حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة } قلت : فأين الناس يومئذ ؟ قال : على جسر جهنم ] خرجه الترمذي و صححه و قد تقدم
و [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ] ذكره ابن المبارك و خرجه الترمذي أيضا و سيأتي
و ذكر ابن المبارك قال : حدثنا محمد بن بشار عن قتادة { و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } قال ذكر لنا أن عبد الله كان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح و ذكره الثعلبي و القشيري عن ابن عباس
باب ما جاء أن جهنم في الأرض و أن البحر طبقها [ روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يركب البحر إلا رجل غاز أو حاج أو معتمر فإن تحت البحر نارا ] ذكره أبو عمر و ضعفه و قال : عبد الله بن عمر [ يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم ] ذكره أبو عمر أيضا و ضعفه
و في تفسير سورة ق عن وهب بن منبه قال : أشرف ذو القرنين على جبل [ ق ] فرأى تحت جبالا صغارا فقال له أنت ؟ قال : أنا قاف قال : فما هذه الجبال حولك ؟ قال هي عروقي و ما من مدينة إلا و فيها عرق من عروقي فإذا أراد الله أن يزلزل تلال الأرض أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض فقال له : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله قال : إن شأن ربنا لعظيم تقصر دونه الأوهام قال : بأدنى ما يوصف منها قال : إن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بضعها بعضا لولا هي لاحترقت من حر جهنم و ذكر الخبر
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و هذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض و الله أعلم بموضعها و أين هي من الأرض
باب ما جاء في قوله تعالى و إذا البحار سجرت و ما جاء أن الشمس و القمر يقذفان في النار
قال ابن عباس في قوله تعالى : { و إذا البحار سجرت } قال : أوقدت فصارت نارا و ذكر ابن وهب عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية { و جمع الشمس و القمر } قال : يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار فتكون نار الله الكبرى
و خرج أبو داود الطيالسي في مسنده [ عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الشمس و القمر ثوران عقيران في النار ]
و روي عن كعب الأحبار أنه قال : يجاء بالشمس و القمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار
فصل : قلت : كذا الرواية ثوران بالثاء المثلثة و إنما يجمعان في جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله و لا تكون النار عذبا لهما لأنهما جماد و إنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين و حسرتهم هكذا قال بعض أهل العلم
و قال ابن قسي صاحب خلع النعلين : اعلم أن الشمس و القمر ثوران مكوران في نار جهنم على شبه هذا التكوير فنهار سعير و ليل زمهرير و الدار دار قائمة لا فرق بينها و بين هذين في حركة التسيار و التدوار و مدار فلكي الليل و النهار إلى أن تلك خالية من رحمة الله و مع هذه رحمة واحدة من رحمة الله و عن الشمس و القمر يكون سواد الدار و لهيب ظاهر النار و هما من أشد الغضب لله تعالى بما عايناه من عصيان العاصين و فسق الفاسقين إذ لا يكاد يغيب عنهما أين و لا تخفى عنها خائنة عين فإنه لا يبصر أحد إلا بنورهما و لا يدرك إلا بضوءيهما و لو كانا خلف حجاب من الغيب الليلي أو وراء ستر من الغيم اليومي فإن الضوء الباقي على البسيطة في ظل الأرض ضوؤهما و النور نورهما و مع ما هما عليه من الغضب لله فإنه لمك يشتد غضبهما إلا من حيث نزع لجام الرحمة عنهما و قبض ضياء اللين و الرأفة منهما و كذلك عن كل ظاهر من الحياة الدنيا في قبض الرحمة المستردة من هذه الدار إلى دار الحيوان و الأنوار
قال صلى الله عليه و سلم [ إن لله مائة رحمة نزل منها واحدة إلى الأرض فبها تتعاطف البهائم و يتراحم الخلق و تتواصل الأرحام فإذا كان يوم القيامة قبض الله هذه الرحمة وردها إلى التسعة و التسعين و أكملها مائة كما كانت ثم جعل المائة كلها رحمة المؤمنين و خلت دار العذاب و من فيها من الفاسقين من رحمة رب العالمين فبزوال هذه الرحمة زال ما كان فيه القمر من رطوبة و أنوار و لم يبق إلا ظلمة و زمهرير و بزوالها زال ما كان بالشمس من وضح و إشراق و لم يبق إلا فرط سواد و احتراق و بما كانا به قبل من الصفة الرحمانية كان إمهالها للعاصين و إبقاؤهما على القوم الفاسقين و هي زمام الإمساك و لجام المنع عن التدمير و الإهلاك و هي سنة الله تعالى في الإبقاء إلى الوقات و الإمهال إلى الآجال إلا أن يشاء غير ذلك فلا راد لأمره و لا معقب لحكمه لا إله إلا هو سبحانه ]
قال المؤلف رحمه الله : و قد روى عكرمة عن ابن عباس تكذيب كعب الأحبار في قوله و قال : هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام و الله أكرم و أجل من أن يعذب على طاعته ألم تر إلى قوله تعالى : { و سخر لكم الشمس و القمر دائبين } يعني دؤوبهما في طاعته فكيف يعذب عبدين أثنى الله عليهما أنهما دائبان في خدمته و طاعته ثم حدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله تعالى لما أبرم خلقه إحكاما و لم يبق غير آدم خلق شمسا و قمرا من نور عرشه ] الحديث و في آخره فإذا قامت الساعة و قضى الله في أهل الدارين و ميز أهل الجنة و النار و لم يدخلوها بعد أن يدعو الله بالشمس و القمر يجاء بهما أسودين مكورين قد وقفا في الزلازل لأن فرائصهما ترعد من أهوال ذلك اليوم من مخافة الرحمن تبارك و تعالى فإذا كانا حيال العرش خرا ساجدين لله تعالى فيقولان : إلهنا قد علمت طاعتنا لك و دؤوبنا في طاعتك و سرعتنا للمضي في أمرك في أيام الدنيا فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا فيقول الله تعالى : صدقتما إني قد قضيت على نفسي أني أبدي و أعيد إني معيدكم إلى ما بدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان : ربنا مم خلقتنا ؟ فيقول خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورا فيختلطان بنور العرش فذلك قوله تعالى { إنه هو يبدئ ويعيد } ذكره الثعلبي في كتاب العرائس له و الله أعلم
باب ما جاء في صفة جهنم و حرها و شدة عذابها الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ] قال أبو عيسى و حديث أبي هريرة في هذا الباب موقوف أصح و لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن أبي شريك
ابن المبارك عن أبي هريرة قال : إن النار أوقدت ألف سنة فابيضت ثم أوقدت ألف سنة فاحمرت ثم أقوقدت ألف سنة فاسودت فهي مظلمة كسواد الليل
مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال ترونها كناركم لهي أشد سوادا من القار و القار : هو الزفت
ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن سليمان عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء لا يضيء لهبها و لا جمرها ثم قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها }
مالك و [ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أصح ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله : و إن كانت لكافية قال : فإنها فضلت بتسعة و ستين جزءا ] أخرجه مسلم و زاد : كلها مثل حرها
ابن ماجه [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما كان لأحد فيها منفعة ]
و في خبر آخر عن ابن عباس و هذه النار قد ضربت بماء البحر سبع مرات و لولا ذلك ما انتفع بها ذكره أبو عمر رحمه الله و قال عبد الله بن مسعود : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنه ضرب بها البحر عشر مرات ما انتفعتم منها بشيء ]
و سئل ابن عباس عن نار الدنيا مم خلقت ؟ قال : من نار جهنم غير أنها أطفئت بالماء سبعين مرة و لولا ذلك ما قربت لأنها من نار جهنم
مسلم [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب و يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب ما مر بي بؤس قط و لا رأيت شدة قط ]
أخرجه ابن ماجه أيضا [ من حديث محمد بن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقول : اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثم يخرج فيقال له : أي فلان هل أصابك نعيم قط ؟ فيقول : لا ما أصابني نعيم قط و يؤتى بأشد المؤمنين ضرا و بلاء فيقال : اغمسوه في الجنة فيغمس غمسة ثم يخرج فيقال له : أي فلان هل أصابك ضر قط أو بلاء ؟ فيقول ما أصابني ضر قط و لا بلاء ]
[ و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن جهنميا من أهل جهنم أخرج كفه إلى أهل الدنيا حتى يبصروها لأحرقت الدنيا من حرها و لو أن خازنا من خزنة جهنم أخرج إلى أهل الدنيا حتى يبصروه لمات أهل الدنيا حين يبصرونه من غضب الله تعالى ]
و قال كعب الأحبار : و الذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق و النار بالمغرب ثم كشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها يا قوم هل لكم بهذا قرار ؟ أم لكم على هذا صبر ؟ يا قوم طاعة الله أهون عليكم من هذا العذاب فأطيعوه
و خرج البزار في مسنده [ عن أبي هريرة قال في مسنده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم ]
فصل : قوله : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزء من نار جهنم يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها ابن آدم لكانت جزءا من جزءا من أجزاء جهنم المذكور : بيانه أنه لو جمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار نارا لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءا أشد من حر نار الدنيا كما بينه في آخر الحديث
و قوله : و إن كانت لكافية إن هنا مخففة من الثقيلة عن البصريين نظيره { و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } أي إنها كانت كافية فأجابهم النبي صلى الله عليه و سلم : [ بأنها كما فضلت عليها في المقدار و العدد بتسعة و ستين فضلت عليها أيضا في شدة الحر بتسعة و ستين ضعفا ]
باب منه و ما جاء في شكوى النار و كلامها و بعد قعرها و أهوالها و في قدر الحجر الذي يرمى به فيها
روى الأئمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين : نفس في الشتاء و نفس في الصيف بأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها و أشد ما تجدون من الحر من سمومها ] أخرجها البخاري و مسلم
و [ عن أبي هريرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سمع وجبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما هذا ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها ] أخرجه مسلم
الوجبة : الهدة و هي صعت وقع الشيء الثقيل
الترمذي [ عن الحسن قال : قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا يعني منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما و ما تفضي إلى قرارها ] قال : فكان ابن عمر يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقاقمها حديد قال أبو عيسى : لا نعرف للحسن سماعا من عتبة بن غزوان و إنما قدم عتبة بن غزوان البصرة في زمن عمرو ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر
ابن المبارك قال : [ أخبرنا يونس بن يزيد الزهري قال : بلغنا أن معاذ بن جبل كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفس محمد بيده إن ما بين شفة النار و قعرها لصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن و لحومهن و أولادهن تهوي من شفة النار قبل أن تبلغ قعرها سبعين خريفا ]
حدثنا هشام بن بشير قال : أخبرني زفر حدثنا ابن مريم الخزاعي قال : سمعت أبا أمامة يقول : إن ما بين شفير جهنم و قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي أو قال : صخرة تهوي عظمها كعشر عشراء عظام سلمان فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد : هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم غي و آثام
مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال : خطبنا عتبة بن غزوان و كان أميرا على البصرة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد أذنت بصرم و ولت جدا و لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصلبها صاحبها و إنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه ذكر لنا أن الحجر ليلقى من شفير جهنم فيهوى فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا و الله لتملأن الحديث و سيأتي بتمامه في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى
و قال كعب : [ لو فتح من نار جهنم قدر منخر ثور بالمشرق و رجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها و إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا خر جاثيا على ركبتيه و يقول : نفسي نفسي ]
فصل : قوله : [ اشتكت النار شكواها إلى ربها بأن أكل بعضها بعضا ] محمول على الحقيقة لا على المجاز إذ لا إحالة في ذلك و ليس من شرط الكلام عند أهل السنة في القيام بالجسم إلا الحياة و أما البنية و اللسان و البلة فليس من شرطه وليس يحتاج في الشكوى إلى أكثر من وجود الكلام و أما الاحتجاج في قوله عليه السلام : [ احتجت النار و الجنة ] فلا بد فيه من العلم و التفطن للحجة و قيل : إن ذلك مجاز عبر عنه بلسان الحال كما قال عنترة :
( فازور من وقع القنا بلبانه ... و شكا إلي بغبرة و تجمحم )
و قال آخر :
( شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى )
و الأول أصح إذ لا استحالة في ذلك و قد قال تعالى و هو أصدق القائلين { إن الحكم إلا لله يقص الحق } الآية و قد تقدم من كلامها : لا إله إلا الله و عزتك و جلالك و قال { كلا إنها لظى * نزاعة للشوى } الآية أي أدبر عن الإيمان و تولى أي أعرض عن أتباع الحق و جمع يعني المال فأوعى أي جعله في الوعاء أي كنزه و لم ينفقه في طاعة الله تعالى قال ابن عباس : تدعو المنافق و الكافر بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطائر الحب
قلت : قول ابن عباس هذا قد جاء معناه مرفوعا و هو يدل على أن المراد بالشكوى و الحجة الحقيقية
[ ذكر رزين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من كذب علي معتمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل يا رسول الله : و لها عينان ؟ قال : أما سمعتم الله يقول { إذا رأتهم من مكان بعيد } الآية يخرج عنق من النار له عينان يبصران و لسان فيقول : وكلت بمن جعل مع الله إلها آخر فلو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه ] و في رواية أخرى [ فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم ] صححه أبو محمد بن العربي في قبسه و قال : [ يفصله عن الخلق بالمعرفة كما يفصل الخلق بالمعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة ]
و خرج الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران و لسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد و يكل ما دعا مع الله إلها آخر و بالمصورين ] و في الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث غريب صحيح
و ذكر ابن وهب قال : حدثني العلاف بن خالد في قول الله تعالى : { و جيء يومئذ بجهنم } قال : يؤتى بجهنم يوم القيامة يأكل بعضها بعضا يقودها سبعون ألف ملك فإذا رأت الناس و ذلك قوله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } الآية فإذا رأتهم زفرت زفرة فلا يبقى نبي و لا صديق إلا برك لركبتيه يقول : يا رب نفسي نفسي و يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمتي أمتي وكان بعض الوعاظ يقول : أيها المجترىء على النار ألك طاقة بسطوة الجبار و مالك خازن و مالك إذا غضب على النار و زجرها زجرة كادت تأكل بعضها بعضا
باب ما جاء في مقامع أهل النار و سلاسلهم و أغلالهم و أنكالهم قال الله تعالى : { و لهم مقامع من حديد } و قال : { إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون * في الحميم } و قال : { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } و قال { إن لدينا أنكالا و جحيما } الآية و روي عن الحسن أنه قال : ما في جهنم واد و لا مغار و لا غل و لا سلسلة و لا قيد إلا و اسم صاحبها مكتوب عليه و روي عن ابن مسعود و سيأتي
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن رضاضة مثل هذه ـ و أشار إلى مثل الجمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض و هي مسيرة خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل و لو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل و النهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها ] قال هذا حديث إسناده صحيح
و في الخبر : إن شاء الله تعالى ينشئ لأهل النار سحابة فإذا رأوها ذكروا سحاب الدنيا فتناديهم : يا أهل النار ما تشتهون ؟ فيقولون : نشتهي الماء البارد فتمطرهم أغلالا تزاد في أغلالهم و سلاسل تزاد في سلاسلهم و قال محمد بن المنكدر لو جمع حديد الدنيا كله ما خلى منها و ما بقي ما عدل حلقة من حلق السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } الآية ذكره أبو نعيم
و قال ابن المبارك : أخبرنا سفيان عن بشير بن دعلوق أنه سمع نوفا يقول في قوله تعالى { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } قال : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد ما بينك و بين مكة و هو يومئذ في مسجد الكوفة
أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع ابن أبي مليكة يحدث عن أبي بن كعب قال : إن حلقة من السلسلة التي قال الله { ذرعها سبعون ذراعا } إن حلقة منها مثل جميع حديد الدنيا
سمعت سفيان يقول في قوله { فاسلكوه } قال : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه و قال ابن زيد و يقال : ما يأتي يوم القيامة على أهل النار إلا و رحمة من الله تطلع طائفة منهم فيخرجون و يقال : إن الحلقة من غل أهل جهنم لو ألقيت على أعظم جبل في الدنيا لهدته
و روي عن طاووس أن الله تعالى خلق ملكا و خلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا و ملك يعذب بإصبع من أصابعه و لو وضع الملك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها ذكره القتبي في كتاب عيون الأخبار له
باب منه و ما جاء في كيفية دخول أهل النار النار ذكر ابن وهب قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة بشرر كالنجوم فيولون هاربين فيقول الجبار تبارك و تعالى : ردوهم عليها فيردونهم فذلك قوله تعالى : { يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم } أي مانع يمنعكم و يلقاهم وهجها قبلأن يدخلوها عميا مغلولين أيديهم و أرجلهم و رقابهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خزنة جهنم ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق و المغرب ]
قال ابن زيد : و لهم مقامع من حديد يقمعون بها هؤلاء فإذا قال خذوه فيأخذونه كذا و كذا ألف ملك فلايضعون أيديهم على شيء من عظامه إلا صار تحت أيديهم رفاتا العظام و اللحم يصير رفاتا قال : فتجمع أيديهم و أرجلهم و رقابهم في الأغلال فيلقون في النار مصفودين فليس لهم شيء يتقون به إلا الوجوه فهم عمي قد ذهبت أبصارهم ثم قرأ { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } الآية فإذا ألقوا فيها يكادون يبلغون قعرها يلقاهم لهبها فيردهم إلى أعلاها حتى إذا كادوا يخرجون تلقتهم الملائكة بمقامع من حديد فيضربونهم بها فجاء أمر غلب اللهب فهووا كما أسفل السافلين هكذا دأبهم و قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فهم كما قال الله تعالى { عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية }
و الأنكال : القيود عن الحسن و مجاهد واحدها نكل و سميت القيود أنكالا لأنه ينكل بها أي يمنع قال الهروي و الأصفاد : هي الأغلال و يقال : القيود أعاذنا الله منها بمنه و كرمه
باب منه في رفع لهب النار أهل النار حتى يشرفوا على أهل الجنة يروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطير كما يطير الشرر فإذا رفعهم أشرفوا علىأهل الجنة وبينهم حجاب فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } الآية و ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة حين يروا الأنهار تطرد بينهم { أن أفيضوا علينا من الماء } الآية فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر النار
قال بعض المفسرين : هو معنى قول الله تعالى : { لما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } ذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له قال : و لعلك تقول : كيف يرى أهل الجنة أهل النار و أهل النار أهل الجنة ؟ و كيف يسمع بعضهم كلام بعض و بينهم ما بينهم من المسافة و غلظ الحجاب ؟ فيقال لك : لا تقل هذا فإن الله تعالى يقوي أسماعهم و أبصارهم حتى يرى بعضهم بعضا و يسمع بعضهم كلام بعض و هذا قريب في القدرة
باب ما جاء أن في جهنم جبالا و خنادق و أودية و بحارا و صهاريج و آبار و جبابا و تنانير و سجونا و بيوتا و جسورا و قصورا و أرحاء و نواعير و حيات أجارنا الله منها و في وعيد من شرب الخمر و المسكر و غيره
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا و يهوي فيه كذلك أبدا ] قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة
و قد تقدم [ من حديث أنس : أن من مات سكران فإنه يبعث يوم القيامة سكران إلى خندق في وسط جهنم يسمى السكران ] و اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى { فويل } فذكر ابن المبارك [ أخبرنا رشدين ابن سعد عن عمر بن الحارث أنه حدثه عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ويل : واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ]
و الصعود : جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك قال : و أخبرنا سعيد بن أبي أيوب عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره قال : و أخبرنا سفيان عن زياد بن فياض عن أبي عياض أنه قال : الويل : مسيل في أصل جهنم
و ذكر ابن عطية في تفسيره عن أن الويل صهريج في جهنم من صديد أهل النار قال : و حكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنم
و قال أبو سعيد الخدري : إنه واد بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا ذكره ابن عطية و قد تقدم رفعه
و خرجه الترمذي أيضا مرفوعا [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الويل : واد في وسط جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة
و قال ابن زيد في قوله تعالى { و ظل من يحموم } اليحموم : جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار { لا بارد } بل حار لأنه من دخان شفير جهنم { و لا كريم } أي لا عذب عن الضحاك و قال سعيد بن المسيب : و لا حسن منظره
و ذكر ابن وهب عم مجاهد في قوله تعالى { موبقا } قال : واد في جهنم يقال له موبق و قال عكرمة : هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا سارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار و قال أنس بن مالك : هو واد في جهنم من قيح و دم
و قال نوف البكالي في قوله تعالى : { وجعلنا بينهم موبقا } قال : واد في جهنم بين أهل الضلالة و بين أهل الإيمان
و عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها سئلت عن قول الله عز و جل { فسوف يلقون غيا } قالت : نهر في جهنم
و اختلفوا في الفلق في قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } فروى ابن عباس أنه سجن في جهنم و قال كعب : هو بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ذكره أبو نعيم
و ذكر أبو نعيم عن حميد بن هلال قال : حدثت أن في جهنم تنانير ضيقها كضيق زج أحدكم في الأرض تضيق على قوم بأعمالهم
ابن المبارك أخبرنا إسماعيل بن عياش حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شقي الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه قال الله تعالى { سأرهقه صعودا } و أن في جهنم قصرا يقال له هواء يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى { و من يحلل عليه غضبي فقد هوى } و أن في جهنم واديا يدعى آثاما فيه حيات و عقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم و العقرب منهن مثل البغلة المؤلفة تلدغ الرجل فلا تلهيه عما يجد من حر جهنم حمة لدغتها فهو لما خلق له و أن في جهنم سبعين داء لأهلها كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم و أن في جهنم واديا يدعى غيا يسيل قيحا و دما فهو لما خلق له قال الله تعالى { فسوف يلقون غيا }
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في جهنم بحرا أسود مظلما منتن الريح يغرق الله فيه من أكل رزقه و عبد غيره ]
و ذكر أبو نعيم [ عن محمد بن واسع قال : دخلت يوما على بلال بن أبي بردة فقلت : يا بلال إن أباك حدثني عن جدك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن في جهنم واديا يقال له لملم و لذلك الوادي بئر يقال له هبهب حق على الله تعالى أن يسكنها كل جبار فإياك أن تكون منهم ]
ابن المبارك قال : [ حدثنا يحيى بن عبيد الله قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في جهنم واديا يقال له لملم و إن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره ]
مالك بن أنس [ عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن الحسين بن علي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مسكر خمر وثلاثة غضب الله عليهم و لا ينظر إليهم و لا يكلمهم و هم في المنسا و المنسا : بئر في جهنم : للمكذب بالقدر و المبتدع في دين الله و مدمن الخمر ] و ذكره الخطيب أبو بكر من حديث أحمد بن سليمان الخفاني القرشي الأسدي عن مالك
و ذكر ابن وهب من [ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صورة الناس يعلوهم كل شيء من الصغار فيساقون حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال ] أخرجه ابن المبارك
أخبرنا محمد بن عجلان [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن
قلت : طينة الخبال عرق أهل النار أو عصارتهم شراب أيضا لمن شرب المسكر جاء ذلك في صحيح البخاري
و [ عن جابر : أن رجلا قدم من جيشان و جيشان من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسكر هو ؟ قال : نعم قال : إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا : يا رسول الله و ما طيتة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ]
[ وروي عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المدينة مهاجري و فيها مضجعي و منها مخرجي حق على أمتي حفظ جيراني فيها من حفظ وصيتي كنت له شهيدا يوم القيامة و من ضيعها أورده الله حوض الخبال قيل : و ما حوض الخبال ؟ قال : حوض من صديد أهل النار ] غريب من حديث خارجة بن زيد عن أبيه لم يروه عنه غير أبي الزناد تفرد به عنه ابنه عبد الرحمن
و روى الترمذي و أسد بن موسى [ عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تعوذوا بالله من جب الحزن فقيل يا رسول الله : و ما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين ] و في رواية : [ أعده لله للذين يراءون الناس بأعمالهم ]
و قال الترمذي [ في حديث أبي هريرة مائة مرة قلنا : يا رسول الله و من يدخله ؟ : القراء المراءون بأعمالهم ] قال : حديث غريب خرجه ابن ماجه أيضا [ عن أبي هريرة و لفظه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا : يا رسول الله و ما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم أربعمائة مرة قيل : يا رسول الله من يدخله ؟ قال : أعد للقراء المرائين بأعمالهم و إن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء ]
قال المحاربي : الجورة
و في حديث آخر ذكره [ أسد بن موسى أنه عليه السلام قال : إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي في كل يوم سبع مرات و إن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم و ذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب و إن في الجب لحية إن جهنم و الوادي و ذلك الجب ليتعوذان بالله من شر ذلك الحية أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن ]
و قال أبي هريرة : إن في جهنم أرجاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا : فيقول : ما صيركم إلى هذا و إنما كنا نتعلم منكم ؟ قالوا : إنا كنا نأمركم بالأمر و نخالفكم إلى غيره
قلت : و هذا مرفوع معناه في صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه و سيأتي في من أمر بالمعروف و لم يأته
و قال أبو المثنى الأملوكي : إن في النار أقواما يربطون بنواعير من نار تدور بهم تلك النواعير ما لهم فيها راحة و لا فترة و قال محمد بن كعب القرظي إن لمالك مجلسا في وسط جهنم و جسورا تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها الحديث و سيأتي
باب منه : و في بيان قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة و في ساحل جهنم و وعيد من يؤذي المؤمنين
ابن المبارك قال : أخبرنا رجل عن منصور عن مجاهد عن يزيد بن شجرة قال : و كان معاوية بعثه على الجيوش فلقي عدوا فرأى أصحابه فشلا فجمعهم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد اذكروا نعمة الله عليكم و ذكر الحديث و فيه : [ فإنكم ككتوبون عند الله بأسمائكم و سماتكم فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ها نورك يا فلان لا نور لك إن لجهنم ساحلا كساحل البحر فيه هوام و حيات كالبخت و عقارب كا لبغال الدهم فإذا استغاث أهل النار قالوا : الساحل ! فإذا ألقوا فيه سلطت عليهم تلك الهوام فتأخذ شفار أعينهم و شفاههم و ما شاء الله منهم تكشطها كشطا فيقولون : النار النار ! فإذا ألقوا فيها سلط الله عليهم الجرب فيحك أحدهم جسده حتى يبدو عظمه و إن جلد أحدهم لأربعون ذراعا قال : يقال : يا فلان هل تجد هذا يؤذيك ؟ فيقول : و أي شيء أشد من هذا ؟ فيقال : هذا بما كنت تؤذي المؤمنين ]
قال ابن المبارك : و أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمار الدهمني أنه حدثه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : إن صعودا صخرة في جهنم إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت فإذا رفعوها عادت اقتحامها { فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة }
و قال ابن عمرو ابن عباس هذه العقبة جبل في جهنم
و قال محمد بن كعب و كعب الأحبار هي سبعون درجة في جهنم و قال الحسن و قتادة : هي عقبة شديدة صعبة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عز و جل
و قال مجاهد و الضحاك و الكلبي : هي الصراط و قيل : النار نفسها
و قال الكلبي أيضا : هي جبل بين الجنة و النار يقول : فلأجاور هذه العقبة بعمل صالح ثم بين اقتحامها بما يكون فقال { فك رقبة } الآية
و قال ابن زيد و جماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام تقديره : أفلا اقتحم العقبة يقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب و إطعام السغبان ليجاوز به العقبة فيكون خيرا له من إنفاقه في المعاصي ؟
و قيل : معنى الكلام التمثيل و التشبيه فشبه عظم الذنوب و ثقلها بعقبة فإذا أعتق رقبة و عمل صالحا كان مثله كمثل من اقتحم العقبة و هي الذنوب التي تضره و تؤذيه و تثقله فإذا أزالها بالأعمال الصالحة و التوبة الخالصة كان كمن اقتحم عقبة يستوي عليها و يجوزها
قلت : هذا حديث حسن قال الحسن : هي و الله عقبة شديدة مجاهدة الإنسان نفسه و هواء وعدوه الشيطان و أنشد بعضهم :
( إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل قد نصبوا علي شراكا )
( إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى ... من أين أرجو بينهن فكاكا )
( يا رب ساعدني بعفو إنني ... أصبحت لا أرجو لهن سواكا )
و أنشد غيره أيضا في معنى ذلك :
( إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل عن قوس لها توتير )
( إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى ... يا رب أنت على الخلاص قدير )
و قال آخر :
( إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي و شقائي )
( إبليس و الدنيا ونفسي و الهوى ... كيف الخلاص و كلهم أعدائي )
قلت : قال : فمن أطاع مولاه و جاهد نفسه و هواه و خالف شيطانه و دنياه كانت الجنة نزله و مأواه و ممن تمادى في غيه و طغيانه و أرخى في الدنيا زمام عصيانه و وافق نفسه و هواه في مناه و لذاته و أطاع شيطانه في جمع شهواته كانت النار أولى به قال الله تعالى : { فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى }
و معنى فلا اقتحم العقبة : أي لم يقتحم العقبة و هذا خبر أي أنه لم يفعل و العرب تقول : لا فعل بمعنى لم يفعل قال زهير
( و كان طوى كشحا على سكينة ... فلا هوى أبداها و لم يتقدم )
أي فلم يبدها
ثم قال : { و ما أدراك ما العقبة * فك رقبة } يقول للنبي صلى الله عليه و سلم : أي لم تكن تدريها حتى أعلمتك ما العقبة : فك رقبة : أي عتق رقبة من الرق أو إطعام في يوم ذي مسغبة مجاعة يتيما ذا مقربة : أي قرابة أو مسكينا ذا متربة : يعني به اللاصق بالتراب من الحاجة في تفسير الحسن
و قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه و ما أدراك فإنه أخبره به و كل شيء قال فيه و ما يدريك فإنه لم يخبره به
و خرج الطبراني أبو القاسم سلمان بن أحمد في كتاب مكارم الأخلاق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لأن أجمع أناسا من أصحابي على صاع من طعام أحب إلي أن أخرج إلى السوق فأشترى نسمة فأعتقها
باب ما جاء في قوله تعالى و قودها الناس و الحجارة
الوقود بفتح الواو على وزن الفعول بفتح الفاء : الحطب و كذلك الطهور اسم للماء و السحور اسم الطعام و بضم الفاء : اسم للفعل و هو المصدر و الناس عموم و معناه : الخصوص ممن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها أجارنا الله منها قال : حطب النار : شباب و شيوخ و كهول و نساء عاريات طال منهن العويل
ابن المبارك [ عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله : يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار و حتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك و تعالى ثم يأتي أقوام يقرأون القرآن فإذا قرأوه قالوا : من أقرأ منا ؟ من أعلم منا ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : هل ترون في أولئك من خير ؟ قالوا : لا ! قال : أولئك منكم و أولئك من هذه الأمة و أولئك هم وقود النار ] خرجه عن موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن ابن الهادي عن العباس بن عبد المطلب فذكره و الحجارة الكبريت خلقها الله تعالى عنده كيف شاء أو كما شاء عن ابن مسعود و غيره ذكره ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود
و خصت بذلك لأنها تزيد على جميع الحجارة بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد و نتن الرائحة و كثرة الدخان و شدة الالتصاق بالأبدان و قوة حرها إذا حميت
و قيل المراد بالحجارة : الأصنام لقوله تعالى : { إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي حطب و هو ما يلقى في النار مما تذكى به و عليه فيكون الناس و الحجارة وقودا للنار على التأويل الأول و على التأويل الثاني يكونون معذبين بالنار و الحجارة و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ كل مؤذ في النار ] و في تأويله و جهان :
أحدهما : أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار
الثاني : أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع و الهوام و غيرهما في النار معد لعقوبة أهل النار و ذهب بعض أهل التأويل إن أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة و الله أعلم
باب ما جاء في تعظيم جسد الكافر و أعضائه بحسب اختلاف كفره و توزيع العذاب على العاصي المؤمن بحسب أعمال الأعضاء
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد و غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ]
[ الترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن غلظ جلد الكافر إثنان و أربعون ذراعا و إن ضرسه مثل أحد و إن مجلسه من جهنم كما بين مكة و المدينة ] قال هذ حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش و في رواية : و فخذه مثل البيضاء و مقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة أخرجه عن صالح مولى التؤامة عن أبي هريرة و قال : هذا حديث حسن غريب و قال : مثل الربذة يعنى به كما بين مكة و المدينة و البيضاء : جبل
ابن المبارك أنبأنا يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال [ ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعظمون لتمتلىء منهم و ليذوقوا العذاب ]
أخبرنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : [ ضرس الكافر مثل أحد و فخذه مثل البيضاء و جبينه مثل الورقان و مجلسه من النار كما بيني و بين الربذة و كثف بصره سبعون ذراعا وبطنه مثل إضم ] إضم بالكسر جبل قاله الجوهري
قلت : و الورقان جبل بالمدينة كما روي [ عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم فلما تجلى ربه للجبل صار بعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بمكة : ثور و ثبير و حراء و بالمدينة : أحد و ورقان و رضوى ]
و ذكر ابن المبارك قال : [ أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بصر الكافر ـ يعني غلظ جلده ـ سبعون ذراعا و ضرسه مثل أحد في سائر خلقه ] و ذكر عن عمرو بن ميمون أنه يسمع بين جلد الكافر و جسده دوي كدوي الوحش
الترمذي [ عن أبي المخارق عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ و الفرسخين يتوطؤه الناس ]
مسلم [ عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : منهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه إلى ركبتيه و منهم من تأخذه إلى حجزته و منهم من تأخذه إلى ترقوته ] و في رواية : حقويه مكان حجزته
فصل : هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط ليس ككفر من طغى و كفر و تمرد و عصى و لا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب و السنة و لأنا نعلم على القطع و الثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء و المسلمين و فتك فيهم و أفسد في الأرض و كفر مساويا لعذاب من كفر فقط و أحسن للأنبياء و المسلمين ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه و سلم إلى ضحضاح لنصرته إياه و ذبه عنه و إحسانه إليه ؟ و حديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب و يصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين إلا أن الله تعالى بميتهم إماتة حسب ما تقدم بيانه
و في خبر كعب الأحبار : يا مالك مر النار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرأون القرآن يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم فالنار أعرف بهم و بمفدار استحقاقهم من الوالدة بولدها فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذه النار إلى سرته و منهم من تأخذه إلى صدره و ذكر الحديث و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى
و ذكر القتبي في عيون الأخبار له مرفوعا [ عن أبي هريرة أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله إذا قضى بين خلقه و زادت حسنات العبد دخل الجنة و إن استوت حسناته و سيئاته حبس على الصراط أربعين سنة ثم بعد ذلك يدخل الجنة و إن زادت سيئاته على حسناته دخل النار من باب التوحيد فيعذبون في النار على قدر أعمالهم فمنهم من تنتهي له النار إلى كعبيه و منهم من تنتهي إلى ركبتيه و منهم من تنتهي النار إلى وسطه ] و ذكر الحديث
و ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان أن حديث مسلم في معنى قوله تعالى { و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون } قال : أرى ـ و الله أعلم ـ أن هؤلاء الموصوفين في هذه الآية و الحديث أهل التوحيد فإن الكافر لا تعاف النار منه شيئا و كما اشتمل في الدنيا على الكفر شملته النار في الآخرة قال الله تعالى { لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل } أي أن ما فوقهم ظلل لهم و ما تحتهم ظلل لمن تحتهم
باب منه
ابن ماجه [ عن الحارث بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعتي أكثر من مضر و إن أمتي من يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها ]
باب ما جاء في شدة عذاب أهل المعاصي و إذا يتهم أهل النار بذلك مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشد عذابا يوم القيامة المصورون ] و ذكره قاسم بن أصبغ من حديث [ عبد الله بن مسعود أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي أو مصور يصدر التماثيل ]
و ذكر أو عمر بن عبد البر و ابن ماجه و ابن وهب [ من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أشد عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ] إسناده فيه عثمان بن مقسم البزي لم يرفعه غيره و هو ضعيف عند أهل الحديث معتزلي المذهب ليس حديثه بشيء قاله أبو عمر
و ذكر ابن وهب قال : حدثنا ابن زيد قال : يقال إنه ليؤذي أهل النار نتن فروج الزناة يوم القيامة
ابن المبارك قال : أخبرنا موسى بن علي بن رباح قال : سمعت أبي يذكر عن بعض من حدث قال : ثلاثة قد آذوا أهل النار ـ و كل أهل النار في أذى ـ : رجال مغلقة عليهم توابيت من نار و هم في أصل الجحيم فيضجون حتى تعلوأصواتهم أهل النار فيقول لهم أهل النار : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ فقالوا : كنا متكبرين و رجال قد شقت بطونهم يسبحون أمعاءهم في النار فقال لهم أهل النار : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ قالوا : كنا نقتطع حقوق الناس بأيماننا و أمانتنا و رجال يسعون بين الجحيم و الحميم لا يقرون قبل لهم : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ قالوا : كنا نسعى بين الناس بالنميمة
[ أخبرنا إسماعيل بن عياش حدثني تغلب بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شقي بن مانع الأصبحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الجحيم و الحميم يدعون بالويل و الثبور يقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى ؟ قال : فرجل مغلق عليه تابوت من جمر و رجل يجر أمعاءه و رجل يسيل فوه قيحا و دما و رجل يأكل لحمه قال فيقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد مات و في عنقه أموال الناس لم يجد لها قضاء أو قال وفاء ثم يقال للذي يجر أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه ثم لا يغسله ثم يقال للذي يسيل فوه دما و قيحا : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان ينظر في كل كلمة قذيعة خبيثة فيذيعها يستلذها و يستلذ الرفث بها ثم يقال للذي يأكل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس و يمشي بالنميمة ]
خرجه أبو نعيم الحافظ و قال : تفرد به إسماعيل بن عباس و شقي مختلف فيه فقيل : له صحبة
قلت : و قد تقدم حديث البخاري الطويل عن سمرة بن جندب و حديث ابن عباس و أبي هريرة و ابن مسعود في باب ما يكون منه في عذاب القبر و حديث أبي هريرة في الذين تسعر بهم جهنم و غير ذلك مما تقدم في معنى هذا الباب : فتأمل ذلك
و قد تقدم أن من أدان أموال الناس في غير سفه و لا إسراف و لم يجد قضاء و نيته الأداء و مات أن الله لا يحسبه عن الجنة و لا يعذبه بل يرضى عنه خصماؤه إن شاء الله و يكون الجميع في رحمته بكرمه و فضله فأما من أدانها لينفقها في المعاصي ثم لا يقدر على الأداء فلعله الذي يعذب
باب منه و في عذاب من عذب الناس في الدنيا أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي نجيح عن خالد بن حكيم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا ]
و خرجه البخاري في التاريخ فقال : [ حدثنا علي حدثنا سفيان
عن عمرو بن دينار عن خالد بن حكيم بن حزام أن أبا عبيدة تناول رجلا من أهل الأرمن فكلمه خالد بن الوليد فقالوا : أغضبت الأمير ؟ فقال : لم أرد غضبه سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا ]
و خرجه مسلم بمعناه [ من حديث هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس فقال : ما شأنهم ؟ قالوا : حبسوا على الجزية فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله عز و جل يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ]
باب ما جاء في شدة عذاب من أمر بالمعروف و لم يأته و نهى عن المنكر و أتاه و ذكر الخطباء و فيمن خالف قوله فعله و في أعوان الظلمة كلاب النار
البخاري [ عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ! ألست كنت تأمر المعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمر بالمعروف و لا أفعله و أنهى عن المنكر و أفعله ]
و خرجه مسلم أيضا بمعناه [ عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ابن فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ! كنت آمر بالمعروف و لا آتيه و أنهى عن المنكر و آتيه ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتيت ليلة لأسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت ردت قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون و لا يفعلون و يقرأون كتاب الله و لا يعملون ]
و ذكر ابن المبارك قال : [ أخبرنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : خطباء أي من الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب ] الآية
قال : [ و أخبرنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي قال : يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم في النار فيقولون : ما أدخلكم النار و إنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم و تعليمكم ؟ قالوا : إن كنا نأمركم بالخير و لا نفعله ]
و ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن حنبل قال : حدثنا سيار بن حاتم قال : حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء ] هذا حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر لم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن حمزة حدثنا محمد بن علوش بن الحسين الجرجاني قال : حدثنا علي بن المثنى قال : حدثنا يعقوب بن خليفة أبو يوسف الأعشى قال حدثني محمد بن مسلم الطائفي قال حدثني إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجلاوزة و الشرط أعوان الظلمة كلاب النار ] غريب من حديث طاووس تفرد به محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس الجلاوزة : جمع جلواز قال الجوهري : و الجلوز الشرطي و الجمع : الجلاوزة
فصل : قال بعض السادة : أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة : رجل ملك عبدا فعلمه شرائع الإسلام فأطاع و أحسن و عصى السيد فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة و أمر بسيده إلى النار فيقول عند ذلك : واحسرتاه ! وأغبناه ! أما هذا عبدي ؟ أما كنت مالكا لمهجته و ماله ؟ و قادرا على جميع ماله ؟ فما له سعد و ما لي شقيت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنه تأدب و ما تأدبت و أحسن و أسأت و رجل كسب مالا فعصى الله تعالى في جمعه و منعه و لم يقدمه بين يديه حتى صار إلى وارثه فأحسن في إنفاقه و أطاع الله سبحانه في إخراجه و قدمه بين يديه فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة و أمر بصاحب المال إلى النار فيقول : و حسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا ما لي فما أحسنت به أحوالي و أعمالي فيناديه الملك الموكل به : لأنه أطاع الله و ما أطعت و أنفق لوجهه و ما أنفقت فسعد و شقيت و رجل على قوما و وعظهم فعملوا بقوله و لم يعمل فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة و أمر به إلى النار فيقول : و احسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا علمي ؟ فما لهم فازوا به و ما فزت ؟ و سلموا به و ما سلمت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنهم عملوا بما قلت و ما عملت فسعدوا و شقيت ذكره أبو الفرج بن الجوزي
فصل : قال إبراهيم النخعي رضي الله عنه : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم } و قوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } و قوله تعالى : { و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }
قلت : و ألفاط هذه الأبيات تدل على ما ذكرناه من الأحاديث على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف و بالمنكر و بوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه و إنما كان كذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله و يستحق لأحكامه و هو كمن لم ينتفع بعمله
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ] و قد تقدم
[ و روى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير و ننسى أنفسنا ]
و قوله : تندلق أي : تخرج و الاندلاق الخروج بسرعة يقال : اندلق السيف خرج من غمده و روي فتنفلق بدل فتندلق و الأقتاب : الأمعاء واحدها : قتب بكسر القاف و قال الأصمعي : واحدها : قتيبة و يقال لها أيضا : الأقصاب واحدها : قصبة قاله أبو عبيد
و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار و هو أول من سيب السوائب ]
قلت : إن قال قائل : قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن من ليس من أهل النار إذا دخلوها أحرقوا فيه و ماتوا على ما ذكرتموه في أصح القولين و هذه الأحاديث التي جاءت في العصاة بخلاف فكيف الجمع بينهما ؟
قيل له : الجمع ممكن و ذلك ـ و الله أعلم ـ أن أهل النار الذين هم أهلها كما قال الله تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } قال الحسن : تنضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة و العصاة بخلاف هؤلاء فيعذبون و بعد ذلك يموتون
و قد تختلف أيضاأحوالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم و آثامهم و قد قيل إنه يجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم غير أن آلام المؤمنين تكون أخف من آلام الكفار لأن آلام المعذبين و هم موتى أخف من عذابهم و هم أحياء دليله قوله تعالى : { و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم و هم موتى
و مثله ما جاء في حديث البراء من قول الكافر : رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة يرى أن ما يخلص له من عذاب الآخرة أشد مما هو فيه و قد يكون ما جاء في الخطباء هو عذابهم في القبور في أعضاء مخصوصة كغيرهم كما جاء في حديث سمرة الطويل على ما تقدم إلا أن قوله في حديث أسامة بن زيد يوم القيامة يدل على غير ذلك و قد يحتمل أن يجمع لهم الأمران لعظم ما ارتكبوه من مخالفة قولهم فعلهم و نعوذ بالله من ذلك
باب ما جاء في طعام أهل النار و شرابهم و لباسهم قال الله تعالى : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } و قال { سرابيلهم من قطران } و قال : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون } و قال : { لا يذوقون فيها بردا } أي نوما { و لا شرابا * إلا حميما و غساقا * جزاء و فاقا } و قال : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا } و قال عز من قائل { تسقى من عين آنية * ليس لهم طعام إلا من ضريع } و قال { فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين } قال الهروي : معناه من صديد أهل النار و ما ينغسل و يسيل من أبدانهم
قلت : و هو الغساق أيضا و ذكر ابن المبارك : أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم و أبي رزين في قوله تعالى { هذا فليذوقوه حميم و غساق } قالا : ما يسيل من صديدهم و قيل الغساق : القيح الغلظ المنتن
و ذكر ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال الغساق : القيح الغلظ لو أن قطرة منه تهراق في المغرب أنتنت أهل المشرق و لو أنها تهراق في المشرق أنتنت أهل المغرب و قيل : الغساق الذي لا يستطيع من شدة برده و هو الزمهرير
و قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة فستنفع و يؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة فيسقط جلده و لحمه عن العظام فيجر لحمه في كعبيه كما يجر الرجل ثوبه و قوله { جزاء وفاقا } أي وافق أعمالهم الخبيثة
و اختلف في الضريع فقيل : هو النبت ينبت في الربيع فإذا كان في الصيف يبس و اسمه إذا كان عليه ورقة شبرق و إذا تساقط ورقه فهو الضريع فالإبل تأكله أخضر فإذا يبس لم تذقه و قيل : هو حجارة و قيل الزقوم واد في جهنم
و قال المفسرون : إن شجرة الزقوم أصلها في الباب السادس و أنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء فلا بد لأهل النار من أن يتحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها
و قال أبو عمران الجوني في قوله تعالى { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون } قال بلغنا أن ابن آدم لا ينهش منها نهشة إلا نهشت منه مثلها و المهل ما كان ذائبا من الفضة و النحاس و قيل المهل عكر الزيت الشديد السواد و قوله تعالى { يغلي في البطون * كغلي الحميم } يعني الماء الشديد الحر
باب منه و ما جاء أن أهل النار يجوعون و يعطشون و في دعائهم و إجابتهم قال الله تعالى : { و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } الآية
البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع فإذا كان في الخامسة لا يتكلمون بعدها أبدا يقولون : { ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل }
قال : فيجيبهم الله تعالى { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }
ثم يقولون : { ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون } فيجيبهم الله تعالى : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون }
ثم يقولون : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل } فيجيبهم الله تعالى { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال }
ثم يقولون : { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } فيجيبهم الله تعالى : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }
ثم يقولون : { ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين } فيجيبهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فلا يتكلمون بعدها أبدا
و خرجه ابن المبارك بأطول من هذا فقال : أخبرنا الحكم بن عمر بن ليلى حدثني عامر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ـ أو ذكر لي ـ أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى : { و قال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم الخزنة : { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } ؟
فيقولون : بلى فردت عليهم الخزنة : { فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا ـ و هو عليهم و له مجلس في وسطها و جسور تمر عليهم ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ـ فقالوا : { يا مالك ليقض علينا ربك }
قال : اسألوا الموت فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة
قال : و السنة ستون و ثلاثمائة يوم و الشهر ثلاثون يوما و اليوم { كألف سنة مما تعدون }
ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال : { إنكم ماكثون }
فلما سمعوا منه ما سمعوا و أيسوا مما قبله قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من البلاء و العذاب ما قد ترون فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } أي من منجى
قال : فقام إبليس عند ذلك فقال : { إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم } إلى قوله : { ما أنا بمصرخكم } يقول : بمغن عنكم شيئا { و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل }
قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم قال فنادوا { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } إلى قوله : { فهل إلى خروج من سبيل }
قال : فرد عليهم ذلك بأنه { إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }
قال : فهذه واحدة : فنادوا الثانية { فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون }
قال : فيرد عليهم { و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها }
يقول : لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد { و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون }
قال : فهذه اثنتان فنادوا الثالثة : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل }
فيرد عليهم : { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } إلى قوله تعالى : { الجبال }
قال : فهذه الثلاثة قال : ثم نادوا الرابعة : { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل }
قال فيجيبهم : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }
ثم مكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } ؟
قال : فلما سمعوا صوته قالوا : الآن يرضى ربنا فقالوا عند ذلك : { ربنا غلبت علينا شقوتنا } ـ أي : الكتاب الذي كتب علينا ـ { و كنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فقال عند ذلك : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فانقطع عند ذلك الرجاء و الدعاء { و أقبل بعضهم على بعض } ينبح بعضهم في وجه بعض و أطبقت عليهم
قال : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه لما ذكر له أن ذلك قوله تعالى { هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون }
قال ابن المبارك : و حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : فذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم : { إنكم ماكثون }
قال : هانت و الله دعوتهم على مالك و رب مالك
قال : ثم يدعون ربهم قال فيقولون { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون }
قال فسكت عنهم قدر الدنيا مرتين قال ثم يرد عليهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون }
قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة و ما هو إلا الزفير و الشهيق في نار جهنم فشبه أصواتهم بصوت الحمير أولها زفير و آخرها شهيق و معنى ما نبس ما تكلم
قال الجوهري : يقال ما نبس بكلمة أي ما تكلم و ما نبس بالتشديد أيضا و قال الراجز :
( إن كنت غير هلك فنبس )
الترمذي [ عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يلقى عن أهل النار الجوع مع ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب من حديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيقولون : { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا بلى ! قالوا : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } قال فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون { يا مالك ليقض علينا ربك } قال فيجيبهم : { إنكم ماكثون } ]
قال الأعمش : ثبت أن بين دعائهم و بين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون ادعو ربكم فلا أحد خير من ربكم قال فيقولون : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } قال فيجيبهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون }
قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير و عند ذلك يأخذون في الزفير و الحسرة و الويل رفعه قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر و هو ثقة عند أهل الحديث و الناس يوقفونه على أبي الدرداء
[ و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : { و هم فيها كالحون } قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته و لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة و لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] قال : هذا حديث صحيح غريب
[ و عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { كالمهل } قال : كعكر الزيت و إذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه ] قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد و رشدين قد تكلم فيه من جهة حفظه
قلت : وقع في هذا الحديث فروة وجهه و هو شاذ إنما يقال : فروة رأسه أي جلدته هذا هو المشهور عند أهل اللغة و كذا جاء في حديث أبي أمامة
[ و عن أبي حجيزة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فليست ما في جوفه حتى يمرق من قدميه و هو الصهر ثم يعاد كما كان ] قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
و [ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { و يسقى من ماء صديد * يتجرعه } قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : { و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } و قال تعالى : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا } ] قال : هذا حديث غريب
[ و عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون }
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟ ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح خرجه ابن ماجه أيضا
باب ما جاء في بكاء أهل النار و من أدناهم عذابا فيها ابن المبارك قال : [ أخبرنا عمران بن زيد الثعلبي حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ]
خرجه ابن ماجه أيضا [ من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود و لو أرسلت فيها السفن لجرت ]
و في مسلم [ عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ]
و روي عن أبي موسى الأشعري موقوفا أنه قال : [ إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت فيها السفن لجرت ثم إنهم يبكون الدم بعد الدموع و لمثل ما هم فيه فليبك ]
قال المؤلف رحمه الله و هو يستند من معنى ما تقدم : و في التنزيل { فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون }
و في الترمذي [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا فمن كثر بكاؤه خوفا من الله تعالى و خشية منه ضحك كثيرا في الآخرة قال الله تعالى مخبرا عن أهل الجنة : { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } و وصف أهل النار فقال : { و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } قال : و كنتم و منهم تضحكون ] و سيأتي بيانه
باب ما جاء أن لكل مسلم فداء من النار من الكفار ابن ماجه قال : [ أخبرنا جبارة بن المغلس حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن أبي بردة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد صلى الله عليه و سلم في السجود فسجدوا طويلا ثم يقال : ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار ]
[ حدثنا جبارة بن المغلس حدثنا كثير بن سليمان عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه الأمة أمة مرحومة عذابها بأيديها إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال : هذا فداؤك من النار ]
قلت : هذان الحديثان و إن كان إسنادهما ليس بالقوي ـ قال الدارقطني : جبارة بن المغلس متروك ـ فإن معناهما صحيح بدليل حديث مسلم
[ عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول : هذا فكاكك من النار ]
و في رواية أخرى : [ لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه من النار يهوديا أو نصرانيا ] قال فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات : أن أباه حدثه عن رسول الله قال : فحلف له
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذه الأحاديث ظاهرها الإطلاق و العموم و ليس كذلك و إنما هي في ناس مذنبين تفضل الله تعالى عليهم برحمته و مغفرته فأعطى كل إنسان منهم فكاكا من النار من الكفار و استدلوا بحديث أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم و يضعها على اليهود و النصارى ]
و خرجه مسلم [ عن محمد بن عمرو بن عياد بن جبلة بن أبي رواد قال حدثنا حرمي بن عمارة قال : حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي عن عباس عن غيلان بن جرير عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه و سلم
قالوا : و ما معنى فيغفرها لهم ؟ أي : يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا ]
و معنى قوله : ويضعها على اليهود النصارى أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم
حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم و جرم ومذنبي المسلمين لو أخذوا بذلك لأنه تعالى يأخذ أحدا بذنب أحد كما قال تعالى : { و لا تزر وازرة وزر أخرى } و له سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب و يخفف عمن يشاء بحكم إرادته و مشيئته إذ لا نسأل عن فعله
قالوا و قوله في الرواية الأخرى : [ لا يموت رجل مسلم إلا أدخل مكانه يهوديا أو نصرانيا ] فمعنى ذلك أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكانا من النار بسبب ذنوبه و عفا الله عنه و بقي مكانه خاليا منه أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره و يشهد لهذا قوله عليه السلام [ في حديث أنس للمؤمن الذي يثبت عند السؤال في القبر فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ]
قلت : قد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم مذنبا كان أو غير مذنب منزلين : منزلا من الجنة و منزلا من النار و ذلك هو معنى قوله تعالى { أولئك هم الوارثون } أي يرث المؤمنون منازل الكفار و يجعل الكفار في منازلهم في النار على ما يأتي بيانه و هو مقتضى [ حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره ] الحديث و قد تقدم إلا أن هذه الوراثة تختلف فمنهم من يرث و لا حساب و منهم من يرث بحسابه و بمناقشته و بعد الخروج من النار حسب ما تقدم من أحوال الناس و الله أعلم
و قد يحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم و هو مقتضى قوله تعالى : { قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء }
باب في قوله تعالى و تقول هل من مزيد
مسلم [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تزال جهنم يلقى فيها و تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض و تقول : قط قط و عزتك و كرمك و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ]
و في رواية أخرى [ من حديث أبي هريرة فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله فتقول : قط قط فهنالك تمتلئ و يزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله خلقا من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا ]
فصل : للعلماء في قول النار : [ هل من مزيد ؟ ] تأويلان أحدهما : وعدها ليملأنها فقال : أوفيتك ؟ فقالت : و هل من مسلك ؟ أي : قد امتلأت كما قال :
( امتلأ الحوض و قال : قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني )
و هذا تفسير مجاهد و غيره و هو ظاهر الحديث الثاني : زدني تقول ذلك غيظا على أهلها و حنقا عليهم كما قال { تكاد تميز من الغيظ } أي تنشق و يبين بعضها من بعض
و قوله حتى يضع فيها قدمه ـ و في رواية أخرى حتى يضع عليها و في آخرى رجله و لم يذكر فيها و لا عليها ـ فمعناه عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها و هم جماعات كثيرة لأن أهل النار يلقون فيها فوجا فوجا كما قال الله تعالى { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير }
و يؤيده أيضا قوله في الحديث : لا يزال يلقى فيها فالخرنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم و أوصافهم كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت و لا سلسلة و لا مقمع و لا تابوت إلا و عليه اسم صاحبه فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه و صفته فإذا استوفى كل واحد ما أمر به و ما ينتظره و لم يبق منهم أحد قالت الخزنة : قط قط أي حسبنا حسبنا اكتفينا اكتفينا و حينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها و تنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل و القدم لا أن الله جسم من الأجسام تعالى الله عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيرا
و العرب تعبر عن جماعة و الجراد بالرجل فتقول جاءنا رجل من جراد و رجل من الناس أي جماعة منهم و الجمع : أرجل
و يشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث : و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنهم فصل الجنة و في الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء و الصفات أشبهها ما ذكرناه و في التنزيل { أن لهم قدم صدق عند ربهم } قال ابن عباس : المعنى منزل صدق و قال الطبري : معنى { قدم صدق عند ربهم } عمل صالح و قيل : هو السابقة الحسنة فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة و الله الموفق
قال ابن فورك و قال بعضهم : القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدما و يضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ النار منه و الله أعلم
قلت : و هذا نحو مما قلناه في الرجل قال الشاعر :
( فمر بنا رجل من الناس و انزوى ... إليهم من الحي اليماني أرجل )
( قبائل من لخم و عك و حمير على ... ابني نزار بالعداوة أحفل )
و قال آخر :
( يرى الناس أفواجا إلى باب داره ... كأنهم رجلا دبا و جراد )
( فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... و يوم رقاب بوكرت بحصاد )
الدبا : الجراد قبل أن يطير و الله أعلم
باب ذكر آخر من يخرج من النار و آخر من يدخل الجنة و في تعيينه و تعيين قبيلته و اسمه
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها و آخر أهل النار دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله تعالى اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله : اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول : يا رب وجدتها ملأى فيقول : اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا و عشرة أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا قال فيقول أتسخر بي ؟ أو أتضحك بي و أنت الملك ؟ قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه قال : فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة ]
و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة و يكبو مرة و تسفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين و الآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها و أشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ! و يعاهد أن لا يسأله غيرها و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها و يشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول : أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها و أستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول : يا ابن آدم : لعلي إن أديتك منها تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فإذا منها ترفع له شجرة عند باب الجنة أحسن من الأوليين فيقول مثله فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول : أي رب أدخلينها فيقول : يا ابن آدم ما يصريني منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا و مثلها معها ؟ فيقول : أي رب أتستهزئ بي و أنت رب العالمين ؟ فضحك ابن سمعود فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا مم تضحك ؟ قال : هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين فيقول : إني لا أستهزئ منك و لكني على ما أشاء قادر ]
و قال ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة تقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين ] ذكره الميانشي أبو حفص عمر ابن عبد المجيد القرشي في كتاب الاختيار له في الملح من الأخبار و الآثار
و رواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب [ من حديث عبد الملك بن الحكم قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة فيقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين سلوه هل بقي من الخلائق أحد ] ؟ و رواه الدراقطني أيضا في كتاب رواه مالك ذكره السهيلي و قد قيل : إن اسمه هناد و الله أعلم
فصل : قوله : أتستهزئ مني ؟ ـ و في رواية : أتسخر ؟ ـ و الهزوء و السخرية بمعنى واحد و فيه تأويلان
أحدهما : أنه صدر منه هذا القول عند غلبة الفرح عليه و استخفافه إياه كما غلط الذي قال : [ اللهم أنت عبدي و أنا ربك ] خرجه مسلم
الثاني : أن يكون معناه : أتجازيني على ما كان مني في الدنيا من قلة احتفالي بأعمالي و عدم مبالاتي بها ؟ فيكون هذا على وجه المقابلة كما قال الله تعالى مخبرا عن المنافقين { إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم } أي ينتقم منهم و يجازيهم على استهزائهم و الاستهزاء في اللغة : الانتقام قال الشاعر :
( قد استهزءوا منهم بألفي مدجج ... سراتهم وسط الضحاضح جثم )
و مثله : { و مكروا و مكر الله } الآية و هو كثير و سيأتي لبيان الاستهزاء من الله مزيد بيان و الضحك من الله تعالى راجع إلى معنى الرضى عن العبد فاعلم ذلك
باب منه و ما جاء في خروج الموحدين من النار و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان و بيان قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة و في أحوال أهل النار
خرج الطبراني أبو القاسم قال : [ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا محمد بن عباد المكي حدثنا حاتم بن إسماعيل بن بسام الصيرفي عن يزيد الفقير عن رجل عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم تخالفوننا فيه من تصديقكم و إيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ]
و روى أبو ظلال [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عبدا في جهنم ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل : إئت عبدي فلانا فينطلق جبريل عليه السلام فيرى أهل النار منكبين على وجوههم قال فيرجع فيقول : يا رب لم أره فيقول الله تعالى : إنه في مكان كذا و كذا قال : فيأتيه فيجيء به فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك و مقيلك ؟ قال : فيقول : شر مكان و شر مقيل قال فيقول : ردوا عبدي قال فيقول : يا رب ما كنت أرجو أن تردني إذا أخرجتني منها فيقول الله تعالى : دعوا عبدي ]
و أبو ظلال هذا اسمه هلال بن أبي مالك القسملي يعد في البصريين
و عن سعيد بن جبير قال : إن في النار لرجلا ـ أظنه في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام يا حنان يا منان فيقول رب العزة لجبريل : يا جبريل أخرج عبدي من النار فيأتيها فيجدها مطبقة فيرجع فيقول : يا رب إنها عليهم موصدة فيقول : يا جبريل ارجع ففكها فاخرج عبدي من النار فيفكها فيخرج مثل الخيال فيطرحه على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعرا و لحما و دما ذكره أبو نعيم
و روى ليث [ عن مجاهد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إنما الشافعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ] الحديث و قد تقدم و فيه بعده
قوله : و أطولهم مكثا من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة
ثم إن الله أراد أن يخرج الموحدين منها قذف في قلوب أهل الأديان فقالوا لهم : كنا و أنتم و آباؤنا جميعا في الدينا فآمنتم و كفرنا و صدقتم و كذبنا و أقررتم و جحدنا فما أغنى ذلك عنكم نحن و أنتم اليوم فيها سواء تعذبون كما نعذب و تخلدون فيها كما نخلد فيغضب الله عند ذلك غضبا شديدا لم يغضب مثله من شيء فيما مضى و لا يغضب من شيء فيما بقي فيخرج أهل التوحيد منها إلى عين بين الجنة و النار و الصراط يقال لها : نهر الحياة فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل فما يلي الظل منها أخضر و ما يلي الشمس منها أصفر ثم يدخلون الجنة فيكتب على جباههم : هؤلاء عتقاء الله من النار إلا رجلا واحدا يمكث فيها ألف سنة ثم ينادي : يا حنان يا منان فيبعث الله إليه ملكا فيخوض في النار في طلبه سبعين عاما لا يقدر عليه ثم يرجع فيقول : إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلانا من النار منذ سبعين عاما فلم أقدر عليه فيقول الله تعالى : انطلق فهو في وادي كذا تحت صخرة فأخرجه فيذهب فيخرجه منها فيدخله الجنة
ثم أن الجهنميين يطلبون من الله تعالى أن يمحو عنهم ذلك الاسم فيبعث الله ملكا فيمحوه عن جباههم
ثم أن يقال لأهل الجنة و من دخلها من الجهنميين : اطلعوا إلى أهل النار فيطلعون إليهم فيرى الرجل أباه و يرى جاره و صديقه و يرى العبد مولاه ثم إن الله تعالى يبعث إليهم الملائكة بأطباق من نار و مسامير من نار و عمد من نار : فتطلق عليهم بتلك الأطباق و تشد بتلك المسامير و تمد بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح و لا يخرج منه غم و ينساهم الرحمن على عرشه و يتشاغل أهل الجنة بنعيمهم و لا يستغيثون بعدها أبدا و ينقطع فيكون كلامهم زفيرا و شهيقا فذلك قوله تعالى { إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة } و قال ابن مسعود : في عمد أي بعمد و كذا في مصحفه إنها عليهم مؤصدة بعمد
و خرج أبو نعيم الحافظ عن زاذان قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة فصاروا صفوفا فيقول الله لجبريل : إئت بجهنم فيجيء بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرة زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر و تذهب العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى إن إبراهيم الخليل يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي و يقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي و يقول عيسى : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني و محمد صلى الله عليه و سلم يقول : أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي إنما أسألك أمتي
قال : فيجيبه الجليل جل جلاله : إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فوعزتي و جلالي لأقرن عينك في أمتك ثم يقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون به فيقول لهم تعالى و تقدس : معاشر الزنابية انطلقوا بالمصرين من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى النار فقد اشتد غضبي عليهم بتهاونهم بأمري في دار الدنيا و استخفافهم بحقي و انتهاكهم حرمي يستخفون من الناس و يبارزونني مع كرامتي لهم و تفضيلي إياهم على الأمم و لم يعرفوا فضلي و عظيم نعمتي فعندها تأخذ الزبانية بلحى الرجال و ذوائب النساء فينطلق بهم إلى النار و ما من عبد يساق إلى النار من غير هذه الأمة إلا مسود وجهه قد وضعت الأنكال في رجليه و الأغلال في عنقه إلا من كان من هذه الأمة فإنهم يساقون بألوانهم فإذا وردوا على مالك قال لهم : معاشر الأشقياء من أي أمة أنتم ؟ فما ورد علي أحسن وجوها منكم ! فيقولون : يا مالك نحن من أمة القرآن فيقول لهم : يا معشر الأشقياء أو ليس القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ؟
قال : فيرفعون أصواتهم بالنحيب و البكاء فيقولون : وامحمداه ! وامحمداه ! وامحمداه ! اشفع لمن أمر به إلى النار من أمتك
قال : فينادي مالك بتهدد و انتهار : يا مالك من أمرك بمعاتبة أهل الشقاء و محادثتهم و التوقف عن إدخالهم العذاب ؟ يا مالك لا تسود وجوههم فقد كانوا يسجدون لي في دار الدنيا يا مالك : لا تغلهم بالأغلال فقد كانوا يغتسلون من الجنابة يا مالك ! لا تعذبهم بالأنكال فقد طافوا بيتي الحرام يا مالك لا تلبسهم القطران فقد خلعوا ثيابهم للإحرام يا مالك مر النار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرأون القرآن يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم فالنار أعرف بهم و بمقادير استحقاقهم من الوالدة بولدها فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذه النار إلى سرته و منهم من تأخذه إلى صدره و منهم دون ذلك فإذا انتقم الله عز و جل منهم على قدر كبائرهم و عتوهم و إصرارهم فتح بينهم و بين المشركين بابا فرأوهم في الطبق الأعلى من النار لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا يبكون و يقولون : يا محمداه ارحم من أمتك الأشقياء و اشفع لهم فقد أكلت النار لحومهم و دماءهم و عظامهم ثم ينادون : يا رباه يا سيداه ارحم من لم يشرك بك في دار الدنيا و إن كان قد أساء و أخطأ و تعدى فعندها يقول المشركون : ما أغنى عنكم إيمانكم بالله و بمحمد شيئا فيغضب الله تعالى لذلك فعندها يقول : يا جبريل انطلق فاخرج من في النار من أمة محمد فيخرجهم ضبائر قد امتحشوا فيلقيهم على نهر على باب الجنة يقال له نهر الحياة فيمكثون حتى يعودوا أنضر ما كانوا ثم يأمر بإدخالهم الجنة مكتوبا على جباههم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيعرفون من بين أهل الجنة بذلك فيتضرعون إلى الله عز و جل أن يمحو عنهم تلك السمة فيمحوها الله تعالى عنهم فلا يعرفون بها بعد ذلك أبدا
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار و كل شيطان و كل من يخاف الناس شره في الدنيا فيوثقون بالحديد ثم أمر بهم إلى النار ثم أوصدها عليهم أي أطبقها فلا و الله لا تستقر أقدامهم على قرارها أبدا لا و الله ما ينظرون إلى أديم سماء أبدا : و لا و الله لا تلتقي جفونهم على غمض نوم و لا و الله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا
قال : ثم يقال لأهل الجنة : يا أهل الجنة افتحوا اليوم الأبواب فلا تخافوا شيطانا و لا جبارا و كلوا اليوم و اشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية قال أبو عمران : إذا هي و الله يا إخوتاه أيامكم هذه
فصل : قوله : فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و جاء في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم ثم يقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء و المعنى واحد و النبات معروف و هو خروج الشيء : و الحبة بكسر الحاء بذور البقول و حميل السيل : ما احتمله من طين و غشاء فإذا اتفق أن يكون فيه حبة فإنها تنبت في يوم و ليلة و هي أسرع نابتة نباتا فشبه النبي صلى الله عليه و سلم سرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة و في التنزيل : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } و تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم
و قوله : و أطولهم مكثا من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة
اختلف في انقضاء هذا العالم و في مدة الدنيا و أكثر المنجمون في ذلك فقال بعضهم : عمر الدنيا سبعة آلاف بعدد النجوم السيارة لكل واحد ألف سنة و قال بعضهم : بأنها إثنتا عشر ألف بعدد البروج لكل برج ألف سنة و قال بعضهم : ثلاثمائة و ستون ألف سنة بعدد درجات الفلك لكل درجة ألف سنة
و قوله : إلا رجلا واحدا يمكث فيها ألف سنة ثم ينادي : يا حنان يا منان الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه و المنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال سبحانه و تعالى لا إله إلا هو روي ذلك عن علي رضي الله عنه و قد ذكرنا في ذلك في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا مستوفى و الحمد لله و قد تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم عنهم فلا معنى لإعادته
و قوله : و ينساهم على عرشه أي يتركهم في العذاب كما قال { نسوا الله فنسيهم } أي تركوا عبادته و توحيده فتركهم و العرش في كلام العرب له محامل كثيرة قد أتينا عليها في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى منها الملك كما قال زهير :
( تداركتما عبسا و قد ثل عرشها ... و ذبيان إذ زلت بأقدامها النعل )
و قال آخر :
( بعد ابن جفنة و ابن هاتاك عرشـ ... و الحارثين يؤملون فلاحا )
و تقول العرب : ثل عرش فلان إذا ذهب عزه و سلطانه و ملكه فالمعنى و ينساهم الرحمن على عرشه أي : بما هو عليه من الملك و السلطان و العظمة و الجلال لا يعبأ بهم و لا يلتفت إليهم لما حكم به في الأزل عليهم من خلودهم في النار و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
و أجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها : كإبليس و فرعون و هامان و قارون و كل من كفر و تكبر و طغى فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيا و قد وعدهم الله عذابا أليما فقال عز و جل { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } و أجمع أهل السنة أيضا على أنه لا يبقى فيها مؤمن و لا يخلد إلا كافر جاحد فاعلم
قلت : و قد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم و العلماء فقال : إنه يخرج النار كل كافر و مبطل و جاحد و يدخل الجنة فإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب فيعكس عليه فيقال : و كذلك جائز في العقل أن تنقطع صفة الرحمة فيلزم عليه أن يدخل الأنبياء و الأولياء النار يعذلون فيها و هذا فاسد مردود بوعده الحق و قوله الصدق قال الله تعالى في حق أهل الجنان : { عطاء غير مجذوذ } أي : غير مقطوع و قال { و ما هم منها بمخرجين } و قال : { لهم أجر غير ممنون } و قال : { لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا } و قال في حق الكافرين { و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } و قال : { فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون } و هذا واضح و بالجملة فلا مدخل للمعقول فيما اقتطع أصله الإجماع و الرسول { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
باب منه ـ و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان و بيان قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون
ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } قال : يقال لأهل النار و هم في النار : اخرجوا فتفتح لهم أبواب النار فإذا انتهوا إلى أبوابهم أغلقت دونهم فذلك قوله عز و جل { الله يستهزئ بهم } و يضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله عز و جل { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون }
قال ابن المبارك و أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } قال : ذكر لنا أن كعبا كان يقول : إن الجنة و النار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا أطلع من بعض الكوى قال الله سبحانه و تعالى في آية أخرى { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } قال : ذكر لنا أنه يطلع فيرى جماجم القوم تغلي
أخبرنا معمر عن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله عز و جل عرفه إياه ما عرفه لقد تغير حبره و سبره فعند ذلك يقول : { تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } في النار
و الحبر و السبر : اللون و الهيئة من قولهم : جاءت الإبل حسنة الأحبار و الأسبار قاله الفراء و قال الأصمعي : هو البهاء و الجمال و أثر النعمة يقال فلان حسن الحبر و السبر إذا كان جميلا حسن الهيئة قال ابن أحمد :
( لبسنا حبرة حتى اقتضينا ... لآجال و أعمار قضينا )
و يقال أيضا : فلان حسن الحبر و السبر بالفتح و هذا كله مصدر قولك : حبرته تحبيرا و الأول اسم و تحبير الخط و الشعر و غيرهما تحسبينه و تزيينه
باب منه
روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المستهزئين بعباد الله في الدنيا تفتح لهم أبواب الجنة يوم القيامة يقال لهم : ادخلوا الجنة فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم و تفتح الثانية فيقال لهم : ادخلوا الجنة فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم : و تفتح لهم الثالثة فيدعون فلا يجيبون قال فيقول لهم الرب أنتم المستهزئون بعبادي ؟ أنتم آخر الناس حسابا فيقومون حتى يغرقوا في عرقهم فينادون : يا ربنا إما صرفتنا إلى جهنم و إما إلى رضوانك ]
باب منه
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤمر يوم القيامة بأناس إلى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما رأيتنا من ثوابك و ما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال : ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس و لم تهابوني و أجللتم الناس و لم تجلوني و تركتم للناس و لم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب ] ذكره أبو حامد رحمه الله
باب ما جاء في ميراث أهل الجنة منازل أهل النار جاء في الخبر [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة و مسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم و يرثون منازل الكفار و تجعل الكفار في منازلهم من النار ]
و خرجه ابن ماجه بمعناه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا له منزلان : منزل في الجنة و منزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى { أولئك هم الوارثون } ] إسناده صحيح
قلت : و هذا بين في أن لكل إنسان منزلا في الجنة و منزلا في النار كما تقدم و قد قال ها هنا : ما منكم فخاطب أصحابه الكرام المنزهين عن الذنوب العظام الموجبة للنيران رضي الله عنهم و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب الجنان إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في خلود أهل الدارين و ذبح الموت على الصراط و من يذبحه البخاري [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و أهل النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة و النار ثم يذبح ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم و يزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ]
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار يجاء يوم القيامة بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة و النار فيقال يا أهل الجنة : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون فيقولون : نعم ! هذا الموت قال ثم يقال : يا أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون فيقولون : نعم ! هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت فيها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون } و أشار بيده إلى الدنيا ]
و أخرجه أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال : إذا كان يوم القيامة أتى بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة و النار فيذبح و هم ينظرون فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة و لو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار قال : هذا حديث حسن صحيح
و ذكر ابن ماجه في حديث فيه طول [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال : هل تعرفون هذا ؟ قالوا : نعم ! هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كليهما : خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا ]
خرجه الترمذي بمعناه مطولا [ عن أبي هريرة أيضا و فيه : فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة و أهل النار النار أتى بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين الجنة و بين النار ثم يقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين ثم يقال : يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة و أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيقول هؤلاء و هؤلاء : عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضطجع فيذبح ذبحا على السور ثم يقال يا أهل الجنة : خلود لا موت و يا أهل النار خلود لا موت ] قال هذا حديث حسن صحيح
فصل : قلت : هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها لا إلى غاية و لا إلى أمد مقيمين على الدوام و السرمد من غير موت و لا حياة و لا راحة و لا نجاة بل كما قال في كتابه الكريم و أوضح فيه من عذاب الكافرين { و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * و هم يصطرخون فيها } إلى قوله { من نصير } و قال { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } و قال { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } و قد تقدمت هذه المعاني كلها
فمن قال : إنهم يخرخون منها و أن النار تبقى خالية و بجملتها خاوية على عروشها و أنها تفنى و تزول فهو خارج عن مقتضى المعقول و مخالف لما جاء به الرسول و ما أجمع عليه أهل السنة و الأئمة العدول
{ و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا } و إنما نخلى جهنم و هي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد و هي التي ينبت على شفيرها فيما يقال الجرجير قال فضل بن صالح المعاقري : كنا عند مالك بن أنس ذات يوم فقال لنا انصرفوا : فلما كان العشية رجعنا إليه فقال : إنما قلت لكم انصرفوا لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم ؟ فقلت له : لا بأس به فقال : أستودعك الله و اقرأ عليك السلام ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله
و ذكر أبو بكر البزار عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : يأتي على النار زمان تنفق الرياح أبوابها ليس فيها أحد يعني من الموحودين هكذا رواه موقوفا من قول عبد الله بن عمرو و ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و مثله لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع
فصل : قد تقدم أن الموت معنى و الكلام في ذلك و في الأعمال و أنها لا تنقلب جوهرا بل يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال و كذلك الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت و يلقي في قلوب الفريقين أن هذا هو الموت و يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين
قال الترمذي : و المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة رضي الله عنهم مثل سفيان الثوري و مالك بن أنس و ابن المبارك و ابن عيينة و وكيع و غيرهم أنهم رووا هذه الأشياء و قالوا : و نروي هذه الأحاديث و لا يقال : كيف ؟ و هذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء و يؤمن بها و لا تفسر و لا تتوهم ؟ و لا يقال : كيف و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه
قال المؤلف رحمه الله : و إنما يؤتى بالموت كالكبش و الله أعلم لما جاء أن ملك الموت أتى آدم عليه السلام في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح على ما تقدم أول الكتاب في باب : [ ما جاء في صفة ذلك الموت عند قبض روح المؤمن و الكافر ]
و في التفسير من سورة الملك عن ابن عباس و مقاتل و الكلبي في قوله { الذي خلق الموت و الحياة } أن الموت و الحياة جسمان فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء و لا يجد ريحه إلا مات و خلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء و هي التي كان جبريل و الأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوط مد البصر فوق الحمار و دون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي و لا تطأ على شيء إلا حيي و هي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي حكاه الثعلبي و القشيري عن ابن عباس و الماوردي عن مقاتل و الكلبي
و معنى يشرئبون : يرفعون رؤوسهم و الأملح : من الكباش الذي يكون فيه بياض و سواد و البياض أكثر قاله الكسائي و قال ابن الأعرابي : و هو النقي البياض
و ذكر صاحب خلع النعلين : أن هذا الكبش المذبوح بين الجنة و النار أن الذي يتولى ذبحه يحيى بن زكريا عليهما السلام بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم و بأمره الأكرم و ذكر في ذبحه كلاما مناسبا لحياة أهل الجنة و حياة أهل النار و ذكر صاحب كتاب العروس : أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام فالله أعلم
تم كتاب النار بحمد الله العزيز الغفار أجارنا الله منها بمنه بفضله و كرمه و لا رب غيره
بسم الله الرحمن الرحيم ـ أبواب الجنة و ما جاء فيها و في صفتها و نعيمها وصف الله تعالى الجنات في كتابه وصفا يقوم العيان في غير ماسورة من القرآن و أكثر ذلك في سورة الواقعة و الرحمن و هل أتاك حديث الغاشية و سورة الإنسان و ذلك أيضا نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بأوضاح بيان فنذكر من ذلك ما بلغنا في الأخبار الصحاح و الحسان و عن السلف الصالح أهل الفضل و الإحسان رضي الله عنهم و حشرنا معهم آمين
ذكر ابن وهب قال : [ و حدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليقرأ { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } و قد أنزلت عليهو عنده رجل أسود قد كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال له عمر بن الخطاب : حسبك لا تثقل على النبي صلى الله عليه و سلم قال : دعه يا ابن الخطاب قال : فنزلت عليه هذه السورة و هو عنده فلما قرأها عليه و بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أخرج نفس صاحبكم أو أخيكم الشوق إلى الجنة ]
باب صفة أهل الجنة في الدنيا قال ابن وهب سمعت ابن زيد يقول : وصف الله أهل الجنة بالمخافة و الحزن و البكاء و الشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم و السرور في الآخرة و قرأ قول الله عز و جل { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } قال : و وصف أهل النار بالسرور في الدنيا و الضحك فيها و التفكه فقال : { إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى } و قد تقدم من صفة أهلها ما فيه كفاية و الحمد لله وحده
باب منه ـ و هل تفضل جنة جنة ؟ قال الله تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } ثم وصفهما ثم قال بعد ذلك { ومن دونهما جنتان } و عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } أي بعد أداء الفرائض جنتان قيل : على حدة فلكل خائف جنتان و قيل : جنتان لجميع الخائفين و الأول أظهر قال الترمذي محمد بن علي : جنة لخوفه من ربه و جنة لتركه لشهوته و المقام الوضيع أي : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية و قيل : خاف قيام ربه عليه أي : إشرافه و اطلاعه عليه بيانه : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }
و قال مجاهد و النخعي : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه
و روي [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الجنتان بستنان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور على نور و ليس منها شيء إلا يهتز نعمة و خضرة قرارها ثابت و شجرها نابت ] ذكره الهروي و الثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة و قيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور و الأخرى أعاليها و قال مقاتل : هما جنة عدن و جنة النعيم
و قوله { و من دونهما جنتان } قال ابن عباس : أي و له من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان قال ابن عباس : و من دونهما أي في الدرج و الجنات لمن خاف مقام ربه فيكون في الأوليين النخل و الشجر و في الأخريين : الزرع و النبات و ما انبسط
قال الماوردي : و يحتمل أن يكون { و من دونهما جنتان } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته إحداهما للحور العين و الأخرى للولدان المخلدين ليتميز فيها الذكور من الإناث
و قال ابن جريج هي أربع جنان : جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان و عينان تجريان و جنتان لأصحاب اليمين فيهما فاكهة و نحل و رمان و فيهما عينان تضاختان و قال ابن زيد : الأوليان من ذهب للمقربين و الأخريان من ورق لأصحاب اليمين
قال المؤلف رحمه الله : و إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له و احتج لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس { و لمن خاف مقام ربه جنتان } إلى قوله { مدهامتان } قال : هاتان للمقربين و هاتان لأصحاب اليمين و عن أبي موسى الأشعري نحو ذلك
و لما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما : فقال في الأولين { فيهما عينان تجريان } و في الأخريين { فيهما عينان نضاختان } أي فوارتان بالماء لكنهما ليستا كالجاريتين لأن النضخ دون الجري و قال { فيهما من كل فاكهة زوجان } معروف و غريب أو رطب و يابس فعم و لم يخص و في الأخريين { فيهما فاكهة و نخل و رمان } و لم يقل من كل فاكهة و قال في الأوليين { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } و هو الديباج و في الأخريين { متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان }
و العبقري : الوشي و لا شك أن الديباج أعلى من الوشي و الرفرف كسر الخباء و لا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء و قال في الأولييم في صفة الحور العيم { كأنهن الياقوت و المرجان } و في الأخريين { فيهن خيرات حسان } و ليس كل حسن كحسن الياقوت و المرجان و قال في الأوليين { ذواتا أفنان } و في الأخريين { مدهامتان } أي خضروان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان و وصف الأوليين بكثرة الأغصان و الأخريين بالخضرة وحدها و في هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدناه قوله { و من دونهما جنتان } و لعل ما لم يذكره من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر
فإن قيل كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين ؟ قال : الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى و الجنتان الأخريان لمن قصر حاله في الخوف من الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله : فهذا قول و القول الثاني أن الجنتين في قوله تعالى : { و من دونهما جنتان } أعلى و أفضل من الأوليين ذهب إلى هذا الضحاك و أن الجنتين الأوليين من ذهب و فضة و الأخريين من ياقون و زمرد
و قوله : { و من دونهما جنتان } أي و من أمامهما و من قبلهما و إلى هذا القول ذهب أبو عبد الله محمد الترمذي الحكيم في : نوادر الأصول و قال : و معنى { و من دونهما جنتان } أي دون هاتين إلى العرش أي أقرب و أدنى إلى العرض و قال مقاتل الجنتان الأوليان : جنة عدن و جنة النعيم و الأخريان جنة الفردوس و جنة المأوى
قال المؤلف رحمه الله : و يدل على هذا قوله عليه الصلاة و السلام : [ إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ] الحديث و سيأتي قال الترمذي : و قوله { فيهما عينان نضاختان } أي بألوان الفواكه و النعيم و الجواري المزينات و الدواب المسرجات و الثياب الملونات و هذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري
قال المؤلف رحمه الله : على هذا تدل أقوال المفسرين : روي عن ابن عباس نضاختان : أي فوارتان بالماء و النضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء و عنه أيضا أن المعنى نضاختان بالخير و البركة قاله الحسن و مجاهد و عن ابن عباس أيضا و ابن مسعود : تنضخ على أولياء بالمسك و الكافور و العنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر و قال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه و الماء
و قوله : فيهما { فاكهة و نخل و رمان } قال بعض العلماء : ليس الرمان و النخل من الفاكهة لأن الشيء لا يعطف على نفسه و هذا ظاهر الكلام و قال الجمهور : هما من الفواكه و إنما أعاد ذكر النخل و الرمان لفضلهما على الفواكه كقوله تعالى { حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى } و قوله { من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال } و قيل إنما كررهما لأن النخل و الرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا لأن النخل عامة قوتهم و الرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليها و كانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها و إنما ذكر الفواكه ثم ذكر النخل و الرمان لعمومها و كثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاهما من بلاد اليمين فأخرجهما في الذكر من الفواكه و أفرد الفواكه على حدتها
و قوله : { فيهن خيرات حسان } يعني النساء و الواحدة خيرة قاله الترمذي : الخيرة ما اختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره و اختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين ثم قال حسان فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الشيء شيئا بالحسن فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن ؟ فانظر ما هنالك و في الأوليين ذكر بأنهن قاصرات الطرف و كأنهن الياقوت و المرجان فانظركم بين الخيرة و هي مختارة الله و بين قاصرات الطرف ؟ ثم قال { حور مقصورات في الخيام } و قال في الأوليين : { فيهن قاصرات الطرف } قصران طرفهن على الأزواج و لم يذكر أنهن مقصورات : فدل على أن المقصورات أعلى و أفضل
و قد بلغنا في الرواية : أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا و ليس لها باب حتى إذا حل ولى الله بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة و الخدم لم تأخذها و هي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين و الله أعلم
ثم قال : { متكئين على رفرف خضر } اختلف في الرفرف ما هو ؟ فقيل : كسر الخباء و جوانب الدرع و ما تدلى منها الواحدة رفرفة و قيل : الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به و أهوى به كالمرجاج يمينا و شمالا و رفعا و خفضا يتلذذ به مع أنيسته و اشتقاقه على هذا من رف يرف إذا ارتفع و منه رفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء و ربما سمي الظليم رفرفا بذلك لأنه يرف بجناحيه ثم يعدو و رفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه
قال الترمذي الحكيم : فالرفرف أعظم خطرا من العرش و ذكر في الأوليين : { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } و قال هنا { متكئين على رفرف خضر } فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار هكذا و هكذا حيث ما يريد كالمرجاح
و روي لنا [ حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل و طار به إلى سند العرش فذكر أنه طار بي و يخفضني و يرفعني حتى وقف بي على ربي ثم لما حان الأنصراف تناوله فطار به خفضا و رفعا يهوي به حتى أدله إلى حبريل صلوات الله عليهما ] و جبريل يبكي و يرفع صوته بالتحميد و الرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو و القربة كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء صلوات الله عليهم مخصوصة بذلك في أرضه فهذا الرفرف الذي سخره الله لأجل الجنتين الدانيتين هو متكأهما و فرشهما يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار و شطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان
ثم قال : { و عبقري حسان } و العبقري : ثياب منقوشة تبسط فإذا قال خالق النقوش : إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر و العبقري : قرية من ناحية اليمن فيما بلغنا ينسج فيها بسط منقوشة فذكر الله ما خلق في تلك الجنتين من البسط المنقوشة الحسان و الرفرف الخضر إنما ذكر لهم من الجنان ما يعرفون أسماءها هنا فبان تفاوت هاتين الجنتين
و قد روي عن بعض السلف : فإذا هو يشير إلى أن هاتين الجنتين من دونهما أي أسفل منهما وادون : فكيف يكون مع هذه الصفة أدون فحسبته لم يفهم الصفة ذكره في الأصل التاسع و الثمانين من كتاب : نوادر الأصول
فصل : لما قال الله تعالى سبحانه و تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قال : { و من دونهما جنتان } دل على أن الجنان أربع لا سبع على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
باب صغة الجنة و نعيمها و ما أعد الله لأهلها فيها مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى عز و جل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتكم عليه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] بله : بمعنى : غير و قيل : اسم من أسماء الأفعال بمعنى دع
ابن ماجه [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذات يوم لأصحابه : ألا مشمر للجنة ؟ بأن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ و ريحانة تهتز و قصر مشيد و نهر مطرد و فاكهة كثيرة نضيجة و زوجة حسناء جميلة و حلل كثيرة في مقام أبد في جدة و نضرة في دار عالية سليمة بهية قالوا : نحن المشمرون لها يا رسول الله قال : قولوا إن شاء الله ثم ذكر الجهاد و حض عليه ]
الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء قلت : الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من فضة و لبنة من ذهب بلاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران من دخلها ينعم لا ييأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] ذكر الحديث قال ليس إسناده ذلك بالقوي و ليس هو عندي بمتصل و قد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال المؤلف رحمه الله : خرجه أبو داود الطيالسي في سنده قال : [ حدثنا إبراهيم بن معاوية عن سعيد الطائي قال : حدثني أبو المدله مولى أم المؤمنين أنه سمع أبا هريرة يقول : قلنا يا رسول الله لماذا كنا عندك رقت قلوبنا و كنا من أهل الآخرة فإذا فارقناك و شممنا النساء و الأولاد أعجبتنا الدنيا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنكم تكونون إذ فارقتموني كما تكونون عندي لصافتحكم الملائكة بأكفها و لزارتكم في بيوتكم و لو كنتم لا تذنبون لجاؤ الله بقوم يذنبون كي يستغفروا فيغفر لهم قلنا : يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و بلاطها المسك الأذفر و حصباؤهما الدر و الياقوت و ترابها الزعفران من يدخلها يبقى لا ييأس و يخلد لا يموت و لا تبلى ثيابه و لا يفنيى شبابه ]
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابن صياد : ما تربة الجنة ؟ قال : درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم قال : صدقت ]
و عنه أن [ ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تربة الجنة فقال : ما درمكة بيضاء مسك خالص ]
ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن العلاء بن يزيد عن أبي هريرة قال : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و درجها اللؤلؤ و الياقوت قال : و كنا نحدث أن رضاختها اللؤلؤ و ترابها الزعفران
قلت : كل هذا مرفوع حسب ما تقدم في هذا الباب و يأتي
باب ما جاء في أنهار الجنة و جبالها و ما جاء في الدنيا منها قال الله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن لم يتغير طعمه و أنهار من خمر لذة للشاربين و أنهار من عسل مصفى } و روي أنها تجري في غير أخدود منضبطة بالقدرة
و يروي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أنهار في الجنة تخرج من تحت تلال أو جبال مسك ] ذكره العقيلي
و ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : [ حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس قال : حدثني كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله أربعة جبال من جبال الجنة و أربعة أنهار من أنهار الجنة و أربعة ملاحم من ملاحم الجنة قيل فمن الأجبل ؟ قال : جبل أحد يحبنا و نحبه و الطور : جبل من جبال الجنة و لبنان : جبل من جبال الجنة و الجودي : جبل من جبال الجنة و الأنهار : النيل و الفرات و سيحان و جيحان و الملاحم : بدر و أحد و الخندق و خيبر ]
و بالسند المذكور قال : [ غزونا مع النبي صلى الله عليه و سلم أول غزوة غزاها الأبواء حتى إذا كنا بالروحاء نزل بعرق الظبية فصلى بهم ثم قال : هل تدرون ما اسم هذا الجبل ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : هذا خصيب جبل من جبال الجنة اللهم فبارك فيه و بارك لأهله و قال : للروحاء : هذه سجاسج واد من أودية الجنة لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا و لقد مر بها موسى عليه السلام عليه عباءتان قطونيتان على ناقة ورد في سبعين ألفا من بني إسرائيل حتى جاء البيت العتيق ] الحديث و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى
الترمذي [ عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة بحر الماء و بحر اللين و بحر العسل و بحر الخمر ثم تنشق الأنهار بعد ذلك ] قال : أبو عيسى : هذا حديث صحيح و حكيم بن معاوية هو والد بهز بن حكيم
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سيحان و جيحان و النيل و الفرات كل من أنهار الجنة و قال كعب : نهر دجلة نهر بالجنة و نهر الفرات نهر لبنهم و نهر مصر نهر خمرهم و نهر سيحان نهر عسلهم و هذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر ]
و ذكر البخاري من طريق شريك [ عن أنس في حديث الإسراء فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : ما هذان يا جبريل ؟ قال : النيل و الفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ و الزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر قال : ما هذا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ]
باب منه و ما جاء في رفع هذه الأنهار آخر الزمان عند خروج يأجوج و مأجوج و رفع القرآن و العلم
ذكر أبو جعفر النحاس قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس [ عن جامع بن سوادة قال حدثنا سعيد بن سابق حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنزل الله عز و جل إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون و هو نهر الهند و جيحون و هو نهر بلخ و دجلة و الفرات و هما نهر العراق و النيل و هو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال و أجراها في الأرض و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم و ذلك قوله جل ثناؤه : { و أنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج و مأجوج أرسل الله جبريل رفع من الأرض القرآن و العلم و جميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : { و إنا على ذهاب به لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا و الدين ]
قلت : رفع القرآن عند خروج يأجوج و مأجوج فيه نظر و سيأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى
و روي عن المسعودي أنه قال : مد الفرات على عهد ابن مسعود فكره الناس مده فقال ابن مسعود : لا تكرهوا مده فإنه سيأتي زمان يلتمس فيه طست مملوء من ماء فلا يوجد و ذلك حين يرجع كل ماء إلى عنصره فيكون بقية الماء و العيون بالشام و سيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى
باب من أين تفجر أنهار الجنة ؟ البخاري [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من آمن بالله و رسوله و أقام الصلاة و صام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله : أفلا نبشر الناس ؟ قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء و الأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة و أعلى الجنة و فوقه عرش الرحمن و منه تفجر أنهار الجنة ]
خرجه ابن ماجه أيضا و غيره
و قال أبو حاتم البستي : معنى قوله : فإنه أوسط الجنة يريد في الارتفاع و قال قتادة : الفردوس ربوة الجنة و أوسطها و أعلاها و أفضلها و أرفعها
و قد قيل : إن الفردوس اسم يشمل جميع الجنة كما أن جهنم اسم لجميع النيران كلها لأن الله تعالى مدح في أول سورة المؤمنين أقواما وصفهم ثم قال : { هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } ثم أعاد ذكرهم في سورة المعارج فقال : { أولئك في جنات مكرمون } فعلمنا أن الفردوس جنات لا جنة واحدة قاله وهب بن منبه
باب ما جاء أن الخمر شراب أهل الجنة و من شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة و في لباس أهل الجنة و آنيتهم
النسائي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و من شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة و من شرب في آنية الذهب و الفضة لم يشرب بها في الآخرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لباس أهل الجنة و شراب أهل الجنة و آنية أهل الجنة ]
قلت : إن قال قائل : قد سوى النبي صلى الله عليه و سلم بين الأشياء الثلاثة و أنه يحرمها في الآخرة فهل يحرمها إذا دخل الجنة ؟ قلنا : نعم ! إذا لم يتب منها لقوله عليه الصلاة و السلام : [ من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ] خرجه مالك [ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك لابس الحرير و من أكل في آنية الذهب و الفضة أو شرب فيها لاستعجاله ما أخر الله له في الآخرة و ارتكاب ما حرم الله عليه في الدنيا ]
و قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و إن دخل الجنة لبسه أهل الجنة و لم يلبسه هو ] و هذا نص صريح و إسناد صحيح فإن كان و إن دخل الجنة لبسه أهل الجنة و لم يلبسه من قوله النبي صلى الله عليه و سلم فهو الغاية في البيان و إن كان من قول الراوي على ما ذكر أنه موقوف فهو أعلم بالمقال و أقعد بالحال و مثله لا يقال من جهة الرأي و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان
باب ما جاء في أشجار الجنة و في ثمارها و ما يشبه ثمر الجنة في الدنيا الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر اقرأوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } و في الجنة سجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها و اقرأوا إن شئتم { و ظل ممدود } و موضع سوط في الجنة خير من الدنيا و ما فيها و اقرأوا إن شئتم { فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
ابن المبارك [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين أو قال مائة سنة و هي شجرة الخلد ] قال : و أخبرنا ابن أبي خلدة عن زياد مولى بني مخزوم سمع أبا هريرة يقول : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة و اقرأوا إن شئتم { و ظل ممدود } فبلغ ذلك كعبا فقال : صدق و الذي أنزل التوراة على لسان موسى بن عمران و الفرقان على محمد صلى الله عليه و سلم لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار في أصل تلك الشجرة و ما يبلغها حتى يسقط هرما إن الله تعالى غرسها بيده و نفخ فيها من روحه و إن أفنائها لمن وراء سور الجنة و ما في الجنة نهر إلا و يخرج من أصل تلك الشجرة
الترمذي [ عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ـ و ذكر لها سدرة المنتهى ـ قال : يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب ـ شك يحيى ـ فيها فراش الذهب ـ كأن ثمرها القلال ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
و ذكر عبد الرزاق قال : [ أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر و ورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران و نهران باطنان قلت : يا جبريل ما هذه ؟ قال : أما الباطنان ففي الجنة و أما الظاهران فالنيل و الفرات ]
قلت : كله لفظ مسلم إلا قوله : نبقها مثل قلال هجر أخرجه الدارقطني في سننه قال : حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره
و خرج البخاري أيضا [ من حديث قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك عن مالك ابن صعصعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحديث حديث الإسراء و فيه : و رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر و ورقها كأنه آذان الفيلة و في أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران و نهران باطنان ] وذكر الحديث
و في حديث ابن مسعود سدرة المنتهى : صبر الجنة قال أبو عبيدة : صبرها أعلاها و كذلك صبر كل شيء أعلاه و الجمع : أصبار
قال النمر بن تولب يصف روضة :
( غرست و باكرها الربيع نديمة ... و طفاء تملؤها إلى أصبارها )
يعني إلى أعاليها و هي جماعة للصبر و قال الأحمر : الصبر جانب الشيء لغتان : صبر و بصر كما قالوا : جبذ و جذب و قال أبو عبيد : ـ و قول أبي عبيدة أعجب ـ إلى أن يكون في أعلاها من أن يكون في جانبها
ابن المبارك قال : [ حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون : إنه لتنفعنا الأعراب و مسائلهم قال : أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله : لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية و ما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ما هي ؟ قال : السدر فإن له شوكا مؤذيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ليس يقول الله تعالى { في سدر مخضود } خضد شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها على إثنين و سبعين لونا و طعام ما فيه لون يشبه الآخر و يروى التمر بالتاء باثنين فيها كلها ] قاله أبو محمد عبد الحق
و ذكر عبد الرزاق [ أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن يزيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الجنة و ذكر له الحوض فقال فيها فاكهة ؟ قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى قال يا رسول الله أي شجر أرضنا يشبهه ؟ قال : لا يشبهه شيء من شجر أرضك أتيت الشام ؟ هنالك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق و يفرش أعلاها قال يا رسول الله فما أعظم أصلها ؟ قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر قوتها هرما قال فهل فيها عنب ؟ قال : نعم ! قال : فما عظم العنقود منها ؟ قال : مسيرة الغراب شهرا لا يقع و لا يفتر قال : فما عظم الحبة منها ؟ قال : أما أعمد أبواك و أهلك إلى جذعة فذبحوها و سلخ إهابها ؟ فقال : افروا لنا منها دلوا فقال يا رسول الله : إن تلك الحبة لتشبعني و أهل بيتي ؟ قال : نعم و عامة عشيرتك ] ذكره أبو عمر في التمهيد بإسناده و هو إسناد صحيح
و ذكر مسلم [ من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت في مقامك شيئا ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال : إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا و لو أخذته لأكلتم منها ما بقيت في الدنيا ] تكعكعت معناه تأخرت يقال منه : كع يكع كعوعا تأخر و الكع : الضعيف العاجر قال الشاعر :
( و لكني أمضي على ذاك مقدما ... إذا بعض من لا قى الخطوب تكعكعا )
و ذكر ابن المبارك : حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها و ثمرها كأمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى و إن ماءها ليجري في غير أخدود و العنقود اثنا عشر ذراعا ثم أتى على الشيخ فقال : من حدثك بهذا ؟ قال : مسروق
و ذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال : طوبى شجرة في الجنة ! ليس منها دار إلا فيها غصن منها و لا طير حسن إلا و هو فيها و لا ثمرة إلا و هي فيها
و ذكر الخطيب أبو بكر أحمد عن إبراهيم بن نوح قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ليس في الدنيا من ثمارها شيء يشبه ثمار الجنة إلا الموز لأن الله تعالى يقول : { أكلها دائم و ظلها } و إننا نجد الموز في الشتاء و الصيف
و ذكر الثعلبي بإسناده من حديث الأوزاعي [ عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني الثقة عن أبي ذر قال : أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم طبق من تين فأكل منه و قال لأصحابه : كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من السماء قلت : هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير و تنفع من النقرس ] ذكره القشيري أبو نصر و هذا أتم
قلت : و رأيت بخط الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي أبي شيخنا أبي القاسم عبد الله و حدث حديثا عليه سماع جماعة على أبي الفرج محمد بن أبي حاتم محمود بن أبي الحسن القزويني في ربيع الأول سنة ثمان و تسعين و أربعمائة قال : [ حدثنا أبو جعفر محمد بن زيد الجعفري في شوال سنة ثمان و ثلاثين و أربعمائة قال : حدثنا أبي قال : حدثنا يحيى بن الحسين الحسيني قال : حدثنا عقيل بن سمرة حدثنا علي ابن حماد الغازي حدثنا عباس ابن أحمد قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا علي فكهوا بالبطيخ و عظموه فإن ماءه من الجنة و حلاوته من حلاوة الجنة و ما من عبد أكل منها لقمة إلا أدخل الله جوفه سبعين دواء و أخرج منه سبعين داء و كتب الله له بكل لقمة عشر حسنات و محا عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { و أنبتنا عليه شجرة من يقطين } ] قال : الدباء و البطيخ من الجنة
باب في كسوة الجنة و كسوة أهلها قال الله تعالى { و يلبسون ثيابا خضرا من سندس و إستبرق } و قال { و لباسهم فيها حرير }
و ذكر ابن هناد السري قال : [ حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال : أهدى لرسول الله سرقة من حرير فجعلوا يتداولونها بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتعجبون منها ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : والدي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها ] قال هناد بن السري : [ و حدثنا قبيصة عن حماد بن سلمة عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أن عطادر بن حاجب أهدى لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثوبا من ديباج كساه إياه كسرى فاجتمع إليه الناس فجعلوا يلمسونه و يعجبون و يقولون يا رسول الله : أنزل عليك هذا من السماء ؟ فقال : ما تعجبون ! فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا يا غلام إذهب بهذا إلى أبي جهم و جئنا بأنبجانيته ]
باب ما جاء أن شجر الجنة و ثمارها تنفتق عن ثياب الجنة و خيلها و نجبها ابن المبارك أخبرنا معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله تعالى : تفتقي لعبدي ما شاء فتنفتق له عن فرس بسرجه و لجامه و هيأته كما يشاء و تنفتق له عن الراحلة برحلها و زمامها و هيأتها كما يشاء عن النجائب و الثياب
النسائي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل فقال يا رسول الله : أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أو نسجا تنسج ؟ فضحك بعض القوم فقال : مم تضحكون ؟ إن جاهلا يسأل عالما فيجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين السائل عن ثياب الجنة ؟ فقالوا : ها هو ذا يا رسول الله قال : لا بل تنفتق عنها ثمر الجنة قالها ثلاثا ] و الله أعلم
باب ليس في الجنة شجرة إلا و ساقها من ذهب الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما في الجنة شجرة إلا و ساقها من ذهب ] قال حديث حسن غريب و سيأتي لهذا مزيد بيان آنفا في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في نخيل الجنة و ثمرها و خيرها ابن المبارك قال أخبرنا سفيان عن حماد بن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر و كرمها ذهب أحمر و سعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم و حللهم و تمرها أمثال القلال و الدلاء أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل و ألين من الزبد ليس فيها عجم
ابن وهب قال : [ و حدثنا ابن زيد قال : قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من نخل فإني أحب النخل ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده لها جذوع من ذهب و كرانيف من ذهب و جريد من ذهب و سعف كأحسن حلل يراها امرؤ من العالمين و عراجين من ذهب و شماريخ و كرانيف من ذهب و أقماع من ذهب و ثمارها كالقلال و ألين من الزبد و أحلى حلاوة من العسل ]
و ذكر أبو الفرج بن الجوزي [ عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أخذ عودا بيده فقال : يا جرير لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده قال فقلت فأين النخل و الشجر ؟ قال : أصولها اللؤلؤ و الذهب و أعلاها الثمر ]
باب في الزرع في الجنة البخاري [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : كان يوما يحدث و عنده رجل من أهل البادية أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له : أو لست فيما شئت قال : بلى ! و لكني أحب أن أزرع فأسرع و بذر فبادر الطرف نباته و استواؤه و استحصاده و تكويره أمثال الجبال فيقول الله : دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء فقال الأعرابي يا رسول الله : لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلنسا بأصحاب زرع فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
باب ما جاء في أبواب الجنة و كم هي ؟ و لمن هي ؟ و في تسميتها و سعتها قال الله تعالى : { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } قال جماعة من أهل العلم : هذه واو الثمانية فللجنة ثمانية أبواب و استدلوا بقوله عليه الصلاة و السلام : [ ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ] رواه عمر بن الخطاب خرجه مسلم
و جاء في تعيين هذه الأبواب لبعض العلماء كما جاء في حديث الموطأ و صحيح البخاري و مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة و من كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد و من كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة و من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على أحد يدعى من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب ؟ قال : نعم ! و أرجو أن تكون منهم ]
قال القاضي عياض : ذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة و زاد غيره بقية الثمانية فذكر منها : باب التوبة و باب الكاظمين الغيظ و باب الراضين و الباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه
قلت : فذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله أبواب الجنة في نوادر الأصول فذكر باب محمد صلى الله عليه و سلم و هو باب الرحمة و هو باب التوبة فهو منذ خلقه الله مفتوح لا يغلق فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق فلم يفتح إلى يوم القيامة و سائر الأبواب مقسومة على أعمال البر فباب منها للصلاة و باب للصوم و باب للزكاة و الصدقة و باب للحج و باب للجهاد و باب للصلة و باب للعمرة فزاد باب الحج و باب العمرة و باب الصلة فعلى هذا أبواب الجنة أحد عشر بابا
و قد ذكر الآجري أبو الحسن [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة بابا يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى ؟ هذا بابكم فادخلوه ] ذكره في كتاب النصيحة و لا يبعد أن يكون لنا ثالث عشر على ما ذكره أبو عيسى الترمذي [ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : باب أمتي الذين يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المجد ثلاثا ثم إنهم ليضغطون بعليه حتى تكاد مناكبهم تزول ] قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه قال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد الله
قلت : فقوله باب أمتي يدل على أنه لسائر أمته فمن لم يغلب عليه عمل يدعى به و على هذا يكون ثالث عشر و لهذا يدخلون مزدحمين و قد تقدم أن أكثر أهل الجنة البله فالله أعلم
و مما يدلة على أنها أكثر من ثمانية [ حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صادقا من نفسه أو قلبه شك أيهما قال فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة يدخل من أيها شاء ]
خرجه الترمذي و غيره قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد هكذا قال فتح له من أبواب الجنة و ذكر أبو داود و النسائي و ابن سنجر فتحت له أبواب الجنة الثمانية ليس فيها ذكر من فعلى هذا أبواب الجنة ثمانية كما قالوا
قلت : قد ذكرنا أنها أكثر من ثمانية و بالله توفيقنا و أما كون الواو في و فتحت أبوابها واو الثمانية و أن أبواب الجنة كذلك ثمانية أبواب فقد جاء ما يدل على أنها ليست كذلك في قوله تعالى { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } فخلو المتكبر و هو ثامن اسم من الواو يدل على بطلان ذلك القول و تضعيفه و قد بيناه في سورة براءة و الكهف من كتاب جامع أحكام القرآن و الحمد لله
و قد خرج مسلم عن خالد بن عمير قال : خطبنا عتبة بن غزوان و كان أميرا على البصرة فحمد الله و أثنى عليه و ذكر الحديث على ما تقدم و فيه : و لقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة و ليأتين عليه يوم و هو كظيظ من الزحام الحديث
و خرج [ عن أنس في حديث الشفاعة و الذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة و هجر أو كما بين مكة و بصرى ] و خرج [ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا و أو سبعمائة ألف لا يدري أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم و وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ] فهذه الأحاديث مع صحتها تدل على أنها أكثر من الثمانية إذ هي غير ما تقدم فيحصل منها و الحمد لله على هذا ستة عشر بابا
و قد ذكر الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في كتاب التحبير و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الخلق الحسن طوق من رضوان الله عز و جل في عنق صاحبه و الطوق مشدود إلى سلسلة من الرحمة و السلسلة مشدودة إلى حلقة من باب الجنة حيث ما ذهب الخلق الحسن جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك باب إلى الجنة و الخلق السوء : طوق من سخط الله في عنق صاحبه و الطوق مشدود إلى سلسلة من عذاب الله و السلسلة مشدودة من باب النار حيث ما ذهب الخلق السوء جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك الباب إلى النار ] و ذكر صاحب الفردوس [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : للجنة باب يقال له الفرح لا يدخل منه إلا من فرح الصبيان ]
فصل : قوله : من أنفق زوجين في سبيل الله قال الحسن البصري : يعني إثنين من كل شيء : دينارين درهمين ثوبين خفين و قيل : يريد شيئين دينارا و درهما درهما و ثوبا خفا و لجاما و نحو هذا و قال الباجي يحتمل أن يريد بذلك العمل من صلاتين أو صيام يومين
قلت : و الأول من التفسير أولى لأنه مروي عن النبي المصطفى صلى الله عليه و سلم : و ذكر الآجري [ عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة ثم قال صلى الله عليه و سلم : بعيرين درهمين قوسين نعلين ] و أما ما جاء من سعة أبواب الجنة فيحتمل أن يكون بعضها سعته كذا و بعضها سعته كذا كما ورد في الأخبار فلا تعارض و الحمد لله
باب منه
روى البخاري و مسلم [ عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد ]
قلت : و هكذا و الله أعلم سائر الأبواب المختصة بالأعمال
و جاء في حديث أبي هريرة : إن من الناس من يدعى من جميع الأبواب فقيل : ذلك الدعاء دعاء تنويه و إكرام و إعظام ثواب العاملين تلك الأعمال إذ قد جمعها و نيله ذلك ثم يدخل من الباب الذي غلب عليه العمل
و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر : أنا فمن تيع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟ قال أبو بكر : أنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما اجتمعن في امرئ إلادخل الجنة ]
باب منه
خرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا جعفر بن الرزبير الحنفي عن القاسم مولى يزيد بن معاوية عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انطلق برجل إلى باب الجنة فرفع رأسه فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها و القرض الواحد بثمانية عشر لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا و هو محتاج و الصدقة ربما وضعت في يدي غني ]
خرجه ابن ماجة في السنن قال : [ حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم حدثنا هشام بن خالد حدثنا خالد بن يزيد أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها و القرض بثمانية عشر فقلت لجبيرل : ما بال القرض أكثر من الصدقة ؟ قال لأن السائل يسأل و عنده و المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ]
باب ما جاء في درج الجنة و ما يحصلها للمؤمن الترمذي رحمه الله [ عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الجنة مائة درجة كل درجة منها ما بين السماء و الأرض و إن أعلاها الفردوس و أوسطها الفردوس و إن العرش على الفردوس منها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ] قال الترمذي : عطاء هذا لم يدرك معاذ بن جبل
قلت : قد خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما تقدم فهو صحيح متصل
و ذكر ابن وهب قال : [ أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أنه سمع عتبة بن عبيد الضبي يذكر عمن حدثه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : كم في الجنة من درجة ؟ قال : مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض أول درجة منها دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من فضة و الدرجة الثانية دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من ذهب و الدرجة الثالثة دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من ياقوت و لؤلؤ و زبرجد و سبع و تسعون درجة لا يعلم ما هي إلا الله ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم ] قال : هذا حديث غريب
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ و اصعد فيقرأ و يصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه ]
و خرجه أبو داود [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقال لصاحب القرآن اقرأ و ارتق و رتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ]
و ذكر أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب الاختبار في اللح من الأخبار و الآثار [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : درج الجنة على عدد آي القرآن لكل آية درجة فتلك ستة آلاف و مائتا آية و ستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء و الأرض و ينتهى به إلى أعلى عليين لها سبعون ألف ركن وهي ياقوتة تضيء مسيرة أيام و ليالي ] و قالت عائشة رضي الله عنها : إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن ذكره مكى رحمه الله
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : حملة القرآن وقراؤه هم العالمون بأحكامه و بحلاله و حرامه و العاملون بما فيه و قال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه و قد تقدم حديث العباس بن عبد المطلب في أبواب النار و حديث أبي هريرة فيمن تعلم العلم و قرأ القرآن عجبا و رياء ما فيه لمن كفاية لمن تدبر
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من تعلم القرآن و علمه و لم يأخذ بما فيه و حرفه كان عليه شهيدا و دليلا إلى جهنم و من تعلم القرآن و أخذ بما فيه كان له شهيدا و دليلا إلى الجنة ]
و في البخاري : [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن و يعمل به كلأترجة طعمها طيب و ريحها طيب و المؤمن الذي لا يقرأ القرآن و يعمل به كالثمرة طعمها طيب و لا ريح لها ] و ذكر الحديث و قد أشبعنا القول فيه في قارئ القرآن و أحكامه في كتاب التذكار في فضل الأذكار و في مقدمة : جامع أحكام القرآن ما فيه كفاية و الحمد لله و قد تقدم : أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله فالجهاد يحصل مائة درجة و قراءة القرآن تحصل جميع الدرجات و الله المستعان على ذلك و الإخلاص فيه بمنه و فضله
باب ما جاء في غرف الجنة و لمن هي ؟ قال الله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية } الآية و قال : { إلا من آمن و عمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون } و قال : { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا }
و روى مسلم [ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين ]
و خرج الترمذي الحكيم أخبرنا صالح بن محمد قال : [ حدثنا سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } و قوله { هم في الغرفات آمنون } قال : الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم و لا وصل و إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة منها كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في أفق السماء و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما ]
قال : [ و حدثنا صالح بن عبد الله و قتيبة بن سعيد و علي بن حجر قالوا : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المتحابين في الله تعالى لعلى عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا يقول أهل الجنة بعضهم لبعض : انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله عز و جل فإذا أشرفوا عليهم أضاء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا عليهم ثياب خضر من سندس مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله عز و جل ]
و ذكر الثعلبي [ من حديث عمران بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه فيقولون ما هذا النور ؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة و الصدق ]
[ و روى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الغرف ليتراءون عليين كما تتراءون الكوكب الدري في أفق السماء و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما ] و ذكره الثعلبي
الترمذي [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إلبه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن أطاب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى لله بالليل و الناس نيام ]
و ذكر أبو نعيم الحافظ [ من حديث محمد واسع عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال : ألا أخبركم بغرف الجنة ؟ غرفا من ألوان الجواهر يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها فيها من النعيم و الثواب و الكرامات ما لا أذن سمعت و لا عين رأت فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله لمن تلك ؟ فقال : لمن أفشى السلام و أدام الصيام و أطعم الطعام و صلى و الناس نيام فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك ؟ فقال : أمتي تطيق ذلك و سأخبركم من يطيق ذلك من لقى أخاه المسلم فسلم عليه فقد أفشى السلام و من أطعم أهله و عياله من الطعام حتى يشبعم فقد أطعم الطعام و من صام رمضان و من كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام و من صلى العشاء الأخيرة في جماعة فقد صلى والناس نيام : اليهود و النصارى و المجوس ] فصل : اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو و الصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال فبعضها أعلى من بعض و أرفع و قوله الغائر من المشرق أو المغرب يروى بالياء اسم فاعل من غار و قد روى مسلم في غير الغارب بتقديم الراء و المعنى واحد و روي الغابر بالياء بواحدة ومعناه الذاهب أو الباقي فإن غبر من الأضداد يقال غير إذا ذهب و غير إذا بقي و يعني به أن الكوكب حالة طلوعه و غروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيرا لبعده و قد بينه بقوله من المشرق أو المغرب و قد روي العازب بالعين المهملة و الزاي أي البعيد و معنيها كلها متقاربة المعنى
و قوله : و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين و لم يذكر عملا و لا شيئا سوى الإيمان و التصديق للمرسلين و ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ و تصديق المرسلين من غير سؤال آية و لا تلجلج و إلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان و التصديق الذي للعامة و لو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات و أرفع الدررجات و هذا محال و قد قال الله تعالى { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } و الصبر بذل النفس الثبات له وقوفا بين يديه بالقلوب عبودية و هذه صفة المقربين و قال في آية أخرى { و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } فذكر شأن الغرفة و أنها لا تنال بالأموال و الأولاد و إنما تنال بالإيمان و لعمل الصالح ثم بين لهم جزاء الضعف و أن محلهم الغرفات يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة و تعلق قلب مطمئنا به في كل ما نابه و بجميع أموره و أحكامه فإذا عمل عملا صالحا فلا يخلطه بضده و هو الفاسد فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن و بجميع أموره و أحكامه و المخلط ليس إيمانه و عمله هكذا فلهذا كانت منزلته دون غيره
قلت : ذكره الترمذي الحكيم رحمة الله عليه و هذا واضح بين و قد قال تعالى { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } و قال : { ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون } فلما باين بين الأبرار و المقربين في الشراب على ما يأتي بيانه باين بينهم في المنازل و الدرجات و أعالي الغرفات حسب ما باين بينهم في الأعمال الصالحات بالاجتهاد في الطاعات قال الله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } فيجتهد الإنسان أن يكون من الأبرار المقربين ليكون في عليين و أصحاب عليين جلساء الرحمن و هم أصحاب المنابر من النور في المقعد الصدق و قال تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله { فهو في عيشة راضية * في جنة عالية } فأصحاب اليمين في علو الجنان أيضا و جميعها عوالي و جنات المقربين جميعها علالي و إحداهن عليه كقول الشاعر :
( ألا يا عين ويحك أسعديني ... بغزر الدمع في ظلم الليالي )
( لعلك في القيامة أن تفوزي ... بخير الدار في تلك العلالي )
باب منه
[ روي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لغرفا ليس لهامغاليق من فوقها و لا عماد من تحتها قيل يا رسول الله وكيف يدخلها أهلها ؟ قال : يدخلونها أشباه الطير قيل : هي يا رسول الله لمن ؟ قال : لأهل الأسقام و الأوجاع و البلوى ] خرجه أبو القاسم زاهر بن محمد بن محمد الشحامي
باب منه
روى الليث بن سعد قال : [ حدثنا محمد بن عجلان أن وافد البصري أخبره عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء و لا شهداء تغبطهم الأنبياء و الشهداء بمنازلهم من الله يكونون على منابر من نور قالوا : و من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين يحببون الله إلى الناس فكيف يحببون الناس إلى الله ؟ قال : يأمونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر فإذا أطاعوهم أحبه الله تعالى ]
باب ما جاء في قصور الجنة و دورها و بيوتها و بما ينال ذلك المؤمن خرج الآجري [ عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين و أبا هريرة رضي الله عنهما عن تقسير هذه الآية { و مساكن طيبة } فقالا : على الخبيرسقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء في كل بيت سيعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون و علىكل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعين وصيفا و وصيفة فيعطي الله تبارك و تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي علىذلك كله ] ذكره في كتاب النصيحة
و ذكر ابن وهب قال : [ أخبرنا ابن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه ليجاء للرجل الواحد بالقصر من اللؤلؤة الواحدة في ذلك القصر سبعون غرفة في كل غرفة زوجة من الحور العين في كل غرفة سبعون بابا يدخل عليه من كل باب رائحة من رائحة الجنة سوى الرائحة التي تدخل من الباب الآخر و قرأ قول الله عز و جل { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ]
الترمذي [ عن بريد بن الخصيب قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا بلالا فقال : يا بلال بما سبقتني إلى الجنة ؟ فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر قالوا لرجل عربي فقلت أنا عربي لمن هذا القصر قالوا لرجل من قريش قلت أنا قرشي لمن هذا القصر قالوا لرجل من أمة محمد قلت أنا من أمة محمد قلت : أنا محمد لمن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب فقال بلال يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين و ما أصابني حدث إلا توضأت عنده و رأيت أن لله تعالى علي ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بهما ] قال : حديث حسن صحيح
و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد مختصرا من [ حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا ؟ فقالوا لعمر بن الخطاب ]
و ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده قال : [ حدثنا عبد الله بن بريد قال : حدثنا حيوة قال أخبرني أبو عقيل أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بني له قصر في الجنة و من قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة و من قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث قصور في الجنة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا لتكثرن قصورنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أوسع من ذلك ] قال الدارمي أبو عقيل زاهر بن معبد زعموا أنه كان من الأبدال و قد تقدم من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل دارالشهداء أو دار المؤمنين
و خرج أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا حماد بن زيد عن أبي سنان قال : دفنت ابني سنانا و أبو طلحة الخولاني على شفير القبر فقال حدثني الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى قال : قال رسول الله : إذا قبض الله عز و جل ابن العبد قال للملائكة ماذا قال عبدي ؟ قالوا : أحمدك و استرجع قال : ابنوا له بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد ]
باب ما جاء في قوله تعالى : و فرش مرفوعة
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { و فرش مرفوعة } قال : ارتفاعها لكما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد
و قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الخبر : الفرش في الدرجات و بين الدرجات كما بين السماء و الأرض
قلت : و قد قيل : إن الفرش كناية عن النساء اللواتي في الجنة و المعنى نساء مرتفعات الأقدار في حسنهن و كمالهن و العرب تسمي المرأة فراشا و لباسا و إزارا و نعجة على الاستعارة لأن الفرش محل النساء و في الحديث [ الولد للفراش و للعاهر الحجر ] و قال الله تعالى { هن لباس لكم } الآية قال : { إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة }
باب ما جاء في خيام الجنة و أسواقها و تعارف أهل الجنة في الدنيا و عبادتهم فيها
مسلم [ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال : في الجنة خيمة من لؤلؤ مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن ] في رواية قال : الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين
و خرج مسلم أيضا [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال : إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم و ثيابهم المسك فيزدادون حسنا و جمالا فيرجعون إلى أهلهم و قد ازدادوا حسنا و جمالا لهم أهلهم و الله لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا ]
الترمذي [ عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبي هريرة فقال أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني و بينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق ؟ قال : نعم و ذكر الحديث و فيه : فتأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه مالم تنظر العيون إلى مثله و لم تسمع الآذان و لم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها و لا يشتري و في ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قيقبل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه و ما فيهم دني فيروعه ما عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه ما هو أحسن منه و ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ]
و ذكر الحديث في طريقه أبو العشرين و هو ضعيف
و خرجه ابن ماجه مكملا و فيه بعد قوله قال نعم : [ أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيرون الله و يبرز لهم عرشه و يبدو لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور و منابر من لؤلؤ و منابر من ياقوت و منابر من زبرجد و منابر من ذهب و منابر من فضة و يجلس أدناهم و ما فيهم دني على كثبان المسك و الكافور ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا ]
[ قال أبو هريرة قلت يا رسول الله هل نرى ربنا ؟ قال : نعم هل تتمارون في رؤية الشمس و القمر ليلة البدر ؟ قلنا : لا قال : كذلك لا تمارون في رؤية ربكم عز و جل و لا يبقى في ذلك المجلس أحد ألا حاضره الله محاضرة حتى إنه يقول للرجل منكم ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا و كذا يذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول : يا رب ألم تغفر لي ؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ثم يقول قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا مااشتهيتم قال : فيأتون سوقا ] الحديث بلفظه و معناه إلى أن قال : و ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال : [ ثم ننصرف إلى منازلنا فتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا و أهلا لقد جئت و إن بك من الجمال و الطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقولون إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار و بحقنا أن نتقلب بمثل ما انقلبنا ]
و خرج الترمذي أيضا [ عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لسوقا ما فيها بيع و لا شراء إلا الصور من الرجال و النساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها ] قال : هذا حديث غريب
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة أسواقا لا شراء فيها و لا بيع أهل الجنة لما أفضوا إلى روح الجنة جلسوا متكيئن على لؤلؤ رطب و ترابها مسك يتعارفون في تلك الجنان كيف كانت الدنيا و كيف كانت عبادة الرب و كيف يحيى الليل و يصام النهار و كيف كان فقر الدنيا و غناؤها و كيف كان الموت و كيف صرنا بعد طول البلاء من أهل الجنة ] و الله أعلم
باب لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز خرج أبو بكر الخطيب أحمد بن علي [ من حديث عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية ] ذكره أحمد بن حنبل في مسنده
فلت : لعل هذا فيمن لا يدخل الجنة بغير حساب و ذلك بين في الباب بعد هذا
باب أول الناس يسبق إلى الجنة الفقراء ابن المبارك قال : [ أخبرنا عبد الوهاب بن الورد قال : قال سعيد بن المسيب جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة قال : هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا قال يا رسول الله : أفهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال : لا قال : فمن أول الناس يدخل الجنة ؟ قال : الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فيخرج إليهم منها ملائكة فيقولون : ارجعوا إلى الحساب فيقولون على ما نحاسب و الله ما أفيض علينا من الأموال في الدنيا شيء فنقبض فيها و نبسط و ما كنا أمراء نعدل و نجوز و لكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين فيقال : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ]
و روي عن النبي أنه قال : [ اتقوا الله في الفقراء فإنه يقول يوم القيامة أين صفوتي من خلقي ؟ فتقول من هم يا ربنا ؟ فيقول : الفقراء الصابرون الراضون بقدري أدخلوهم الجنة قال فيدخلون الجنة يأكلون و يشربون و الأغنياء في الحساب يترددون ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام ] من حديث الأعمش سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد و قال فيه حديث حسن غريب من هذا الوجه
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم ] هذا حديث حسن غريب حسن صحيح و في طريق أخرى : [ يدخل فقراء المسلمين قبل الأغنياء بنصف يوم و هو خمسمائة عام ] : قال : حديث حسن صحيح
و روي [ عن أبي الدرداء قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم قيل له : يا رسول الله و ما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة قيل له : فكم السنة من شهر ؟ قال خمسمائة شهر قيل له : فكم الشهر من يوم ؟ قال : خمسمائة يوم قيل له : فكم اليوم ؟ قال : خمسمائة مما تعدون ] ذكره العقبي في عيون الأخبار له
[ و عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يدخل المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا ] قال : هذا حديث حسن صحيح و خرجه من حديث أنس أيضا و قال فيه حديث غريب
و في صحيح مسلم من حديث [ عبد الله بن عمرو قال : سمعت صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ]
فصل : قال المؤلف رحمه الله : اختلاف هذه الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفوا الحال و كذلك الأغنياء و قد تقدم حديث أبي بكر بن أبي شيبة أول ثلاثة يدخلون الجنة : و لا تعارض و الحمد لله فإن الحديثين مختلفا المعاني و قد اختلف في أي فقراء هم السابقون و في مقدار المدة التي بها يسبقون و يرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى و كذلك حديث جابر يرد أيضا إلى حديث عبد الله بن عمرو و يكون المعنى فقراء المسلمين المهاجرين إذ المدة فيها أربعين خريفا و يبقى حديث أبي سعيد الخدري في المدة بخمسمائة عام في فقراء المهاجرين و كذلك حديث أبي الدرداء في فقراء المسلمين بنصف يوم خمسمائة سنة
و وجه الجمع بينهما أن يقال إن سباق الفقراء من المهاجرين يسبقون سباق الأغنياء منهم بأربعين خريفا و غير سباق الأغنياء بخمسمائة عام و قد قيل : إن حديث أبي هريرة و أبي الدرداء و جابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين فيدخل الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي هريرة و أبي الدرداء و قيل : السباق بأربعين خريفا على ما تقدم من حديث جابر و الله أعلم
فصل : قلت : و قد احتج بأحاديث هذا الباب من فضل الفقراء على الغني و قد اختلف الناس في هذا المعنى و طال فيه الكلام بينهم حتى صنفوا فيه كتبا و أبوابا و احتج كل فريق لمذهبه في ذلك و الأمر قريب
و قد سئل أبو علي الدقاق : أي الوصفين أفضل : الغنى أو الفقر فقال : الغنى ؟ لأنه الحق و الفقر وصف الخلق و وصف الحق أفضل من وصف الخلق قال الله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد } و بالجملة : فالفقير بالحقيقة العبد و إن كان له مال و إنما يكون غنيا إذا عول على مولاه و لم ينظر إلى أحد سواه فإن تعلق باله بشيء من الدنيا و رأى نفسه أنه فقير إليه فهو عبده قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعس عبد الدينار ] الحديث خرجه البخاري و غيره و قد كتبناه عليه و بيناه و الحمد لله و إنما شرف العبد افتقاره إلى مولاه و عزه و خضوعه له
و لقد أحسن من قال :
( إذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها )
فالغني المعلق الباب بالمال الحريص عليه الراغب فيه هو الفقير حقيقة و خادمه الذي يقول ما أبالي به و لا لي رغبة فيه و إنما هي ضرورة العيش فإذا وجدتها فغيرها زيادة تشغل عن الإرادة فهو الغني حقيقة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس ني عن كثرة العرض إنما الغني غنى النفس ] خرجه مسلم و أخذ عثمان بن سعدان الموصلي هذا المعنى فقال :
( تقنع بما يكفيك واستعمل الرضى ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي )
فليس الغنى عن كثرة المال إنما الغنى و الفقر من قبل النفس و قد أشبعنا القول في هذا في كتاب قمع الحرص و قد بقيت
قلت : هنا درجة ثالثة رفيعة و هي الكفاف التي سألها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ] و في رواية [ كفافا ] خرجه مسلم و معلوم أنه عليه الصلاة و السلام لا يسأل إلا أفضل الأحوال و أسنى المقامات و الأعمال و قد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه و ما أبطر من الغنى مذموم
و في سنن ابن ماجه [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من غني و لا فقير إلا يود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا ] الكفاف : حالة متوسطة بين الغنى والفقر و قد قال عليه الصلاة و السلام : [ خير الأمور أوسطها ] فهي حالة سليمة من آفات الغنى المطغى و آيات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما النبي صلى الله عليه و سلم فكانت أفضل منهما ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير الذي لا يترفه في طيبات الدنيا و لا في زهرتها فكانت حاله إلى الفقير أقرب لقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر و كفى مرارته و آفاته وعلى هذا فأهل الكفاف هم إن شاء الله صدر كتيبه الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأنهم وسطهم و الوسط العدل كما قال الله تعالى { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } أي عدولا خيارا و ليسوا من الأغنياء كما ذكرنا
باب منه
الترمذي عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بالجابية فقال : [ يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم بفشوا الكذب حتى يحلف الرجل و لا يستخلف و يشهد الشاهد و لا يتشهد و لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة و إياكم و الفرقة فإن الشيطان مع الواحد و هو من الإثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة و من سرته حسنته و ساءته سيئته فذلكم المؤمن ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
باب منه
ما جاء في صفة أهل الجنة و مراتبهم و سنهم و طولهم و شبابهم و عرقهم و ثيابهم و أمشاطهم و مجاهرهم و أزواجهم و في لسانهم و ليس في الجنة عزب
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول زمرة يدخلون الجنة و في رواية : من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء أضاء و في رواية : ثم هم بعد ذلك منازل لا يبولون و لا يتغوطون و لا يتفلون و لا يتمخطون أمشاطهم الذهب و في رواية : الفضة و رشحهم المسك و مجاهرهم و أزواجهم الحور العين و في رواية : لكل و احد منهم زوجتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم و لا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون بكرة و عشيا ]
قال أبو علي : الألوة : هو العود و في رواية : أخلاقهم على خلق رجل واحد عل طول أبيهم و في رواية : على صورة أبيهم ستون ذراعا في السماء
و قال أبو كريب : على خلق رجل واحد و قال أبي هريرة حين تذاكروا : الرجال في الجنة أكثر أم النساء ؟ فقال لكل رجل منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم و ما في الجنة عزب
الترمذي [ عن الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن المرأة من اهل الجنة ليرى ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها و ذلك بأن الله سبحانه و تعالى يقول : { كأنهن الياقوت و المرجان } فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته ]
و روى موقوفا عن البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما و لملأته ريحا و لنصيغها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها ]
الترمذي [ عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ] قال : حديث غريب
و خرج عنه أيضا [ عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة جرداء مرداء مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث و ثلاثين سنة ] قال : حديث غريب و روى عن قتادة مرسلا
و ذكر الميانش [ من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أهل الجنة مرد إلا موسى بن عمران فإن لحية إلى سرته ]
الترمذي [ عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو أن ما يقله ظفر مما في الجنة بدا إلى الدنيا لتزخر له ما بين خوافق السموات و الأرض و لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساور لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم ] قال : حديث حسن غريب
[ و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من مات من أهل الجنة من صغير و كبير يرون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها و لا ينقصون و كذلك أهل النار ] قال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين
فصل : في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان و قد تقدم من حديث عمران بن حصين : [ أن أقل ساكني الجنة النساء ]
قال علماؤنا : لم يختلفوا في جنس النساء و إنما اختلفوا في نوع من الجنس و هو نساء الدنيا و رجالها أيهما أكثر في الجنة فإن كانوا اختلفوا في المعنى الأول و هو جنس النساء مطلقا فحديث أبي هريرة حجة و إن كانوا اختلفوا في نوع من الجنس و هم أهل الدنيا فالنساء في الجنة أقل
قلت : يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار و أما بعد خروجهن في الشفاعة و رحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله فالنساء في الجنة أكثر و حينئذ يكون لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا و أما الحور العين فقد تكون لكل واحد منهم الكثير منهن
[ و في حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة ] ذكره الترمذي و قال فيه : حديث غريب
و مثله حديث أبي أمامة خرجه أبو محمد الدارمي و سيأتي و الأخبار دالة على هذا
و قوله و أمشاطهم الذهب و الفضة و مجامرهم الألوة و قد يقال هنا أي حاجة في الجنة للامتشاط و لا تتلبد شعورهم و لا تتسخ و أي حاجة للبخور و ريحهم أطيب من المسك و يجاب عن ذلك بأن نعيم أهل الجنة و كسوتهم ليس عن رفع ألم أعتراهم فليس أكلهم عن جوع و لا شربهم عن ظمأ و لا تعليهم عن نتن و إنما هي لذات متوالية و نعم متتابعة ألا ترى قوله تعالى لآدم { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } و حكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا و زادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز و جل
قلت : و قد جاء مثل هذا في أهل الدنيا حيث قال : { إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون } و قال { إن لدينا أنكالا و جحيما } فعذبهم في النار بنوع ما كانوا يعذبون به في الدنيا قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في الرجل خشية أن يهربوا لا و الله و لكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استثقلت بهم
ابن المبارك قال : أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : لسان أهل الجنة عربي و إذا خرجوا من قبورهم سرياني و قد تقدم و قال سفيان : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية
ج555555555555.
💥💥💥💥💥💥
كتاب : التذكرة
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي
باب منه في الحور العين و كلامهن و جواب نساء الآدميات و حسنهن ذكر أن الآدميات في الجنة على سن واحد و أما الحور العين فأصناف مصنفة صغار و كبار على ما اشتهت أنفس أهل الجنة
الترمذي [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قال يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و في الباب عن أبي هريرة و أبي سعيد و أنس قال أبو عيسى حديث علي حديث غريب
و قالت عائشة رضي الله عنها : إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهم المؤمنات من نساء أهل الدنيا : نحن المصليات و ما صليتن و نحن الصائمات و ما صمتن و نحن المتوضئات و ما توضأتن و نحن المتصدقات و ما تصدقن قالت عائشة : فغلبنهن و الله أعلم
و ذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : و الله الذي لا إله إلا هو لو أن امرأة من الحور العين أطلعت سوارها من العرش لأطفأ نور سوارها نور الشمس و القمر فكيف المسورة و أن ما خلق الله شيئا تلبسه إلا عليه مثل ما عليها من ثياب و حلى
و قال أبو هريرة إن في الجنة حوراء يقال لها [ العيناء ] إذا مشت مشى حولها سبعون ألف و صيف عن يمينها و عن يسارها كذلك و هي تقول : أين الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر ؟
و قال ابن عباس : إن في الجنة حوراء يقال لها [ لعبة ] لو بزقت في البحر لعذب ماء البحر كله مكتوب على نحرها من أحب أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربي عز و جل
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه وصف حوراء ليلة الإسراء فقال : [ و لقد رأيت جبينها كالهلال في طول البدر منها ألف و ثلاثون ذراعا في رأسها مائة ضفيرة ما بين الضفيرة و الضفيرة سبعون ألف ذؤابة و الذؤابة أضوأ من البدر مكلل بالدر و صفوف الجواهر على جبينها سطران مكتوبان بالدر الجوهر في السطر الأول : بسم الله الرحمن الرحيم و في السطر الثاني : من أراد مثلي فليعمل بطاعة ربي فقال لي جبريل يا محمد : هذه و أمثالها لأمتك فأبشر يا محمد و بشر أمتك و أمرهم بالاجتهاد ]
و ذكر الختلي أبو القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن أبي بكر حدثنا أبو إسحاق حدثني محمد بن صالح قال : قال عطاء السلمي لمالك بن دينار : يا أبا يحيى شوقنا قال يا عطاء : إن في الجنة حوراء يتباهى بها أهل الجنة من حسنها لولا أن الله كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا عن آخرهم من حسنها قال : فلم يزل عطاء كمدا من قول مالك أربعين يوما
ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود قال : [ إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقيها من وراء اللحم و العظم و من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ] قال : و أخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال : [ إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على العين بما عملن في الدنيا ] و روى مرفوعا : [ إن الأدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ]
باب ما جاء أن الأعمال الصالحة مهور الحور العين قال الله تعالى : { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله { و لهم فيها أزواج مطهرة }
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول قال : حدثنا الخطاب أبو الخطاب قال : حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب قال : حدثنا جرير بن أيوب البجلي قال : حدثنا الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري من الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله { حور مقصورات في الخيام } على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى و يعطى سبعين لونا من الطيب ليس منهن لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون سريرا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر و الياقوت على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش أريكة لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها و سبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون من طعام تجد لآخر لقمة لذة لا تجد لأوله و يعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سوران من ذهب موشح بياقوت أحمر هذا بكل يوم صامه من شهر رمضان سوى ما عمل من الحنسات ]
و خرج أبو عيسى الترمذي [ من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال ] الحديث و فيه [ و يزوج باثنتين و سبعين زوجة من الحور العين ] و قد تقدم في باب ما ينجي من أهوال القبر و فتنته
قلت : و هذا يؤكد ما ذكرناه في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان أن ذلك من نساء الدنيا و قال يحيى بن معاذ : ترك الدنيا شديد و فوت الجنة أشد و ترك الدنيا مهر الآخرة و يقال : مهر الحور العين كنس المساجد رفعه الثعلبي [ من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنس المساجد مهور الحور العين ] [ و عن أبي قرصافة أيضا سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين ] القمامة الكناسة و الجمع : قمام قاله الجوهري
[ و عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مهور الحور العين قبضات التمر و فلق الخبز ] ذكره الثعلبي أيضا و قال أبو هريرة : [ يتزوج أحدكم فلانة بنت فلان بالمال الكثير و يدع الحور العين باللقمة و التمرة و الكسوة ]
و قال محمد بن النعمان المقري : كنت قاعدا عند الجلا المقرى بمكة في المسجد الحرام إذ مر بنا شيخ طويل نحيل الجسم عليه أطمار خلقة فقام إليه الجلا و وقف معه ساعة ثم انصرف إلينا فقال : هل تعرفون من هذا الشيخ ؟ فقلنا : لا فقال : ابتاع من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة فلما أكملها رآها في المنام في حليها و حللها فقال : من أنت ؟ فقالت : أنا الحور التي ابتعتني من الله تعالى بأربعة آلاف ختمة هذا الثمن فما نحلتي أنا منك ؟ قال : ألف ختمة قال الجلا : فهو يعمل فيها بعد
و روى عن سحنون أنه قال : كان بمصر رجل يقال له سعيد و كانت له أم من المتعبدات و كانت إذا قام من الليل يصلي تقوم والدته خلفه فإذا غلب عليه النوم و نعس تناديه والدته : يا سعيد إنه لا ينام من يخاف النار و يخطب الحور الحسان فيقوم مرعوبا
و يروى عن ثابت أنه قال : كان أبي من القوامين لله في سواد الليل قال : رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء فقلت لها : من أنت ؟ فقالت حوراء أمة الله فقلت لها : زوجيني نفسك فقالت : اخطبني من عند ربي و أمهرني فقلت : و ما مهرك ؟ فقال : طول التهجد و أنشدوا :
( يا خاطب الحور في خدرهاو طالبا ذلك على قدرها )
( انهض بجد لا تكن وانياو جاهد النفس على صبرها )
( و جانب الناس و ارفضهم و حالف الوحدة في ذكرها )
( و قم إذا الليل بدا وجهه ... و صم نهارا فهو من مهرها )
( فلو رأت عيناك إقبالها و قد بدت رمانتا صدرها )
( و هي تماشي بين أترابها و عقدها يشرق في نحرها )
( لهان في نفسك هذا الذيتراه في دنياك من زهرها )
و قال مضر القارئ : غلبني النوم ليلة فنمت عن حزبي فرأيت في منامي فيما يرى النائم جارية كأن وجهها القمر المستتم و معها رق فقالت : أتقرأ أيها الشيخ ؟ قلت : نعم فقالت : اقرأ هذا الكتاب ففتحه فإذا فيه مكتوب : فو الله ما ذكرته قط إلا ذهب عني النوم
( ألهتك اللذائذ و الأماني ... عن الفردوس و الظل الدواني )
( و لذة نومة عن خير عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان )
( تيقظ من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد بالقران )
و قال مالك بن دينار : كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة فنمت ذات ليلة فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن و جمال و بيدها رقعة فقالت : أتحسن أن تقرأ ؟ فقلت : نعم فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات :
( لهاك النوم عن طلب الأمانيو عن تلك الأوانس في الجنان )
( تعيش مخلدا لا موت فيها و تلهو في الخيام مع الحسان )
( تنبه من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد بالقران )
و روي عن يحيى بن عيسى بن ضرار السعدي و كان قد بكى شوقا إلى الله ستين عاما قال : رأيت كأن ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر حافتاه شجر اللؤلؤ و نبت من قضبان الذهب فإنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد : سبحان المسبح بكل لسان سبحان الموجود بكل مكان سبحان الدائم في كل زمان سبحانه سبحانه قال : فقلت : من أنتن ؟ قلن : خلق من خلق الله سبحانه قلت : و ما تصنعن ها هنا فقلن :
( يناجون رب العالمين لحقهم ... و تسري هموم القوم و الناس نوم )
( ذرانا إله الناس رب محمد ... لقوم على الأقدام بالليل قوم )
فقلت : بخ بخ لهو من هؤلاء لقد أقر الله أعينهم فقلن : أما تعرفهم ؟ فقلت : و الله ما أفهم قلن : هؤلاء المتهجدون بالليل أصحاب السهر
باب في الحور العين و من أي شيء خلقن ؟ روى الترمذي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الحور العين من أي شيء خلقن فقال : من ثلاثة أشياء : أسفلهن من المسك و أوسطهن من العنبر و أعلاهن من الكافور و شعورهن و حواجبهن سواد خط من نور ]
و روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ سألت جبريل عليه السلام فقلت : أخبرني كيف يخلق الله الحور العين ؟ فقال لي يا محمد : يخلقهن الله من قضبان العنبر و الزعفران مضروبات عليهن الخيام أول ما يخلق الله منهن نهدا من مسك أذفر أبيض عليه يلتام البدن ]
و روي عن ابن عباس أنه قال : خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلىركبتيها من الزعفران و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب و من عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا و إذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها و جلدها و في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر و لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها و هي تنادي هذا ثواب الأولياء جزاء بما كانوا يعلمون
باب إذا ابتكر الرجل امرأة في الدنيا كانت زوجته في الآخرة ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك قال : و غضب عليها و على ضوتها فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا و كانت الضرة أحسن اتقاء و كانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر فشكت إلى أبيها أبي بكر فقال لها : أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح و لعله أن يكون زوجك في الجنة
و لقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة قال أبو بكر بن العربي : هذا حديث غريب ذكره في أحكام القرآن له فإن كانت المرأة ذات أزواج فقيل : إن من مات عنها من الأزواج أخراهن له قال حذيفة لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها لا تتزوجي من بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا
و خطب معاوية بن أبي سفيان أم الدرداء فأبت و قالت : [ سمعت أبا الدرداء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : المرأة لآخر أزواجها في الجنة و قال لي : إن أردت أن تكون زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي ]
و ذكر أبو بكر النجاد قال : [ حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : يا رسول الله المرأة يكون لها زوجان في الدنيا ثم يموتون و يجتمعون في الجنة لأيهما تكون للأول أو للآخر ؟ قال لأحسنهما خلقا كان معها يا أم حبيبة ] ذهب حسن الخلق بخير الدنيا و الآخرة و قيل : إنها تخير إذا كانت ذات أزواج
باب ما جاء أن في الجنة أكلا و شرابا و نكاحا حقيقة و لا قذر فيها و لا نقص و لا نوم
مسلم [ عن جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إن أهل الجنة يأكلون فيها و يشربون و لا يتفلون و لا يبولون و لا يتغوطون و لا يتمخطون قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : جشاء أو رشح كرشح المسك يلهمون التسيبيح و التحميد ] و في رواية [ و التكبير كما يلهمون النفس ]
الترمذي [ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يعطي المؤمن في الجنة قوة كذا و كذا في الجماع قيل يا رسول الله أو يطيق ذلك ؟ قال يعطي قوم مائة ] و في الباب عن زيد بن أرقم قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح حسن
و ذكر الدرامي في مسنده [ عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوم مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع و الشهوة فقال رجل من اليهود : إن الذي يأكل و يشرب يكون من الحاجة قال : ثم يفيض من جلده عرق فإذا بطنه قد ضمر ]
و ذكر المخرمي عبد الله بن أيوب قال : [ حدثنا أبو أسامة عن هشام عن زيد بن الجواري و هو زيد بن العمى عن ابن عباس قال : قلنا يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء ]
و خرجه البزار في مسنده [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء ]
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا ] و سيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى
ابن المبارك قال : [ أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال : يؤتون بالطعام و الشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر لذلك بطونهم و تفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك ] ثم قرأ { شرابا طهورا }
أبو محمد الدارمي [ عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله اثنتين و سبعين زوجة اثنتين من الحور العين و سبعين من ميراثه من أهل النار ما منهن واحدة إلا و لها قبل قبل شهي و له ذكر لا ينثني ] قال هشام بن خالد : من ميراثه من أهل النار يعني رجالا دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون
و روي [ من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تمس أهل الجنة أزواجهم ؟ فقال : نعم بذكر لا يمل و فرج لا يحفى و شهوة لا تنقطع ]
الدراقطني [ عن جابر بن عبد الله قيل يا رسول الله : أينام أهل الجنة ؟ قال : لا النوم أخو الموت و الجنة لا موت فيها ] و الله أعلم
باب المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله و وضعه و سنه في ساعة واحدة
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله و وضعه و سنه في ساعة كما يشتهي ] قال حديث حسن غريب أخرجه ابن ماجه و قال في ساعة واحدة في الجنة
قال الترمذي : و قد اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم في الجنة جماع و لا يكون ولد و هكذا يروي عن طاووس و مجاهد و إبراهيم النخعي و قال محمد قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي و لكن لا يشتهي هذا أبدا ] و قد روى [ عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد ] و الله أعلم
باب ما جاء أن كل ما في الجنة دائمر لا يبلى و لا يفنى و لا يبيد مسلم [ عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ينادي مناد أن لكم أن تضحوا فلا تسقموا أبدا و أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وأن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا و أن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا و ذلك قوله عز و جل { و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ]
و [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم و لا يبأس و لا يبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و قد تقدم قول الحور العين : نحن الخالدات فلا نبيد
باب ما جاء أن المرأة من أهل الجنة ترى زوجها من أهل الدنيا في الدنيا ابن وهب قال : و حدثنا ابن زيد قال : يقال للمرأة من أهل الجنة و هي في السماء : أتحبين أن نريك زوجك من أهل الدنيا ؟ فتقول : نعم فيكشف لها عن الحجب و يفتح الأبواب بينها بينه حتى تراه و تعرفه و تعاهده بالنظر حتى تستبطئ قدومه و تشتاق إليه كما تشتاق المرأة إلى زوجها الغائب عنها و لعله يكون بينه و بين
زوجته في الدنيا ما يكون بين النساء و أزواجهن من مكالمة أو مخاصمة فتغضبه زوجته التي في الدنيا فيشق ذلك عليها و تقول : ويحك دعيه من شرك أنما هو معك ليال قلائل أخرجه الترمذي بمعناه عن معاذ بن جبل قال : لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا قال أبو عيسى : هذا حديث غريب خرجده ابن ماجه أيضا
باب ما جاء في طير الجنة و خيلها و إبلها الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما الكوثر قال : ذاك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل : فيه طير أعناقها كأعناق الجزر فقال عمر : إن لهذه لناعمة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكلها أنعم منها ] قال : هذا حديث حسن
و خرجه الثعلبي [ من حديث أبي الدراداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها : يا ولي الله رعيت في مروج الجنة تحت العرش شربت من عيون التسنيم فكل مني لا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منه ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطير فيطير يرعى في الجنة حيث شاء فقال عمر : يا نبي الله إنها لناعمة قال : أكلها أنعم منها ]
الترمذي : [ عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله : هل في الجنة من خيل ؟ قال : إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك حيث شئت إلا فعلت قال : و سأله رجل فقال يا رسول الله : هل في الجنة من إبل ؟ قال : فلم يقل له ما قال صاحبه فقال : إن يدخلك الله الجنة لك فيها ما اشتهت نفسك و لذت علينك ]
و خرج مسلم [ عن أبي مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ] و ذكر ابن وهب قال : [ حدثنا ابن زيد قال : كان الحسن البصري يذكر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن أدنى أهل الجنة منزلة الذي يركب في ألف و ألف من خدمه من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت أحمر لها أجنحة من ذهب اقرأوا إن شئتم { و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا } ]
و ذكر ابن المبارك [ عن شقي بن ماتع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن من نعيم أهل الجنة أنهم ليتزاورون على المطايا و النجب و أنهم يؤتون في يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تورث و لا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله ] و ذكر الحديث
و عن عكرمة عن ابن عباس أنه ذكر مراكبهم ثم تلا قوله تعالى { و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا }
و حكى عن عبد الله بن المبارك : خرج إلى غزو فرأى رجلا حزينا قد مات فرسه فبقي محزونا فقال له : بعني إياه بأربعمائة درهم ففعل الرجل ذلك أي باعه له فرأى من ليلته في المنام كأن القيامة قد قامت و فرسه في الجنة و خلفه سبعمائة فرس فأراد أن يأخذه فنودي أن دعه فإنه لابن المبارك و قد كان لك بالأمس فلما أصبح جاء إليه و طلب الإقالة فقال له و لم ؟ قال : فقص عليه القصة فقال له : اذهب فما رأيته في المنام رأيناه في اليقظة ؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى : و هذه الحكاية صحيحة لأنها في معنى ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود كما ذكرناه
باب ما جاء أن الحناء سيد ريحان الجنة و أن الجنة حفت بالريحان ابن المبارك [ أنبأنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمر قال : الحناء سيد ريحان الجنة و أن فيها من عناق الخيل و كرام النجائب يركبها أهلها ]
و قد تقدم عن أبي هريرة موقوفا أن شجرة طوبى تتفتق عن النجائب و الثياب و مثل هذا لا يقال من جهة الرأي و إنما هو توقيف فاعلمه
و ذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت [ من حديث سعيد بن معن المدني قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما خلق الله الجنة حففها بالريحان و حفف الريحان بالحناء و ما خلق الله شجرة أحب إليه من الحناء و أن المختضب بالحناء لتصلي عليه ملائكة السماء إذا غدا و تقدس الأرض ] قال السكري : [ و تقدس عليه ملائكة الأرض إذا أراح ] هذا حديث منكر لا يصح و في إسنداه غير واحد لا يعرف
و روى [ الترمذي في كتاب الشمائل حدثنا محمد بن خليفة و عمر بن علي قالا : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا الحجاج الصواف عن حنان عن أبي عثمان النهدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة ] قال أبو عيسى : لا يعرف لحنان غير هذا الحديث و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الجرح و التعديل حنان الأسدي من بني أسد بن شريك و هو حنان صاحب الرقيق عم مسرهد والد مسدد روي عن أبي عثمان النهدي و روى عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف سمعت أبي يقول ذلك و قد تقدم عن أبي هريرة موقوفا : أن شجرة طوبى تتفتق على الجنائب و الثياب و مثل هذا كله لا يقال من جهة الرأي و إنما هو توقيف فاعلمه
باب ما جاء أن الشاة و المعزى من دواب الجنة ابن ماجه [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشاة من دواب الجنة ] و في كتاب البزار [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أحسنوا إلى المعزى و أميطوا عنهما الأذى فإنهما من دواب الجنة ] و في التنزيل : { و فديناه بذبح عظيم } و إنما سمي عظيما أنه رعى في الجنة أربعين عاما روي عن ابن عباس رضي الله عنه
باب ما جاء أن للجنة ربضا و ريحا و كلاما البيهقي [ عن أنس عن النبي : لما خلق الله عدن و غرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } ] خرجه البزار من حديث أبي سعيد الخدري
[ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خلق الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فقال طوبى لك منزل الملوك ] و هذا يروى موقوفا عن أبي سعيد الخدري قال : لما خلق الله الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و غرسها قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فدخلتها الملائكة فقالت : طوبى لك منزل الملوك
و روي [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما خلق الله الجنة قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها تكلمي فتكلمت ثم قالت : طوبى لمن رضيت عنه ]
النسائي [ عن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أنا زعيم ـ و الزعيم الحميل ـ لمن آمن بي و أسلم و جاهد في سبيل بيت له في ربض الجنة و بيت في وسط الجنة و بيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك فليم يدع للخير مطلبا و لا من الشهر مهربا يموت حيث شاء أن يموت ]
و قال عمر بن عبد العزيز و الزهدي و الكلبي و مجاهد : مؤمنو الجنة في ربض و رحاب حول الجنة و ليسوا فيها
و روى مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و أن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة هذا موقوف قال أبو عمر بن عبد البر : و قد رواه عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك بهذا الإسناد عني صلى الله عليه و سلم
و خرج أبو داود و الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله و ذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يروح رائحة الجنة و أن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا ] لفظ الترمذي
قال : و في الباب عن أبي بكره قال أبو عيسى : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح
و خرج البخاري [ عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة و أن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ]
باب ما جاء في أن الجنة قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله الترمذي [ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال : يا محمد اقرأ أمتك مني السلام و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء و أنها قيعان و أن غرسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ]
قال : و في الباب عن أبي أيوب و هذا حديث حسن غريب
ابن ماجه [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر به و هو يغرس غرسا فقال : يا أبا هريرة ما الذي تغرس ؟ قال : غرسا قال : ألا أدلك على غراس خير من هذا ؟ سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة ]
الترمذي [ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
باب ما جاء أن الذكر نفقة بناء الجنة ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس قال : حدثنا الفضل بن الصباح قال : سألت النضر بن إسماعيل فحدثني عن حكيم بن محمد الأحمسي قال : بلغني أن الجنة تبنى بالذكر فإذا حبسوا الذكر كفوا عن البناء فيقال لهم في ذلك فيقولون حتى يجيئنا نفقة
قال المؤلف رحمه الله : الذكر طاعة الله عز و جل في امتثال أمره و اجتناب نهيه
روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : من أطاع الله و قد ذكر الله و إن قل صلاته و صومه و صنيعه للخير و من عصى الله فقد نسي الله و إن كثر صلاته و صومه و صنيعه للخير ] ذكره أبو عبد الله محمد في أحكام القرآن له
و ذكره أيضا العامري في شرح الشهاب له
قلت : حقيقة الذكر طاعة الله تعالى في امتثال أمره و اجتناب نهيه
قال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله فمن لم يطعه لم يذكره و إن أكثر التسبيح و التهليل و قراءة القرآن
و لفظه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أطاع الله فقد ذكره و إن كان ساكتا و من عصى الله فقد نسيه و إن كان قارئا مسبحا ]
قال المؤلف رحمه الله : و هذا و الله أعلم لأنه كالمستهزئ و المتهاون و من اتخذ آيات الله هزوا و قد قال العلماء في تأويل قوله تعالى : { و لا تتخذوا آيات الله هزوا } أي لا تتركوا أمر الله فتكونوا مقصرين لاعبين قالوا و يدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا و كذا كل ما كان في هذا المعنى و الله أعلم
باب ما لأدنى أهل الجنة و لا لأعلاهم مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسوله الله صلى الله عليه و سلم قال : سأل موسى عليه السلام ربه فقال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقول : أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب فيقول : لك ذلك و مثله معه و مثله و مثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقول : هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت قال : يا رب فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه من كتاب الله { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] و قد روي موقوفا عن المغيرة قوله
البخاري [ عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة و آخر الناس خروجا من النار رجل يخرج حبوا فيقول له ربه : ادخل الجنة فيقول : رب الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد عليه الجنة ملأى فيقول : إن لك مثل الدنيا عشر مرات ] و قد تقدم هذا
و روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع قصور قصر من ذهب و قصر من فضة و قصر من در و قصر من زمرد و قصر من ياقوت و قصر لا تدركه الأبصار و قصر على لون العرش في كل قصر من الحلى و الحلل و الحور العين ما لا يعلمه إلا الله عز و جل ] ذكره القتبي في عيون الأخبار له و في مراسل الحسن [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أدنى أهل الجنة منزلة الذير يركب في ألف ألف من خدمه ] الحديث و قد تقدم
و خرج الترمذي [ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه و نعيمه و خدمة و سروره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ] قال : حديث غريب و قد روي عن ابن عمر و لم يرفعه
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبة من لؤلؤ و زبرجد و ياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء ] قال هذا ابن المبارك قال : [ أخبرنا سفيان عن رجل عن مجاهد قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه مسيرة ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه و أرفعهم هو الذي ينظر إلى ربه بالغداة و العشي ] و قد تقدم هذا مرفوعا في الباب عن ابن عمر موقوفا و هذا الباب و الذي قبله يدل على أن أدنى أهل الجنة منزلة الكثير من و الزوجات من الحور العين ما قررناه فيما تقدم و الله أعلم
باب رضوان الله تعالى لأهل الجنة أفضل من الجنة البخاري [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا و سعديك و الخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون : و ما لنا لا نرضى يا رب و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] أخرجه مسلم بمعناه في حديث فيه طول
باب رؤية أهل الجنة لله تعالى أحب إليهم مما هم فيه و أقر لأعينهم مسلم [ عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك و تعالى لهم : أتريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة و تنجينا من النار قال : فيكشف لهم الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز و جل و في رواية هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ]
و خرج النسائي [ عن صهيب قال : قيل لرسول الله هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ينادي مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فقالوا : لم تبيض وجوهنا و تثقل موازيننا و تجرنا من النار قال : فيكش الحجاب فينظروا إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجه الله و لا أقر لأعينهم ]
و خرجه أبو داود الطيالسي أيضا قال : [ حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعدا فيقولون : ما هو أليس قد بيض وجوهنا و ثقل موازيننا و أدخلنا الجنة ؟ فيقال لهم ثلاثا فيتجلى لهم الرب تبارك و تعالى فينظرون إليه فيكون ذلك عندهم أعظم مما أعطوا ]
أخبرنا الشيخ الراوية : أبو محمد عبد الوهاب قرأ عليه بثغر الاسكندرية حماه الله قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ أخبرنا الحاجب أبو الحسن بن العلاف حدثنا أبو القاسم بن بشران حدثنا أبو بكر الآجري حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق النيسابوري حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نودوا أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه قالوا : و ما هو ألم يبيض وجوهنا و يزحزحنا عن النار و يدخلنا الجنة ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم منه ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة }
و كذا أخرجه الإمام أحمد بن حنبل و الحارث ابن أبي أسامة عن يزيد بن هارون و انفرد مسلم بإخراجه فرواه ] عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون و رواه نوح ابن أبي مريم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } فقال للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى و هي الجنة قال : و الزيادة النظر إلى وجهه الكريم فأخطأ فيه خطأ بينا و وهم وهما قبيحا
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا أبو بكر الهلالي الهجيمي قال : سمعت أبا موسى الأشعري على منبر البصرة يقول : إن الله يبعث يوم القيامة ملكا إلى أهل الجنة فيقول هل أنجزكم الله ما وعدكم فينظرون فيرون الحلى و الحلل و الثمار و الأنهار و الأزواج المطهرة فيقولون نعم أنجزنا الله ما وعدنا فيقول الملك : هل أنجزكم ما وعدكم ثلاث مرات فلا يفقدون شيئا مما وعدوا فيقولون : نعم فيقول : بقي لكم شيء إن الله تعالى يقول { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ألا إن الحسنى الجنة و الزيادة النظر إلى الله تعالى
فصل : ما رواه النسائي مرفوعا و كذلك أبو داود الطيالسي و أسنداه عن الآجرى و ذكره ابن المبارك موقوفا يبين حديث مسلم و أن المعنى بقوله : قال الله تعالى : قال ملك الله : تريدون شيئا أزيدكم أن يزيدكم و قوله : فيكشف الحجاب : معناه أنه يرفع الموانع من الإدراك عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة و الجلال و البهاء و الكمال و الرفعة و الجمال لا إله إلا هو سبحانه عما يقول الزائفون و المبطلون فذكر الحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون و الباري جل اسمه و تقدست أسماؤه منزلة عما يحجبه إذ الحجب إنما يحيط بمقدر محسوس و ذلك من نعوتنا و لكن حجبه عن أبصار خلقه و بصائرهم و إدراكاتهم بما شاء و كيف شاء
و روي في صحيح الأحاديث أن الله تعالى إذا تجلى لعباده و رفع الحجب عن أعينهم فإذا رأوه تدفقت الأنهار و اصطفت الأشجار و تجاوبت السرر و الغرفات بالصرير و الأعين المتدفقات بالخرير و استرسلت الريح المثيرة و ثبت في الدور و القصور المسك الأذفر و الكافور و غردت الطيور و أشرقت الحور العين ذكره أبو المعالي في كتاب الرد له على السجزي و قال : و كل ذلك بقضاء الله و قدره و إن لم يكن منها شيء عن الرؤية و النظر و لكن الله تعالى يعرف بما شاء ما شاء من آيات عظمته و دلالات هيبته و ذلك بمثابة تدكدك الجبل الذي تجلى الله له و ترضرضه حتى صار رملا هائلا سائلا و الله أعلم
باب منه في الرؤية
مسلم [ عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من فضة آنيتهما و ما فيهما و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما و ما بين القوم و بين أن ينظروا إلى ربهم عز و جل إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن ]
[ و عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و صلاة قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب } ] أخرجه البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن صحيح
و خرج أبو داود [ عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى الله مخليا به يوم القيامة ؟ قال : نعم قلت و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به ؟ قلت : بلى قال : فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل و أعظم ]
[ فصل ] قوله : إلا رداء الكبرياء على وجهه الرداء به هنا مستعار كني به عن كبريائه و عظمته يبينه الحديث الآخر : الكبرياء ردائي و العظمة إزاري يريد بذلك صفتي فقوله : رداء الكبرياء يريد صفة الكبرياء فهو بكبريائه و عظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه بعد رؤية القيامة حتى يأذن لهم بدخول جنة عدن فإذا دخلوها أراد أن يروه فيروه و هم في جنة عدن قال معناه : البهيقي و غيره و ليست العظمة و الكبرياء من جنس الثياب المحسوسة و إنما هي توسعات و وجه المناسبة أن الرداء و الإزار لما كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به و لا يشاركه فيهما غيره عبر عن عظمته و كبريائه بهما لأنهما مما لا يجوز مشاركة الله تعالى فيهما ألا ترى آخر الحديث فمن نازعني واحدا منهما قصمته ثم قذفته في النار
باب منه و في سلام الله تعالى عليهم روى محمد بن المنكدر [ عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذا سطع لهم نور من فوقهم فإذا الرب سبحانه قد أشرف عليهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة و ذلك قوله تعالى { سلام قولا من رب رحيم } قال : فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم فإذا احتجب عنهم بقي نوره و بركته عليه في ديارهم ]
[ فصل ] قوله : قد أشرف عليهم أي أطلع كما يقال فلان مشرف عليك أي مطلع عليك من مكان عال و الله تعالى لا يوصف بالمكان من جهة الحلول و التمكن و إنما يوصف من جهه العلو و الرفعة فعبر عن اطلاعه عليهم و نظره إليهم بالإشراف و لما كان سبحانه قائلا متكلما و كان الكلام له صفة في ذاته و لم يزل و لا يزال فهو يسلم عليهم سلاما هو قوله منه كما قال تعالى : { سلام قولا من رب رحيم } و قوله : فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة أي لهوا عنه بلذة النظر إلى وجهه الكريم و ذلك أن ما دون الله تعالى لا يقاوم تجليه و لولا أن الله تعالى يثبتهم و يبقيهم لحل بهم ما حل بالجبل حين تجلى به و قوله حتى يحتجب عنهم يجوز أن يكون معناه حتى يردهم إلى نعيم الجنة الذي نسوه و إلى حظوظ أنفسهم و شهواتها التي سهوا عنها فانتفعوا بنعيم الجنة الذي وعده لهم و تنعموا بشهوات النفوس التي أعدت لهم و ليس ذلك إن شاء الله تعالى على معنى الاحتجاب عنهم الذي هو بمعنى الغيبة و الاستتار فيكونوا له ناسين و عن شهوده محجوبين و إلى نعيم الجنة ساكنين و لكنه يردهم إلى ما نسوه و لا تحجبهم عما شاهدوا حجبة غيبة و استتار يدل على ذلك قوله : بقي نوره و بركته عليهم في ديارهم و كيف يحجبهم عنه و هو ينعت المزيد عليهم و ما وعدهم به من النعيم و النظر إذا صح و الحجبة إذا ارتفعت لم يكن بين ةنظر البصر و شهود السر فرق و لا بين حال الشهود و الغيبة فرق فيكون محجوبا في حال الغيبة بل تتفق الأوقات و تتساوى الأحوال فيكون في كل حال شاهدا و بكل جارحة ناظرا و لا يكون في حال محجوبا و لا بالغيب موصوفا
حكاية
حكي عن قيس المجنون أنه قيل له : ندعو لك ليلى ؟ فقال و هل غابت عني فتدعى ؟ فقيل له : أتحب ليلى ؟ فقال : المحبة ذريعة الوصلة و قد وقع الوصل فأنا ليلى و ليلى أنا و الله أعلم
باب منه و بيان قوله تعالى و لدينا مزيد
يحيى بن سلام قال : [ أخبرنا رجل من أهل الكوفة عن داود بن أبي هند عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة لينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه و فيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات سمعها الأولون و الآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد من شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله تعالى يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله إليهم في كل جمعة ]
و خرج عن بكر بن عبد الله المزني قال : إن أهل الجنة ليزورون ربهم في مقدار كل عيد كأنه يقول في كل سبعة أيام مرة فيأتون رب العزة في حلل خضر و وجوه مشرقة و أساور من ذهب مكللة بالدر و الزمرد عليهم أكاليل الذهب و يركبون بخبائهم و يستأذنون على ربهم فيأمر لهم ربنا بالكرامة
و ذكر هو و ابن المبارك جميعا قال حدثنا المسعودي عن النهال بن عمرو بن أبي عبيدة بن عبد الله بن عقبة عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون معه في القرب قال ابن المبارك : على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا
و قال يحيى بن سلام : كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا و زاد فيحدث لهم شيئا من الكرامة لم يكونوا رأوه قبل ذلك قال يحيى : و سمعت غير المسعودي يزيد فيه و هو قوله تعالى { و لدينا مزيد } و قال الحسن في قوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : الزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل و ليس شيء أحب إلى أهل الجنة من يوم الجمعة يوم المزيد لأنهم يرون فيه الجبار جل جلاله و تقدست أسماؤه
فصل
قلت : قوله في كثيب يريد أهل الجنة أي هم على كثيب كما في مرسل الحسن أول الباب و قيل : المزيد ما يزوجون به من الحور العين رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا و ذكر أبو نعيم عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال : إن
من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يتمنون شيئا إلا مطروا قال خالد : يقول كثير لئن أشهدني الله ذلك لأقولن لها أمطرينا جواري مزينات و قد تقدم من حديث ابن عمرو أكرمهم على الله من ينظر إلى الله غدوة و عشية و هذا يدل على أن أهل الجنة في الرؤية مختلفو الحال
و قد روي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : إن لله تعالى عبادا لو حجبهم في الجنة ساعة لاستغاثوا من الجنة و نعيمها كما يسغيث أهل النار من النار و عذابها
نبذ من أقوال العلماء في تفسير كلمات و آيات من القرآن وردت في ذكر الجنة و أهلها
من ذلك قوله تعالى : { و نزعنا ما في صدورهم من غل } قال ابن عباس أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله تعالى ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم و تصفوا وجوههم و تجري عليهم نضرة النعيم
و قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى { و سقاهم ربهم شرابا طهورا } قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم و لا تشتعث أشعارهم أبدا ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فتقول لهم : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }
و ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه تلا هذه الآية { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها } وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان فعمدوا إلى أحداهما كأنما أمروا بها فاغتسلوا منها فلم تشعث رؤوسهم بعدها أبدا و لم تغير جلودهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهن ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فطهرت أجوافهم و غسلت كل قدر فيها و تتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدنيا بالحميم يجيء من الغيبة يقولون : أبشر أعد الله لك كذا و كذا ثم يذهب الغلام منهم إلى الزوجة من أزواجه فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى في الدنيا فتقول له : أنت رأيته ؟ فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة الباب ثم ترجع فتجيء فتنظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر و أصفر و أحمر من كل لون ثم يجلس فينظر فإذا زرابي مبثوثة و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة ثم يرفع رأسه إلى سقف بنيانه فلولا أن الله قدر ذلك لأذهب بصره إنما هو مثل البرق ثم يقول : كما أخبرنا تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله }
و ذكر القتيبي في عيون الأخبار له مرفوعا [ عن علي رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله عز و جل { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } ما هؤلاء الوفد ؟ قال : يحشرون ركبانا ثم قال : و الذي نفسي بيده أنهم إذا خرجوا من قبورهم ركبوا نوقا عليهم رحائل الذهب مرصعة بأنواع الجوهر فتسير بهم إلى باب الجنة قال : و عند باب الجنة شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداى تلك العيون فإذا بلغ الشراب البطن طهرهم الله به من دنس الدنيا و قذرها فذلك قوله تعالى { و سقاهم ربهم شرابا طهورا } قال : ثم يغتسلون من العين الأخرى فلا تشعث رؤوسهم و لا تتغير ألوانهم قال : ثم يضربون حلق أبواب الجنة فلو سمعت الخلائق طنين الأبواب لافتتنوا بها فيبادر رضوان فيفتح لهم فينظرون إلى حسن وجهه فيخرون ساجدين فيقول لهم رضوان يا أولياء الله : أنا قيمكم الذي وكلت بكم و بمنازلكم فينطلق بهم إلى قصور من فضة شوفاتها من ذهب يرى ظاهرها من باطنها من النور و الرقة و الحسن قال فيقول أولياء الله عند ذلك يا رضوان : لمن هذا ؟ فيقول : هذا لكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فلولا أن الموت يرفع عن أهل الجنة لمات أكثرهم فرحا قال : ثم يريد أحدهم أن يدخل قصره فيقول له رضوان اتبعني حتى أريك ما أعد الله لك قال : فيمر به فيريه قصورا و خياما و ما أعطاه الله عز و جل قال : ثم يأتي به إلى غرفة من ياقوته من أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع قد لونت بجميع الألوان على جنادل الدر و الياقوت و في الغرفة سرير طوله فرسخ في عرض مثل ذلك عليه من الفراش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق بعض قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فذلك قوله عز و جل { و فرش مرفوعة } و هي من نور و السرير من نور و على رأس ولي الله تاج له سبعون ركنا في كل ركن سبعون ياقوتة تضيء و قد رد الله وجهه كالبدر و عليه طوق و وشاح يتلألأ من نور و قد سور بثلاثة أسورة : سوار من الذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ فذلك قوله تعالى { يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير } ]
و قوله تعالى { جنات عدن يدخلونها } قال ابن عباس الجنات سبع : دار الجلال و دار السلام و جنة عدن و جنة المأوى و جنة الخلد و جنة الفردوس و جنة النعيم
و قيل : إن الجنان أربع لأن الله تعالى قال : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } و قال بعد ذلك { و من دونهما جنتان } و لم يذكر سوى هذه الأربع جنة خامسة فإن قيل فقد قال جنة المأوى قيل جنة المأوى اسم لجميع الجنان يدل عليه أنه تعالى قال : { فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون } و الجنة اسم الجنس فمرة يقال جنة و مرة يقال جنات و كذلك جنة عدن و جنات عدن لأن العدن الإقامة و كلها دار الإقامة كما أن كلها مأوى المؤمنين و كذلك دار الخلد و دار السلام لأن جميعها للخلود و السلامة من كل خوف و حزن و كذلك جنات النعيم و جنة النعيم لأن كلها مشحونة بأصناف النعيم ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له و قال : إنما منعنا أن نجعل كل واحدة من العدن و المأوى و النعيم جنة سوى الأخرى لأن الله تعالى إن كان سمي شيئا من هذه الأسماء جنة في موضع فقد سمي الجنات كلها بذلك الاسم في موضع آخر فعلمنا أن هذه الأسماء ليست لتميز جنة من جنة و لكنها للجنان أجمع لا سيما و قد أتى الله بذكر العدد فلم يثبت إلا أربعا و قد أثبت لهذه الجنان أبوابا فقال : [ و فتحت أبوابها ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ إن أبواب الجنة ثمانية ] فيحتمل أن يكون ذلك لأن لكل جنة من الجنان الأربع بابين و وصف أهل الجنة فصنفهم صنفين : أحدهما السابقون المقربون و الآخرون أصحاب اليمين فعلمنا أن السابقين أهل الجنتين العليتين في قوله : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } و أهل اليمين أهل الجنتين الدنييتين { و من دونهما جنتان } و بهذا جاءت الروايات
و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } إلى قوله { و من دونهما جنتان } قال : فتلك للمقربين و هاتان لأصحاب اليمين و عن أبي موسى الأشعري نحو ذلك
قوله تعالى : { يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا } قال المفسرون : ليس أحد من أهل الجنة إلا و في يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ و قال هنا : { من ذهب و لؤلؤا } و قال في آية أخرى : { و حلوا أساور من فضة }
و في الصحيح : تبلغ حلية المؤمن حيث تبلغ الوضوء و قريء [ لؤلؤا ] بالنصب على معنى و يحلون لؤلؤا و أساور : جمع أسورة و أسورة واحدها سوار فيها ثلاث لغات ضم السين و كسرها و أسوار قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور و التيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة إذ هم ملوك قوله تعالى : { و لباسهم فيها حرير }
روي عن يحيى بن سلام عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال : [ دار المؤمن في الجنة درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل و يأخذ بأصبعه أو قال بأصبعه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ و الزبرجد و المرجان ]
و أخرجه ابن المبارك بهذا السند عن حماد عن أبي المهزم قال : سمعت أبا هريرة يقول : [ إن دار المؤمن في الجنة من لؤلؤة فيها أربعون بيتا في وسطها شجرة تنبت الحلل فيذهب فيأخذ بأصبعيه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ و الزبرجد و المرجان ] و قد تقدم هذا المعنى و أبو المهزم ضعيف
و روى عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن ولي الله يلبس حلة ذات وجهين يتجاوبان بصوت مليح تقول التي تلي جسده : أنا أكرم على ولي الله منك أنا أمس بدنه و أنت لا تمسينه و تقول التي تلي وجهه : أنا أكرم على ولي الله منك أنا أرى وجهه و أنت محجوبة لا ترين وجهه و قد تقدم أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة من حديث أبي سعيد الخدري صححه أبو عمرو رحمه الله و قال : هذا عندي على نحو المعنى الذي نزعنا به في شارب الخمر أنه إذا دخل الجنة لا يشرب فيها خمرا و لا يذكرها و لا يراها و لا تشتهيها نفسه فكذلك لابس الحرير في الدنيا إن لم يتب منه
قلت : و كذلك من استعمل آنية الذهب و الفضة و لم يتب من استعمالها
و قد روي [ عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين فقيل : و من الروحانيون يا رسول الله ؟ قال قراء أهل الجنة ] خرجه الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول و قد قيل : إن حرمانه الخمر و لباسه الحرير و شربه في إناء الذهب و الفضة و استماعه للروحانيين إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار و يسقى من طينة الخبال فإذا خرج من النار بالشفاعة أو بالرحمة العامة المعبر عنها في الحديث بالقبضة أدخل الجنة و لم يحرم شيئا منها لا خمرا و لا حريرا و لا غيره لأن حرمان شيء من لذات الدنيا لمن كان في الجنة نوع عقوبة و مؤاخذة و الجنة ليست بدار عقوبة و لا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه
قلت : و حديث أبي سعيد الخدري و أبي موسى الأشعري يرد هذا القول و كما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه و ليس ذلك لعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة و لا حريرها و لا يكون ذلك عقوبة
قوله تعالى { و يلبسون ثيابا خضرا من سندس و إستبرق } و قال { عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق } الإستبرق : الديباج الصفيق الكثيف و السندس : الرقيق الخفيف و خص الأخضر لأنه الموافق للبصر لأن البياض يبدد النظر و يؤلم و السواد يورم و الخضرة لون بين السواد و البياض و تلك تجمع الشعاع
قوله تعالى : { متكئين فيها على الأرائك } الأرائك : جمع أريكة و هي السرر في الحجل و قال { متكئين على سرر مصفوفة }
و روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج في شهر واحد ألف حوراء يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدينا ]
و روي عن ابن عباس أنه قال : إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحور سبعين سنة لا يملها و لا تمله كلما أتاها وجدها بكرا و كلما رجعت إليه عادت إليه شهوته فيجامعها بقوة سبعين رجلا لا يكون بينهما مني يأتي من غير مني منه و لا منها
و قال المسيب بن شريك : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا } قال : هي عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا فلما سمعت عائشة ذلك قالت : واوجعاه فقال النبي صلى الله عليه و سلم ليس هناك وجع ]
و ذكر يحيى بن سلام عن صاحب له [ عن أبان بن عياش عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الرجل من أهل الجنة ليتنعم مع زوجته في تكأة واحدة سبعين عاما فتناديه أبهى منها و أجمل من غرفة أخرى : أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من اللاتي قال الله تعالى { و لدينا مزيد } فيتحول إليها يتنعم معها سبعين عاما في تكأة واحدة فتناديه أبهى و أجمل من غرفة أخرى : أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من اللاتي قال الله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } فيتحول إليها فيتنعم معها في تكأة واحدة سبعين عاما فهم كذلك يزورون ] قال تعالى : { و زوجناهم بحور عين } الحور : البيض في قول قتادة و العامة و العين : العظام العيون
و قال قتادة في قوله تعالى : { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } يعني في الآخرة في شغل فاكهون قال : يعني افتضاض العذارى فاكهون قال الحسن : مسرورون { هم و أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون } قوله تعالى { أولئك لهم رزق معلوم } فيه قولان : أحدهما حين يشتهونه قال مقاتل : الثاني بمقدار الغداة و العشي قاله ابن السائب قال الله تعالى { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } قال العلماء : ليس في الجنة ليل و لا نهار و إنما هم في نور أبدا و إنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب و إغلاق الأبواب و يعرفون مقدار النهار برفع الحجب و فتح الأبواب ذكره أبو الفرج بن الجوزي
و خرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول له [ من حديث أبان عن الحسن و أبي قلابة قال : قال رجل يا رسول الله : هل في الجنة من ليل ؟ قال : و ما هيجك على هذا ؟ قال : سمعت الله تعالى يقول في الكتاب { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } فقلت : الليل بين البكرة و العشي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس هناك ليل إنما هو ضوء و نور الغدو على الرواح و الرواح على الغدو و يأتيهم طرف الهدايا لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها و تسلم عليهم الملائكة ] قوله تعالى ذكره : فواكه جمع فاكهة قال الله تعالى { و أمددناهم بفاكهة و لحم مما يشتهون } و هي الثمار كلها رطبها و يابسها قاله ابن عباس و قال مجاهد في قوله تعالى { ودانية عليهم ظلالها } يعني ظلال الشجر { و ذللت قطوفها تذليلا } أي ذللت ثمارها يتناولن منها كيف شاءوا إن قام ارتفعت بقدره و إن قعد تدلت إليه و إن اضطجع تدلت إليه حتى يتناولها
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء { و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا } قال : أهل الجنة يأكلون الثمار من الشجر كيف شاءوا جلوسا و مضطجعين و كيف شاءوا ؟ واحد القطوف قطف بكسر القاف
و ذكر ابن وهب [ قال : أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله : إن خلق أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ستون ذراعا كالنخلة السحوق يأكلون من ثمار الجنة قياما ]
و ذكر يحيى بن سلام [ عن عثمان عن نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده إن الجنة ليتناولون من قطوفها و هم متكئون على فراشهم فما تصل إلى في أحدهم حتى يبدل مكانها أخرى قوله تعالى { يطاف عليهم بصحاف من ذهب و أكواب } ]
روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أدنى الجنة منزلة الذي يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صحفتان واحدة ذهب و الأخرى فضة كل واحدة لون لا يشبه الأخرى ] ذكره القتبي في عيون الأخبار و قال المفسرون : يطوف على أدناهم منزلة سبعين ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب يفدى عليه بها في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها يأكل من آخرها كما يأكل من أولها و يجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضا و يراع عليه بمثلها و يطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام مع كل غلام صحفة من ذهب فيها ألوان الطعام ليس في صاحبتها يأكل من آخرها كما يأكل من أولها و يجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضا و أكواب أي : و يطاف عليهم بأكواب كما قال تعالى { و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب } قال قتادة : الكوب : المدور القصير العتق القصير العروة و الإبريق المستطيل الطويل العنق الطويل العروة
و قال ابن عزيزة : أكواب : أباريق لا عرى لها و لا خراطيم واحدها كوب قاله الأخفش و قطرب و قال الجوهري في الصحاح : الكوب كوز لا عروة له و نحوه قوله مجاهد و السدي و هو مذهب أهل اللغة : التي لا آذان لها و لا عرى { كانت قواريرا * قوارير من فضة } أي اجتمع فيها صفاء القوارير في بياض الفضة و ذلك أن لكل قوم من تراب أرضهم قوارير قال : و إن تراب الجنة فضة فهي قوارير من فضة قاله ابن عباس و قال : هي في صفاء الفضة و في ذلك دليل على أن أرض الجنة من فضة إذ المعهود الدنيا اتخاذ الآنية من الأرض يرى باطنها من ظاهرها و ظاهرها من باطنها كالقوارير يرى الشراب من جدر القوارير و هذا لا يكون في فضة الدنيا { قدروها تقديرا } أي في أنفسهم فأتتهم على نحو ما قدروا و اشتهوا من صغار و كبار و أوساط هذا تفسير قتادة
و قال ابن عباس و مجاهد : أتوا بها على قدر رتبهم بغير زيادة و لا نقصان و المعنى قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم و يسقون فيها كأسا أي من كأس كما قال في الآية الأخرى : { إن الأبرار يشربون من كأس } يعني الخمر قال { يطاف عليهم بكأس من معين } أي من خمر و المعين : الماء الجاري الظاهر لا فيها غول أي لا تغتال عقولهم و لا يصيبهم منها صداع { و لا هم عنها ينزفون } أي لا تذهب عقولهم بشربها يقال : الخمر غول للحليم و الحرب غول للنفوس أي تذهب بها و قرأ حمزة و الكسائي : ينزفون بكسر الزاي من أنزف القوم إذا حان منهم النزف و هو السكر كما يقال : أحصد الزرع إذا حان حصاده و أقطف الكرام إذا حان قطافه و أركب المهر إذا حان ركوبه و قيل : المعنى لا ينفذون شرابهم لأنه دأبهم و الكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه فإن كان فارغا فليس بكأس { كان مزاجها كافورا } قال الكلبي كافورا عينا في الجنة يشرب بها أي منها و قيل الباء زائدة و المعنى : يشربها و منه تنبت بالدهن أي تبنت الدهن و قال { كان مزاجها زنجبيلا } و كانت العرب تنستطيب الزنجبيل و تضرب به المثل و بالخمر ممزوجين فخاطبهم الله بما كانوا عارفين و يستحبون كأنه يقول : لكم في الآخرة مثل ما تستحبون في الدنيا إن آمنتم { عينا فيها تسمى سلسبيلا } السلسبيل اسم العين و السلسبيل في اللغة صفة لما كان غاية في السلاسة و قال تعالى { يسقون من رحيق } يعني الشراب و هي الخمر { مختوم * ختامه مسك } قال مجاهد : يختم به آخر جرعة و قيل : المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس و انقطع الختم ذلك بطعم المسك
و قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى { ختامه مسك } خلطه ليس بخاتم يختم ألم تر إلى قول المرأة من نسائكم خلطه من الطيب كذا و كذا إنما خلطه مسك ليس بخاتم يختم ذكره ابن المبارك و ابن وهب و اللفظ لابن وهب
و ذكر ابن المبارك عن أبي الدرداء { ختامه مسك } قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربتهم لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها و في ذلك { فليتنافس المتنافسون } أي في الدنيا بالأعمال الصالحة قال { و مزاجه من تسنيم } أي و مزاج ذلك الشراب { عينا يشرب بها المقربون } قال قتادة : يشرب بها المقربون صرفا و تمزج لسائر أهل الجنة و تسنيم أشرف شراب في الجنة و أصل التسنيم في اللغة الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل و منه سنام البعير لعلوه من بدنه و كذلك تسنيم القبور و قد تسنم العيون و المياه فتشرف عليهم تجري من أعلى العرش يحقق ذلك ما رواه أبو مقاتل [ عن صالح ابن سعيد عن أبي سهل عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكرها الله { يفجرونها تفجيرا } و الأخرى { نضاختان } من فوق العرش إحداهما التي ذكرها الله سلسبيلا و الأخرى التنسيم ] ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في الأصل التاسع و الثمانين و قال : التنسيم للمعذبين خاصة شربا لهم و الكافور للأبرار شربا لهم و الكافور للأبرار شربا لهم و الكافور يمزج للأبرار من التنسيم شرابهم و أما الزنجبيل و السلسبيل فللأبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل و سكت عن ذلك لمن هي له شرب فما كان للأبرار مزاجا فهو للمقربين صرفا و ما كان للأبرار صرفا فهو لسائر أهل الجنة مزاجا
و الأبرار هم الصادقون و المقربون هم الصديقون قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل و في التنزيل { بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين } أي لذيذة يقال شراب لذيذ إذا كان طيبا قوله تعالى : { و عندهم قاصرات الطرف } أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرون إلى غيرهم قال ابن زيد : إن المرأة منهن لتقول لزوجها : و عزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك و عين : عظام العيون الواحدة منهن عيناء { كأنهن بيض مكنون } أي مصون
و قال الحسن و ابن زيد شبههن ببيض تكنه النعامة بالريش من الريح و الغبار فلونه أبيض في صفرة و هو أحسن ألوان النساء و قيل المراد بالبيض : اللؤلؤ كقوله { و حور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي في أصدافه و قال { فيهن خيرات حسان } يعني النساء الواحدة خيرة و أصله خيرات فخفف كهين و لين
ابن المبارك قال : أنبأ الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن أبي عامر قال : لو أن خيرة من خيرات حسان اطلعت من السماء لأضاءت لها و لقهر ضوء وجهها الشمس و القمر و لنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا و ما فيها النصيف : القناع و قوله : حسان أي حسان الخلق و إذا قال تعالى { حسان } فمن يقدر أن يصف حسنهن حور أي بيض مقصورات أي محبوسات في الخيام جمع خيثمة و قد تقدم صفتها
و قال ابن عباس : الخيمة درة مجوفة فرسخ في مثله لها أربع آلاف مصراع من ذهب ذكره ابن المبارك : أنبأنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس
و ذكر عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا كلها در
و عن أبي الأحوص { حور مقصورات في الخيام } قال : الدر المجوف
و قال الترمذي الحكيم في قوله تعالى : { حور مقصورات في الخيام } قال : بلغنا في الرواية أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار لسعتها أربعون ميلا و ليس لها في ذلك باب حتى إذا حل ولي الله بالجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة و الخدم لم تأخذها فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين و ذكر الدار قطني في كتاب المديح عن المعتمر بن سليمان قال : إن في الجنة نهرا ينبت الجواري الأبكار و الرفرف : المجالس قاله قتادة و قيل : فضول المجالس و قال أبو عبيد : الرفرف : العرش
و قال الترمذي الحكيم : إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف و أهوى به كالمرجاح يمينا و شمالا و رفعا و خفضا يتلذذ به مع أنيسته فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع فيروي في الخبر أنه ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم و تسبيحاتهم فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع بأنواع الأغاني تسبيحا و تقديسا للملك القدوس فلم تبق شجرة في الجنة إلا وردت و لم يبق ستر و لا باب إلا ارتج و انفتح و لم تبق حلقة على باب إلا طنت بأنواع طنينها و لم يبق أجمة من آجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر و لم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها و الطير بألحانها و يوحي الله تبارك و تعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم و أسمعوا عبادي الذي نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان و أصوات روحانية فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة ثم يقول الله عز و جل ذكره : يا داود قم عند ساق العرش تجدني فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يعم الأصوات و يجليها و تتضاعف اللذة و أهل الخيام من تلك الرفارف تهوي بهم و قد حفت بهم أفانين اللذات و الأغاني فذلك قوله تعالى { فهم في روضة يحبرون }
و عن يحيى بن أبي كثير في قوله تعالى { فهم في روضة يحبرون } قال : الروضة اللذات و السماع قوله تعالى { و عبقري حسان } العبقري الفرش له قال ابن عباس : الواحدة عبقري و هي النمارق أيضا في قوله تعالى { و نمارق مصفوفة } و الزرابي البسط مبثوثة معناه : مبسوطة و قيل منسوجة بالدر و الياقوت و قوله تعالى : { و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } يعني أهل الجنة من غير السابقين و أهل الجنة كلهم أصحاب يمين { في سدر مخضود } و هو الذي نزع شوكه و قد تقدم { و طلح منضود } أي بعضه على بعض و قال المفسرون : الطلح شجر الموز ها هنا و هو عند العرب شجر حسن اللون لخضرته و إنما خص بالذكر لأن قريشا كانوا يتعجبون من خضرته و كثرة ظلاله من طلح و سدر فخوطبوا و وعدوا لما يحبون مثله قاله مجاهد و غيره قوله تعالى { و لهم فيها أزواج مطهرة } قال مجاهد : مطهرة من البول و الغائط و الحيض و النخام و البصاق و المني و الولد ذكره ابن المبارك
أنبأنا ابن جريج عن مجاهد فذكره { و هم فيها خالدون } أي باقون لا خروج لهم منها و قد تقدم
و قال مجاهد أيضا في قوله تعالى { على سرر متقابلين } قال : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا و تحابيا و قيل : الأسرة تدور كيف شاءوا فلا يرى أحد قفا أحد
و قال ابن عباس : على سرر مكللة بالدر و الياقوت و الزبرجد السرير منها ما بين صنعاء إلى الجابية و ما بين عدن إلى أيلة و قيل : تدور بأهل المنزل الواحد و الله أعلم
باب ما جاء في أطفال المسلمين و المشركين و ذكر أبو عمرو في كتاب التمهيد و الاستذكار و أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول و المفسرون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } قال : هم أطفال المسلمين زاد الترمذي : لم يكتسبوا فيرتهنوا بكبسهم و قال أبو عمرو : الجمهور من العلماء : على أن أطفال المسلمين في الجنة و قد ذهب طائفة من العلماء إلى الوقف في أطفال المسلمين و أولاد المشركين أن يكونوا في جنة أو في نار منهم حماد ابن زيد و حماد بن سلمة و ابن المبارك و إسحاق بن راهويه [ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأطفال فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] هكذا قال الأطفال و لم يخص طفلا عن طفل
قال الحليمي في كتاب منهاج الدين : و قد توقف في ولدان المسلمين من توقف في ولدان المشركين و قال : إذا كان كل منهم يعامل بما عمل الله تعالى منه أنه فاعله لو بلغه فكذلك ولدان المسلمين و احتج بأن صبيا صغيرا مات لرجل من المسلمين فقالت إحدى نساء النبي صلى الله عليه و سلم : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و ما يدريك إن الله خلق الجنة و خلق لها أهلا و خلق النار و خلق لها أهلا ] قال : فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقطع في أطفال المسلمين بشيء
قال الحليمي : و هذا الحديث يحتمل أن يكون إنكارا النبي صلى الله عليه و سلم على التي قطعت بأن الصبي في الجنة لأن القطع بذلك قطع بإيمان أبويه و قد يحتمل أن يكون منافقين فيكون الصبي ابن كافرين فيخرج هذا على قول من يقول : قد يجوز أن يكون ولدان المشركين في النار و قد يحتمل أن يكون أنكر ذلك لأنه لم يكن أنزل عليه في ولدان المسلمين شيء ثم أنزل عليه قوله تعالى : { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } و قد قريء : و أتبعناهم ذريتهم فأخبر تعالى أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا جعل ذرياتهم أتباعهم في الإيمان و أنه يلحق بهم ذرياتهم في الآخرة فثبت بذلك أن ذراري المسلمين في الجنة و قال النبي : [ سألت ربي أن يريني أهل الجنة و أهل النار فجاءني جبريل و ميكائيل عليهما السلام في النور فقالا : انطلق يا أبا القاسم إلى أن قال و أنا أسمع لغط الصبيان فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هم ذرية أهل الإسلام الذين يموتون قبل آبائهم يكفل بهم عليه السلام حتى يلحق آباؤهم ] فدل أنهم في الجنة
قال المؤلف رحمه الله : الحديث الذي احتجوا به خرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا قيس بن الربيع عن يحيى بن إسحاق
[ و عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بصبي من الأنصار ليصلى عليه فقالت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا قط و لم يدره فقال : يا عائشة أو لا تدرين أن الله تبارك و تعالى خلق الجنة و خلق لها أهلا و خلق النار و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم ]
و قالت طائفة : أولاد المسلمين في الجنة و أولاد المشركين في النار و احتجوا بما ذكرناه من الآية و الحديث بحديث [ سلمة بن يزيد الجعفي قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم أنا و أخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية و كانت تقري الضيف و تصل الرحم و تصوم و تفعل و تفعل فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : لا قال : فقلنا إن أمنا و أدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرأيتم الوائدة و المؤودة فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها ]
قال أبو عمرو : هذا الحديث صحيح الإسناد إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة لها
و في بعض طرق حديث سلمة بن زيد فلما رأى ما قد دخل علينا قال : [ و أمي مع أمكما ] خرجه و رواه أبو داود الطيالسي في مسنده [ عن سلمة بن يزيد قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : أمي ماتت و كانت تقري الضعيف و تطعم الجار و كانت وأدت وأدا في الجاهلية و لها سعة من مال أفينفعها إن تصدقت عنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ينفع الإسلام إلا من أدركه إنها و ما وأدت في النار و رأى ذلك قد شق علي فقال : و أم محمد معها و ما فيهما خيره ]
و خرج أبو نعيم الحافظ و غيره [ عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالا : يا رسول الله إن أمنا كانت تكرم الزوج و تعطف على الولد و ذكر الضيف غير أنها وأدت في الجاهلية فقال : أمكما في النار فأدبر و الشر يرى في وجوههما فأمر بهما فردا و البشرى ترى في وجوههما رجاء أن يكون حدث شيء قال : أمي مع أمكما ] و ذكر الحديث
و روى بقية بن الوليد [ عن محمد بن يزيد الألمعاني قال : سمعت عبد الله بن قيس يقول : سمعت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذرارى المسلمين فقال : هم مع آبائهم قلت : بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين و سألته عن ذرارى المشركين فقال : مع آبائهم فقالوا : بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] قال أبو عمر عبد الله بن قيس : هذا شامي تابعي ثقة و أما بقية بن الوليد فضعيف و أكثر حديثه مناكير و لكن هذا الحديث قد روي مرفوعا عن عائشة من غير هذا الوجه [ قالت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدان المسلمين أين هم يوم القيامة ؟ قال : في الجنة قالت : و سألته عن ولدان المشركين أين هم يوم القيامة ؟ قال : في النار فقلت مجيبة له : يا رسول الله لم يدركوا الأعمال و لم تجر عليهم الأقلام قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين و الذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ] قال أبو عمر : في طريقه أبو عقيل صاحب لهية لا يحتج بمثله عند أهل العلم
قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكر أبو عمر هذا الحديث بهذا اللفظ و كذلك ذكر أبو أحمد بن علي فيما ذكر أبو محمد عبد الحق
و ذكره أبو داود الطيالسي قال : حدثنا أبو عقيل [ عن بهية عن عائشة قالت : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أطفال المشركين قال : هم في النار يا عائشة قالت فقلت : فما تقول في المسلمين ؟ قال : هم في الجنة يا عائشة قالت قلت : و كيف لم يدركوا الأعمال و لم تجر عليهم الأقلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ربك أعلم بما كانوا عاملين ] قال أبو محمد عبد الحق و يحيى بن المتوكل ضعيف عندهم و بهية لم يرو عنها إلا أبو عقيل
و قالت طائفة : إن الأطفال يمتحنون في الآخرة و احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الهالك في الفترة و المعتوه و المولود قال : يقول الهالك في الفتره و المعتوه و المولود : قال : يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب و لا رسول ثم تلا { و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } الآية و يقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا و لا شرا و يقول المولود : رب لم أدرك العمل فترقع لهم نار فيقول لهم ردوها و ادخلوها قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل و يمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله : إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم ]
قال أبو عمر : من الناس يوقف هذا الحديث على أبي سعيد و لا يرفعه منهم أبو نعيم الملاي
قلت : و يضعفه من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف و إنما هي دار جزاء ثواب و عقاب
قال الحليمي : و هذا الحديث ليس بثابت و هو مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار الامتحان فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة و لا مجنة مع الضرورة و لأن الأطفال هناك لا يحلو من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة و إن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد
و قال أبو عمر رحمه الله : هذا الأحاديث من أحاديث الشيوخ و فيها علل و ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء و هو أصل عظيم و القطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم و النظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيبا منها
ذكر البخاري حديث أبي رجاء العطاردي [ عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم الحديث الطويل حديث الدويا و فيه قوله عليه الصلاة و السلام : و أما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام و أما الوالدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل : يا رسول الله و أولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أولاد المشركين ]
و خرج البخاري أيضا في رواية أخرى عن أبي رجاء العطاردي : و الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام و الصبيان حوله أولاد الناس و هذا يقتضي عمومه جميع الناس
قلت : ذهب إلى هذا جماعة من العلماء و هو أصح شيء في الباب قالوا أولاد المشركين إذا ماتوا صغارا في الجنة و احتجوا بحديث عائشة ذكره أبو عمر في التمهيد قالت : [ سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين فقال : هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت { و لا تزر وازرة وزر أخرى } قال هم على القنطرة أو قال هم في الجنة ]
قلت : هذا حديث مرتب في غاية البيان و هو يقضي على ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في أحاديث صحاح من قوله في الأطفال [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فكان ذلك منه قبل أن يعلم أن أولاد المشركين في الجنة و قيل أن ينزل عليه { و لا تزر وازرة وزر أخرى }
و قد كان عليه الصلاة و السلام أنزل عليه بمكة { قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي } و لم يكشف له عن عاقبة أمرهم و أمر المشركين ثم أنزل عليه { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } الآية و أنزل عليه { و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } و أنزل عليه { و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب } فاعلمه بأن الذي يفعل به أن يظهر عليهم
و قد ذكر ابن سنجر و اسمه محمد بن سنجر قال : [ حدثنا هوذة حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية قالت : حدثني عمي قال : قلت يا رسول الله من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة و المولود في الجنة و الوثيدة في الجنة و الشريد في الجنة ]
[ و عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم ] قال أبو عمر : إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو و اللعب من غير عقد و لا عزم من قولهم لهيت في الشيء أي لم أعتقده كقوله { لاهية قلوبهم } و قالت طائفة : أولاد المشركين خدم أهل الجنة و حجتهم ما رواه الحجاج بن نضير [ عن مبارك بن فضلة بن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : أولاد المشركين خدم أهل الجنة ] ذكره أبو عمر
قلت : و إسناده إذا الحديث ليس بالقوي لكن يدل على صحة هذا القول أعني أنهم في الجنة أو أنهم خدم أهل الجنة ما ذكر جماعة من العلماء بالتأويل أن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صور الذر أقروا له بالربوبية و هو قوله { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بأنه لا إله إلا هو ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك و من كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيؤمن فيصير سعيدا و من مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة و من كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم في النار لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلى الله عليه و سلم و لم ينقضوا الميثاق
قلت : و غفر له و هذا أيضا حسن فإنه جمع بين الأحاديث و يكون معنى قوله عليه الصلاة و السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] يعني لو بلغوا بدليل حديث البخاري و غيره مما ذكرناه
و قد روى أبان [ عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين فقال : لم يكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة و لم يكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدم لأهل الجنة ]
ذكره يحيى بن سلام في تفسيره و أبو داود الطيالسي في مسنده و أبو نعيم الحافظ أيضا [ عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون عليها فيدخلون النار و لم تكن لهم حسنات يجازون بها فيكونوا من ملوك الجنة فقال النبي : من خدم أهل الجنة ]
روى أبو عبد الله الترمذي الحكيم قال : حدثنا أبو طالب الهروي قال : حدثنا يوسف بن عطية عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل مولود يولد من ولد كافر أو مسلم فإنما يولدون على الفطرة على الإسلام كلهم و لكن الشياطين أتتهم فاختالتهم عن دينهم فهودتهم و نصرتهم و مجستهم و أمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
و خرج من حديث عياض بن حماد المجاشعي [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في خطبته : أن الله أمرني أن أعلمكم و قال إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاختالتهم عن دينهم و أمرتهم أن يشركو بي و حرمت عليهم ما أحللت لهم ]
قال أبو عبد الله الترمذي : هذا بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا و تأكدت حجة عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة من خلق السموات و الأرض و الشمس و القمر و البر و البحر و اختلاف الليل و النهار فلما غلبت أهواؤهم عليهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية و النصرانية بأهوائهم يمينا و شمالا
قلت : و هذا أيضا يقوي ما أخذناه من أطفال المشركين في الجنة و حديث عياض بن حماد خرجه مسلم في صحيحه و حسبك حسبك و للعلماء في الفطرة أقول قد ذكرناها في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الروم و الحمد لله
باب منه و في ثواب من قدم ولدا مسلم عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة رضي الله عنه أنه مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تطيب به أنفسنا عن موتانا ؟ قال : نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنيعة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله و أبويه الجنة
و خرج أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يختلف إليه رجل من الأنصار معه ابن له فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم : أتحبه يا فلان ؟ فقال : نعم قال : أحبك الله كما أحبه ففقده النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عنه فقالوا يا رسول الله مات ابنة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما ترضى أو لا ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك فقالوا يا رسول الله : أله واحده ألم لنا كلنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بل لكلكم ] ذكره أبو عمر في التمهيد أيضا و قال هذا حديث حسن ثابت صحيح
و خرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا هشام عن قتادة عن راشد عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره إلى الجنة ]
فصل
هذا الحديث يدل على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة و هو قول أكثر أهل العلم كما بينا في الباب قبل هذا و هو مقتضى ظاهر قول الله عز و جل { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } كما تقدم
و قد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم و هذا فما عدا أولاد الأنبياء عليهم السلام فإنه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة حكاه أبو عبد الله المازري و دعاميص : جمع دعموص و هو دويبة تغوص في الماء و الجمع دعاميص و دعامص قال الأعشى :
( فما ذنبنا أن حاش لي بحر علمكم ... و بحرك ساج لا يوارى الدعامصا )
و قد قيل : إن الدعموص يراد به الآذن على الملوك المتصرف بين أيدهم
قال أمية ابن الصلت :
دعموص أبواب الملوك و جانب للخرق فاتح
و هذا هو المراد بالحديث
و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار و أدخله الجنة ]
قال المؤلف رحمه الله : قوله عليه الصلاة و السلام : لم يبلغوا الحنث معناه عند أهل العلم : لم يبلغوا الحلم و لم يبلغوا أن يلزمهم حنث
و قد روى الترمذي [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم كانوا له حصنا حصينا من النار قال أبو ذر قدمت اثنين قال و اثنين فقال أبي بن كعب سيد القراء قدمت واحدا قال و واحدا و لكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب و أبو عبيدة لم يسمع من أبيه خرجه ابن ماجه أيضا و في هذا كله دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم قال أبو عمر بن عبد البر : و هذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة و لم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من المجرة فجعلتهم في المشية و هو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم و لا يجوز على مثلهم الغلط
إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من أخبار الآحاد الثقات العدول و أن قوله صلى الله عليه و سلم : [ الشقي من شقى في بطن أمه و أن الملك ينزل فيكتب أجله و رزقه ] الحديث مخصوص و أن مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد و هو في بطن أمه و لم يشق بدليل الأحاديث و الإجماع و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة : [ إن الله خلق الجنة و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم و خلق النار و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم ] ساقط ضعيف مردود بالإجماع و الآثار و طلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به و هذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه
باب ما جاء في نزل أهل الجنة و تحفهم إذا دخلوها روى البخاري و مسلم [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفئها الجبار بيده كما يكفئ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة قال : فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة ؟ قال : بلى قال : تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه قال ألا أخبرك بإدامهم ؟ قال : بلى قال : بالام و نون قالوا و ما هذا ؟ قال : ثور و نون يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفا ]
و خرج مسلم [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال : لم تدفعني ؟ فقلت : ألا تقول : يا رسول الله ؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي : جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أينفعك شيء إن حدثتك ؟ قال : أسمع بأذني فكنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال : سل فقال اليهودي : أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم في الظلمة دون الجسر قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : فقراء المهاجرين قال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال : زيادة كبد النون قال : فما غذاؤهم ؟ قال : ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال : فما شرابهم على إثراها ؟ قال : من عين فيها تسمى سلسبيلا فقال : صدقت ] و ذكر الحديث
فصل
قلت : هذا الحديث انفرد به مسلم و هو أبين من الحديث الآخر الذي قبله لأنه من قول النبي صلى الله عليه و سلم جوابا لليهودي و الحديث الذي قبله آخره من قول اليهودي و هو يدخل في المسند لإقرار النبي صلى الله عليه و سلم و الجبار اسم من أسماء الله تعالى قد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و يكفئها و يقلبها و يميلها من قولك كفأت الإناء إذا كببته و قد تقدم أن أرض المحشر كقرصة النقي ليس فيها أعلم لأحد و النزل ما يعد للضيف من الطعام و الشراب و يقال نزل أو نزل بتخفيف الزاي و تثقيلها و قريء بذلك قوله { نزلا من عند الله } قال أهل اللغة : النزل ما يهيأ للنزيل و النزيل الضيف قال الشاعر :
( نزيل القوم أعظمهم حقوقا ... و حق الله في حق النزيل )
و حظ النزيل مجتمع و التحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه و الطرف محاسنة و ملاطفة و زيادة كبد النون قطة منه كالإصبع و بالأم قد جاء مفسرا في متن الحديث أنه الثور و لعل اللفظ عبرانية و النون الحوت و هو عربي و في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سيد إدام الدنيا و الآخرة اللحم ذكره أبو عمرو في التمهيد
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره ابن العوام مؤذن إيليا أول رجل أذن بإبليا أخبره أنه سمع كعبا يقول إن الله تبارك و تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها : إن لكل ضعيف جزورا و إني أجزركم اليوم حوتا و ثورا فيجزر لأهل الجنة
باب ما جاء أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله و الصلاة أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا سليم بن معاذ الضبي عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مفتاح الصلاة الوضوء و مفتاح الجنة الصلاة ]
و البيهقي [ عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حين بعثه إلى اليمن أنك ستأتي أهل الكتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة فقل شهادة أن لا إله إلا الله ]
و في البخاري : و قيل لوهب : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال : بلى و لكن ليس مفتاح إلا و له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك و إلا لم يفتح لك
فصل
قلت : الأسنان عبارة عن توحيد الله و عبادته جميعا و عن توحيده أيضا فقط
قال الله تعالى { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } و قال : { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } و هو في القرآن كثير الإيمان مع العمل و هو مقتضى الحديث الأول حديث جابر رضي الله عنه و عن توحيد الله فقط
و في الصحيحين [ عن أبي ذر رضي الله عنه و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قالت : و إن زنى و إن سرق ؟ قال و إن زنى و إن سرق ]
و ذكر الطبراني [ من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حضر ملك الموت عليه السلام رجلا فنظر في كل عضو من أعضائه فلم يجد فيه حسنة ثم شق قلبه فلم يجد فيه شيئا ثم فك عن لحيته فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول : لا إله إلا الله فقال : وجبت لك الجنة بقول كلمة الإخلاص ]
باب الكف عمن قال : لا إله إلا الله مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت أن أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و يؤمنوا بي و بما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ]
باب ما جاء أن المؤمن حرام دمه و ماله و عرضه و في تعظيم حرمته عند الله تعالى
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع : ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا و إن أحرم الشهور شهركم هذا و إن أحرم البلد بلدكم هذا ألا و إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : اللهم اشهد ] خرجه مسلم من حديث أبي بكرة و جابر بمعناه
و خرج ابن ماجه أيضا [ عن عبد الله بن عمرو قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف بالكعبة و يقول : ما أطيبك و أطيب رائحتك ما أعظمك و أعظم حرمتك و الذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمه منك ماله و دمه و أن لا يظن به إلا خيرا ]
مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه ]
النسائي [ عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا ]
الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة ] قال : حديث حسن صحيح غريب
باب ما جاء في قتل مؤمنا و الإعانة على ذلك
قال الله تعالى : { و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما } و قال تعالى : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا }
و روى عبد العزيز بن يحيى المدني قال : [ حدثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعظنا و يحدثنا و يقول : و الذي نفسي بيده ما عمل على وجه الأرض قط عمل أعظم عند الله بعد الشرك من سفك دم حرام و الذي نفسي بيده إن الأرض لتضج إلى الله تعالى من ذلك ضجيجا تستأذنه فيمن عمل ذلك على ظهرها لتخسف به ]
و ذكره أبو نعيم قال : حدثنا شافع بن محمد بن أبي عوانة الأسفرايني قال : حدثنا أحمد بن عبد الجوهري قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى قال : حدثنا مالك فذكره
أبو داود [ عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ]
و عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلح ] قال الهروي : بلح أي أعيا و انقطع به يقال : بلح الفرس إذا انقطع جريه و بلحت الركية إذا انقطع ماؤها
و ذكر أبو بكر النيسابوري قال : [ حدثنا زكريا بن يحيى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا الفزاري عن زياد بن أبي زيادة الشامي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أعان في قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم يلقاه القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله ]
قال الهروي و في الحديث [ من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة ] قال : شقيق هو أن يقول في أقتل أو كما قال عليه الصلاة و السلام : [ كفى بالسيف مثا ] معناه : شافيا
باب إقبال الفتن و نزولها كمواقع القطر و الظلل و من أين تجيء و التحذير منها و فضل العبادة عندها
قال الله تعالى { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } و قال تبارك و تعالى : { و نبلوكم بالشر و الخير فتنة } ففي هذا تنبيه بالغ على التحذير من الفتن
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا يمسي كافرا و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ]
[ و عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول : لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذه و حلق بإصبعين الإبهام و التي تليها قالت فقلت يا رسول الله أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ]
و [ عن أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال : هل تدون ما أرى ؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ] أخرجهما البخاري
البيهقي [ عن كرز بن علقمة الخزاعي قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه و سلم : هل للإسلام من منتهى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام فقال : ثم ماذا ؟ قال : ثم تقع الفتن كالظلل فقال الرجل كلا و الله إن شاء الله قال بلى و الذي نفسي بيده لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض ] قال الزهري : أساود صبا : الحية السوداء إذا أراد أن ينهش ارتفع هكذا ثم انصب
خرجه أبو داود الطيالسي أيضا
قال ابن دحية أبو الخطاب الحافظ : هذا الحديث لا مطعن في صحة إسناده رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن كرز قرأته بجامع قرطبة و بمسجد الغدير و بمسجد أبي علاقة على المحدث المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري قال سمعت جميع هذا الكتاب و هو جامع الخير للإمام سفيان بن عيينة عن الشيخين الجليلين الثقة المفتي أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و الوزير الكتاب الثقة أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن طريف فإلا قرأناه على العدل أبي القاسم حاتم بن محمد التميمي بحق سماعه على الثقة الفاضل أبي الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس رحمه الله بمكة حرسها الله تعالى بالمسجد الحرام بحق سماعه على الثقة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الديلي بحق سماعه على الثقة الصالح أبي عبيد سعيد بن عبد الرحمن المخزومي بحق سماعه من الإمام الفقيه أبي محمد سفيان بن عيينة
قال المؤلف رحمه الله : و قد حدثني بهذا السند المذكور الفقيه القاضي أبو عامر يحيى ابن عبد الرحمن إجازة عن أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال و كرز هو كرز بن علقمة بن هلال الخزاعي أسلم يوم الفتح و عمر طويلا و هو الذي نصب أعلام الحرم في خلافة معاوية و إمارة مروان بن الحكم و فيه ثم مه قال ثم تعود الفتن بدل قال : ثم ماذا قال : ثم تقع الفتن و لم يذكر قول الزهري إلى آخره
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : قول الرجل : ثم مه هنا على الاستفهام أي ثم ما يكون و مه : في غير هذا الموضع زجر و إسكات كقوله عليه الصلاة و السلام : [ مه إنكن صواحب يوسف ] و قوله [ كأنها الضلل ] الظلل السحاب و الظلة السحابة و منه قوله تعالى : { فأخذهم عذاب يوم الظلة } و قول الرجل بجهله : كلا و الله معناه الجحد بمعنى لا و الله
و قيل : هي بمعنى الزجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بلى و الذي نفسي بيده ] و بلى للنفي استفهاما كان أو خبرا أو نهيا فالاستفهام { ألست بربكم } و { أليس ذلك بقادر } جوابه : بلى هو قادر و مثال الخبر { لن تمسنا النار } جوابه قالوا : بل تمسكم و مثال النهي لا تلق زيدا جوابه : بلى لألقينه
قال أبو الخطاب بن دحية : و قوله صبا هكذا قيدناه بضم الصاد و تشديد الباء على مثال غر و الأساود : نوع من الحيات عظام فيها سوداء و هو أخبثها و الصب منها التي روى تنهش ثم ترتفع ثم تنصب شبههم فيما يتولونه من الفتن و القتل و الأذى بالصب من الحيات
قال المؤلف رحمه الله : الأساود جمع أسود و هو الحية و صبا جمع كغار و غز و هو الذي يميل و يلتوي وقت الهش ليكون أنكي في اللدغ و أشد صبا للسم و يجوز أن يكون جمع أصب و هو الذي كأنه عند الهش انصبابا و الأول من صبا إذا مال و الثاني من صب إذا سكب
مسلم [ عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : استيقظ النبي صلى الله عليه و سلم ليلة فزعا مرعوبا يقول : سبحان الله ماذا فتح اللية من الخزائن و ماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجر يريد أزواجه لكي يصلين رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ]
[ و عن عبيد بن عمير قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أصحاب الحجرات سعرت النار و جاءت الفتن كأنها قطع الليل المظلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا ]
قال أبو الحسن القابسي هذا و إن كان مرسلا فإنه من جيد المراسيل و عبيد ابن عمير من أئمة المسلمين
مسلم [ عن سالم بن عبد الله أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة و أركبكم للكبيرة سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الفتنة تجيء من ها هنا و أومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان و أنتم يضرب بعضكم رقاب بعض و إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله تعالى له : { و قتلت نفسا فنجيناك من الغم و فتناك فتونا } ]
[ و عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العبادة في الهرج كهجرة إلي ]
فصل
قوله : [ ويل للعرب من شر قد اقترب ] قد تقدم معنى الويل و المراد هنا الحزن قاله ابن عرفة فأخبر عليه الصلاة و السلام بما يكون بعده من أمر العرب و ما يستقبلهم من الويل و الحرب و قد وجد ذلك بما استؤثر عليهم به من الملك و الدولة و الأموال و الإمارة فصار ذلك في غيرهم من الترك و العجم و تشتتوا في البراري بعد أن كان العز و الملك و الدنيا لهم ببركته عليه الصلاة و السلام و ما جاءهم به من الدين و الإسلام فلمالم يشكروا النعمة و كفروها بقتل بعضهم بعضا و سلب بعضهم أموال بعض سلبها الله منهم و نقلها إلى غيرهم كما قال تعالى { و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم } ولهذا لما قالت زينب في سياق الحديث : [ أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ]
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قولها أنهلك و فينا الصالحون ؟ قول : [ نعم إذا كثر الخبث ] دليل على أن البلاء قد يرفع عن غير الصالحين إذا كثر الصالحون
فأما إذا كثر المفسدون و قل الصالحون هلك المفسدون و الصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف و يكرهوا ما صنع المفسدون و هو معنى قوله { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } بل يعم شؤمها من تعاطاها و من رضيها هذا بفساده و هذا برضاه و إقراره على ما نبينه
فإنم قيل فقد قال الله تعالى : { و لا تزر وازرة وزر أخرى } ـ { كل نفس بما كسبت رهينة } ـ { لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت } و هذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد و إنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب
و قريء { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } و على هذه القراءة يكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة و هي قراءة زيد بن ثابت و علي و أبي و ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين
و الجواب : أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على من رآه أن يغيره إما بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك و إذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطيع سوى ذلك
روى الأئمة [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فلبسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس عليه غيره و ذلك أضعف الإيمان ]
روي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات : اللهم إن هذا منكر لا أرضاه فإذا قال ذلك فقد أدى ما عليه فأما إذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله و هذا برضاه كما ذكرنا و قد جعل الله في حكمه و حكمته الراضي بمنزلة الفاعل فانتظم في العقوبة دليله قوله تعالى { إنكم إذا مثلهم } فأما إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون و أخلصوا كراهيتهم لله تعالى و تبرأوا من ذلك حسب ما يلزمهم و يجب لله عليهم غير معتدين سلموا قال الله تعالى { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم } و قال : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون }
و قال ابن عباس : قد أخبرنا الله عز و جل عن هذين و لم يخبرنا عن الذين قالوا : { لم تعظون قوما الله مهلكهم }
و روى سفيان بن عيينة قال : حدثنا سفيان بن سعيد عن مسعد قال : بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال يا رب إن فيها فلانا العابد فأوحى الله تعالى إليه أن به فإبدأ فإنه لم يتغير وجهه في ساعة قط
و قال وهب بن منبه : لما أصاب داود الخطيئة قال : يا رب اغفر لي قال : قد غفرتها لك و ألزمت عارها بني إسرائيل قال : كيف يا رب و أنت الحكم العدل الذي لا تظلم أحدا أعمل أنا الخطيئة و يلزم عارها غيري فأوحى الله تعالى إليه : يا داود إنك لما اجترأت علي بتلك المعصية لم يعجلوا عليك بالنكرة
و روى أبو داود [ عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها و قال مرة : فأنكرها كمن غاب عنها و من غاب عنها فرضيتها كان كمن شهدها ] و هذا نص في الفرض و حسن رجل عند الشعبي قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال الشعبي : قد شركت في دمه
و في صحيح الترمذي : أن الناس إذا رأوا الظالم و لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده فالفتنة إذ عمت هلك الكل و ذلك عند ظهور المعاصي و انتشار المنكر و عدم التغيير و إذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة و الهرب منها و هكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين و قالوا : لا نساكنكم و بهذا قال السلف رضي الله عنهم
روى ابن وهب عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا و لا يستقر فيها و احتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلى بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها خرجه أهل الصحيح
و قال مالك في موضع آخر : إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في آخر الأرض و قال : إن لزوم الجماعة نجاة و أن قليل الباطل و كثيرة هلكه و قال : ينبغي للناس أن يغضبو لأمر لله تعالى في أن تنتهك فرائضه و حرمه و الذي أتت به كتبه و أنبياؤه أو قال : يخالف كتابه
قال أبو الحسن القابسي : الذي يلزم الحق و يغضب لأمر الله تعالى على بينة من النجاة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله ]
قال أبو عمرو و روى أشهب بن عبد العزيز قال : قال مالك لا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير حق و السب للسلف قال أبو عمر : أما قول مالك هذا فمعناه إذا وجد بلدا يعمل فيه الحق في الأغلب و قد قال عمر بن عبد العزيز : فلان بالمدينة و فلان بمكة و فلان باليمن و فلان بالعراق و فلان بالشام امتلأت الأرض و الله جورا و ظلما قال أبو عمر : فأين الهرب إلى السكوت و لزوم البيوت و الرضي بأقل قوت و قال منصور بن الفقيه فأحسن :
( الخير أجمع في السكوت ... و في ملازمة البيوت )
( فإذا استوى لك ذا و ذا ... فاقنع له بأقل قوت )
و كان سفيان الثوري يقول : هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين فكيف بالمشهورين هذا زمان ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن
و يحكى عنه أنه قال : و الله ما أدري أي البلاد أسكن فقيل له خراسان ؟ فقال : مذاهب مختلفة و آراء فاسدة فقيل الشام ؟ فقال : يشار إليكم بالأصابع أراد الشهرة فقيل له : العراق ؟ قال بلد الجبابرة فقيل له : فمكة ؟ قال : مكة تذيب الكيس و البدن
و قال القاضي أبو بكر العربي قال شيخي في العبادة : لا يذهب بك الزمان في مصافاة الأقران و مواصلة الأحزان و لم أر للخلاص طريقا أقرب من طريقين : إما أن يغلق المرء على نفسه بابه و إما أن يخرج إلى مواضع لا يعرف فيه فإن اضطر إلى مخالطة فليمن معه ببدنه و ليفارقهم بقلبه و لسانه فإن لم يستطع فبقلبه و لا يفارق السكوت أنشدني محمد بن عبد الملك الصوفي قال : أنشدني أبو الفضل الجوهري : [ الخير أجمع في السكوت ] البيتان :
قال القاضي : و لي في هذا المعنى شعر :
( حاز السلام مسلم ... يأوي إلى سكن وقوت )
( ماذا يؤمل بعد ما ... يأوي إلى بيت وقيت )
قال المؤلف رحمه الله : و لأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى شعر :
( أنست بوحدتي و لزمت بيتي ... فدام الأنس لي و نما السرور )
( و أدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار و لا أزور )
( و لست بسائل ما دمت حيا ... أسار الخيل أم ركب الأمير )
و الشعر في هذا المعنى كثير و سيأتي للعزلة له زيادات بيان من السنة إن شاء الله تعالى و كثرة الخبث ظهور الزنا و أولاد الزنا
و ذكر ابن وهب عن يحيى مولى الزبير أن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم خسف قبل المشرق فقال بعض الناس يا رسول الله : يخسف الأرض و فيها المسلمون ؟ فقال : [ إذا كان أكثر أهلها الخبث ]
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر و الإعلان بالمعاصي فيكون طهرة للمؤمنين و نقمة للفاسدين لقوله عليه الصلاة و السلام : [ ثم بعثوا على نياتهم ] و في رواية [ على أعمالهم ] و قد تقدم هذا في المعنى :
فمن كانت نيته صالحة أثيب عليها و من كانت نيته سيئة جوزي عليها و في التنزيل { يوم تبلى السرائر } فاعلمه
باب ما جاء في رحى الإسلام و متى تدور أبو داود [ عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست و ثلاثين أو سبع و ثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك و إن لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قال : قلت : أمما بقي ؟ قال : مما مضى ]
فصل
قال الهروي في تفسيرهذا الحديث : قال الحربي : و يروى تزول و كأن تزول أقرب لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها وتدور يكون بمايحبون و يكرهون فإن كان الصحيح سنة خمس فإن فيها قام أهل مصر و حصروا عثمان رضي الله عنه و إن كانت الرواية سنة ست ففيها خرج طلحة و الزبير إلى الجمل و إن كانت سنة سبع ففيها كانت صفين غفر الله لهم أجمعين
و قال الخطابي : يريد عليه الصلاة و السلام أن هذه المدة إذا انقضت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف على أهله لذلك الهلاك يقال : الأمر إذا تغير و استحال دارت رحاه و هذا و الله أعلم إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة و قوله ليقم لهم دينهم أي ملكهم و سلطانهم و ذلك من لدن بايع الحسن عليه السلام معاوية إلى إنقضاء بني أمية من المشرق نحو من سبعين سنة و انتقاله إلى بني العباس و الدين الملة و السلطان ومن قوله تعالى { ليأخذ أخاه في دين الملك } أي في سلطانه و قوله : [ تدور رحى الإسلام ] دوران الرحى كناية عن الحرب و القتال شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح و هلاك الأنفس
باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال : لما أريد عثمان رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما جاء بك ؟ قال : جئت في نصرتك قال : اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجا خير لي من داخل قال : فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال : أيها الناس إنه كان في الجاهلية اسمي فلان بن فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله و نزلت في آيات من كتاب الله تعالى نزلت { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } و نزلت في { قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب } إن الله سيفا مغمودا عنكم و إن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة و لتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قال : فقالوا اقتلوا اليهودي و اقتلوا عثمان قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب
قلت : و مثل هذا من عبد الله لا يكون إلا عن علم من الكتاب أعني التوراة على ما يأتي أو سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم و سيأتي قول حذيفة لعمران : إن بينك و بينها بابا مغلقا يوشك أن يكشر
فصل
قال العلماء بالسير و الأخبار : إنه دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار جماعة من الفجار منهم : كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصا أي قتله به فافتضح الدم على المصحف و وقع على قوله تعالى { فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم } و قيل ذبحه رجل من أهل مصر يقال له عمار و قيل ذبحه رومان و قيل قتله الموت الأسود يقال له أيضا الدم الأسود من طغاة مصر فقطع يده فقال عثمان : أما و الله إنها لأول كف خطت في المصحف و هذه البلوى التي ثبتت في الصحيح [ عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل حائطا و أمرني بحفظ باب الحائط فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا أبو بكر ثم جاء آخر يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا عمر ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا عثمان بن عفان ] لفظ البخاري ذكره في مناقب عثمان
و قد قيل : إن الصحيح في مقتله رضي الله عنه أنه لم يتعين له قاتل معين بل أخلاط الناس و هم رعاع جاءوا من مصر و من غير قطر و جاء الناس إلى عثمان فيهم عبد الله بن عمر متقلدا سيفه و زيد بن ثابت فقال له زيد بن ثابت : إن الأنصار بالباب يقولون إنشئت كنا أنصار الله مرتين قال : لا حاجة لي في ذلك كفوا و كان معه في الدار الحسن و الحسين و ابن عمر و عبد الله بن الزبير و أبو هريرة و عبد الله بن عامر بن ربيعة و مروان بن الحكم كلهم يحملون السلاح فعزم عليهم في وضع أسلحتهم و خروجهم و لزوم بيتهم فقال له الزبير و مروان : نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح فضاق عثمان رضي الله عنه من الحصار و منع من الماء حتى أفطر على ماء البحر الملح قال الزبير بن بكار : حاصروه شهرين و عشرين يوما و قال الواقدي حاصروه تسعة و أربعين يوما ففتح الباب فخرج الناس و سلموا له راية في إسلام نفسه قال سليط بن أبي سليط : فنهانا الإمام عثمان عن قتالهم و لو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها و دخلوا عليه في أصح الأقوال و قتله من شاء الله من سفلة الرجال
و روى أبو عمر بن عبد البر [ عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادعوا لي بعض أصحابي فقلت أبو بكر ؟ قال : لا فقلت : عمر ؟ فقال : لا فقلت : ابن عمك ؟ قال : لا فقلت عثمان قال : نعم فلما جاءه قال لي بيده فتنحيت فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يساره و لون عثمان يتغير فما كان يوم الدار و حصر عثمان قيل له ألا نقاتل عنك قال : لا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلي عهدا و أنا صابر عليه ]
و في الترمذي [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يا عثمان لعل الله يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم ] قال : هذا حديث حسن غريب
و فيه [ عن ابن عمر قال : ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فتنة فقال : يقتل فيها هذا مظلوما لعثمان ] و قال حديث حسن غريب و يروى أنه دخل عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب قال انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا فهل يزيدون على أن يقتلوك ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا قال : لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فيكون سنة كلما كره قوم خليفة خلعوه و قتلوه
و اختلف في سنه رضي الله عنه حين قتله من قتله من الفجار ـ أدخلهم الله بحبوحة النار ـ فقيل : قتل و هو ابن ثمان و ثمانين و قيل ابن تسعين سنة و قال قتادة : قتل عثمان و هو ابن ست و ثمانين و قيل غير هذا و قتل مظلوما كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و جماعة أهل السنة و ألقي على مزبلة فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه حتى جاء جماعة بالليل خفية فحملوه على لوح وصلوا عليه و دفن في موضع من البقيع يسمى حوش كوكب و كان مما حبسه عثمان رضي الله عنه و زاده في البقيع و كان إذا مر به يقول يدفن فيك رجل صالح و كان هو المدفون فيه و عمي قبره لئلا يعرف و قتل يوم الجمعة لثماني ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس و ثلاثين قاله الواقدي و قيل ليلتين بقيتا من ذي الحجة و كانت خلافته إحدى عشر سنة إلا أياما اختلف فيها رضي الله عنه و قيل إن المتعصبين على عثمان رضي الله عنه من المصريين و من تابعهم من البلدان كانوا أربعة آلاف و بالمدينة يومئذ أربعون ألفا
و قد اختلف العلماء فيمن نزل به مثل نازلة عثمان ألحقه الله جناح المغفرة و الرضوان هل يلقى بيده أو يستنصر فأجاز جماعة من الصحابة و التابعين و فقهاء المسلمين أن يستسلم و هو أحد قولي الشافعي و قال بعض العلماء : لا يسلم بيده بل يستنصر و يقاتل و لكل من القولين وجه و دليل و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى و قال بعض العلماء : و لو اجتمع أهل المشرق و المغرب على نصرة عثمان لم يقدروا على نصرته لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنذره في حياته فأعلمه بالبلوى التي تصيبه فكان ذلك من المعجزات التي أخبر بوقوعها بعد موته صلى الله عليه و سلم و ما قال رسول الله شيئا قط إلا كان
و قال حسان بن ثابت :
( قتلتم ولي الله في جوف داره ... و جئتم بأمر جائر غير مهتد )
( فلا ظفرت إيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد )
و خرج مسلم في صحيحه قال : و حدثنا محمد بن المثنى و محمد بن حاتم قالا : حدثنا معاذ بن جبل قال : حدثنا ابن عوف عن محمد قال : قال جندب جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس فقلت له ليهراقن اليوم ههنا دم فقال ذلك الرجل : كلا و الله قلت : بلى و الله قال : كلا و الله قلت : بلى و الله قال ثلاثا كلا إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنيه قلت : بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك و قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تنهني ثم قلت : ما هذا الغضب فأقبلت عليه أسائله فإذا الرجل حذيفة
و الجرعة : موضع بجهة الكوفة على طريق الحيرة قيده الحفاظ بفتح الجيم والراء و قيده بعض رواة الحفاظ بإسكان الراء و هو يوم خرج فيه أهل الكوفة متألبين متعصبين ليردوا إلى عثمان بن عفان و هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس و كتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك و لا وليدك و كان رده سنة أربع و ثلاثين و كتبوا إلى عثمان ان يولي عليهم أبا موسى الأشعري فلم يزل واليا عليهم إلى أن قتل عثمان و لما سمع بقتله يعلى بن أمية التميمي الحنظلي أبو صفوان أبي هريرة يقال له خالد أسلم يوم الفتح و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينا و الطائف و تبوك و كان صاحب الجند و صنعاء أقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فخرج إلى المسجد و هو كسير على سرير و استشرف إليه الناس و اجنمعوا فقال : من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه فأعان الزبير بأربعمائة ألف و حمل سبعين رجلا من قريش و حمل رضي الله عنها على جمل أذب و يقال أذب لكثرة و بره اشتراه ابن أمية الحنظلي بمائتي دينار قاله ابن عبد البر في الاستيعاب و قال ابن شبة في كتاب الجمل له : اشتراه بثمانين دينارا و الأول أصح و اسمه عسكر
و ذكر ابن سعد قال : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني اسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال : كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملا لعثمان على صنعاء فلما بلغه خبر عثمان أقبل سريعا لينصره فلقيه صفوان بن أمية و صفوان على فرس و عبد الله بن أبي ربيعة على بغلة فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة فكسرت فخذه فقدم مكة بعد الضرر و عائشة بمكة يومئذ تدعو إلى الخروج تطلب دم عثمان فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل فوضع على سريره فقال : أيها الناس من خرج في طلب دم عثمان فعلي جهازه قال : فجهز ناسا كثيرا و حملهم و لم يستطع إلى الجمل لما كان برجله
أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني محمد بن عبد الله ابن عبيد عن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي السائب قال : رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد الحرام يحض الناس على الخروج في طلب دم عثمان و يحمل ما جاء انتهى كلام ابن سعد في الطبقات و لا تعارض و الحمد لله فإنه يحتمل أن يكون خرجا جميعا في نصرة عثمان فكسروا أو اجتمعا بمكة و جعلا يجهزان من يخرج و الله أعلم
و كانت عائشة رضي الله عنها حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان و كانت مهاجرة له فاجتمع طلحة و الزبير و يعلى و قالوا لها بمكة : عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم و يراعوا نبيهم و هي تمتنع عليهم فاحتجوا عليها بقوله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } و قالوا لها : إن المتألبين على عثمان بالبصرة كثير فبلغت الأقضية مقاديرها فاصطف الناي للقتال و رموا عليا و أصحابه بالنبال فقال علي : لا ترموا بسهم و لا تضربوا بسيف و لا تطعنوا برمح فرمى رجل من عسكر القوم بسهم فقتل رجلا من أصحاب علي فأتى به إلى علي فقال : اللهم أشهد ثم رمي آخر فقتل رجلا من أصحاب علي فقال علي : اللهم أشهد ثم رمي آخر فقال علي اللهم اشهد و قد كان علي نادى الزبير يا أبا عبد الله : ادن إلي اذكرك كلاما سمعته أنا و أنت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : علي الأمان فقال : على الأمان فبرز فأذكره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له و قد و جدهما يضحكان بعضهما إلى بعض [ أما أنك ستقاتل عليا و أنت له ظالم ] فقال الزبير : اللهم إني ما ذكرت هذا إلا في هذه الساعة و ثنى عنان فرسه لينصرف فقال له ابنه عبد الله : إلى أين ؟ قال : أذكرني علي كلاما قاله له رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كلا و لكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا و يحملها حدادا و يحملها رجال شداد قال : و يلك و مثلي يعير بالجبن هلم الرمح فأخذ الرمح و حمل في أصحاب علي فقال علي : افرجو للشيخ فإنه محرج فشق الميمنة و الميسرة و القلب ثم رجع و قال لابنه : لا أم لك أبفعل هذا جبان و انصرف و قامت الحرب على ساق و بلغت النفوس إلى التراق فأفرجت عن ثلاثة و ثلاثين ألف قتيل و قيل عن سبعة عشر ألفا و فيه اختلاف فيهم من الأزد أربعة آلاف و من ضبة ألف و مائة و باقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة و قتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل و قيل أقل و قطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر و هم ينشدون :
( نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذا الموت نزل )
( والموت أشهى عندنا من العسل )
و كان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل و كانوا قد ألبسوه الأدراع و قال جملة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة و على سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح و التفريق على الرضا فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين و يبدوا في الحرب شجرة في العسكرين و تختلف السهام بينهم و يصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة و الزبير و الذي في عسكر طلحة و الزبير غدر علي فتم لهم ما أرادوا و دبروه و نشبت الحرب فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه و مانعا من الإشاطة بدمه و هذا صواب من الفريقين و طاعة الله إذ وقع القتال و الامتناع منهما على هذا السبيل و هذا هو الصحيح المشهور و كان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر لعشر ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ست و ثلاثين
و في صحيح مسلم من كتاب الفتن [ عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيت عائشة فقال : رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان ] يعني المشرق و قيل : هذا بنصف ورقة بأسانيد منها عن عبد الله بن عمر القواريري و محمد بن المثنى باضطراب في بيت حفصة ثم قال و قال عبد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عند باب عائشة فقال بيده نحو المشرق [ الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان ] قالها مرتين أو ثلاثا
و ذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في الخامس عشر من مسند عائشة رضي الله عنها قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل بن ابي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة رضي الله عنها لما أتت الحوبة سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني ألا راجعة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا : [ أيتكن تنبح كلاب الحوأب ] فقال لها الزبير : ترجعين عسى الله أن يصلح لك بين الناس
و روى أبو بكر بن أبي شيبة قال : [ حدثنا وكيع بن الجراح عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيتكن صاحبة الجمل الأذيب يقتل حولها قتلى كثيرة و تنجو بعد ماكادت ] و هذا حديث ثابت صحيح رواه الإمام المجمع على عدالته و قبول روايته الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة و كذلك وكيع مجمع على عدالته و حفظه و فقهه عن عصام و هو ثقة عدل فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له عن عكرمة و هو عند أكثر العلماء ثقة عالم و هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم و هو إخباره بالشيء قبل كونه
و قوله [ الأذيب ] أراد الأذب فأظهر التضعيف و العجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه منها في كتاب العواصم من القواصم و ذكر أنه لا يوجد أصلا و أظهر لعلماء المحدثين بإنكاره غباوة و جهلا و شهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح و أجلى و قد رواه أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب فقال حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة فذكره بسنده المتقدم
و روى أبو جعفر الطبري قال : لما خرجت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب جهزها علي رضي الله عنه جهازا حسنا و أخرج معها من أراد الخروج و اختار عليها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة و جهز معها أخاها محمدا و كان خروجها من البصرة يوم السبت غرة رجب سنة ست و ثلاثين و شيعها علي رضي الله عنه على أميال و سرح معها بنيه يوما
فصل :
فإن قيل : فلم ترك علي القصاص من قتلة عثمان ؟ فالجواب إنه لم يكن ولي دم و إنما كان أولياء الدم أولاد عثمان و هم جماعة : عمرو و كان أسن و لد عثمان و أبان و كان محدثا فقيها و شهد الجمل مع عائشة و الوليد بن عثمان و كان عنده مصحف عثمان الذي كان في حجره حين قتل و منهم الوليد بن عثمان ذكر ابن قتيبة في المعارف أنه كان صاحب شارب و فتوة و منهم سعيد بن عثمان و كان واليا لمعاوية على خرسان فهؤلاء بنو عثمان الحاضرون في ذلك الوقت و هم أولياء الدم غيرهم و لم يتحاكم إلى علي أحد منهم و لا نقل ذلك عنهم فلو تحاكموا إليه لحكم بينهم إذكان أقضى الصحابة للحديث المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
و جواب ثان : أنه لم يكن في الدار عدلان يشهدان على قاتل عثمان بعينه فلم يكن له أن يقتل بمجرد دعوى في قاتل بعينه و لا إلى الحاكم في سبيل ذلك مع سكوت أولياء الدم عن طلب حقهم ففي تركهم له أوضح دليل و كذلك فعل معاوية حين تمت له الخلافة و ملك مصر و غيرها بعد أن قتل علي رضي الله عنه لم يحكم على واحد من المتهمين بقتل عثمان بإقامة قصاص و أكثر المتهمين من أهل مصر و الكوفة و البصرة و كلهم تحت حكمه و أمره و نهيه و غلبته و قهره و كان يدعي المطالبة بذلك قبل ملكه و يقول : لا نبايع من يؤوي قتلة عثمان و لا يقتص منهم و الذي كان يجب عليه شرعا أن يدخل في طاعة علي رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مهبط و حية و مقر النبوة و موضع الخلافة بجميع من كان فيها من المهاجرين و الأنصار يطوع منهم وارتضاء و اختيار و هم أمم لا يحصون و أهل عقد و حل و البيعة تنعقد بطائفة من أهل الحل و العقد فلما بويع له رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان و أخذ القود منهم فقال لهم علي عليه السلام : ادخلوا في البيعة و اطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة و قتلة عثمان معك نراهم صباحا و مساء و كان علي في ذلك أسد رأيا و اصوب قيلا لأن عليا لو تعاطى القود معهم لتعصب لهم قبائل و صارت حربا ثالثة فانتظر بهم إلى أن يستوثق الأمر و تنعقد عليه البيعة و يقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق
قال ابن العربي أبو بكر و لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة فتنة أو تشتيت الكلمة و كذلك جرى لطلحة و الزبير فإنهما ماخلعا عليا من ولاية و لا اعتراضا عليه في ديانة و إنما رأوا أن البداية بقتل أصحاب عثمان أولى
و ذكر ابن وهب قال : حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن أبي زياد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة و كعب الكناني حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال : لا إله إلا الله ليهراقن في هذه البقعة من دماء المسلمين ما لم يهرق ببقعة من الأرض فغضب قيس ثم قال : و ما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به فقال كعب : ما من سبر من الأرض إلا هو مكتوب في التواراة التي أنزل الله على موسى بن عمران ما يكون عليه إلى يوم القيامة
أخبرنا شيخنا القاضي لسان المتكلمين أبو عامر بن الشيخ الفقيه الإمام أبي الحسين بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري إجازة عن شيخه المحدث الثقة المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال قال : حدثنا جماعة من شيوخنا رحمهم الله منهم الفقيه المفتي أبو محمد بن عنان قال : أنبأنا الإمام أبو عمر بن عبد البر فيما أجازه لنا بخطه قال : حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن عبد البر قال : حدثنا أحمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : حدثني خالد أبو الربيع و أحمد بن صالح و أحمد بن عمر و ابن السرح و يحيى بن سليمان قال : حدثني ابن وهب فذكره و أحمد بن محمد بن الحجاج هو ابن رشيد بن سعد أبو جعفر مصري قال أبو أحمد بن عدي : كذبوه و أنكرت عليه أشياء و محمد بن يزيد بن أبي زياد مجهول قاله الدار قطني و باقي السند ثقات معرفون
و أما و قعة صفين فإن معاوية لما بلغه مسير أمير المؤمنين علي كرم الله و جهه إليه من العراق خرج من دمشق حتى ورد صفين في النصف من المحرم فسبق إلى سهولة المنزل و سعة المناخ و قريب الماء من الفرات و بنى قصرا لبيت ماله و صفين صحراء ذات كدى و أكمأت و كان أهل الشام قد سبقوا إلى المشرعة من سائر الجهات و لم يكن ثم مشرعة سواها للواردين و الواردات فمنعت عليا رضي الله عنه إياها و حمتها تلك الكماة فذكرهم بالمواعظ الحسنة و الآيات و حذرهم بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيمن منع فضل الماء بالفلاة فردوا قوله و أجابوا بألسنة الطغاة إلى أن قاتلهم بالقواضب و السمهريات فلما غلبهم عليها رضي الله عنه أباحها للشاربين و الشاربات ثم بنى مسجدا على تل بأعلى الفرات ليقيم فيه مدة مقامه فرائض الصلوات لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع و عشرين من الدرحات على ما ثبت في الصحيح من رواية ابن عمر و غيره من الصحابة العدول الثقاة و حضرها مع علي جماعة من البدريين و من بايع تحت الشجرة من الصحابة المرضيين و كان مع علي رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل المشركين و كان مقام علي رضي الله عنه و معاوية بصفين سبعة أشهر و قيل تسعة و قيل ثلاثة أشهر و كان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفا و قتل في ثلاثة أيام من أيام البيض و هي ثلاث عشرة و أربعة عشرة و خمسة عشرة ثلاثة و سبعون ألفا من الفريقين
و ذكره الثقة العدل أبو إسحاق و إبراهيم بن الحسين الكساي الهمداني المعروف بابن ديزيل و هو الملقب بسفينة و سفينة طائر إذا وقع على الشجرة لم يقم عنها و يترك فيها شيئا وهو في تلك الليالي هي ليله الهرير جعل يهر بعضهم على بعض و الهرير : الصوت يشبه النباح لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت و تطاعنوا الرماح حتى اندقت و تضاربوا بالسيوف حتى انقضت ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم و اضطربوا بما بقي من السيوف و عمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة القوم و الحديد في الهام و لما صارت السيوف كالمناجل بالحجارة ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب ثم تكادموا بالأفواه و كسفت الشمس و ثار القتام و ارتفع الغبار و ضلت الألوية و الرايات و مرت أوقات أربع صلوات لأن القتال كان بعد صلاة الصبح و اقتتلوا إلى نصف الليل و ذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع و ثلاثين قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه و قال غيره في شهر ربيع الأول
و كان أهل الشام يوم صفين خمسة و ثلاثين و مائة و ألفا و كان أهل العراق عشرين أو ثلاثين و مائة و ألفا ذكره الزبير بن بكار أبو عبد الله القاضي العدل قال : حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن زكريا بن عيسى عن ابن شهاب عن محمد بن عمرو بن العاص و كان من شهد صفين و أبلى فيه و فيه يقول :
( فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي ... بصفين يوما شاب منها الذوائب )
( غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لج موجه متراكب )
( و جئناهم نمشي كأن صفوفنا ... سحائب غيث رفعتها الجنائب )
و يروى : شهاب حريق رفعته الجنائب
( و قالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... عليا فقلنا بل نرى أن نضارب )
( و طارت إلينا بالرماح كماتهم ... و طرنا إليهم بالأكف قواضب )
( إذا نحن قنا استهزموا عرضت لنا ... كتائب منهم واشمأزت كتائب )
( فلا هم يولون الظهور فيدبروا ... فرارا كفعل الخادرات الدرائب )
قال ابن شهاب : فأنشدت عائشة رضي الله عنها أبياته هذه فقالت ما سمعت بشاعر أصدق شعرا منه
قال الحافظ ابن دحية : قوله : بل نرى أن نضارب أن هنا مخففة من الثقيلة محذوفة الاسم تقديره أننا نضارب و قوله [ كفعل الخادرات الدرائب ] الخادرات : الأسود يقال أسود خادر كأن الأجمة له خدر فمعناه أنهم لا يدبرون كالأسود التي لا تدبر عن فرائسها لأنها قد ضربت بها و دربت عليها و الدربة الضراوة يقال : درب يدرب و رفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يدبروا
قال : و الإجماع منعقد على أن طائفة الإمام طائفة عدل والأخرى طائفة بغي و معلوم أن عليا رضي الله عنه كان الإمام
و روى مسلم في صحيحه قال : [ حدثنا محمد بن المثنى و ابن بشار و اللفظ لابن مثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن أبي سلمة قال : سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري قال : أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح راسه و يقول : بوس بن سمية تقتلك فئة باغية ]
و خرجه أيضا من حديث إسحاق بن إبراهيم و إسحاق بن منصور و محمد بن غيلان و محمد بن قدامة قالوا : أخبرنا النضر بن شميل عن شعبة عن أبي سلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة و له طرق غير هذا في صحيح مسلم
و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له في ترجمة عمار و تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقتل عمار الفئة الباغية ] و هو من أصح الأحاديث
و قال فقهاء الإسلام فيما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب الإمامة من تأليفه و أجمع فقهاء الحجاز و العراق من فريقي الحديث و الرأي منهم مالك و الشافعي و أبو حنيفة و الأوزاعي و الجمهور الأعظم من المتكلمين إلى أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما فالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل و قالوا أيضا بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتابه الفرق من تأليفه في شان القصة عقيدة أهل السنة و أجمعوا أن عليا كان مصيبا في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل و قالوا أيضا : بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له و لكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة : و أجمعوا أن عليا كان كصيبا في قتال أهل الجمل : أعني طلحة و الزبير و عائشة بالبصرة و أهل صفين : أعني معاوية و عسكره
و قال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد فصل : علي رضي الله عنه كان إماما حقا في توليته و مقاتلوه بغاة و حسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير و إن أخطأوه فهو آخر فصل ختم به كتابه و حسبك يقول سيد المرسلين و إمام المتقين لعمار رضي الله عنه [ تقتلك الفئة الباغية ] و هو من أثبت الأحاديث كما تقدم و لما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال : إنما قتله من أخرجه و لو كان حديثا فيه شك لرده معاوية و امكره و أكذب ناقله و زوره
و قد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بان قال : فرسول الله صلى الله عليه و سلم اذن قتل حمزة حين أخرجه و هذا من علي رضي الله عنه إلزام لا جواب عنه و حجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية
باب ـ لايأتي زمان إلا و الذي بعده شر منه و في ظهور الفتن البخاري عن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال : [ اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا و الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ] سمعته من نبيكم صلى الله عليه و سلم و خرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
[ و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتقارب الزمان و ينقص العلم و يلقى الشح و تظهر الفتن و يكثر الهرج قالوا يا رسول الله : أيم هو ؟ قال : القتل القتل ] أخرجه البخاري و مسلم
فصل
قوله : [ يتقارب الزمان ] قيل معناه قصر الأعمار و قلة البركة فيها و قيل هو دنو زمان الساعة و قيل هو قصر مدة الأيام على ما روي [ أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر و الشهر كالجمعة و الجمعة كاليوم و اليوم كالساعة و الساعة كاحتراق الشمعة ] أخرجه الترمذي و قال هذا حديث حسن غريب و قيل في تأويله غير هذا
وق حماد بن سلمة : سألت أبا سنان عن قوله يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر و قال : ذلك من استلذاذ العيش قال الخطابي : يريد و الله أعلم زمان خروج المهدي و وقوع الأمنة في الأرض فيما يبسطه من العدل فيها على ما يأتي و يستلذ عند ذلك و تستقصر مدته و لا يزال الناس يستقصرون مدة ايام الرخاء و إن طالت و امتدت و يستطيلون أيام المكروه و إن قصرت و قلت و العرب تقول في مثل هذا : مر ينا يوم كعرقوب القطا قصرا و يلقى الشح بمعنى يتلقى و يتعلم و يتواصى عليه و يدعى إليه و منه قوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } أي تقبلها و تعلمها و يجوز يلقى بتخفيف اللام و القاف على معنى يترك لإفاضة المال و كثرته حتى يهم رب المال من يقبل صدقته فلا يجد من يقبلها على ما يأتي و لا يجوز أن يكون يلقى بمعنى يوجد لأن الشح مازال موجودا قبل تقارب الزمان
باب ما جاء في الفرار من الفتن و كسر السلاح و حكم المكره عليها مالك [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع شغف الجبال و مواقع القطر يفر بدينه من الفتن ]
مسلم [ عن أبي بكرة قال : قال رسول الله : إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي و الماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت و وقعت فمن كانت له إبل فليحلق بإبله و من كان له غنم فليحلق بأرضه قال فقال له رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل و لا غنم و لا أرض قال : يعمد إلى سيفة فيدق عليه بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال فقال رجل يا رسول الله : أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال يبوء بإثمه و إثمك و يكون من أصحاب النار ]
[ و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الماشي و الماشي خير من الساعي من يشرف لها تستشرفه و من و جد فيها ملجأ فليعذ به ] قال : حديث حسن صحيح
باب منه و الأمر بلزوم البيوت عند الفتن ابن ماجه [ عن أبي بردة قال : دخلت على محمد بن مسلمة فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إنها ستكون فتنة و خلاف و فرقة و اختلاف فإذا كان ذلك فائت بسيفك أحدا فاضرب به حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية ] قد وقعت و فعلت ما قال النبي صلى الله عليه و سلم
أبو داود [ عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا ؟ قال و كونوا أحلاس بيوتكم ]
فصل
قال علماؤنا رحمه الله عليهم : كان محمد بن مسلمة رضي الله عنه ممن اجتنب ما وقع بين الصحابة من الخلاف و القتال و أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره إذا كان ذلك أن يتخذ سيفا من خشب ففعل و أقام بالربذة و ممن اعتزل الفتنة أبو بكرة و عبد الله بن عمر ! و أسامة ابن زيد و أبو ذر و حذيفة و عمران بن حصين و أبو موسى و أهبان و سعد بن أبي وقاص و غيرهم و من التابعين شريح و النخعي و غيرهما رضي الله عنهم
قلت : هذا و كانت تلك الفتنة و القتال بينهم على الاجتهاد منهم فكان المصيب منهم له أجران و المخطئ له أجر و لم يكن قتال على الدنيا فكيف اليوم الذي تسفك فيه الدماء باتباع الهوى طلبا للملك والاستكثار من الدنيا فواجب على الإنسان أن يكف اليد و اللسان عند ظهور الفتن و نزول البلايا و المحن نسأل الله السلامة و الفوز بدار الكرامة بحق نبيه و آله و أتباعه و صحبه و قوله : [ كونوا أحلاس بيوتكم ] حض على ملازمة البيوت و القعود فيها حتى يسلم من الناس و يسلموا منه و من مراسيل الحسن و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ نعم صوامع المؤمنين بيوتهم ] و قد تكون العزلة في غير البيوت كالبادية و الكهوف قال الله تعالى { إذ أوى الفتية إلى الكهف }
و دخل سلمة بن الأكوع على الحجاج و كان قد خرج إلى الربذة حين قتل عثمان و تزوج امرأة هناك و ولدت له أولادا فلم يزل بها حتى كان قبل أن يموت بليال فدخل المدينة له الحجاج : ارتددت على عقيبك ؟ قال : لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لنا في البدو
و خرجه مسلم و غيره و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم [ يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع به شغف الجبال و مواقع القطر يفر بدينه منة الفتن ] و ما زال الناس يعتزلون و يخالطو كل واحد منهم على ما يعلم من نفسه و يتأتى له من أمره و قد كان العمري بالمدينة معتزلا و كان مالك مخالطا للناس ثم اعتزل مالك آخر عمره رضي الله عنه فيروي عنه أنه أقام ثماني سنة لم يخرج إلى المسجد فقيل له في ذلك فقال : ليس كل واحد يمكنه أن يخبر بعذره و اختلف الناس في عذره على ثلاثة أقوال فقيل لئلا يرى المناكير و قيل لئلا يمشي إلى السلطان و قيل كانت به أبردة فكان يرى تنزيه المسجد عنها ذكرره القاضي أبو بكر بن العربي كتاب سراج المريدين له
باب منه و كيف التثبت في الفتنة و الاعتزال عنها و في ذهاب الصالحين ابن ماجه عن عديسة بنت أعبان قالت : لما جاء علي بن أبي طالب ها هنا بالبصرة دخل على أبي فقال يا أبا مسلم : ألا تعينني على هؤلاء القوم ؟ قال : بلى فدعى جاريته فقال يا جارية : أخرجي سيفي قالت فأخرجته فسل منه قدر شبر فإذا هو خشب فقال : إن خليلي و ابن عمك صلى الله عليه و سلم عهد إلي إذا كانت فتنة بين المسلمين فاتخذ سيفا من خشب فإن شئت خرجت معك قال : لا حاجة لي فيك و لا في سيفك
[ و عن زيد بن شرحبيل عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظالم يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا و يصبح كافرا و يمسي مؤمنا و القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الماشي و الماشي فيها خير من الساعي فكسروا قسيكم و قطعوا أوتاركم و اضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير بني آدم ] أخرجه أبو داود أيضا
و خرج [ من حديث سعد بن أبي وقاص قلت يا رسول الله : إن دخل على بيتي و بسط يده إلي ليقتلني قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كن كخير ابني آدم و تلا هذه الآية { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } ] و
ابن ماجه [ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كيف بكم و بزمان يوشك أن يأتي فيغربل الناس فيه غربلة يبقى حثالة من الناس قد مزجت عهودهم و خفت أمانتهم و اختلفوا فكانوا هكذا و هكذا و شبك بين أصابعه قالوا : كيف بنا يا رسول الله ؟ إذا كان ذلك الزمان ؟ قال : تأخذون بما تعرفون و تدعون بما تنكرون و تقلبون على خاصتكم و تذرون أمر عامتكم ] أخرجه أبو داود أيضا
و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن محمد بن كعب القرظي أن الحسن بن أبي الحسن حدثه أنه سمع شريحا و هو قاضي عمر بن الخطاب يقول : قال عمر بن الخطاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستغربلون حتى تصيروا في حثالة من الناس قد مزجت عهودهم و خربت أماناتهم فقال قائل : كيف بنا يا رسول الله ؟ قال تعلمون بما تعرفون و تتركون ما تنكرون و تقولون : أحد أحد أنصرنا على من ظلمنا و اكفنا من بغانا ] غريب من حديث محمد بن كعب و الحسن و شريح ما علمت له وجها غير هذا
النسائي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأيت الناس مزجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا و هكذا و شبك بين أصابعه فقمت إليه فقلت له : كيف أصنع عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك ؟ قال : الزم بيتك و أملك عليك لسانك و خذ ما تعرف ودع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ] خرجه أبو داود أيضا
الترمذي [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به و هلك و يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا ] قال هذا حديث غريب و في الباب عن أبي ذر رضي الله عنه
فصل
قوله : و يوشك معناه يقرب و قوله : فيغربل الناس فيها غربلة عبارة عن موت الأخيار و بقاء الأشرار كما يبقى الغربال من حثالة ما يغربله و الحثالة ما يغربله و الحثالة : ما يسقط من قشر الشعير و الأرز و التمر و كل ذي قشر إذا بقي و حثالة الدهن تفله و كأنه الرديء من كل شيء و يقال : حثالة و حفالة بالثاء و الفاء معا
كما روى ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتنتقون كما ينتقي التمر من أغفاله و ليذهبن خياركم و ليبقين شراركم فموتوا إن استطعتم ]
و خرج البخاري [ عن مرداس الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يذهب الصالحون الأول فالأول و يبقى حفالة كحفالة الشعير و التمر لا يباليهم الله بالة ] و في رواية لا يعبأ الله بهم يقال ما أباليه بالة و بال و بلى مقصور و مكسور الأول مصدر و قيل اسم أي ما كثرت به و البال الاكتراث و الاهتمام بالشيء و الصالحون هم الذين أطاعوا الله و رسوله و عملوا بما أمرهم به و انتهوا عما نهاهم عنه
قال أبو الخطاب بن دحية و مرداس و هذا هو مرداس بن مالك الأسلمي من أسلم بفتح اللام سكن الكوفة و هو معدود في أهلها و لم يحفظ له من طريق صحيح سوى هذا الحديث
قال المؤلف رحمه الله : انفرد به البخاري رحمه الله روى عن قيس بن أبي حازم في الرقاق و مزجت معناه اختلطت و اختلفت و المزج الاختلاط و الاختلاف
باب الأمر بتعليم كتاب الله و اتباع ما فيه و لزوم جماعة المسلمين عند غلبة الفتن و ظهورها و صفة دعاة آخر الزمان و الأمر بالسمع و الطاعة للخليفة و إن ضرب الظهور و أخذ المال
أبو داود [ عن نصر بن عاصم الليثي قال : أتينا اليشكري في رهط من بني ليث فقال : من القوم ؟ قال بنو الليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة فقال : أقبلنا مع أبي موسى قافلين و غلت الدواب بالكوفة قال : فسألت أبا موسى الأشعري أنا و صاحب لي فأذن لنا فقدمنا الكوفة فقلت لصاحبي : أنا داخل المسجد فإذا قامت السوق خرجت إليك قال : فدخلت المسجد فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رؤوسهم يستمعون إلى حديث رجل واحد قال فقمت عليهم فجاء رجل فقام إلى جنبي قال فقلت من هذا ؟ قال : أبصري أنت ؟ قال : قلت نعم قال : قد عرفت و لو كنت كوفيا لم تسأل عن هذا هذا حذيفة فدنوت منه فسمعت حذيفة رضي الله عنه يقول : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير و كنت أنا أسأله عن الشر و عرفت أن الخير لن يسبقني قال فقلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر قال : يا حذيفة تعلم كتاي الله و اتبع مافيه ثلاث مرات قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتنة و شر قلت يا رسول الله : بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتنة و شر قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير ؟ فقال : يا حذيفة تعلم كتاب الله و اتبع ما فيه قال : قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير ؟ قال : هدنة على دخن و جماعة على أقذاء فيهم أو فيها قلت يا رسول الله : الهدنة على الدخن ما هي ؟ قال : لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه قال قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتن عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار فإن مت يا حذيفة و أنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : خذوا العطاء ما دام عطاء فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه و لستم بتاركيه يمنعكم من ذلك الفقر و الحاجة إلا أن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار إلا أن الكتاب و السلطان سيتفرقان فلا تفارقوا الكتاب إلا أنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتوهم قتلوكم و إن أطعتموهم أضلوكم قالوا يا رسول الله : كيف نصنع ؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليهما الصلاة و السلام نشروا بالمناشير و حملوا على الخشب موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله ] خرجه في باب يزيد بن مرثد غريب من حديث معاذ لم يروه عنه إلا يزيد بن مرثد و عن الرضين بن عطاء
و خرج البخاري و مسلم و أبو داود [ عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة يقول : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير و كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية و شر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم فقلت : هل بعد ذلك من خير ؟ قال : نعم و فيه دخن قلت : و ما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي و يهتدون بغير هديي تعرف منهم و تنكر فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله : صفهم لنا قال : نعم قوم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا فقلت يا رسول الله : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين و إمامهم قلت : فإن لم يكن لهم جماعة و لا إمام ؟ قال فاعتزل الفرق كلها و لو إن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت و أنت على ذلك ]
و في رواية قال : [ تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي و لا يستنون بسنتي و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جسمان إنس قال فكيف أصنع يا رسول الله إن إدركت ذلك ؟ قال : تسمع و تطيع و إن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع ] لفظ مسلم
و في كتاب أبي داود [ بعد قوله هدنة على دخن قال قلت يا رسول الله : ثم ماذا ؟ قال إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك و أخذ مالك فأطعه و إلا فمت و أنت عاض في جذل شجرة قلت ثم ماذا ؟ قال : ثم يخرج الدجال و معه نهر و نار فمن وقع في ناره وجب أجره و حط وزره و من وقع في نهره وجب وزره و حط أجره قال ثم ماذا ؟ قال : هي قيام الساعة ]
فصل
قوله : على أقذاء الأقذاء جمع القذا و القذا جمع قذاة و هو ما يقع في العين من الأذى و في الطعام و الشراب من تراب أو نتن أو غير ذلك فالمراد به في الحديث الفساد الذي يكون في القلوب أي أنهم يتقون بعضهم بعضا و يظهرون الصلح و الاتفاق و لكنهم في باطنهم خلاف ذلك و الجذل : الأصل كما هو مبين في كتاب مسلم على أصل شجرة
باب منه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار مسلم [ عن الأحنف بن قيس قال : خرجت و أنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال : أين تريد يا أحنف ؟ قال : فقلت أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني عليا قال فقال لي : يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا توجه المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار قال فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه قد أراد قتل صاحبه ] أخرجه البخاري و في بعض طرقه [ أنه كان حريصا على قتل صاحبه ]
فصل
قال علماؤنا : ليس هذا الحديث في أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بدليل قوله تعالى { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية و لو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغي لتعطلت فريضة من فرائض الله و هذا يدل على أن قوله القول و المقتول في النار ليس في أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لأنهم إنما قاتلوا على التأويل قال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه و لزوم المنازل و كسر السيوف لما أقيم حد و لا أبطل باطل و لوجد أهل النفاق و الفجور سبيلا إلى استحال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين و سبي نسائهم و سفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم و يكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولون هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها و أمرنا بكف الأيدي و الهرب منها و ذلك مخالف لقوله عليه الصلاة و السلام [ خذوا على أيدي أسفهائكم ]
قلت : فحديث أبي بكرة محمول على ما إذا كان القتال على الدنيا و قد جاء هكذا منصور فيما سمعناه من بعض مشايخنا : إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل و المقتول في النار خرجه البزار
و مما يدل على صحة هذا ما خرجه مسلم عن صحيحه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قتل و لا المقتول فيما قتل فقيل : كيف يكون ذلك ؟ قال الهرج القاتل و المقتول في النار ] فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهالة من طلب الدنيا أو أتباع هوى كان القاتل و المقتول في النار فأما قتال يكون على تأويل ديني فلا و أما أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم فيجب على المسلمين توقيرهم و الإمساك عن ذكر زللهم و نشر محاسبتهم لثناء الله عز و جل في كتابه فقال و قوله الحق { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } و قال : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } إلى آخر السورة و قال : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل } و كل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور و إن كان بعضهم أفضل من بعض و أكثر سوابق و قيل : إن من توقف من الصحابة حملوا الأحاديث الواردة بالكف عن عمومها فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف و القتال و ربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله ابن عمر فإنه ندم على تخلفه عن نصرة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال عند موته ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية يعني فئة معاوية و هذا هو الصحيح إن الفئة الباغية إذا علم منها البغي قوتلت قال عبد الرحمن بن أبزي : شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان : قتل منهم ثلاث و ستون منهم عمار بن ياسر
و قال أبو عبد الرحمن السلمي : شهدنا مع علي صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يتبعونه كأنه علم لهم قال و سمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة يا هاشم : تقدم الجنة تحت الأبارقة اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات الجبال لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل قال :
( نحن ضربناكم على تنزيلة ... فاليوم نضربكم على تأويلة )
( ضربا يزيل الهام عن مقيلة ... و يذهل الخليل عن خليلة )
( أو يرجع الحق إلى سبيله )
قال : فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ و سئل بعض المتقدمين عن الدماء التي وقعت بين الصحابة فقال : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسألون عما كانوا يعملون }
و قد أشبعنا القول في هذه المسألة في كتاب الجامع لأحكام القرآن في سورة الحجرات و الصواب ما ذكرناه لك أولا و الله أعلم
و روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ سيكون بين أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي ثم يستن بها قوم من بعدهم يدخلون به النار ]
باب جعل الله بأس هذه الأمة بينها قال الله تعالى { أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض }
مسلم [ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها و إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها و أعطيت الكنزين الأحمر و الأبيض [ قال ابن ماجه في سننه يعني الذهب و الفضة ] و إني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة و أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و إن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد و إني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلهكم بسنة عامة و أن لا يسلط عليهم من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و لو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و يسبي بعضهم بعضا ] زاد أبو داود : [ و إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين و إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة و لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي المشركين و حتى يعبد قبائل من أمتي الأوثان و أنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون يزعم كلهم أنه نبي و أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي و لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ]
ابن ماجه [ عن معاذ بن جبل قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة فأطال فيها فلما نصرف قلنا أو قالوا يا رسول الله : أطلت اليوم الصلاة قال : إني صليت صلاة رغبة و رهبة سألت الله لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين و رد علي واحدة سألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها و سألته ألا يهلكهم غرقا فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فردها علي ]
و أخرجه مسلم [ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل ذات يوم من العالية و في رواية : في طائفة من أصحابه حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين فصلينا معه و دعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني إثنتين و منعني واحدة سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها و سألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ] و أخرجه الترمذي و النسائي و صححه و اللفظ النسائي
[ و عن خباب بن الأرت و كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه راقب رسول الله صلى الله عليه و سلم الليل كلها حتى كان الفجر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلاته جاء خباب فقال يا رسول الله : بأبي أنت و أمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أجل إنها صلاة رغب و رهب سألت الله فيها لأمتي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألت ربي ألا يهلكنا بما أهلك الأمم فأعطانيها و سألت ربي عز و جل ألا يظهر عليها عدوا من غيرنا فأعطانيها و سألت ربي عز و جل ألا يلبيسنا شيعا فمنعنيها ]
ابن ماجه [ عن أبي موسى قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن بين الساعة لهرجا قال قلت يا رسول الله ما الهرج ؟ قال : القتل القتل فقال بعض المسلمين : يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا و كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس بقتل المشركين و لكن بقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره و ابن عمه و ذا قربته ] و ذكر الحديث و الله أعلم
باب ـ ما يكون من الفتن و إخبار النبي صلى الله عليه و سلم بها مسلم [ عن حذيفة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما ما ترك فيه شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظ من حفظه و نسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء و إن ليكون منه الشيء قد نسيه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه ]
و خردج أبو داود أيضا عنه قال : [ و الله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه و اسم أبيه و اسم قبيلته ]
مسلم [ عن حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسا أنبأنا فيه عن الفتنة فقال و هو يعد الفتن : منها ثلاثة لا يكدن يذرن شيئا و منهن فتن كرياح الصيف منها صغارا و منها كبار ] قال حذيفة : فذهب أولئك الرهط كلهم غيري
أبو داود [ عن عبد الله بن عمر : كنا قعودا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الفتن فأكثر فيها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله : و ما فتنة الأحلاس ؟ قال : هي هرب و خرب ثم فتنة السوء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني و ليس مني و إنما أوليائي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كودك على ضلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا حتى يصير الناس فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه و فسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من سومه أو من غده ]
فصل
قول حذيفة : قيام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما و في الرواية الأخرى مجلسا قد جاء مبينا في حديث أبي زيد قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الفجر و صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى فصعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان و ما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ] أخرجه مسلم
و روى الترمذي [ من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العصر نهارا ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه و نسيه من نسيه ] فظاهر هذا أن ذلك المقام كان من بعد العصر لا قبل ذلك و هذا تعارض فيجوز أن يكون ذلك كله في يومين فيوم خطب فيه من بعد العصر و يوم قام فيه خطيبا كله و يجوز أن تكون الخطبة من بعد صلاة الصبح إلى غروب الشمس كما في حديث أبي زيد و اقتصر بعض الرواة في الذكر على ما بعد العصر كما في حديث أبي سعيد الخدري و فيه بعد و الله أعلم
و قوله : حتى ذكر فتنة الأحلاس قال الخطابي : إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامها و طول لبثها يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه : هو حلس بيته و يحتمل أن تسمى هذه الفتنة بالأحلاس لسوادها و ظلمتها و الحرب ذهاب الأهل و المال يقال حرب الرجل فهو حريب إذا سلب أهله و ماله و من هذا المعنى أخذ لفظ الحرب لأن فيها ذهاب النفوس و الأموال و الله أعلم و الدخن : الدخان يريد أنها تثور كالدخان من تحت قدميه و قوله : كودك على ضلع مثل و معناه الأمر الذي لا يثبت و لا يستقيم يريد أن هذا الرجل غير خليق بالملك و الدهيماء : تصغير الدهماء على معنى المذمة لها و التعظيم لأمرها كما قال : [ دويهية تصفر منها الأنامل ] أي ههذ الفتنة سوداء مظلمة و دلت أحاديث هذا الباب على أن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من علم الكوائن إلى يوم القيامة العلم الكثير لكن لم يشيعوها إذ ليست من أحاديث الأحكام و ما كان فيه شيء من ذلك حدثوا به و تقصروا عنه
و قد روى البخاري عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين أما أحدهما فبثثته و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم قال أبو عبد الله البلعوم مجرى الطعام و الفسطاط الخيمة الكبيرة و تسمى مدينة مصر الفسطاط و المراد به في هذا الحديث الفرقة المجتمعة المنحازة عن الفرقة الأخرى تشبيها بانفراد الخيمة عن الأخرى و تشبيها بانفراد المدينة عن الأخرى حملا على تسمية مصر بالفسطاط و الله أعلم
باب ذكر الفتنة التي تموج موج البحر و قول النبي صلى الله عليه و سلم : هلاك أمتي على يد أغيلمة من سفهاء قريش
ابن ماجه عن شقيق عن حذيفة قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب فقال : أيكمك يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفتنة ؟ قال حذيفة : فقلت أنا فقال إنك لجزيء قال : كيف سمعه يقول ؟ قلت سمعته يقول [ فتنة الرجل في أهله و ماله و جاره يكفرها الصلاة و الصيام و الصدقة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ] فقال عمر : ليس هذا أريد التي تموج موج البحر قال مالك و لها يا أمير المؤمنين إن بينك و بينها بابا مغلقا قال يفتح الباب أو يكسر قال : بل يكسر قال : ذلك أجدر أن لا يغلق فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب ؟ قال : نعم كما يعلم أن دون غد الليلة فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب ؟ قال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط قال فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق : سله فسأله : هو عمر أخرجه البخاري و مسلم أيضا
و خرج الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي من حديث مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب دخل على بني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فوجدها تبكي فقال : ما يبكيك ؟ قالت هذا اليهودي لكعب الأحبار يقول إنك باب من أبواب جهنم فقال عمر : ما شاء الله إني لأرجو أن يكون الله خلقني سعيدا قال ثم خرج فأرسل إلى كعب فدعاه فلما جاءه كعب قال يا أمير المؤمنين : و الذي نفسي بيده لا تنسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة فقال عمر : أي شيء هذا ؟ مرة في الجنة و مرة في النار قال : و الذي نفسي بيده إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها فإذا مت لم يزالوا يتقحمون فيها إلى يوم القيامة
البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد قال : أخبرني جدي قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة و معنا مروان فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : [ هلكة أمتي على يد أغيلمة من قريش ] قال مروان لعنة الله عليهم من أغيلمة قال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان و بني فلان لفعلت فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حتى تملكوا بالشام فإذا رآهم أحداثا و غلمانا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا : أنت أعلم
الغلام الطار الشارب و الجمع الغلمة و الغلمان و نص مسلم في صحيحه في كتاب الفتن [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهلك أمتي هذا الحي من قريش قال : فما تأمرنا ؟ قال : لو أن الناس اعتزلوهم ]
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذا الحديث يدل على أن أبا هريرة كان عنده من علم الفتن ؟ العلم الكثير و التعيين على من يحدث عنه الشر الغزير ألا تراه يقول لو شئت قلت لكم هم بنو فلان و بنو فلان لكنه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد و كأنهم و الله أعلم يزيد بن معاوية و عبيد الله بن زياد و من تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية فقد صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبيهم و قتل خيار المهاجرين و الأنصار بالمدينة و بمكة و غيرها و غير خاف ما صدر عن الحجاج و سليمان بن عبد الملك و ولده من سفك الدماء و إتلاف الأموال و إهلاك الناس بالحجاز و العراق و غير ذلك و بالجملة و غير ذلك و بالجملة فبنو أمية قابلوا وصية النبي صلى الله عليه و سلم في أهل بيته و أمته بالمخالفة و العقوق فسفكوا دماءهم و سبوا نساءهم و أسروا صغارهم و خربوا ديارهم و جحدوا فضلهم و شرفهم و استباحوا لعنهم و شتمهم فخالفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في وصيته و قابلوه بنقيض مقصودة و أمنيته فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه و افضحيتهم يوم يعرضون عليه و الله أعلم
باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه و لا رضي عن قاتله ذكر أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال : [ حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الحلواني قال ابن السكن و أخبرني أبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الحداد قالا : حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد قال : حدثنا عطاء بن مسلم عن أشعث بن سحيم عن أبيه عن أنس بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه منكم فلينصره ] فقتل أنس يعني مع الحسين بن علي عليهما السلام
أنبأناه إجازة الشيخ الفقيه القاضي أبو عامر عن أبي القاسم بن بشكوال عن أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد عن أبي عمر بن عبد البر قال : حدثنا الحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم قال : حدثنا الإمام الحافظ أبو علي بن السكن فذكره
و خرج الإمام أحمد في مسنده قال : [ حدثنا مؤمل قال : حدثنا عمارة بن زاذان حدثنا ثابت عن أنس أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له فقال لأم سلمة : أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال : و جاء الحسين ليدخل فمنعه فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه و سلم و على منكبيه و على عاتقه قال : فقال الملك للنبي صلى الله عليه و سلم أتحبه ؟ قال : نعم قال : أما إن أمتك ستقتله و إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها ] قال ثابت : بلغنا أنها كربلاء
و قال مصعب بن الزبير : حج الحسين خمسة و عشرين حجة ماشيا و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه و في الحسن : [ إنهما سيدا شباب أهل الجنة و قال : هما ريحانتاي من الدنيا و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآهما هش لهما و ربما أخذهما ] كما روى أبو داود أنهما دخلا المسجد و هو يخطب فقطع خطبته و نزل فأخذهما و صعد بهما قال : [ رأيت هذين فلم أصبر ] و كان يقول فيهما [ اللهم إني أحبهما و أحب من يحبهما ] و قتل رحمه الله و لا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى و ستين بكربلاء بقرب موقع يقال له الطف بقرب من الكوفة
قال أهل التواريخ : لما مات معاوية و أفضت الخلافة إلى يزيد و ذلك سنة ستين ـ و وردت البيعة على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ بالبيعة إلى أهلها أرسل إلى الحسين بن علي و إلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتي بهما فقال : بايعا فقالا : مثلنا لا يبايع سرا و لكن نبايع على رؤوس الناس إذ أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما و خرجا من ليلتهما إلى مكة و ذلك ليلة الأحد بقيتا من رجب فأقام الحسين بمكة شعبان و رمضان و شوالا و ذا القعدة و خرج يوم التروية يريد الكوفة فبعث عبد الله بن زياد خيلا لمقتل الحسين و أمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فأدركه بكر بلاء و قيل : إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي أن جعجع بالحسين قال أهل اللغة أراد أحبسه و ضيق عليه و الجعجع : الجعجاع الموضع الضيق من الأرض ثم أمده بعمرو بن سعد في أربعة آلاف ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر و يستفز الجماهير إلى أن بلغوا اثنين و عشرين ألفا و أميرهم عمرو بن سعد و وعده أن يملكه مدينة الري فباع الفاسق الرشد بالغي و في ذلك يقول :
( أأترك ملك الري و الري منيتي ... و أرجع مأثوما بقتل حسين )
فضيق عليه اللعين أشد تضييق و سد بين يديه وضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء و يعرف بالطف أيضا و عليه جبة خزد كفاء و هو ابن ست و خمسين سنة قاله نسابة قريش الزبير بن بكار و مولده الخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيه قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة و اتفقوا على أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين و يسمى عام الحزن و قتل معه اثنان و ثمانون رجلا من الصحابة مبارزة منهم الحر بن يزيد لأنه تاب و رجع مع الحسين ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين كان مريضا أخذ أسيرا بعد قتل أبيه و قتل أكثر إخوة الحسين و بني أعمامه رضي الله عنهم ثم أنشأ يقول :
( يا عين إبكي بعبرة و عويل ... و اندبي ـ إن ندبت آل الرسول )
( سبعة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا و تسعة لعقيل )
قال جعفر الصادق : وجد بالحسين ثلاث و ثلاثون طعنة بالسيف و أربع و ثلاثون ضربة و اختلفوا فيمن قتله فقال يحيى بن معين : أهل الكوفة يقولون : إن الذي قتل الحسين عمرو بن سعد قال ابن عبد البر : إنما نسب قتل الحسين إلى عمرو بن سعد لأنه كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين و أمر عليهم عمرو بن سعد و وعده أن يوليه الري إن ظفر بالحسين و قتله و كان في تلك الخيل و الله أعلم قوم من مصر و من اليمين و في شعر سليمان بن فتنة الخزاعي و قيل : إنها لأبي الرميح الخزاعي ما يدل على الاشتراك في دم الحسين و قيل : قتله سنان بن أبي سنان النخعي و قال مصعب النسابة الثقة : قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي و هو جد شريك القاضي و يصدق ذلك قول الشاعر :
( و أي رزية عدلت حسينا ... غداة تبيده كفا سنان )
و قال خليفة بن خياط : الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن و أمير الجيش عمرو بن سعد و كان شمر أبرص و أجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير حز رأسه و أتى به عبيد الله بن زياد و قال :
( أوقر ركابي فضة ذهبا ... أني قتلت الملك المحجبا )
( قتلت خير الناس أما و أبا ... و خيرهم ـ إذ ينسبون ـ نسبا )
هذه رواية أبي عمر بن عبد البر في الاستيعاب و قال غيره : تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي و دخل به على ابن زياد و هو يقول :
( أوقر ركابي فضة ذهبا ... إن قتلت الملك المحجبا )
( و خيرهم إذ يذكرون النسبا ... قتلت خير الناس أما و أبا )
في أرض نجد و حرا و يثربا
فغضب ابن زياد من قوله و قال : إذا عملت أنه كذلك فلم قتلته ؟ و الله لا نلت مني خيرا أبدا و لألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه
و في هذه الرواية اختلاف و قد قيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل
و قال الإمام أحمد بن حنبل : قال عبد الرحمن بن مهدي : [ حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه و يتتبعه فيها قال قلت يا رسول الله ما هذا ؟ قال : دم الحسين و أصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم ] قال عمار : فحفظنا ذلك اليوم فوجدناه قتل ذلك اليوم و هذا سند صحيح لا مطعن في و ساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تساق الأسرى حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس فجعلوا ينظرون إليهم و في الأسارى علي بن حسين و كان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه و زينب بنت علي و بنت فاطمة الزهراء و أختها أم كلثوم و فاطمة و سكينة بنت الحسين و ساق الظلمة و الفسقة معهم رؤوس القتلة
روى قطر عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال : قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة عليها الصلاة و السلام
و ذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال : أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم يومئذ شبيه و قيل : إنه قتل مع الحسين من ولده و أخوته و أهل بيته ثلاثة و عشرون رجلا
و في صحيح البخاري في المناقب عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت و قال في حسنة شيئا فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان مخضوبا بالوسمة يقال : نكت في الأرض إذا أثر فيها و نكت بالحصباء إذا ضرب بها و كان الفاسق يؤثر في رأسه المكرم بالقضيب و أمد عبيد الله بن زياد من قور الرأس حتى ينصب في الرمح فتحاماه أكثر الناس فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤوم الملعون المذموم فقوره و نصبه بباب دار عبيد الله و نادى في الناس و جمعهم في المسجد الجامع و خطب الناس خطبة لا يحل ذكرها ثم دعا بزياد ابن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين و رؤوس أخوته و بنيه و أهل بيته و أصحابه و دعي بعلى بن الحسين فحمله و حمل عماته و أخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء و الناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد و منزل حتى قدموا دمشق و دخلوا من باب توما و أقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طست من ذهب و جعل ينظر إليه و يقول هذه الأبيات :
( صبرنا و كان الصبر منا عزيمة ... و أسيافنا يقطعن كفا و معصما )
( نعلق هاما من رجال أعزة ... علينا و هم كانوا أعق و أظلما )
ثم تكلم بكلام قبيح و أمر بالرأس أن تصلب بالشام و لما صلبت أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه و هو من أفاضل التابعين فطلبوه شهرا حتى وجدوه فسألوه عن عزلته فقال : ألا ترون ما نزل بنا :
( جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد ... متزملا بدمائه تزميلا )
( و كأنما بك يا ابن بنت محمد ... قتلوا جهارا عامدين رسولا )
( قتلوك عطشانا و لم يترقبوا ... في قلتك التنزيل و التأويلا )
( و يكبرون بأن قتلت و إنما ... قتلوا بك التكبير و التهليلا )
و اختلف الناس في موضع الرأس المكرم ؟ و أين حمل من البلاد ؟ فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم و ضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان ثم بعث بث الحسين و بقي من أهله معهم و جهزهم بكل شيء و لم يدع لهم حاجة المدينة إلا أمر بها و بعث برأس الحسين عليه السلام إلى عمرو بن سعيد العاص و هو إذ ذلك علمله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن و دفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة و السلام و هذا أصح ما قيل في ذلك و لذلك قال الزبير بن بكار الرأس حمل إلى المدينة و الزبير أعلم أهل النسب و أفضل العلماء لهذا السبب قال : حدثني بذلك محمد بن حسن المخزومي النسابة
و الإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من المقتل و هو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين و ما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشيء باطل لا يصح و لا يثبت و قد قتل الله قاتله صبرا و لقي حزنا و ذعرا و جعل رأسه الذي اجتمع فيه العيب و الذم في الموضع الذي جعل فيه رأس الحسين و ذلك بعد قتل الحسين بستة أعوام و بعث المختار به إلى المدينة فوضع بين يدي بني الحسين الكرام و كذلك عمرو بن سعد و أصحابه اللئام ضربت أعناقهم بالسيف و سقوا كأس الحمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام في يوم { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
و في الترمذي : حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير قال : لما أتي برأس عبيد الله بن زياد و أصحابه نصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم و هم يقولون قد جاءت فإذا هي حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا : جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا
قال العلماء : و ذلك مكافأة لفعله برأس الحسين و هي من آيات العذاب الظاهرة عليه ثم سلط الله عليهم المختار فقتلهم حتى أوردهم النار و ذلك أن الأمير مذحج بن إبراهيم بن مالك لقي عبيد الله بن زياد على خمسة فراسخ من الموصل و عبيد الله في ثلاثة و ثلاثين ألفا و إبراهيم في أقل من عشرين ألفا فتطاعنوا بالرماح و تراموا بالسهام و اصطفقوا بالسيوف إلى أن اختلط الظلام فنظر إبراهيم إلى رجل عليه بزة حسنة و درع سابغة و عمامة خز دكناء و ديباجة خضراء من فوق الدرع و قد أخرج يده من الديباجة و رائحة المسك تشم عليه و في يده صحيفة له مذهبة فقصده الأمير إبراهيم لا لشيء إلا لتلك الصحيفة و الفرس الذي تحته حتى إذا لحقه لم يلبث أن ضربه ضربة كانت فيها نفسه فتناول الصحيفة و غار الفرس فلم يقدر عليه و لم يبصر الناس بعضهم بعضا من شدة الظلمة فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم و الخيل لا تطأ إلا على القتلى فأصبح الناس و قد فقد من أهل العراق ثلاثة و سبعون رجلا و قتل من أهل الشام سبعون ألفا
( فيتعشوا منهم بسبعين ألفا ... أو يزيدون قبل وقت العشاء )
فلما أصبح وجد الأمير الفرس رده عليه رجل كان أخذه و لما علم أن الذي قتل هو عبيد الله بن زياد كبر و خر ساجدا و قال : الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي فبعث به إلى المختار زيادة على سبعين ألف رأس في أولها أشد رؤوس أهل الفساد عبيد الله المنسوب إلى زياد
قال المؤلف رحمه الله : فقلت هذا من كتاب مرج البحرين في مزايد المشرقين و المغربين للحافظ أبي الخطاب بن دحية رضي الله عنه
فصل
و مثل صنيع عبيد الله بن زياد صنع قبله بشر بن أرطأة العامري الذي هتك الإسلام و سفك الدم الحرام و أذاق الناس الموت الزؤام لم يدع لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذمام فقتل أهل بيته الكرام و حكم في مفارقهم الحسام و عجل لهم الحمام ذبح ابني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب و هما صغيران بين يدي أمهما يمرحان و هما قثم و عبد الرحمن فوسوست أمهما و أصابها ضرب من الجان لم أشعله الثكل في قلبها من لهب النيران
روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه في حديث فيه طول : كان أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله يتعوذ من شر يوم البلاء و يوم العورة في صلاة صلاها أطال قيامها و ركوعها و سجودها قال : فسألناه مم تعوذت و فيم دعوت ؟ فقال : تعوذت من يوم البلاء و يوم العورة فإن نساء من المسلمات ليسبين ليكشف عن سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها فدعوت الله عز و جل أن لا يدركني هذا الزمان و لعلكما تدركانه
و ذكر أبو عمر بن عبد البر قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن أنبأنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الحبطلي ببغداد في تاريخه الكبير حدثنا محمد بن مؤمن بن حماد قال : حدثنا سلمان بن شيخ قال : حدثنا محمد بن عبد الحكم عن عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بشر بن أرطأة في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة و عامل المدينة يومئذ لعلي عليه السلام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ففر أبو أيوب و لحق بعلي رضي الله عنهما و دخل بشر المدينة فصعد منبرها فقال : أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس يعني عثمان بن عفان ثم قال يا أهل المدينة : و الله لولا ما عهدته إلى معاوية ما تركت فيها محتلما إلا قتلته ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية و أرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عند أمان و لا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فأخبر جابر فانطلق حتى جاء الشام فأتى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : ماذا ترين فإني خشيت أن أقتل و هذه بيعة ضلالة فقالت : أرى أن تبايع و قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فأتى جابر بشرا فبايعه لمعاوية و هدم بشر دورا بالمدينة ثم انطلق حتى أتى مكة و بها أبو موسى الأشعري فخاف أبو موسى على نفسه أن يقتله فهرب فقيل ذلك لبشر فقال : ما كنت لأقتله و قد خلع عليا و لم يطلبه و كتب أبو موسى إلى اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من الناس من أبى أن يقر بالحكومة ثم مضى بشر إلى اليمن و عامل اليمن لعلي رضي الله عنه عبيد الله بن العباس فلما بلغه أمر بشر فر إلى الكوفة و استخلف على المدينة عبيد الله بن عبد مدان الحارثي فأتى بشر فقتله و قتل ابنه و لقي ثقل عبيد الله بن العباس و فيه ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس فقتلهما و رجع إلى الشام
و ذكر أبو عمرو الشيباني قال : لما وجه معاوية بشر بن أرطاة لقتل شيعة علي رضي الله عنه سار إلى أن أتى المدينة فقتل ابني عبيد الله بن العباس و فر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم و هذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بشر على همدان فقتل و سبى نساءهم فكن أول نساء سبين في الإسلام و قتل أحياء من بني سعد و قد اختلفوا كما ترى في أي موضع قتل الصغيرين من أهل البيت هل في المدينة أو في مكة أو في اليمن لأنه دخل هذه البلاد و أكثر فيها الفساد و أظهر لعلي رضي الله عنه العناد و أفرط في بعضه و زاد و سلط على أهل البيت الكريم الأجناد فقتل و سبى و أباد و لم يبق إلا أن يخد الأخاديد و يعد الأوتاد و كان معاوية قد بعثه في سنة أربعين إلى اليمن و عليها عبيد الله ابن العباس أخو عبد الله بن العباس ففر عبيد الله و أقام بشر باليمن و باع دينه ببخس من الثمن فأخاف السبيل و رعى المرعى الوبيل و باع المسلمات و هتك المحرمات فبعث علي رضي الله عنه في طلبة حارثة بن قدامة السعدي فهرب بشر إلى الشام و قد ألبس بذميم أفعاله ثياب العار و الذمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } و رجع الشريف أبو عبد الله محمد إلى بلاد اليمن فلم يزل واليا عليهم حتى قتل علي رضي الله عنه و يقال : إن بشر بن أطأرة لم يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم حرفا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض و هو صغير فلا تصح له صحبة قاله الإمام أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قال آخرون : خوف في آخر عمره قال يحيى بن معين : و كان الرجل سوء قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله
و قد ذكر أبو داود [ عن جنادة عن ابن أبي أمية قال : كنا مع بشر بن أطأرة في البحر فأتى بشارق يقال له منصور و قد سرق بختية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو و لولا ذلك لقطعته ]
قال أبو محمد عبد الحق : بشر هذا يقال ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت له أخبار سوء في جانب علي و أصحابه و هو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها و هامت على وجهها فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره و يذهب عقله كان كذلك قال ابن دحية : و لما ذبح الصغيرين و فقدت أمهما عقلهما كانت تقف في الموسم تشعر شعرا يبكي العيون و يهيج بلابل الأحزان و العيون و هو هذا :
( هامن أحس بإبني اللذين هما ... كالدرتين تسطا عنهما الصدف )
يقال تسطعت العصاة إذا صارت فلقا قاله في المجمل و غيره
( هامس أحس بإنبي اللذين هما ... سمعي و عقلي فقلبي اليوم مختطف )
( حدثت بشرا و ما صدقت ما زعموا من قولهم و من الإفك الذي اقترف )
( أحنى على و دجي إبني مرهف ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف )
باب ما جاء أن اللسان في الفتنة أشد من وقع السيف أبو داود [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستكون تستطف قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف ] خرجه الترمذي و قال في حديث غريب و سمعت محمد بن إسماعيل يقول : لا يعرف لزياد بن سمين كوشى عن عبد الله بن عمر غير هذا الحديث الواحد
و روي موقوفا و ذكره أبو داود [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له اللسان فيها كوقوع السيف ] أخرجه ابن ماجه أيضا [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم و الفتن فإن اللسان فيها مثل وقع السيف ]
فصل
قلت : قوله [ تستنطف ] أي ترمي مأخوذ من نطف الماء أي قطر و النطفة الماء الصافي قل أو كثر و الجمع النطاف أي أن هذه الفتنة تقطر قتلاها في النار أي ترميهم فيها لأقتتالهم على الدنيا و اتباع الشيطان و الهوى و قتلاها بدل من قوله العرب هذا المعنى الذي ظهر لي في هذا و لم أقف فيه على شيء لغيري و الله أعلم قوله : [ اللسان فيها أشد من وقع السيف ] أي بالكذب عند أئمة الجور و نقل الأخبار إليهم فربما ينشأ عن ذلك من النهب و القتل و الجلد و المفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار بعد ما بين المشرق و المغرب ] و في رواية عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي في النار أبعد ما بين المشرق و المغرب ] لفظ مسلم
و قد روي [ أن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا ] فقوله : من سخط الله أي مما يسخط الله و ذلك بأن يكون كذبة أو بهتانا أو بخسا أو باطلا يضحك به الناس كما جاء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ويل للذي تكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس ويل له و ويل له ]
و في حديث ابن مسعود [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الرفاهية من سخط الله ترديه بعد ما بين السماء و الأرض ] قال أبو زياد الكلابي : الرفاهية السعة في المعاش و الخصب و هذا أصل الرفاهية فأراد عبد الله بن أن يتكلم بالكلمة في تلك الرفاهية و الأتراف في دنياه مستهينا بها لما هو فيه من النعمة فيسخط الله عز و جل عليه قال أبو عبيدة و في الرفاهية لغة أخرى الرفاعية و ليس في هذا الحديث يقال : هو في رفاهية و رفاعية من العيش و قوله : صماء بكاء عمياء يريد أن هذه الفتنة لا تسمع و لا تبصر فلا تقلع و لا ترتفع لأنها لا حواس لها فترعوى إلى الحق و أنه شبهها لاختلاطها و فتل البريء فيها و السقيم بالأعمى الأصم الأخرس الذي لا يهتدي إلى شيء فهو يخبط عشواء و البكم الخرس في أصل الخلقة و الصم الطرش
باب الأمر بالصبر عند الفتن و تسليم النفس للقتل عندها و السعيد من جنبها أبو داود [ عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر قلت : لبيك رسول الله و سعديك و ذكر الحديث قال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت بالوصيف يعني القبر قلت الله و رسوله أعلم أو قال ما خار الله لي و رسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك و سعديك ؟ قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت أحجار قد غرقت بالدم قلت : ما خار الله لي و رسوله قال عليك بمن أنت منه قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال : شاركت القوم إذا قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال تلزم بيتك قال قلت فإن دخل على بيتي ؟ قال : فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك بيوء بإثمه و إثمك خرجه ابن ماجه و قال تصبر من غير شك و زاد بعده قال : كيف أنت وجوع يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك أو لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك
قال : قلت الله و رسوله أعلم ما خار الله لي و رسوزله قال : عليك بالعفة ثم قال : كيف أنت و قتل يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم الحديث
و قال : فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه و إثمك فيكون من أصحاب النار ]
و في حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر الفتنة قال : الزم بيتك قيل : فإن دخل على بيتي ؟ قال : فكن مثل الجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرها و لا يمشي إلا كرها ذكره أبو عبيدة قال : حدثنيه أبو النضر عن المسعودي عن علي بن مدرك عن أبي الرواع عن عبد الله قال أبو عبيدة سمعت بعض الرواة يقول : الرواع و الوجه الرواع بضم الراء
أبو داود قال [ عن المقداد بن الأسود قال : وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن السعيد لمن جنب الفتن و لمن ابتلى فصبر فواها ]
الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه : كالقابض على الجمر ] قال : حديث غريب
فصل
قوله بالوصيف الوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت و يدفنه إلا أن يعطى وصيفا أو قيمته و قد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عليهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف و قوله : غرقت بالدم أي لزمت و الغروق اللزوم فيه و يروى غرقت و أحجار الزيت موضع المدينة
روى الترمذي [ عن عمير مولى بن أبي اللحم عن أبي اللحم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستسقي و هو مقنع بكفيه يدعو ]
و ذكر عمر بن أبي شيبة في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام قال : حدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال : أدركت أحجار الزيت ثلاثة أحجار مواجهة بيت أم كلاب و هو اليوم يعرف ببيت بني أسد فعلا الكنيس الحجارة فاندفنت قال : و حدثنا محمد بن يحيى قال : و حدثنا محمد يحيى قال أخبرني أبو ضمرة الليثي عن عنان عن ابن الحارث بن عبيد عن هلال بن طلحة الفهري أن حبيب بن سلمة الفهري كتب إليه أن كعبا سألنسي أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض قال : فلما قدم كعب المدينة جاءني بكتابه ذلك فقال : أعالم أنت بالأرض ؟ قلت : نعم و كانت بالزوراء حجارة يضعون عليها الزياتون رواياهم فأقبلت حتى جئتها فقلت هذه أحجار الزيت فقال كعب لا و الله ما هذه صفتها في كتاب الله انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل فقال يا أبا هلال : إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله تعالى فسأل القوم عنها و هم يومئذ متوافرون فسألهم عن أحجار الزيت و قال إنها ستكون بالمدبنة ملحمة عندها
فصل
و أما حديث ابن مسعود : كن مثل الجمل الأورق فقال الأصمعي الأورق و هو الذي في لونه بياض إلى سواد و منه قيل للرماد أورق و الحمامة ورقاء ذكره الأصمعي قال : و هو أطيب الإبل لحما و ليس بمحمود عند العرب في عمله و سيره و أما الثقال فهو البطيء قال عبيد : إنما خص عبد الله الأورق من الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل ثم اشترط الثقاتل أيضا فزاده إبطاء و ثقلا فقال : كن في الفتنة مثل ذلك و هذا إذا دخل عليك و إنما أراد عبد الله بهذا التبثط عن الفتنة و الحركة فيها
فصل
و أما أمره صلى الله عليه و سلم أبا ذر بلزوم البيت و تسليم النفس للقتل فقالت طائفة : ذلك عند جميع الفتن و غير جائز لمسلم النهوض في شيء منها قالوا : و عليه أن يستسلم للقتل إذا أريدت نفسه و لا يدفع عنها و حملوا الأحاديث على ظاهرها و ربما احتجوا من جهة النظر بأن قالوا : إن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل و إن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه محق و غير جائز لأحد قتله و سبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضي بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابا فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابا و لا سنة و لا جماعة و كذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره مما يدعون من التأويل فغير جائز لأحد قتالهم و إن هم قصدوا القتلى فغير جائز دفعهم و قد ذكرنا من تخلف عن الفتنة و قعدوا منهم عمران بن الحصين و ابن عمر و قد روي عنهما و عن غيرهما منهم عبيدة السلماني أن من اعتزل الفريقين فدخل بيته فأتى يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه و إن أبى الدفع عن نفسه فغير مصيب كقوله عليه الصلاة و السلام [ من أريدت نفسه و ماله فقتل فهو شهيد ] قالوا فالواجب على كل من أريدت نفسه و ماله فقتل ظلما دفع ذلك ما وجد إليه السبيل متأولا كان المريد أو معتمدا للظلم
قلت : هذا هو الصحيح من القولين إن شاء الله تعالى و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال : فلا تعطه مالك قال : أرأيت إن قاتلني قال : قاتله قال : أرأيت إن قتلني قال : فأنت شهيد قال : أرأيت إن قتلته قال : هو في النار ]
و قال ابن المنذر : ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ] و قد روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص و دفعهم عن أنفسهم و أموالهم و هذا مذهب ابن عمر و الحسن البصري و قتادة و مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق و النعمان و قال أبو بكر : و بهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه و ماله إذا أريد ظلما للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخص وقتا من وقت و لا حالا دون إلا السلطان فإن جماعة من أهل العلم كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه و ماله إلا بالخروج على السلطان و محاربته أنه لايحاربه و لا يخرج عليه للأخبار الواردة الدالة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصبر على ما يكون منهم من الجور و الظلم و قد تقدم ذلك في بابه و الحمد لله
باب ـ جعل الله في أول هذه الأمة عافيتها و في آخرها بلاءها مسلم [ عن عبد الله بن عمر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه و منا من يتنضل و منا من هو في جشره إذ نادى منادي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم و إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها و سيصيب آخرها بلاء و أمور تنكرونها و تجيء فتنة فيدفق بعضها بعضا و تجي الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ثم تنكشف و تجيء الفتنة فيقول هذه منه فمن أراد أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتأته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه و من بايع إماما فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال ابن عبد الرحمن عبد رب الكعبة : فدنوت منه فقلت له : ناشدتك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأهوى إلى أذنيه و قلبه بيديه و قال : سمعته أذناي و وعاه قلبي فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل و نقتل أنفسنا و الله عز و جل يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله و اعصه في معصية الله ]
فصل
قوله : ينتضل الانتضال الرمي بالسهام و الجشر المال من المواشي التي ترعى أمام البيوت و الديار يقال : مال جشر يرعى في مكانه لأنه يرجع إلى أهله يقال : جشرنا دوابنا أي أخرجناها إلى المرعى و أصله البعد و منه يقال للأعزب : جشر و جشير لبعده عن النساء و في الحديث : [ من ترك قراءة القرآن شهرين فقد جشره ] أي بعد عنه و قوله : [ يدفق بعضها بعضا ] أي يتلو بعضها بعضا و ينصب بعضها على بعض و التدفق التصبب و هذا المعنى مبين في نفس الحديث لقوله و تجيء الفتنة ثم تنكشف و تجيء الفتنة و تزحزح أي تبعد و منه قوله تعالى { و ما هو بمزحزحه من العذاب } أي بمبعده و صفقة اليد أصلها ضرب الكف على الكف زيادة في الاستيثاق مع النطق باللسان و الالتزام بالقلب و في التنزيل { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } الآية و قوله : فاضربوا عنق الآخر قيل : المراد عنه و خلعه و ذلك قتله و موته و قيل : قطع رأسه و إذهاب نفسه يدل عليه قوله في الحديث الآخر : فاضربوه بالسيف كائنا ما كان و هو ظاهر الحديث هذا إذا كان الأول عدلا و الله أعلم
باب جواز الدعاء بالموت عند الفتن و ما جاء أن بطن الأرض خير من ظهرها مالك [ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو فيقول : اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و قد تقدم هذا في أول الكتاب قال ابن وهب : و حدثني مالك قال : كان أبو هريرة يلقى الرجل فيقول له : مت إن استطعت فيقول له لم ؟ قال تموت و أنت تدري على ما تموت خير لك من أن تموت و أنت لا تدري على ما تموت عليه قال مالك : و لا أرى عمر دعا ما دعا به من الشهادة إلا خالف التحول من الفتن
قلت : و قد جاء هذا المعنى مرفوعا عن أبي هريرة روى النضر بن شميل [ عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويل للعرب من شر قد اقترب موتوا إن استطعتم ] و هذا غاية في التحذير من الفتن و الخوض فيها حين جعل الموت خيرا من مباشرتها
و روى الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان أمراؤكم خياركم و أغيناؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها و إذا كان أمراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري في حديثه غرائب لا يتابع عليها و هو رجل صالح
البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه ] أخرجه مسلم و ابن ماجه بمعناه و زاد مثنى و ليس به الدين إلا البلاء
و روى شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت أبا الزعاء يحدث عن عبد الله قال : [ ليأتين على الناس زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني مكان هذا ليس به حب الله و لكن من شدة ما يرى من البلاء ]
قلت : و كان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن و شدة المحن و المشقات و الأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه و ماله و ولده قد أذهبت الدين منه و من أكثر الناس أو قلة الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن و كذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ العبادة في الهرج كهجرة إلي ] و قد مضى الكلام في هذا المعنى في أول الكتاب و نزيده وضوحا إنه شاء الله تعالى و الله أعلم
باب أسباب الفتن و المحن و البلاء أبو نعيم [ عن إدريس الخولاني عن عبيدة بن الجراح عن عمر بن الخطاب قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحيتي و أنا أعرف الحزن في وجهه فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون أتاني جبريل آنفا فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون فمم ذلك يا جبريل ؟ فقال : إن أمتك مفتتنة بعدك من دهر غير كثير فقلت : فتنة كفر أو فتنة ضلال ؟ فقال : كل سيكون فقلت و من أين و أنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال فبكتاب الله يفتنون و ذلك من قبل أمرائهم و قرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حقوقهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا و يتبع القراء أهواء الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حوققهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا و يتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قلت : كيف يسلم من يسلم منهم ؟ قال : بالكف و الصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه و إن منعوا تركوه ]
البزار [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لم تظهر الفاحشة في قوم فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم و لا نقضوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جوار السلطان و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء و لولا البهائم لم يمطروا و لم ينقضوا عهد الله و لا عهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم و إذا لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ] أخرجه ابن ماجه أيضا في سننه
و ذكره أبو عمر بن عبد البر و أبو بكر الخطيب من حديث [ سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد قال : حدثنا مالك عن عمه أبي سهيل عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقا قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم له استعدادا أولئك الأكياس ثم قال يا معشر المهاجرين : لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ] و ذكر الحديث
و قال عطاء الخراساني : إذا كان خمس كان خمس : إذا أكل الربا كان الخسف و الزلزلة و إذا جار الحكام قحط المطر و إذا ظهر الزنا كثر الموت و إذا منعت الزكاة هلكت الماشية و إذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة ذكره أبو نعيم
الترمذي [ عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مشت أمتي المطيطا و خدمها أبناء الملوك فارس و الروم سلط شرارها على خيارها ] قال : هذا حديث غريب
ابن ماجه [ عن قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } و إنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ] أخرجه أبو داود في سننه و الترمذي في جامعه
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا فتحت عليكم فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نكون كما أمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير ذلك تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض ]
و أخرج أيضا [ عن عمرو بن عوف و هو حليف بني عامر بن لؤي و كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صالح أهل البحرين و أمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم ثم قال : أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين قالوا أجل يا رسول الله قال : فأبشروا و أملوا ما بسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ]
و في رواية : [ فتلهيكم كما ألهتكم بدل فتهلككم ]
و أخرج ابن ماجه [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أدع بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ] أخرجه البخاري و مسلم أيضا
و أخرج ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صباح إلا و ملكان يناديان ويل للرجال من النساء و ويل للنساء من الرجال ]
و أخرج أيضا [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام خطيبا و كان فيما قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخفلكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الله و اتقوا النساء ] خرجه مسلم أيضا و قال : بدل قوله فاتقوا الله فاتقوا النار و اتقوا النساء و زاد [ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ]
الترمذي [ عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن لكل أمة فتنة و فتنة أمتي المال ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
و [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سكن البادية جفا و من اتبع الصيد غفل و من أتى أبواب السلطان افتتن ] قال : و في الباب عن أبي هريرة
و هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري
فصل
حذر الله سبحانه و تعالى عباده فتنة المال و النساء في كتابه و على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فقال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم } و قال تعالى : { إنما أموالكم و أولادكم فتنة } ثم قال سبحانه و تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم } فنبه الله على ما يعتصم به من فتنة حب المال و الولد في آي ذكر الله فيها فتنة و ما كان عاصما من فتنة المال و الولد فهو عاصم من كل الفتن و الأهواء و قال تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث } ثم قال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات } فوصف تعالى ما للمتقين عند ربهم ثم وصف أحوالهم بنعتهم إلى قوله { و المستغفرين بالأسحار } و هذا تنبيه لهم على تزهيدهم فيما زين لهم و ترغيبهم فيما هو خير منه و مثل هذا في القرآن كثير
و المطيطاء : بضم الميم و المد : المشي بتبختر و هي مشية المتكبرين المفتخرين و هو مأخوذ من مط يمط إذا مد قال الجوهري : و المطيطاء بضم الميم ممدودا التبختر و مد اليدين في المشي و في الحديث [ إذا مشت أمتي المطيطياء و خدمتهم فارس و الروم كان بأسهم بينهم ] و قوله : ثم ينطلقون في مساكن المهاجرين قيل في الكلام حذف أي في مساكين المهاجرين و المعنى أنه إذا وقع التنافس و التحاسد و التباغض حملهم ذلك على أن يأخذ القوي على ما أفاء الله المساكين الذي لا يقدر على مدافعته فيمنعه عنه ظلما و قهرا بمقتضى التنافس و التحاسد
و قيل : ليس في الكلام حذف و أن المعنى المراد أن مساكين المهاجرين و ضعفاءهم سيفتح عليهم إذ ذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض و هذا اختيار القاضي عياض و الأول اختيار شيخنا أبي العباس القرطبي قال : و هو الذي يشهد له مساق الحديث و معناه و ذلك أنه عليه الصلاة و السلام أخبرهم أنه يتغير بهم الحال و أنهم عنهم أو عن بعضهم أحوال غير مرضية تخالف أحوالهم التي كانوا عليها من التنافس و التباغض و انطلاقهم في مساكين المهاجرين فلا بد أن يكون هذا الوصف غير مرضى كالأوصاف التي قبله و أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجيها و حينئذ يلتئم الكلام أوله و أخره و الله أعلم و يعضده رواية السمرقندي فيحملون بعضهم على رقاب بعض أي بالقهر و الغلبة
باب منه و ما جاء أن الطاعة سبب الرحمة و العافية ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا المقدام بن داود حدثنا علي بن معبد الرقي حدثنا وهب بن راشد حدثنا مالك بن دينار عن خلاس بن عمرو عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل يقول : أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك و ملك الملوك قلوب الملوك بيدي و أن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة و الرحمة و إن العباد إذا عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط و النقمة فساموهم سوء العذاب فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك و لكن اشغلوا أنفسكم بالذكر و التضرع إلي أكفكم ملوككم ] غريب من حديث مالك مرفوعا تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد
أبواب الملاحم ـ باب أمارات الملاحم أبو داود [ عن معاذ بن جبل : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمران بيت المقدس خراب يثرب و خراب يثرب خروج الملحمة فتح القسطنطنية و فتح القسطنطنية خروج الدجال ]
البخاري [ عن عوف بن مالك قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك و هو في قبة من آدم فقال : أعدد ستا بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقفاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلتاه ثم هدنة تكون بينكم و بين بني الأصفر فيعذرون فيأتونكم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا ]
و خرجه أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير بمعناه و زاد بعد قوله إثنا عشر ألفا [ فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة في مدينة يقال لها دمشق ] ذكره بإسناده أبو الخطاب بن دحية في كتاب مرج البحرين في فوائد المشرقين و المغربين
و قال : عوف بن مالك الأشجعي : شهد موت النبي و حضر فتح بيت المقدس
مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتحه صلحا لخمس خلون من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة ثم حضر قسمة كنوز كسرى على يد أمير المؤمنين عمر ثم شاهد قتال الجمل و صفين و شاهد عوف رضي الله عنه أيضا الموتان الذي كان بالشام قبل ذلك و هو المسمى بطاعون عمواس مات يومئذ ستة و عشرون ألفا و قال المديني خمسة و عشرين ألفا و عمواس : بفتح العين و الميم لأنه [ عم و أسى ] أي جعل بعض الناس أسوة بعض و عمواس قرية بين الرملة و بيت المقدس مات فيه أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح و الأمير الفقيه أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه كان الطاعون عمواس سنة ثمانية عشر رواه عن أحمد أبو زرعة الرازي قال : كان الطاعون سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة و في سنة سبع عشرة رجع عمر من سرغ و موتان بضم الميم هي لغة و غيرهم يفتحونها و هم اسم الطاعون و الموت
و قوله : كقفاص الغنم هو داء يأخذها لا يلبثها قاله أبو عبيدة لأن القفاص الموت العجل و يقال بالسين و قيل هو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق و قد انقضت هذه الخمس و عاش عوف بن مالك إلى زمن عبد الله بن مروان سنة ثلاث و سبعين من الهجرة و قد أربى بصفين على المائة و قال الواقدي : مات عوف بن مالك بالشام سنة ثلاث و تسعين فإن صح ما قال فقد مات في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان إن لم يكن تصحيفا منه و الله أعلم
باب ما ذكر في ملاحم الروم و تواترها و تداعي الأمم على أهل الإسلام ابن ماجه [ عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون بينكم و بين بني الأصفر هدنة فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا ]
و [ عن ذي مخمر و كان رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول ستصالحكم الروم صلحا آمنا ثم تغزون أنتم و هم عدوا فتنصرون و تغنمون و تقتسمون و تسلمون ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيرفع رجل من أهل الصليب صليبه فيقول غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه فعند ذلك تغدر الروم و يجمعون الملحمة فيأتون تحت ثمانين راية اثنا عشر ألفا ]
و أخرجه أبو داود و زاد [ و يثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة ]
و أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده و إسناده صحيح ثابت و ذو مخمر بالميم لا غير و هو ابن أخي النجاشي قاله الأوزاعي و قد عده أبو عمر في موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن دحية
و خرجا جميعا عن ابن ماجه و أبو داود [ عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الملحمة الكبرى و فتح قسطنطنية و خروج الدجال في سبعة أشهر ] و خرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
[ و عن عبد الله بن بشر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الملحمة و فتح المدينة ست سنين و يخرج الدجال في السابعة ] خرجه ابن ماجه و أبو داود و قال أبو داود : هذا صحيح من حديث عيسى
قلت : يريد حديث معاذ المذكور قبله
مسلم عن بشير بن جابر قال : هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيرا ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة قال : فقعد و كان متكئا فقال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث و لا يفرح بغنيمة ثم قال بيده هكذا و نحاها نحو الشام فقال : عدو يجمعون لأهل الأسلام و تجمع لهم أهل الإسلام قلت : الروم تعني ؟ قال : نعم و يكون عند ذلك القتال ردة شديدة فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجر بينهم الليل فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة و إذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام فيجعل الله الدائرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لم ير مثلها و إما قال لا يرى مثلها حتى إن الطائر ليمر بجثمانهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا فيتعادى بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد فبأي غنيمة يفرح و بأي ميراث يقسم فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك فجاءهم الصريخ فقال : إن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم و يقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف أسماءهم و أسماء آبائهم و ألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر الأرض أو من خير فوارس يومئذ
أبو داود [ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل من القوم : من قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل و لينزعن الله من صدور عدوكم المهاية و ليقذفن في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله و ما الوهن ؟ قال : حب الدنيا و كراهة الموت ]
فصل
قوله : بني الأصفر يعني الروم و في تسميتهم بذلك قولان
أحدهما : أن جيشا من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر فوطئوا نساءهم فولدن أولادا صفرا قاله ابن الأنباري
الثاني : أنهم نسبوا إلى الأصفر ابن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام قاله ابن إسحاق و هذا أشبه من القول الأول و الهدنة : الصلح و الغاية الراية كما جاء مفسرا في الحديث بعده سميت بذلك لأنها تشبه السحابة لمسيرها في الجو و الغاية و الصابة السحابة و قد رواها بعض رواة البخاري تحت ثمانين غابة بباء مفردة النقطة و هي الأجمة شبه اجتماع رماحهم و كثرتها بالأجمة التي هي الغابة و الصحيح الأول لأنها تظل الأجناد لكثرة راياتهم و اتصال أويلتهم و علاماتهم كالسحاب الذي يظل الإنسان
و قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن تحت كل غاية اثني عشر ألفا فجملة العدو تسعمائة ألف و ستون ألفا ] ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية و قد روي مرفوعا في حديث فيه طول عن حذيفة : أن الله تعالى يرسل ملك الروم و هو الخامس من الهرقل يقال له ضمارة و هو صاحب الملاحم فيرغب إلى المهدي في الصلح و ذلك لظهور المسلمين على المشركين فيصالحه إلى سبعة أعوام فيضع عليهم الجزية عن يد و هم صاغرون فلا تبقى لرومي حرمة و يكسرون لهم الصليب ثم يرجع المسلمون إلى دمشق فبينما الناس كذلك إذا برجل من الروم قد التفت فرأى أبناء الروم و بناتهم في القيود و الأغلال فتعير نفسخ فيرفع الصليب و يرفع صوته فيقول : ألا من كان يعبد الصليب فينصره فيقوم رجل من المسلمين فيكسر الصليب و يقول : الله أغلب و أنصر فحينئذ يغدرون و هم أولى بالغدر فيجمعون عند ذلك ملوك الروم في بلادهم خفية فيأتون إلى بلاد المسلمين حيث لا يشعر بهم المسلمون و المسلمون قد أخذوا منهم الأمن و هم على غفلة أنهم مقيمون على الصلح فيأتون أنطاكية في اثني عشر ألف راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا فلا يبقى بالجزيرة و لا بالشام و لا بأنطاكية نصراني إلا و يرفع الصليب فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشام و الحجاز و اليمن و الكوفة و البصرة و العراق يعرفهم بخروج الروم و جمعهم و يقول لهم أعينوني على جهاد عدو الله و عدوكم فيبعث إليه أهل المشرق أنه قد جاء عدو من خراسان على ساحل الفرات و حل بنا ما شغلنا عنك فيأتي إليه بعض أهل الكوفة و البصرة و يخرج إليه المهدي و يخرج معهم المسلمون إلى لقائهم فيلتقي بهم المهدي و من معه من المسلمين فيأتون إلى دمشق فيدخلون فيها فتأتي الروم إلى دمشق فيكونون عليها أربعين يوما فيفسدون البلاد و يقتلون العباد و يهدمون الديار و يقطعون الأشجار ثم إن الله تعالى ينزل صبره و نصره على المؤمنين فيخرجون إليه فتشتد الحرب بينهم و يستشهد من المسلمين خلق كثير فيا لها من وقعة و مقتلة ما أعظمها و ما أعظم هولها و يرتد من العرب يومئذ أربع قبائل سليم و نهد و غسان و طي فيلحقون بالروم و ينتصرون مما يعاينون من الهول العظيم و الأمر الجسيم ثم إن الله تعالى ينزل النصر و الصبر و الظفر على المسلمين فيقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى يخوض الخيل في دمائهم و تشتعل الحرب بينهم حتى إن الحديد يقطع بعضه بعضا و إن الرجل من المسلمين ليطعن العلج بالسفود فينفذه و عليه الدرع من الحديد فيقتل المسلمون من المشركين خلقا كثيرا حتى تخوض الخيل في الدماء و بنصر الله تعالى المسلمين و يغضب على الكافرين و ذلك رحمة من الله تعالى لهم فعصابة من المسلمين يومئذ خير خلق الله و المخلصين من عباد الله ليس فيهم مارد و لا مارق و لا شارد و لا مرتاب و لا منافق ثم إن المسلمين يدخلون إلى بلاد الروم و يكبرون على المدائن و الحصون فتقع أسوارها بقدرة الله فيدخلون المدائن و الحصون و يغنمون الأموال و يسبون النساء و الأطفال و يكون أيام المهدي أربعين سنة عشر سنين في المغرب و اثنتا عشرة سنة بالكوفة و اثنتا عشرة بالمدينة و ستة بمكة و تكون منيته فجأة بينما الناس كذلك إذ تكلم الناس بخروج الدجال اللعين و سيأتي من أخبار المهدي ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى
و قوله : ليس له هجير الدأب و العادة يقال : ما زال ذلك هجيراه و إهجيراه و إجيراه أي دأبه و عادته و هاجت : أي تحركت ريح حمراء أي شديدة احمرت لها الشجر و انكشفت الأرض فظهرت حمرتها و لما رأى ذلك الرجل جاء مجيء الخائف من قرب الساعة و الشرطة هنا بضم الشين أول طائفة من الجيش تقاتل سموا بذلك لعلامة تميزوا بها و الأشراط العلامات و تفنى الشرطة أي تقتل و تفيء ترجع و منه حتى تفيء إلى أمر الله و نهد تقدم و منه سمي النهد نهدا لتقدمه الصدر و الدايرة و يروي و الدائرة و المعنى متقارب قال الأزهري : الدائرة الدولة تدور على الأعداد و الدائرة النصر و الظفر يقال : لمن الدائرة أي لمن الدولة و على من الدائرة ؟ أي الهزيمة قاله أبو عبيد الهروي : و الجنبات جمع جنبة و هي الجانب و يروى بجثمانهم أي بأشخاصهم و قوله : إذ سمعوا بناس بنون و سين هم أكثر بالثاء المثلثة و يروى بباس بباء واحدة أكبر بباء واحدة أيضا و هو الأمر الشديد و هو الصواب لرواية أبي داود و إذ سمعوا بأمر هو أكبر من ذلك و الصريخ الصارخ أي المصوت عند الأمر الهائل و يرفضون أي يرمون و يتركون و الطليعة الذي يتطلع الأمر و يسكتشفه و تداعى الأمم اجتماعها و دعا بعضها بعضا حتى تصير العرب بين الأمم كالقصعة و الأكلة و غثاء السيل ما يقذف به على جانب الوادي من الحشيش و النبات و القماش و كذلك الغثاء بالتشديد و الجمع : الأغثاء و الله أعلم
باب منه و بيان قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها
[ عن حذيفة قال : فتح لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتح فأتيته فقلت : الحمد لله يا رسول الله ألقى الإسلام بجرانه و وضعت الحرب أوزارها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن دون أن تضع الحرب أوزارها خلالا ستا أفلا تسألني عنها يا حذيفة ؟ قلت : بلى يا رسول الله فما أولها ؟ قال : موتى و فتح بيت المقدس ثم فئتان دعواهما واحدة يقتل بعضهم بعضا ثم يفيض المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيسخطها و موت كقفاص الغنم و غلام من بني الأصفر ينبت في اليوم كنبات أشهر و في الشهر كنبات السنة فيرغب قومه فيه فيملكونه و يقولون نرجو أن يرد بك علينا ملكنا فيجمع جمعا عظيما ثم يسير حتى يكون بين العريش و أنطاكية فأميركم يومئذ نعم الأمير فيقول لأصحابه : كيف ترون ؟ فيقولون : نقاتلهم حتى يحكم الله بيننا و بينهم فيقول : لا أرى ذلك و لكن تخلي لهم أرضهم و نسير بذرارينا و عيالنا حتى نحرزهم ثم يغزوهم و قد أحرزنا ذرارينا و عيالاتنا فيسيرون حتى يأتوا مدينتي هذه و يستمد أهل الشام فيمدونه فيقول : لا ينتدب معي إلا من باع نفسه الله حتى يلقاهم فيلقاهم ثم يكسر غمده ثم يقاتل حتى يحكم الله بينهم فينتدبون سبعون ألفا أو يزيدون على ذلك فيقول حسبي سبعون ألفا لا تحملهم الأرض و في القوم عين العدو فيخبرهم بالذي كان فيسير إليهم حتى إذا التقوا سألوه أن يخلي بينهم و بين من كان بينهم نسب فيأتي و يدعو أصحابه فيقول : أتدرون ما يسأل هؤلاء ؟ فيقولون : ما أحد أولى بنصر الله و قتاله منا فيقول : امضوا و اكسروا أغمادكم فيسل الله سيفه عليهم فيقتل منهم الثلثان و يفر في السفن منهم الثلث حتى إذا تراءت لهم جبالهم فبعث الله عليهم ريحا فردتهم إلى مراسيهم إلى الشام فأخذوا و ذبحوا عند أرجل سفنهم عند الشاطئ فيومئذ تضع الحرب أوازارها ] رواه إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن ربيعة بن سفيان بن ماتع المغافري عن مكحول عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ذكره الفقيه بن برجان في كتاب الإرشاد له و منه نقلته و في إسناده مقال و الله أعلم
باب ما جاء في قتال الترك و صفتهم البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا و كرمان من الأعاجم حمر الوجوه فطس الأنوف صغار الأعين وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشعر ]
و خرج مسلم [ عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين ذلف الأنوف ] و في رواية [ يلبسون الشعر و يمشون في الشعر ] خرجه البخاري و أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و غيرهم
و خرجه ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغارا الأعين عراض الوجوه كأن أعينهم حدق الجراد و كأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعور و يتخذون الدرق يربطون خيولهم بالنخيل ]
أبو داود [ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث يقاتلونكم قوم صغارا الأعين يعني الترك قال تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجوا منهم من هرب و أما في الثانية فينجو بعضهم و يهلك بعض و أما في الثالثة فيصطلمون ]
فصل
قوله : المجان المطرقة المجان جمع مجن و هو الترس و المطرقة هي التي قد عوليت بطراق و هو الجلد الذي يغشاه شبه وجوههم في عرضها و نتوء وجناتها بالترس و المطرقة قال معناه الخطابي و غيره و قيده القاضي عياض رحمه الله في كتاب مشارق الأنوار له فقال : الصواب فيه المطرقة بفتح الطاء و تشديد الراء
قاله الحافظ أبو الخطاب بن دحية قال لي شيخنا المحدث الكبير اللغوي النحوي أبو إسحاق الحمزي بل الصواب فيه المطرقة بسكون الطاء و فتح الراء أي التي أطرقت بالعقب أي ألبست حتى غلظت و كأنها ترس على ترس و منه طارقت النعل إذا ركبت جلدا على جلد و خرزته عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى : هذا معنى ما نقلناه عن الخطابي و قال أهل اللغة : و في الصحاح و المجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة يقال : أطرقت الجلد و العصب أي ألبسته و ترس مطرق و قولهم : نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالا و يصنعون منها نعالا كما يصنعون منه ثيابا و يشهد بهذا قوله يلبسون الشعر و يمشون في الشعر هذا ظاهره و يحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذا أسدلوها كاللباس و ذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال و الأول أظهر
قال ابن دحية : إنما كان نعالهم من ضفائر الشعر أو من جلود مشعرة لما في بلادهم من الثلج العظيم الذي لا يكون في بلد كبلادهم و يكون من جلد الذئب و غيره و قوله : يلبسون الشعر فهو إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس و القندس كلب الماء و هو من ذوات الشعر كالمعز و ذوات الصوف كالضأن و ذوات الوبر الإبل و قوله : ذلف الأنف أي غلاظها يقال : أنف أذلف إذا كان فيه غلظ و انبطاح و الذلف في اللغة تأخر الأرنبة و قيل تطامن فيها و قيل فطس الأنوف كما في حديث البخاري عن أبي هريرة فالحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا و يروى دلف الأنوف بالدال المهملة و المعجمة أكثر
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رضي الله عنه : و خوزا قيدناه في صحيح البخاري و مسلم بالزاي و قيده الجرجاني في خور كورمان بالراء المهملة مضافا إلى كرمان و كذا صوبه الدارقطني بالراء المهملة مع الإضافة و حكاه عن الإمام أحمد بن حنبل و قال : إن غيره صحف فيه و قال غير الدارقطني إذا أضيف فبالراء المهلمة لا غير و إذا عطفته فبالزاي لا غير و يقال : إنهما جنسان
باب في سياقة الترك للمسلمين و سياقة المسلمين لهم روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال : [ حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن المهاجر قال : حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فسمعت النبي يقول : إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف ثلاث مرات حتى يحلقوهم بجزيرة العرب أما السياقة الأولى فينجو من هرب منهم و أما السياقة الثانية فيهلك بعض و ينجو بعض و أما السياقة الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي منهم قالوا يا نبي الله من هم ؟ قال : هم الترك قال : أما و الذي نفسي بيده ليربطون خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين قال : و كان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة و متاع السفر و الأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم من البلاء من الترك ]
قال الإمام أبو الخطاب عمر بن دحية و هذا سند صحيح أسنده إمام السنة و الصابر على المحنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني عن الإمام العدل المجمع على ثقته أبي نعيم الفضل بن دكين و بشير بن المهاجر و ثقه رأى أنس بن مالك روى عن جماعة من الأئمة فوثقوه
قال المؤلف رحمه الله : و خرج أبو داود قال [ حدثنا جعفر بن مسافر قال : حدثنا خلاد بن يحيى : حدثنا بشير بن مهاجر قال : حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث يقاتلونكم صفار الأعين يعني الترك قال : تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجو منهم من هرب و أما الثانية فينجو بعض و يهلك بعض و أما في الثالثة فيصطلمون ]
فصل
الاصطلام : الاستئصال و أصله من الصلم و هو القطع اصطملت أذنه إذا استوفيت بالقطع و أنشد الفراء :
( ثمت اصطمت إلى الصماخ فلا قرن و لا أذن )
و الحديث الأول يدل على خروجهم و قتالهم المسملين و قتلهم و قد وقع ذلك على نحو ما أخبر صلى الله عليه و سلم فخرج منهم في هذا الوقت أنهم لا يحميهم إلا الله و لا يردهم عن المسلمين إلا الله حتى كأنهم يأجوج و مأجوج أو مقتدمهم
قال الحافظ السيد بن دحية رضي الله عنه : يخرج في جمادى الأولى سنة سبع عشرة و ستمائة جيش من الترك يقال له الططر عظم في قتله الخطب و الخطر و قضى له من قتل النفوس المؤمنة الوطر و لم تهتد إلى دفعه بالحيل الفطر يقتلون من وراء النهر و ما دونه من جميع البلاد بلاد خراسان و محو رسوم ملك بني ساسان و هذا الجيش ممن يكفر بالرحمن و يرى أن الخالق المصور هما النيران و ملكهم يعرف بخان خاقان و خربوا بيوت مدينة نشاور و أطلقوا فيها النيران و خار عنهم من أهل خوارزم كل إنسان و لم يبق منهم إلا من اختبأ في المغارات و الكهفان حتى و صلوا إليها و قتلوا و سبوا و خبروا البنيان أطلقوا الماء على المدينة من نهر جيحان فغرق فيها مباني الذرا و الأركان ثم صيروا المشهد الرضوي بطوس أرضا بعد أن كانوا و قطعوا ما أمر الله عز و جل به أن يوصل من الدين بأخسر الأديان إلى أن وصلوا بلا قهستان فخربوا مدينة الري و قزوين و أبهر و زنجان و مدينة أردبيل و مدينة مراغي كرسي بلاد أذربيجان و استأصلوا شأفة من في هذه البلاد من العلماء و الأعيان و استباحوا قتل النساء و ذبح الولدان ثم وصلوا إلى العراق الثاني و أعظم مدنه مدينة أصبهان و دور سورها أربعون ألف ذراع في غاية الارتفاع و الإتقان و أهلها مشتلون بعلم الحديث فحفضهم الله بهذا الشأن و كف كف الكفر عنهم بأيمان الإيمان و أنزل عليهم مواد التأييد و الإحسان فتلقوهم بصدور هي في الحقيقة صدور الشجعان و حققوا الخبر بأنها بلد الفرسان و اجتمع فيها مائة ألف إنسان و خرجوا إليهم كأسد و لكن غاباتها عوامل الخرصان و قد لبسوا البيضا كثغور الأقحوان و عليهم دروع فضفاضة في صفاء الغدران و هيئات للمجاهدين درجات الجنان و أعدت للكافرين دركات النيران و برز إلى الططر القتل في مضاجعهم و ساقهم القدر المحتوم إلى مصارعهم فمرقوا عن أصبهان مروق السهم من الرمي و أنشدوا :
( إلى الوادي فطم على القرى )
ففروا منهم فرار الشيطان يوم بدر له خصاص و رأوا أنهم إن وقفوا لم يمكن لهم من الهلاك محاص و واصلوا السير بالسرى و هدوا من همدان الوهاد و الذرى بعد أن قامت الحرب على ساق و الأرواح في مساق من ذبح مثله و ضرب الأعناق و صعدوا جبل أوزند فقتلوا من فيه من جموع صلحاء المسلمين و خربوا ما فيه من الجنات و البساتين و انتهكوا منهم و من نسائهم حرمات الدين و كانت استطالتهم على مقدار ثلثي بلاد المشرق الأعلى و قتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى و قتلوا في العراق الثاني عدة تقرب أن يستقصى و ربطوا خيولهم في سواري المساجد و الجوامع كما جاء في الحديث المنذر لخروجهم الشارح الجامع و أوغلوا في بلاد المشرق أي إيغال و قادوا الجيوش إليها مقادة أبي رغال في كلام له إلى أن قال : و قطع السبل و أخافوها و جاسوا خلال الديار و طافوها و ملأوا قلوب المؤمنين رعبا و سحبوا ذيل الغلبة على تلك البلاد سحبا و حكموا سيوفهم في رقاب أهلها و أطلقوا يد التخريب في وعرها و سهلها و لا شك أنهم هم المنذر بهم في الحديث و أن لهم ثلاث خرجات يصطلمون في الآخرة منها
قال المؤلف رحمه الله : فقد كملت بحمد الله خرجاتهم و لم يبق إلا قتلهم و قتالهم فخرجوا على العراق الأول و الثاني كما ذكرناه و خرجوا في هذا الوقت على العراق الثالث بغداد و ما اتصل بها من البلاد و قتلوا جميع من كان فيها من الملوك و العلماء و الفضلاء و العباد و حصروا ميا فارقين و استباحوا جميع من فيها من الملوك و المسلمين و عبروا الفرات إلى أن وصلوا إلى مدينة حلب فخربوها و قتلوا من فيها إلى أن تركوها خالية يبابا ثم أوغلوا إلى أن ملكوا جميع الشام في مدة يسيرة من الأيام و فلقوا بسيوفهم الرؤوس و الهام و دخل رعبهم الديار المصرية و لم يبق إلا الحوق بالدار الأخروية فخرج إليهم من مصر الملك المظفر الملقب بقطز رضي الله عنه بجميع من معه من المعسكر و قد بلغت الحناجر القلوب و الأنفس بعزيمة صادقة و نية خالصة إلى أن التقى بعين جالوت فكان له عليهم من النصر و الظفر كما كان لطالوت فقتل منهم جمع كثير و عدد غزير و انجلوا عن الشام من ساعتهم و رجع جميعه كما كان إلى الإسلام و عبروا الفرات منهزمين و رأوا ما لم بشاهدوه منذ زمان و لا حين و راحوا خائبين خاسرين مدحورين أذلاء صاغرين
باب منه و ما جاء في ذكر البصرة و الأيلة و بغداد و الإسكندرية أبو داود الطيالسي قال : حدثنا الحشرج بن نباتة الكوفي حدثنا سعيد بن جيهان [ عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لتنزلن طائفة من أمتي أرضا يقال لها البصرة و يكثر بها عددهم و نحلهم ثم يجيء قوم من بني قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على جسر لهم يقال له دجلة فيتفرق المسلمون ثلاث فرق : أما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل فتلحق البادية فهلكت و أما فرقة فتأخذ على أنفسها و كفرت و هذه و تلك سواء و أما فرقة فيجعلون عيالاتهم خلف ظهورهم و يقاتلون فقتلاهم شهداء و يفتح الله على بقيتهم ]
و خرجه أبو داود السختياني في سننه بمعناه فقال : [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني سعيد بن جيهان : حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال : سمعت أبي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها و تكون من أمصار المهاجرين قال ابن يحيى و هو محمد قال معمر : و يكون من أمصار المسلمين فإذ كان آخر الزمان جاء بنو قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق : فرقة تأخذ أذناب البقر و البرية و هلكوا و فرقة يأخذون لأنفسهم و كفروا و فرقة يجعلون ذريتهم خلف ظهورهم و يقاتلون و هم الشهداء ]
قال أبو داود : و [ حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني إبراهيم بن صالح بن درهم قال : سمعت أبي يقول : انطلقنا حاجين فإذا رجل فقال لنا : إلى جنبكم قرية يقال لها الأيلة قلنا : نعم قال : من يضمن لي منكم أن يصلي في مسجد العشار ركعتين أو أربعا و يقول لأبي هريرة سمعت خليلي يقول : إن الله بيعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم ]
ذكر الخطيب أبو بكر بن أحمد بن ثابت في تاريخ بغداد أنبأنا أبو القاسم الأزهري [ حدثنا أحمد بن محمد بن موسى قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن المنادني قال : ذكر في إسناد شديد الضعف عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي قيس عن علي رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تبنى مدينة بين الفرات و دجلة يكون فيها شر ملك بني العباس و هي الزوراء يكون فيها حرب مقطعة تسبى فيها النساء و يذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم ] قال أبو قيس فقيل لعلي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين : قد سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم الزوراء فقال : لأن الحرب تزور في جوانبها حتى تطبقها
و قال أرطأة بن المنذر قال رجل لابن عباس و عنده حذيفة بن اليمان أخبرني عن تفسيرقوله تعالى { حم * عسق } فأعرض عنه حتى أعاد ثلاثا فقال حذيفة : أنا أنبأك بها قد عرفت لم تركها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين بشق النهر بينهما شقا فإذا أراد الله زوال ملكهم و انقطاع دولتهم بعث الله على إحداها نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة فتحترق كلها كأنها لم تكن في مكانها فتصبح صاحبتها متعجبة كيف قلبت فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد ثم يخسف الله بها و بهم جميعا فذلك { حم * عسق } أي عزيمة من عزمات الله و فتنة و قضاء حم أي حم ما هم كائن ع عدلا منه س سيكون ق واقع في هاتين المدينتين
و نظير هذا التفسير ما [ روى جرير بن عبد الله البجلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تبنى مدينة بين دجلة و دجيل و قطربل و الفرات يجتمع فيها جبابرة الأرض تجيء إليها الخزائن يخسف بها و في رواية يخسف بأهلها فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة ] و قرأ ابن عباس [ حم عسق ] بغير عين و كذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود حكاه الطبري و قال العباس و كان علي يعرف الفتن بها
و [ ذكر القشيري و الثعلبي في تفسيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه فقيل له يا رسول الله : ما أحزنك ؟ قال : أخبرت ببلايا تصيب أمتي من خسف و قذف و نار تحشرهم و ريح تقذفهم في البحر و آيات متتابعات بنزول عيسى و خروج الدجال ] لفظ الثعلبي
و قد روي حديث الزوراء محمد بن زكريا الغلابي و أسند عن [ علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : أما هلاكها على يد السفياني كأني بها و الله قد صارت خاوية على عروشها ] و محمد بن زكريا قال الدارقطني كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم
و ذكر ابن وهب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له بالاسكندرية : إن الناس قد فزعوا فأمر بسلاحه و فرسه فجاءه رجل فقال من أين هذا الفزع ؟ قال : سفن تراءت من ناحية قبرس قال : انزعوا عن فرسي قال : قلنا اصلحك الله إن الناس قد ركبوا فقال : ليس هذا بملحمة الإسكندرية إنما يأتون من ناحية المغرب من نحو أنطابلس فيأتي مائة ثم مائة حتى عدد تسعمائة
و خرج الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة من حديث رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري عن كعب قال : إني لأجد في كتاب الله المنزل على موسى بن عمران أن للإسكندرية شهداء يستشهدون في بطحائها خير من مضى و خيرمن بقى و هم الذين يباهي الله عز و جل بهم شهداء بدر
فصل
قوله : المجان يفتح الجيم جمع مجن بكير الميم و هو الترس و المطرقة هي التي قد عدلت بطراق و هو الجلد الذي يغشاه شبه وجوههم في عرضها و نتوء وجناتها بالترسة و المطرقة و في الصحاح و المجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة و يقال : أطرقت بالجلد و العصب أي لبست و ترس مطرق و قوله : نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالا و يصنعون منها نعالا كما يصنعون منه ثيابهم و يشهد لهذا قوله يلبسون الشعر و يمشون في الشعر هذا ظاهره و يحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذ أسدلوها كاللباس و ذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال و الأول أظهر و الله أعلم و قوله : ذلف الأنف أي غلاظها يقال : أنف إذا كان فيه غلظ و انبطاح و أنوف ذلف و الاصطلام : الاستئصال و أصله من الصلم و هو القطع
قوله : بغائط الغائط المطمئن من الأرض و البصرة الحجارة الرخوة و بها سميت البصرة و بنوا قنطورا هم الترك يقال إن قنطورا جارية كانت لإبراهيم عليه السلام ولدت له أولادا من نسلهم الترك و قيل : هم من ولد يافث و هم أجناس كثيرة فمنهم أصحاب مدن و حصون و منهم قوم في رؤوس الجبال و البراري و الشعاب ليس لهم عمل غير الصيد ومن لم يصد منهم ودج دابته فشوى الدم في مصران فأكله و هم يأكلون الرخم و الغربان و غيرهما و ليس لهم دين و منهم من كان على دين المجوسية و منهم من تهود و ملكهم الذي يقال له خاقان يلبس الحرير و تاج الذهب و يحتجب كثيرا و فيهم بأس شديد و فيهم سحر و أكثرهم مجوس
و قال وهب بن منبه : الترك بنو عم يأجوج وز مأجوج يعني أنهم كلهم من ولد يافث
و قيل : إن أصل الترك أو بعضهم من اليمن من حمير و قيل فيهم : إنهم من بقايا قوم تبع و الله أعلم ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإبانة
باب
ذكر أبو نعيم الحافظ [ عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يوشك أن يملأ الله أيديكم مالك العجم ثم يجعلهم أسدا لا يفرون فيقتلون مقاتلكم و يأكلون فيئكم ] غريب من حديث يونس تفرد به عنه حماد
باب ما جاء في فضل الشام و أنه معقل من الملاحم البزار [ عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان حين تقع الفتن بالشام ] خرجه أبو بكر أحمد بن سلمان النجار و قال عود الإسلام قال أبو محمد عبد الحق : هذا حديث صحيح و لعل هذه الفتن هي التي تكون عند خروج الدجال و الله و رسوله أعلم
قلت : و خرجه الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحكم بن عبد الله بن خطاف الأزدري و هو متروك [ عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : هب رسول الله صلى الله عليه و سلم من نومه مذعورا و هو يرجع فقلت : مالك بأبي أنت و أمي ؟ قال : سل عمود الإسلام من تحت رأسي ثم رميت بصري فإذا هو قد غرز في وسط الشام فقيل لي يا محمد إن الله اختار لك الشام و جعلها لك عزا و محشرا و منعة و ذكر أن من أراد الله به خيرا أسكنه الشام و أعطاه نصيبه منها و من أراد الله به شرا أخرج سهما من كنانته فهي معلقة وسط الشام فرماه به فلم يسلم دنيا و لا أخرى ]
و روي عن عبد الملك بن حبيب أن قال : حدثني من أثق به أن الله عز و جل قال للشام : أنت صفوتي من أرضي و بلادي ليسكنك خيرتي من خلقي و إليك المحشر من خرج منك رغبة عنك فبسخط مني عليه و من دخلك رغبة فيك فبرضى مني دخلك
أبو داود [ عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ]
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ عن أبي الزاهرية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : معقل المسلمين من الملاحم دمشق و معقلهم من الرجال بيت المقدس و معقلهم من يأجوج و مأجوج الطور ]
قلت : هذا صحيح ثبت معناه مرفوعا في غير ما حديث وسيأتي
باب ما جاء أن الملاحم إذا وقعت بعث الله جيشا يؤيد به الدين ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا وقعت الملاحم بعث الله جيشا من الموالي هم أكرم العرب فرسانا و أجوده سلاحا يؤيد الله بهم الدين ]
باب ما جاء في المدينة و مكة و خرابهما مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تبلغ المساكن أهاب أو يهاب ] قال زهير : قلت لسهيل فكم ذاك من المدينة ؟ قال كذا و كذا ميلا
أبو داود [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح ] قال الزهري : و سلاح قريب من خيبر
قلت : المسالح : المطالع و يقال القوم مستعد بهم في المراصد و يرتبون لذلك و سموا بذلك لحملهم السلاح و قال الجوهري : و المسلحة كالثغر و المرقب و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب قال بشر :
( بكل قياد مسنفة عنود ... أضر بها المسالح و الفرار )
القياد : حبل تقاد به الدابة و المسنف : المتقدم يقال : أسنف الفرس أي تقدم الخيل فإذا سمعت في الشعر مسنفة بكسر النون فهي من هذا و هي الفرس التي تتقدم الخيل في سيرها و العنود : من عند الطريق يعند بالضم عنودا أي عدل فهم عنود و العنود أيضا من النوق التي ترعى ناحية و الجمع عند و منه قوله تعالى : { إنه كان لآياتنا عنيدا } أي مجانيا للحق معاندا له معرضا عنه يقال عند الرجل إذا عتا و جاوز قدره
مسلم [ عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع و الطير ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدان و حشا حتى إذا بلغ ثانية الوداع خرا على و جهيهما ]
[ و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمدينة : ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي يعني السباع و الطير ] و عن [ حذيفة قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة ]
و ذكر أبو زيد عمر بن شبه في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام عن أبي هريرة قال : ليخرجن أهل المدينة خير ما كانت نصفها زهو و نصفها رطب قيل و من يخرجهم منها يا أبا هريرة ؟ قال : أمراء السوء
قال أبوزيد [ و حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إليها إليها فيعمرونها حتى تمتلىء ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا ]
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليخرجن أهل المدينة ثم ليعودون إليها ثم ليخرجن منها ثم لا يعودون إليها أبدا و ليدعنها و هي خير ما تكون مونقة قبل فمن يأكلها ؟ قال الطير و السباع ]
و خرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : و الذي نفسي بيده لتكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة لا أقول حالقة الشعر و لكن حالقة الدين فاخرجوا من المدينة و لو على قدر بريد
و عن الشيباني قال : لتخربن المدينة و البنود قائمة البنود جمع بند و هو العلم الكبير قاله في النهاية قال مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة ] البخاري [ عن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا ] الفحج : تباعد ما بين الفخذين
و في حديث [ حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه و سلم : كأني بحبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن و أصحابه ينقضونها حجرا حجرا و يتناولنها حتى يرموا بها إلى البحر يعني الكعبة ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي و هو حديث فيه طول و قال أبو عبيدة القاسم بن سلام في حديث علي عليه السلام استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم و بينه فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع أحمش الساقين قاعد عليها و هي تهدم
قال : حدثنا يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن حفصة عن أبي العالية عن علي قال الأصمعي قوله أصعل هكذا يروى فأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف و هو الصغير الرأس الحبشة كلهم قال و الأصمع الصغير الأذن يقال منه رجل أصمع و امرأة صمعاء و كذلك غير الناس
أبو داود الطيالسي [ عن أبي هريرة النبي صلى الله عليه و سلم يبايع لرجل بين الركن و المقام و أول من يستحل هذا البيت أهله فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تجيء الحبشة فيخربونه خراب لا يعمر بعده أبدا و هم الذين يستخرجون كنزه ] ذكر الحليمي فيما ذكر أنه يكون في زمن عيسى عليه السلام و أن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين الحبشي قد سار إلى البيت لهدمه فيبعث إليه عيسى عليه السلام طائفة من الناس ما بين الثمان إلى التسع
و ذكر أبو حامد في كتاب مناسك الحج له و غيره و يقال : لا تغرب الشمس يوما إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدل و لا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به و احد من الأوتاد و إذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس و قد رفعت الكعبة ليس فيها أثر و هذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ثم يرتفع القرآن من المصاحف فيتصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة ثم ترجع الناس إلى الأشعار و الأغاني و أخبار الجاهلية ثم يخرج الدجال و ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال و الساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تتوقع ولادتها و في الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين و يرفع في الثالثة
قال المؤلف رحمه الله و قيل : إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من صدور الناس و من المصاحف و ذلك بعد موت عيسى عليه السلام و هو الصحيح في ذلك على ما يأتي بيانه
فصل : ثبت في الصحيح الدعاء للمدينة و الحث على سكناها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يأتي على الناس زمن يدعو الرجل ابن عمه و قريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء و المدينة خير لهم كانوا يعلمون و الذي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ] رواه أبو هريرة و خرجه مسلم
خرج [ عن سعيد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ]
و نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه و مثل هذا كثير و هو خلاف ما تقدم و إذا كان هذا فظاهره التعارض و ليس كذلك فإن الحض على سكناها ربما كان عند فتح الأمصار و وجود الخيرات بها كما جاء في حديث [ سفيان بن أبي زهير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تفتح اليمن فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثم تفتح الشام فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعملون ثم تفتح العراق فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ] رواه الأئمة و اللفظ لمسلم فحض صلى الله عليه و سلم على سكناها حين أخبر بانتقال الناس عنها عند فتح الأمصار لأنها مستقر الوحي و فيها مجاورته ففي حياته صحبته و رؤية و جهه الكريم و بعد و فاته مجاورة حدثه الشريف و مشاهدة آثاره العظيمة و لهذا قال : [ لا يصبر أحد على لأوائها و شدتها إلا كنت شفيعا أو شهيدا له يوم القيامة ] و قال : [ من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها ثم إذاتغيرت الأحوال و اعتورتها الفتن و الأهوال كان الخروج منها غير قادح و الانتقال منها حسنا غير قادح ]
فصل :
و أما قوله : [ من أراد أهل المدينة بسوء ] فذلك محمول على زمانه و حياته كما في الحديث الآخر [ لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه ] و قد خرج منها بعد موته صلى الله عليه و سلم من الصحابة من لم يعوضها الله خيرا منه فدل على أن ذلك محمول على حياته فإن الله تعالى كان يعوض أبدا رسوله صلى الله عليه و سلم خيرا ممن رغب عنه و هذا واضح و يحتمل أن يكون قوله : أذابه الله كناية عن إهلاكه في الدنيا قبل موته و قد فعل الله ذلك بمن غزاها و قاتل أهلها كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله عند مصرفه عنها إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير بلاه الله بالماء الأصفر في بطنه فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث
و قال الطبري مات بهرشي و ذلك بعد الوقعةبيثلاث ليال و هرشي جبل من بلاد تهامة على طريق الشام و المدينة قريب من الجحفة و كإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغرائه أهل المدينة حرم النبي المختار و قتله بها بقايا المهاجرين و الأنصار فمات بعد هذه الوقعة و إحراق الكعبة بأقل من ثلاثة أشهر و لأنه توفي بالذبحة و ذات الجنب في نصف ربيع الأول بحوارين من قرى حمص و حمل إلى دمشق و صلى عليه ابنه خالد و قال المسعودي : صلى عليه ابنه معاوية و دفن في مقبرة باب الصغير و قد بلغ سبعا و ثلاثين سنة فكانت ولايته ثلاث سنين و ثمانية أشهر و اثني عشر يوما
فصل :
و أما قوله : [ تتركون المدينة ] حدثنا المخاطب فمرداه غير المخاطبين لكن نوعهم من أهل المدينة أو نسلهم و على خير ما كانت عليه فيما قبل و قد و جد هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك أنها صارت بعده صلى الله عليه و سلم معدن الخلافة و موضعها و مقصد الناس و ملجأهم معلقهم حتى تنافس الناس فيها و توسعوا في خططها و غرسوا و سكنوا منها ما لم يسكن قبل و بنوا فيها و سيدوا حتى بلغت المساكن أهاب فلما انتهت حالها كمالا و حسنا تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها بتغلب الأعراب عليها و توالي الفتن فيها فخاف أهلها و ارتحلوا عنها و صارت الخلافة بالشام و وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزي في جيش عظيم من أهل الشام فنزل بالمدينة فقاتل أهلها فهزمهم و قتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا و استباح المدينة ثلاثة أيام فسميت و قعة الحرة لذلك و فيه يقول الشاعر :
( فإن تقتلونا يوم حرة واقم ... فإنا على الإسلام أول من قتل )
و كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا لذي الحجة سنة ثلاث و ثلاثين و يقال لها حرة زهرة و كانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل بقايا المهاجرين و الأنصار و خيار التابعين و هم ألف و سبع مائة و قتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء و الصبيان و قتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل من قريش و سبعة و تسعون قتلوا جهرا ظلما في الحرب و صبرا
و قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في المرتبة الرابعة و جالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بالت وراثت بين القبر و المنبر أدام الله تشريفها و أكره الناس على أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع و إن شاء أعتق و ذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن و السنة فأمر بقتله فضربت عنقه صبرا
و ذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها و بقيت ثمارها لعوافي الطير و السباع كما قال صلى الله عليه و سلم ثم تراجع الناس إليها و في حال خلوها غدت الكلاب على سواري المسجد و الله أعلم
و ذكر أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتابا بالكعبة : ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم أمر يفزعهم حتى يتركوها و هي مذللة و حتى تبول السنانير على قطائف الخز ما يروعها شيء و حتى تخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء و أما قوله في الراعيين حتى إذا بلغا ثنية المداع خرا على وجهيهما فقيل سقطا ميتين
قال علماؤنا : و هذا إنما يكون في آخر الزمان و عند انقراض الدنيا بدليل ما قال البخاري في هذا الحديث : آخر من يحشر راعيان من مزينة قيل : معناه آخر من يموت فيحشر لأن الحشر بعد الموت و يحتمل أن يتأخر حشرها لتأخر موتهما قال الداودي أبو جعفر أحمد بن نصر في شرح البخاري له : و قوله الراعيين ينعقان بغنمهما يعني يطلبان الكلأ
و قوله : و حشا يعني خالية و قوله ثنية الوداع يعني موضعا قريبا من المدينة مما يلي مكة
و قوله : خرا على و جهيهما يعني أخذتهما الصعقة حين النفخة الأولى و هو الموت
و قوله : آخر من يحشر يعني أنهما بأقصى المدينة فيكونان في أثر من يبعث منها ليس أن بعض الناس يخرج بعد بعض من الأجداث إلا بالشيء المتقارب يقول الله تعالى : { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون }
و قوله النبي صلى الله عليه و سلم [ يصعق الناس فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو كان من الذين استثنى الله ]
و قال شيخنا أبو العباس القرطبي : و يحتمل أن يكون معناه آخر من يحشر إلى المدينة أي يساق إليها كما في كتاب مسلم رحمه الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله : و قد ذكر ابن شبة خلاف هذا كله فذكر عن حذيفة بن أسيد قال : آخر الناس يحشر رجلان من مزينة يفقدان الناس فيقول أحدهما لصاحبه : قد فقدنا الناس منذ حين انطلق بنا إلى شخص بني فلان فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ثم يقول : انطلق بنا إلى المدينة فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ثم يقول : انطلق بنا إلى منازل قريش ببقيع الغرقد فينطلقان فلا يريان إلا السباع و الثعالب فيوجهان نحو البيت الحرام
و قد ذكر عن أبي هريرة قال : [ آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان : أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجهيهما حتى يلحقاهما بالناس ]
فصل :
و أما قوله في حديث أبي هريرة : يبايع لرجل بين الركن و المقام فهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان على مانذكره أيضا يملك الدنيا كلها و الله أعلم
فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان و كافران فالمؤمنان سليمان بن داود و الإسكندر و الكافران نمروذ و بخت نصر و سيملكها من هذه الأمة خامس و هو المهدي
💦💦💦💦💦💦
د6666666666........
....💥💥💥💥💥💥💥💥
كتاب : التذكرة
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي
باب ـ في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي و علامة خروجهمسلم عن أبي نضيرة قال : كنا جلوسا عند جابر بن عبد الله فقال : يوشك أهل العراق أن لا يجيء قفيز و لا درهم قلنا : من أين ؟ قال : من قبل العجم يمنعون ذلك ثم قال : يوشك أهل الشام أن لا يجيء دينار و لا مدى قلنا من أين لك ذلك ؟ قال من قبل الروم ثم سكت هنيهة ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يكون في آخر الزمان خليفة يحثى المال حثيا و لا يعده عدا ] قيل لأبي نضرة و أبي العلاء تريان أنه عمر بن عبد العزيز قالا : لا
أبو داود [ عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه و هو كاره فيبايعونه بين الركن و المقام و يبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم البيداء بين مكة و المدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام و عصائب العراق فيبايعونه ثم ينشر رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم و ذلك بعث كلب و الخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيغتم المال و يعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه و سلم و يلقى الإسلام بجرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى و يصلي عليه المسلمون ]
و ذكر ابن شبة فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن مسلمة قال : حدثنا أبو المهزم عن أبي هريرة قال : يجيء جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة فيقتل المقاتلة و يبقر بطون النساء و يقولون للحبلى في البطن اقتلوا صبابة السوء فإذا علوا البيداء من ذي الخليفة خسف بهم فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم قال أبو المهزم : فلما جاء جيش ابن دلجة قلناهم فلم يكونوا هم
قال : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا أبو ضمرة الليثي عن عبد الرحمن بن الحرب بن عبيد عن هلال بن طلحة الفهري قال : قال كعب الأحبار : تجهز يا هلال قال فخرجنا حتى إذا كنا بالعقيق ببطن المسيل دون الشجرة و الشجرة يومئذ قائمة قال يا هلال إني أجد صفة الشجرة في كتاب الله قلت هذه الشجرة قال : فنزلنا فصلينا تحتها ثم ركبنا حتى إذا استوينا على ظهر البيداء قال يا هلال : إني أجد صفة البيداء قلت أنت عليها قال : و الذي نفسي بيده إن في كتاب الله جيشا يؤمون البيت الحرام فإذا استووا عليها نادى آخرهم أولهم ارفقوا فخسف بهم و بأمتعتهم و أموالهم و ذرياتهم إلى يوم القيامة ثم خرجنا حتى إذا انهبطت رواحلنا أدنى الروحاء قال يا هلال : إني أجد سفة الروحاء قال قلت الآن حين دخلنا الروحاء قال : و حدثنا أحمد بن عيسى قال : و حدثنا ابن عيسى قال : و حدثنا عبيد الله بن وهب قال : و حدثني ابن لهيعة عن بشر بن محمد المعفري قال : سمعت أبا نواس يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : إذا أخسف الجيش بالبيداء فهو ظهور المهدي
قلت : و لخروجه علامتان يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى
فصل :
قوله : ثم سكت هنية بضم الهاء و تشديد الياء أي مدة يسيرة بتصغيرهن و يروى بهاءين و رواه الطبري هنيئة مهموز و هو خطأ لا وجه له فيه دلالة على صدق النبي صلى الله عليه و سلم حيث أخبر عما سيكون بعد فكان و مثله الحديث الآخر : منعت العراق درهمها و قفيزها الحديث أي ستمنع و أتى بلفظ الماضي في الأخبار لأنه ماض في علم الله أنه سيكون كقوله عز من قائل { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } و المعنى أنه لا يجيء إليها كما جاء مفسرا في هذا الحديث و معناه و الله أعلم سيرجعون عن الطاعة و يأبون من إذا ما وظف عليهم في أحد الأمر و ذلك أنهم يرتدون عن الإسلام و عن أداء الجزية و لم يكن ذلك في زمانه و لكن أخبر أنهم سيفعلون ذلك و قوله [ يحثي المال حثيا ] قال ابن الأنباري أعلى اللغتين حثا يحثي و هو أصح و أفصح و يقال حثا يحثو و يحثي و احث بكسر الثاء و ضمها كلها لمعنى اغرف بيديك
باب ـ منه في المهدي و خروج السفياني عليه و بعثه الجيش لقتاله و أنه الجيش الذي يخسف به
روي من حديث [ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق و المغرب فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فوره ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق و جيشا إلى المدينة فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزل بأرض بابل في المدينة الملعونة و البقعة الخبيثة يعني مدينة بغداد قال فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف و يفتضون أكثر من مائة امرأة و يقتلون بها أكثر من ثلاثمائة كبش من ولد العباس ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش على ليلتين فيقتلونهم حتى لا يفلت منهم مخبر و يستنقذون ما في أيديهم من السبي و الغنائم و يحل جيشه الثاني بالمدينة فينهبونها ثلاثة أيام و لياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل إذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم و ذلك قوله تعالى عز و جل { و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير و الآخر نذير و هما من جهينة ] و لذلك جاء القول : و عند جهينة الخبر اليقين
قلت : حديث حذيفة هذا فيه طول و كذلك حديث ابن مسعود فيه ثم إن عروة بن محمد السفياني يبعث جيشا إلى الكوفة خمسة عشر ألف فارس و يبعث جيشا آخر فيه خمسة عشر ألف راكب إلى مكة و المدينة لمحاربة المهدي و من تبعه فأما الجيش الأول فإنه يصل إلى الكوفة فيتغلب عليها و يسبي من كان فيها من النساء و الأطفال و يقتل الرجال و يأخذ ما يجد فيها من الأموال ثم يرجع فتقوم صيحة بالمشرق فيتبعهم أمير من أمراء بني تميم يقال له شعيب بن صالح فيستنفذ ما في أيديهم من السبي و يرد إلى الكوفة و أما الجيش الثاني فإنه يصل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم فيقاتلونها ثلاثة أيام ثم يدخلونها عنوة و يسبون ما فيها من الأهل و الولد ثم يسيرون نحو مكة أعزها الله لمحاربة المهدي و من معه فإذا وصلوا إلى البيداء مسحهم الله أجمعين فذلك قول الله تعالى { و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب }
و قد ذكر خبر السفياني مطولا بتمامة أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادى في كتاب الملاحم له و أنه الذي يخسف بجيشه قال : و اسمه عتبة بن هند و هو الذي يقوم في أهل دمشق فيقول يا أهل دمشق : أنا رجل منكم و أنت خاصتنا جدي معاوية بن أبي سفيان و ليكم من قبل فأحسن و أحسنتم و ذكر كلاما طويلا إلى أن ذكر كتابه إلى الجرهمي و هو على ما يليه من أرض الشام و أتىالبرقي و هو على ما يليه من حد برقة و ما وراء برقة من المغرب إلى أن قال : فيأتي الجرهمي فيبايعه و اسم الجرهمي عقيل بن عقال ثم يأتيه البرقي و اسم البرقي همام بن الورد ثم ذكر مسيره إلى أرض مصر و قتاله لملكها فيقتلون على قنطرة الفرما أو دونها بسبعة أيام ثم ينصر أهل مصر و قد قتل منهم زهاء سبعين ألفا ونيفا ثم يصالحه أهل مصر و يبايعونه فينصرف عنهم إلىالشام ثم ذكر تقدميه الأمراء من العرب رجل من حضرموت و لرجل من خزاعة و لرجل من عبس و لرجل من ثعلبة و ذكر عجائب و أن جيشه الذي يخسف بهم تبتلعهم الأرض إلى أعناقهم و تبقى رؤوسهم خارجة ويبقى جميع خيلهم و أموالهم و أثقالهم و خزائنهم و جميع مضاربهم و السبي على حاله إلى أن يبلغ الخبر الخارج بمكة و اسمه محمد بن علي من ولد السيط الأكبر الحسن بن علي فيطوي الله تعالى له الأرض فيبلغ البيداء من يومه فيجد القوم أبدانهم داخلة في الأرض و رؤوسهم خارجة و هم أحياء فيحمد الله عز و جل هو و أصحابه و ينتحبون بالبكاء و يدعون الله عز و جل و يسبحونه و يحمدونه على حسن صنيعه إليهم و يسألونه تمام النعمة و العافية فتبلغهم الأرض من ساعتهم يعني أصحاب السفياني و يجد الحسنى العسكر على حاله و السبي على حاله و ذكر أشياء كثيرة الله أعلم بصحتها أخذها من كتاب دانيال فيما زعم
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : و دانيال نبي من أنبياء إسرائيل كلامه عبراني و هو على شريعة موسى بن عمران و كان قيل عيسى بن مريم بزمان و من أسند مثل هذا إلى نبي عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه و سلم فقد سقطت عدالته إلا أن يبين وضعه لتصح أمانته و قد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم و ما كان من الحوادث و سيكون و جمع فيه التنافي و التناقض بين الضب و النون و أغرب فيما أغرب في روايته عن ضرب من الهوس و الجنون و فيه من الموضوعات ما يكذب آخرها أولها و يتعذر على المتأول لها تأويلها و ما يتعلق به جماعة الزنادفة من تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه و سلم أن في سنة ثلاثمائة يظهر الدجال من يهودية أصبهان و قد طعنا في أوائل سبعمائة في هذا الزمان و ذلك شيء ما وقع و لا كان و من الموضوع فيه المصنوع و التهافت الموضوع الحديث الطويل الذي استفتح به كتابه فهلا اتقى الله و خاف عقابة و أن من أفضح فضيحة في الدين نقل مثل هذه الاسرائيليات عن المتهودين فإنه لا طريق فيما ذكر عن دانيال إلا عنهم و لا رواية تؤخذ في ذلك إلا منهم
و قد روى البخاري في تفسير سورة البقرة [ عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية و يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا ]
و قد ذكر في كتاب الاعتصام أن ابن عباس قال : كيف تسألونه أهل الكتاب عن شيء و كتابكم الذي أنزله الله على رسوله أحدث شيء تقرؤونه محضا لم يشب و قد حدثكم أهل الكتاب بدلوا كلام الله و غيروه و قد كتبوا بأيديهم الكتاب و قالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا و الله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم
قال ابن دحية رضي الله عنه : و كيف يؤمن من خان الله و كذب عليه و كفر و استكبر و فجر و أما حديث الدابة فقد نطق بخروجها القرآن و وجب التصديق بها و الإيمان قال الله تعالى { و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } و كنت بالأندلس قد قرأت أكثر من كتب المقرئ الفاضل أبي عمر عثمان بن سعيد بن عثمان توفي سنة أربع و أربعين و أربعمائة فمن تأليفه : كتاب السنن الواردة بالفتن و غوائلها و الأزمنة و فسادها و الساعة و أشراطها و هو مجلد مزج فيه الصحيح بالسقيم و لم يفرق فيه بين نسر و ظلم و أتى بالموضوع و أعرض عما ثبت من الصحيح المسموع فذكر الدابة في الباب الذي نصه باب ما روي أن الوقعة التي تكون بالزوراء و ما يتصل بها من الوقائع و الآيات و الملاحم و الطوام و أسند ذلك [ عن عبد الرحمن عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن ربعي بن خداش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تكون وقيعة بالزوراء قالوا يا رسول الله و ما الزوراء ؟ قال : مدينة بالمشرق بين أنهارها يسكنها شرار خلق الله و جبابرة من أمتي تعذب بأربعة أصناف من العذاب ثم ذكر حديث خروج السفياني في ستين و ثلاثمائة راكب حتى يأتي دمشق ثم ذكر خروج المهدي قال و اسمه أحمد بن عبد الله و ذكر خروج الدابة قال : قلت يا رسول الله : و ما الدابة ؟ قال : ذات وبر و ريش عظمها ستون ميلا ليس يدركها طالب و لا يفوتها هارب و ذكر يأجوج و مأجوج و أنهم ثلاثة أصناف : صنف مثل الأرز الطوال و صنف آخر منهم عرضه و طوله سواء عشرين و مائة ذراع في عشرين و مائة ذراع في عشرين و مائة ذراع هم الذين لا يقوم لهم الحديد و صنف يفترش إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى ] و هذه الأسانيد عن حذيفة في عدة أوراق ظاهرة الوضع و الاختلاف و فيها ذكر مدينة يقال لها [ المقاطع ] و هي على البحر الذي لا يحمل جارية قال لأنه ليس له قعر إلى أن قال حذيفة قال عبد الله بن سلام : و الذي بعثك بالحق إن صفة هذه في التوراة طولها ألف ميل و عرضها خمسمائة ميل قال : [ لارسول الله صلى الله عليه و سلم لها ستون و ثلاثمائة باب يخرج من كل باب منها مائة ألف مقاتل ] قال الحطافظ أبو الخطاب رضي الله عنه : و نحن نرغب عن تسويد الورق بالموضوعات فيه و نثبت الصحيح الذي يقربنا من إله الأرضين و السموات فعبد الرحمن الذي يرويه عن الثوري هو ابن هانئ أبو نعيم النخعي الكوفي قال يحيى بن معين : كذاب و قال أحمد : ليس بشيء و قال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه و قد رواه عن الثوري عمر بن يحيى بالسند المذكور آنفا و قال : [ تعذب بأربعة أصناف بخسف و مسح و قذف ] قال البرقاني و لم يذكر الرباع و عم ابن يحيى متروك الحديث
و قد روى حديث الزوراء محمد بن زكريا الغلابي و أسند [ عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : أما أن هلاكها على يد السفياني كأني و الله بها قد صارت خاوية على عروشها ] و محمد بن ذكريا الغلابي قال أبو الحسن الدارقطني : كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم و عظم هذه الدابة المذكورة و طول يأجوج و مأجوج على تلك الصورة يدل على وضع هذا الحديث بالتصريح و يقطع العاقل بأنه ليس بصحيح لأنه مثل هذا القدر في العظم و الطول يشهد على كذب واضعه في المنقول و أي مدينة تسع طرقاتها دابة عرضها ستون ميلا ارتفاعا و أي سبيل يضم يأجوج و مأجوج و أحدهم طولا و عرضا مائتان و أربعون ذراعا لقد اجترأ هذا الفاسق على الله العزيز الجبار بما اختلقه على نبيه المختار فقد صح عنه بإجماع من أئمة الآثار أنه قال : [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ثم يطرق إلينا تكذيب اليهود لنا فيما نقلناه عن توراتهم و يكذبوننا بسبب ذلك في كل حال ]
مسلم [ عن أم سلمة و سئلت عن الجيش الذي يخسف به و كان ذلك في أيام ابن الزبير فقالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت يا رسول الله : و كيف بما كان كارها ؟ قال : يخسف به معهم و لكنه يبعث يوم القيامة على نيته ] و قال أبو جعفر : هي بيداء المدينة و قال عبد العزيز بن رفيع : إنما قال ببيداء من الأرض قال كلا إنها و الله لبيداء المدينة [ و عن عبد الله بن صفوان قال : أخبرتني حفصة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم و ينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم ] أخرجه ابن ماجه و زاد فلما جاء جيش الحجاج ظننا أنهم هم فقال رجل : أشهد أنك لم تكذب على حفصة و إن حفصة لم تكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و عنه عن أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سيعوذ بهذا البيت يعني الكعبة قوم ليس لهم منعة و لا عدد و لاعدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ] قال يوسف بن ماهك : و أهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة قال عبد الله بن صفوان : أما و الله ما هو بهذا الجيش
فصل
قوله : ليس له منعة بفتح الميم و النون أي جماعة يمنعونه و هو مانع و هو أكثر الضبط فيه و يقال : بسكون النون أي عزة و امتناع يمتنع بها اسم الفعلة من منع أو الحال بتلك الصفة أو مكان بتلك الصفة و أنكر أبو حاتم السجستاني إسكان النون و ليس في هذه الأحاديث أنه يخسف بأمتعتهم و أنما فيها أنه يخسف بهم
باب منه آخر في المهدي و ذكر من يوطئ له ملكه ابن ماجه [ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلا واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم فإذا رأيتموه فبايعوه و لو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي ] إسناده صحيح
و خرج [ عن عبد الله بن الحارث بن جز الزبيدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي يعني سلطانه ]
و خرج أبو داود [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث بن حراث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطئ أو يمكن لآل محمد صلى الله عليه و سلم و عليهم كما مكنت قريش للنبي صلى الله عليه و سلم وجبت على كل مؤمن نصرته أو قال إعانته ]
باب منه آخر في المهدي و صفته و اسمه و إعطائه و مكثه و أنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتال الدجال
أبو داود [ عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يكون في أمتي المهدي أن قصر فسبع و إلا فتسع تنعم فيه أمتي نعمة لم يسمعوا بمثلها قط تؤتى أكلها و لا تترك منهم شيئا و المال يومئذ كرؤوس يقم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ ]
و خرج عنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف تملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما فيملك سبع و سنين ]
و ذكر عبد الرزاق [ أخبرنا معمر عن أبي هارون العبدي عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلايا تصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ إليه من الظلم فيبعث الله رجلا من عترتي أهل بيتي فيملأ به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما يرضى عنه ساكن السماء و ساكن الأرض لا تدع السماء شيئا من قطرها إلا صبته مدرارا و لا تدع الأرض من نباتها شيئا إلا أخرجته حتى تتمنى الأحياء أن لا موات يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمانين سنين أو تسع سنين ]
و يروى هذا من غير وجه عن أبي سعيد الخدري أبو داود
[ و عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم قال زائدة في حديثه لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أمتي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي ] خرجه الترمذي بمعناه و قال : حديث حسن صحيح
و في حديث حذيفة الطويل مرفوعا [ فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى تأتيهم رجل من أهل بيتي تكون الملائكة بين يديه و يظهر الإسلام ]
و خرج الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : خشينا أن يكون بعد نبينا صلى الله عليه و سلم حدث فسألنا النبي قال : إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا ـ زيد للشك قلنا و ما ذاك ؟ قال : يجيء إليه الرجل فيقول : يا مهدي أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ] قال : هذا حديث حسن
و ذكر أبو نعيم الحافظ [ من حديث محمد بن الحنفية عن أبيه علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المهدي منا أهل البيت يصلحه الله عز و جل في ليلة أو قال في يومين ]
فصل
وقع في كتاب الشهاب : لا يزداد الأمر إلا شدة و لا الدنيا إلا إدبارا و لا الناس إلا شحا و لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق و لا مهدي إلا عيسى بن مريم
قلت : خرجه ابن ماجه في سننه قال : [ حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن إدريس الشافعي قال : حدثني محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يزداد الأمر إلا شدة فذكره ] قال ابن ماجه لم يروه إلا الشافعي
قال المؤلف رحمه الله : و خرجه أبو الحسين الأجري قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد البرذعي في المسجد الحرام حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري فذكره فقوله و لا مهدي إلا عيسى يعارض أحاديث هذا الباب فقيل إن هذا الحافظ : الجندي هذا مجهول و اختلف عليه في إسناده قتادة يرويه عن أبان بن صالح عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا مع ضعف أبان و تارة يرويه عن أبان ابن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم بطوله فهو منفرد به مجهول عن أبان و هو متروك عن الحسن منقطع و الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم لها دونه
قلت : و نور ضريحه و ذكر أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا محمد بن خالد الجندي روى عن أبان بن صالح عن الحسن البصري و روى فيه الإمام بن إدريس بن الشافعي رضي الله عنه و هو راوي حديث : [ لا مهدي إلا عيسى بن مريم ] و هو مجهول و قد وثقه يحيى بن معين روى له ابن ماجه قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الأبري السجزي : قد تواترت الأخبار و استفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه و سلم يعني المهدي و أنه من أهل بيته و أنه سيملك سبع سنين و أنه يملأ الأرض عدلا يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين و أنه يؤم هذه الأمة و عيسى صلوات الله عليه يصلي خلفه في طول من قصته و أمره
قلت : و يحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة و السلام : [ و لا مهدي إلا عيسى ] أي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى و على هذا تجتمع الأحاديث و يرتفع التعارض
باب منه في المهدي و من أين يخرج و في علامة خروجه و أنه يبايع مرتين و يقاتل السفياني و يقتله
تقدم من حديث أم سلمة و أبي هريرة أن المهدي يبايع بين الركن و المقام و ظاهر أنه لم يبايع و ليس كذلك فإنه روي من حديث ابن مسعود و غيره من الصحابة أنه يخرج في آخر الزمان من المغرب الأقصى يمشي النصر بين يديه أربعين ميلا راياته بيض و صفر فيها رقوم فيها اسم الله الأعظم مكتوب : فلا تهزم له راية و قيام هذه الرايات و انبعاثها من ساحل البحر بموضع يقال له ماسنة من قبل المغرب فيعقد هذه الرايات مع قوم قد أخذ الله لهم ميثاق النصر و الظفر { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } الحديث بطوله و فيه : [ فيأتي الناس من كل جانب و مكان فيبايعونه يومئذ بمكة و هو بين الركن و المقام و هو كاره لهذه المبايعة الثانية بعد البيعة الأولى التي بايعه الناس بالمغرب ثم إن المهدي يقول : أيها الناس اخرجوا إلى قتال عدو الله و عدوكم فيجيبونه و لا يعصون له أمرا فيخرج المهدي و من معه من المسلمين من مكة إلى الشام لمحاربة عروة بن محمد السفياني و كل من معه من كلب ثم يتبدد جيشه ثم يوجد عروة السفياني على أعلى شجرة و على بحيرة طبرية و الخائب من خاب يومئذ من قتال كلب و لو بكلمة أو بتكبيرة أو بصيحة ]
فيروى [ عن حذيفة أنه قال : قلت يا رسول الله : كيف يحل قتلهم و هم مسلمون موحدون ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما إيمانهم على ردة لأنهم خوارج و يقولون برأيهم إن الخمر حلال و مع ذلك إنهم يحاربون الله قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم } ] و ذكر الحديث و سيأتي تمامه
و خبر السفياني خرجه عمرو بن عبيد في مسنده و الله أعلم
و روى من حديث [ معاوية بن أبي سفيان في حديث فيه طول عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ستفتح بعدي جزيرة تسمى بالأندلس فتغلب عليهم أهل الكفر فيأخذون من أموالهم و أكثر بلدهم و يسبون نساءهم و أولادهم و يهتكون الأستار و يخربون الديار و يرجع أكثر البلاد فيافي و قفارا و تنجلي أكثر الناس عن ديارهم و أموالهم فيأخذون أكثر الجزيرة و لا يبقى إلا أقلها و يكون في المغرب الهرج و الخوف و يستولي عليهم الجوع و الغلاء و تكثر الفتنة و يأكل الناس بعضهم بعضا فعند ذلك يخرج رجل من المغرب الأقصى من أهل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو المهدي القائم في آخر الزمان و هو أول أشراط الساعة ]
قلت : كل ما وقع في حديث معاوية هذا فقد شاهدنا بتلك البلاد وعاينا معظمه إلا خروج المهدي
و يروي من حديث شريك أنه بلغه أن قبل خروج المهدي تكسف الشمس في رمضان مرتين و الله أعلم
و ذكر الدراقطني في سننه قال : حدثنا أبو سعيد الإصطخري قال : حدثني محمد بن عبد الله بن نوفل حدثنا عبيد بن يعيش حدثنا يونس بن بكير عن عمر بن شمر عن جابر عن محمد بن علي قال : إن لمهدينا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات و الأرض ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان و تنكسف الشمس في النصف منه و لم يكونا منذ خلق الله السماوات و الأرض
باب ما جاء أن المهدي يملك جبل الديلم و القسطنطينية و يستفتح رومية و أنطاكية و كنيسة الذهب و بيان قوله تعالى فإذا جاء وعد أولاهما الآية
ابن ماجه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوله عز و جل حتى يملك رجل من أهل بيتي جبل الديلم و القسطنطينة ] إسناده صحيح
و روى [ من حديث حذيفة عن النبي و فيه بعد قوله { ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم } ثم إن المهدي و من معه من المسلمين يأتون إلى مدينة أنطاكية و هي مدينة عظيمة على البحر فيكبرون عليها ثلاثة تكبيرات فيقع سورها من البحر بقدرة الله عز و جل فيقتلون الرجال و يسبون النساء و الأطفال و يأخذون الأموال ثم يملك المهدي أنطاكية و يبني فيها المساجد و يعمر عمارة أهل الإسلام ثم يسيرون إلى الرومية و القسطنطينية و كنيسة الذهب فيقتحمون القسطنطينية و رومية و يقتلون بها أربعمائة ألف مقاتل و يفتضون بها سبعين ألف بكر و يستفتحون المدائن و الحصون و يأخذون الأموال و يقتلون الرجال و يسبون النساء و الأطفال و يأتون كنيسة الذهب فيجدون فيها الأموال التي كان المهدي أخذها أول مرة و هذه الأموال هي التي أودع فيها ملك الروم قيصر حين غزا بيت المقدس فوجد في بيت المقدس هذه الأموال فأخذها و احتملها على سبعين ألف عجلة إلى كنيسة الذهب بأسرها كاملة كما أخذها ما نقص منها شيئا فيأخذ المهدي تلك الأموال فيردها إلى بيت المقدس قال حذيفة قلت يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو من أجل البيوت ابنتاه الله لسيمان بن داود عليهما السلام من ذهب و فضة و در و ياقوت و زمرد و ذلك أن سليمان بن داود سخر الله له الجن فأتوه بالذهب و الفصة من المعادن و أتوه بالجواهر و الياقوت و الزمرد من البحار يغوصون كما قال الله تعالى { كل بناء و غواص } فلما أتوه بهذه الأصناف بناه منها فجعل فيه بلاطا من ذهب و بلاطا من فضة و أعمدة من ذهب و أعمدة من فضة و زينه بالدر و الياقوت و الزمرد و سخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف قال حذيفة : فقلت يا رسول الله و كيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن بني إسرائيل لما عصوا و قتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بخت نصر و هو من المجوس فكان ملكه سبعمائة سنة و هو قوله تعالى { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا } فدخلوا بيت المقدس و قتلوا الرجال و سبوا النساء و الأطفال و أخذوا الأموال و جميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف و احتملوها على سبعين ألف عجلة حتى أودعوها
أرض بابل و أقاموا يستخدمون بني إسرائيل و يستملكونهم بالخزي و العقاب و النكال مائة عام ثم إن الله عز و جل رحمهم فأوحى الله إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل يستنقذ ما في أيديهم من بني إسرائيل فسار إليهم ذلك الملك حتى ذلك أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس و استنقذ ذلك الحلى الذي كان في بيت المقدس ورده إليه كما كان أول مرة و قال لهم يا بني إسرائيل : إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي و القتل و هو قوله تعالى { عسى ربكم أن يرحمكم و إن عدتم عدنا } يعني إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالعقوبة فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر و هو قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا } فغزاهم في البر و البحر فسبقهم و قتلهم و أخذ أموالهم و نساءهم و أخذ حلى جميع بيت المقدس و احتمله على سبعين ألف عجلة حتى أودعه كنيسة الذهب فهو فيها إلى الآن حتى يأخذه المهدي و يرده إلى بيت المقدس و يكون المسلمون ظاهرين على أهل الشرك فعند ذلك يرسل الله عليهم ملك الروم و هو الخامس من آل هرقل ] على ما تقدم من تمام الحديث و الله أعلم
باب ما جاء في فتح القسطنطينية من أين تفتح و فتحها علامة خروج الدجال و نزول عيسى عليه السلام و قتله إياه
مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا و بين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون : لا و الله لا نخلي بينكم و بين الذين هم إخواننا فيقاتلهم فيهزم الثلث لا يتوب الله عليهم أبدا و يقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله و يفتح الثلث لا يفتتنون أبدا فيفتحون القسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم و قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهلكم فيخرجون و ذلك باطل فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال و يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فأمهم فإذ رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لذاب حتى يهلك و لكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته ]
و خرج ابن ماجه قال : [ حدثنا علي بن ميمون الرقي قال : حدثنا يعقوب الحنيني عن كثير بن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى يكون أدنى مسالح المسلمين ببولاء ثم قال يا علي يا علي يا علي ثم قال يا بني قال : إنكم ستقاتلون بني الأصفر و يقاتلهم الذين من بعدكم حتى يخرج إليهم روقة الإسلام أهل الحجاز الذين لا يخافون في الله لومة لائم ثم فيفتحون قسطنطينية بالتسبيح و التكبير فيصيبون غنائم لم يصيبوا مثلها حتى يقتسموا بالأترسة فيأتي آت فيقول إن المسيح قد خرج إلى بلادكم ألا و هي كذبة فالآخذ نادم و التارك نادم ]
و خرج مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سمعتم بمدينة جانب منها في البر و جانب منها في البحر ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : لا تقوم الساعة حتى يغزوها ألفا من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح و لم يرموا بسهم قالوا لا إله إلا الله و الله أكبر فيسقط أحد جانبيها قال ثور لا أعلمه قال إلا الذي في البحر ثم يقولون الثانية لا إله إلا الله و الله أكبر فيسقط جانبها الآخر ثم تقول الثالثة لا إله إلا الله و الله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء و يرجعون ]
الترمذي عن أنس قال : فتح القسطنطينية مع قيام الساعة هكذا رواه موقوفا و قال حديث غريب و القسطيطينية مدينة الروم و تفتح عند خروج الدجال و القسطنطينية قد فتحت في زمن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلت : هو عثمان بن عفان ذكر الطبري في التاريخ له ثم دخلت سنة سبع و عشرين ففيها كان فتح أفريقية على يد عبد الله بن أبي سرح و ذلك أن عثمان رضي الله عنه لم ولي عمرو بن العاص على عمله بمصر كان لا يعزل أحدا إلا عن شكاية و كان عبد الله بن أبي سرح من جند عثمان فأمره عثمان رضي الله عنه على الجند و رماه بالرجال و سرحه إلى أفريقية و سرح معه عبد الله بن نافع بن قيس و عبد الله بن نافع بن الحصين الفهريني فلما فتح عبد الله أفريقية خرج عبد الله و عبد الله إلى الأندلس فأتياها من قبل البحر و كتب إلى عثمان رضي الله عنه إلى من انتدب إلى الأندلس :
أما بعد : فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس و إنكم إن افتتحتموها كنتم شركاء في الآجر فيقال إنها فتحت في تلك الأزمان و ستفتح مرة أخرى كما في أحاديث هذا الباب و الذي قبله و قد قال بعض علماؤنا : أن حديث أبي هريرة أول الباب يدل على أنها تفتح بالقتال و حديث ابن ماجه يدل على خلاف ذكل مع حديث أبي هريرة و الله أعلم
قلت : لعل فتح المهدي يكون لها مرتين مرة بالقتال و مرة بالتكبير كما أنه يفتح كنيسة الذهب مرتين فإن المهدي إذا خرج بالمغرب على ما تقدم جاءت إليه أهل الأندلس فيقولون يا ولي الله : انصر جزيرة الأندلس فقد تلفت و تلفت أهلها و تغلب عليها أهل الكفر و الشرك من أبناء الروم فيبعث كتبه إلى جميع قبائل المغرب و هم قزولة و خذالة و قذالة و غيرهم من القبائل من أهل المغرب أن انصروا دين الله و شريعة محمد صلى الله عليه و سلم فيأتون إليه من كل مكان و يجيبونه و يقفون عند أمره و يكون على مقدمته صاحب الخرطوم و هو صاحب الناقة الغراء و هو صاحب المهدي و ناصر دين الإسلام و ولى الله حقا فعند ذلك يبايعونه ثمانون ألف مقاتل بين فارس و راجل قد رضي الله عنهم { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } فباعو أنفسهم لله و الله ذو الفضل العظيم فيعبرون البحر حتى ينتهوا إلى حمص و هي إشبيلية فيصعد المهدي المنبر في المسجد الجامع و يخطب خطبة بليغة فيأتي إليه أهل الأندلس فيبايعه جميع من بها من أهل الإسلام ثم يخرج بجميع المسلمين متوجها على البلاد بلاد الروم فيفتح فيها سبعين مدينة من مدائن الروم يخرجها من أيدي العدو عنوة الحديث
و فيه : ثم إن المهدي و من معه يصلون إلى كنيسة الذهب فيجدون فيها أموالا فيأخذها المهدي فيقسمها بين الناس بالسوية ثم يجد فيها تابوت السكينة و فيها غفارة عيسى و عصا موسى عليهما السلام و هي العصا التي هبط بها آدم من الجنة حين أخرج منها و كان قيصر ملك الروم قد أخذها من بيت المقدس في جملة السبي حين سبي بيت المقدس و احتمل جميع ذلك إلى كنيسة الذهب فهو فيها إلى الآن حتى يأخذها المهدي فإذا أخذ المسلمون العصا تنازعوا عليها فكل منهم يريد أخذ العصا فإذا أراد الله تمام أهل الإسلام من الأندلس خذل الله رأيهم و سلب ذوي الألباب عقولهم فيقمسون العصا على أربعة أجزاء فيأخذ كل عسكر منهم جزءا و هم يومئذ أربعة عساكر و إذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم الظفر و النصر و وقع الخلاف في ذلك بينهم قال كعب الأحبار : و يظهر عليهم أهل الشرك حتى يأتوا البحر فيبعث إليهم ملكا في صورة إبل فيجوز بهم القنطرة التي بناها ذو القرنين لهذا المعنى خاصة فيأخذ الناس وراءه حتى يأتوا إلى مدينة فارس و الروم و وراءهم فلا يزالون كذلك كلما ارتحل المسملون مرحلة ارتحل المشركون كذلك حتى يأتوا إلى أرض مصر و الروم وراءهم و في حديث حذيفة و يتملكون مصر إلى الفيوم ثم يرجعون و الله تعالى أعلم
باب أشراط الساعة و علاماتها فأما وقتها فلا يعمله إلا الله و في حديث جبريل : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل الحديث خرجه مسلم
و كذلك روى الشعبي قال : لقي جبريل عيسى عليه السلام فقال له عيسى : متى الساعة ؟ فانتفض جبريل عليه السلام في أجنحته و قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ثقلت في السموات و الأرض لا تأتكيم إلا بغتة
و ذكر أبو نعيم [ من حديث مكحول عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للساعة أشراط قيل : و ما أشراطها ؟ قال : علو أهل الفسق في المساجد و ظهور أهل المنكر على أهل المعروف قال أعرابي : فم تأمرني يا رسول الله ؟ قال : دع و كن حلسا من أحلاس بيتك ] غريب من حديث مكحول لم نكتبه إلا من حديث حمزة النصيبي عن مكحول
فصل
قال العلماء رحمهم الله تعالى : و الحكمة في تقديم الأشراط و دلالة الناس عليها تنبيه الناس من رقدتهم و حثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة و الإنابة كي لا يباغتوا بالحول بينهم و بين تدارك العوارض منهم فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم و انقطعوا عن الدنيا و استعدوا للساعة الموعود بها و الله أعلم و تلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا و انقضائها فمنها : خروج الدجال و نزول عيسى و قتله الدجال و منها خروج يأجوج و مأجوج و دابة الأرض و منها طلوع الشمس من مغربها هذه هي الآيات هذه هي الآيات العظام على ما يأتي بيانه و أما ما يتقدم من هذه قبض العلم و غلبة الجهل و استيلاء أهله و بيع الحكم و ظهور المعازف و استفاضة شرب الخمور و اكتفاء النساء و الرجال بالرجال و إطالة البنيان و زخرفة المساجد و إمارة الصبيان و لعن آخر هذه الأمة أولها و كثرة الهرج فإنها أسباب حادثة و رواية الأخبار المنذرة بها بعدما صار الخبر بها عيانا تكلف لكن لا بد من ذكرها حتى يوقف عليها و يتحقق بذلك معجزة النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه في كل ما أخبر به صلى الله عليه و سلم
باب قول النبي صلى الله عليه و سلم : بعثت أنا و الساعة كهاتين
مسلم [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثت أنا و الساعة كهاتين و ضم السبابة و الوسطى
و روي من طرق أخرجها البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجه رضي الله عنهم و معناها كلها على اختلاف ألفاظها تقريب من الساعة التي هي القيامة و سرعة مجيئها و هذا كما حدثنا الله تعالى { فقد جاء أشراطها } و قوله { و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر } و قوله تعالى :
{ اقترب للناس حسابهم } و قوله تعالى : { اقتربت الساعة و انشق القمر } و قال : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } ]
[ و يروي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أنزل عليه قوله تعالى { أتى أمر الله } وثب فلما أنزل { تستعجلوه } جلس ] قال بعض العلماء إنما وثب عليه الصلاة و السلام خوفا منه أن تكون الساعة قد قامت و قام الضحاك و الحسن : أول أشرطها محمد صلى الله عليه و سلم و روى موسى ابن جعفر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال علي عليه السلام : من اقتراب الساعة ظهور البواسير و موت الفجاءة
فصل
إن قيل ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل جبريل عن الساعة فقال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ] الحديث فهذا يدل على أنه لم يكن عنده علم و رويتم عنه أنه قال [ بعثت أنا و الساعة كهاتين ] و هذا يدل على أنه كان عالما فكيف يتألف الخبران ؟ قيل له قد نطق القرآن بقوله الحق { قل إنما علمها عند ربي } الآية فلم يكن يعلمها هو و لا غيره و أما قوله [ بعثت أنا و الساعة كهاتين ] فمعناه أنا النبي الأخير فلا يليني نبي آخر و إنما تليني القيامة كما تلي السبابة الوسطى و ليس بينهما أصبع أخرى و هذا لا يوجب أن يكون له علم بالساعة نفسها و هي مع ذلك كائنة لأن أشراطها متتابعة و قد ذكر الله الأشراط في القرآن فقال { فقد جاء أشراطها } أي دنت و أولها النبي صلى الله عليه و سلم لأنه نبي آخر الزمان و قد بعث و ليس بيني و بين القيامة نبي ثم بين صلى الله عليه و سلم ما يليه من الأشراط فقال : [ أن تلد الأمة ربتها ] إلى غير ذلك مما سنذكره و نبينه بحول الله تعالى في أبواب إن شاء الله تعالى
باب أمور تكون بين يدي الساعة البخاري [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة و حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله و حتى يقبض العلم و يكثر الزلازل و يتقارب الزمان و يظهر الفتن و يكثر الهرج و هو القتل و حتى يكثر فيكم المال فيفيض و حتى يهم رب المال من يقبل صدقته و حتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه و حتى يتطاول الناس في البنيان و حتى يمر الرجل يقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه و حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون فذلك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } و لتقومن الساعة و قد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه و لا يطويانه و لتقومن الساعة و قد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه و لتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ـ و لتقومن الساعة و قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ]
فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذه ثلاث عشرة علامة جمعها أبو هريرة في حديث واحد و لم يبق بعد هذا ما ينظر فيه من العلامات و الأشراط في عموم إنذار النبي صلى الله عليه و سلم بفساد الزمان و تغيير الدين و ذهاب الأمانة ما يغني عن ذكر التفاصيل الباطلة و الأحاديث الكاذبة في أشراط الساعة و من ذلك حديث ما رواه قتادة [ عن أنس بن مالك عن رسول الله : أن في سنة مائتين يكون كذا و كذا و في العشر و المائتين يكون كذا و كذا و في العشيرين كذا و في الثلاثين كذا و في الأربعين كذا و في الخمسين كذا و في الستين و المائتين تعتكف الشمس ساعة فيموت نصف الجنة و الإنس ] فهل كان هكذا و قد مضت هذه المدة و هذا شيء يعم و سائر الأمور التي ذكرت قد تكون في بلدة و تخلو منه أخرى فهذا عكوف الشمس لا يخلو منه أحد في شرق و لا غرب فإن كان المائتين من الهجرة فقد مضت و إن كان من موت النبي صلى الله عليه و سلم فقد مضت و أيضا دلالة أخرى على أنه مفتعل أن التاريخ لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنما وضعوه على عهد عمر رضي الله عنه فكيف يجوز هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقال في سنة مائتين أو سنة عشرين و مائتين و لم يكن وضع شيء من التاريخ ؟
و كذلك ما روى [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا كانت سنة تسع و تسعين و خمس مائة يخرج المهدي في أمتي على خلاف من الناس يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و ظلما يرضى عنه ساكن السماء و ساكن الأرض و يفتح الله له كنوز الأرض و تنزل السماء قطرها و تخرج الأرض ثمرها و يزرع الزارع في الأرض صاعا فيصيب مائة صاع و يذهب الغلاء و القحط و الجوع عن الناس و يجوز إلى الأندلس و يقيم فيها و يملكها تسع سنين و يستفتح فيها سبعين مدينة من مدائن الروم و يغنم رومية و كنيسة الذهب فيجد فيها تابوت السكينة و فيها غفارة عيسى و عصا موسى عليهما السلام فيكسرون العصا على أربعة أجزاء فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم النصر و الظفر و يخرج عليهم ذو العرف في مائة ألف مقاتل بعد أن يتحالف الروم أنهم لا يرجعون أو يموتون فينهزم المسلمون حتى يأتوا سرقسطة البيضاء فيدخلوها بإن الله تعالى و يكرم الله من فيها بالشهادة و لا يكون للمسلمين بعد خراب سرقسطة سكنى و لا قرار بالأندلس و ينتهون إلى قرطبة فلا يجدون فيها أحدا لما أصاب الناس من شدة الفزع من الروم يهربون من الأندلس يريدن العدو فإذا اجتمعوا على ساحل البحر ازدحموا على المراكب فيموت منهم خلق كثير فينزل الله إليهم ملكا في صورة إبل فينجو من نجا و غرق من غرق ]
قلت : كل ما جاء في هذا الحديث المذكور في حديث حذيفة و غيره و إنما المنكر فيملك الروم و الأندلس إلى خروج الدجال
و منه تعيين التاريخ و قد كان سنة و تسعين و خمسمائة و لم يكن شيء من ذلك بل كان بالأندلس تلك السنة وقعة الأرك التي أهلك الله فيها الروم و لم يزل المسملون في نعمة و سرور إلى سنة تسع و ستمائة فكانت فيها وقعة العقاب هلك فيها كثير من المسلمين و لم يزل المسلمون في تلك الوقعة بالأندلس يرجعون القهقرى إلى أن استولى عليهم العدو و غلبهم بالفتن الواقعة بينهم و التفصيل يطول ولم يبق الآن من الأندلس إلا اليسير فنعوذ بالله من الفتن و الخذلان و المخالفة و العصيان و كثرة الظلم و الفساد و العدوان و الذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من الفتن و الكوائن أن ذلك يكون و تعيين الزمان في ذلك من سنة كذا و يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر و إنما ذلك كوقت قيام الساعة فلا يعلم أحد أي سنة هي و لا أي شهر إما أنها تكون في يوم جمعة في آخر ساعة منه و هي الساعة التي خلق فيها آدم عليه السلام و لكن أي جمعة لا يعلم تعيين ذلك اليوم إلا الله وحده لا شريك له و كذلك ما يكون من الأشراط تعيين الزمان لها لا يعلم و الله أعلم
و قد سمعت من بعض أصحابنا : أنا ما وقع من التاريخ [ في حديث أبي سعيد الخدري إنما ذلك بعد المائة التي قال النبي صلى الله عليه و سلم إن يعيش هذا الغلام فعس هذا أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] و في رواية : قال أنس ذلك الغلام من أترابي يومئذ خرجه مسلم
و في حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما على الأرض نفس منفوسة يعني اليوم يأتي عليها مائة سنة ]
قال أبو عيسى : هذا الحديث حسن صحيح
و معلوم أن أنس توفي في عشر المائة بالبصرة فعلى هذا يكون سنة سبع و تسعين و ست مائة و هذا لم يجيء بعد فالله تعالى أعلم
قال المؤلف رحمه الله : و بحديث أبي سعيد الخدري و ابن عمر و جابر استدل من قال إن الخضر ميت ليس بحي و قال الثعالبي في كتاب العرائس : و الخضر على جمع الأقوال نبي معمر محجوب عن الأبصار
و ذكر عمرو بن دينار قال : إن الخضر و إلياس لا يزالان يحييان في سورة فإذا رفع القرآن ماتا و هذا هو الصحيح في الباب على ما بيناه في سورة الكهف من كتاب جامع أحكام القرآن و الحمد الله
فصل
و أما الثلاث عشرة خصلة : فقد ظهر أكثرها من ذلك قوله عليه الصلاة و السلام [ لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة ] يريد فيه معاوية و عليا كرم الله وجهه بصفين و قد تقدم الإشارة إليهما قال القاضي أبو بكر بن العربي و هذا أول خطب طرق في الإسلام
قلت : بل أول أمر دهم الإسلام موت النبي صلى الله عليه و سلم ثم بعده موت عمر
فبموت النبي صلى الله عليه و سلم انقطع الوحي و ماتت النبوءة و كان أول أظهر الشر بارتداد العرب و غير ذلك و كان أول انقطاع الخير و أول نقصانه قال أبو سعيد : ما نقصنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنكرنا قلوبنا
و قال أبو بكر الصديق في أبيات يرثي بها النبي صلى الله عليه و سلم :
( فلتحدثن حوادث من بعده ... تعنى بهن جوانح و صدور )
و قالت صفية بنت عبد المطلب في أبيات ترثى بها النبي صلى الله عليه و سلم :
( لعمرك ما أبكي النبي لفقده ... و لكن ما أخشى من الهرج آتيا )
و بموت عمر سل سيف الفتنة و قتل عثمان و كان من قضاء الله و قدره ما يكون و كان على ما تقدم و قوله : حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين
الدجال ينطلق في اللغة على أوجه كثيرة يأتي ذكرها أحدها الكذاب كما جاء في هذا الحديث
و صحيح مسلم : [ يكون في آخر الزمان دجالون كذابون ] الحديث و لا يجمع ما كان على فعال جمع التكسير عند الجماهير من النحويين لئلا يذهب بناء المبالغة منه فلا يقال إلا دجالون كما قال عليه الصلاة و السلام [ و إن كان قد جاء مكسرا ] و هو شاذ أنشد سيبويه لابن مقبل :
( إلا الإفادة فاستولت ركائبنا ... عند الجبابير بالبأساء و النقم )
و قال مالك بن أنس في محمد بن إسحاق إنما هو دجال من الدجاجلة نحن أخرجناه من المدينة قال عبد الله بن إدريس الأودي : و ما عرفت أن دجالا يجمع على دجالة حتى سمعتها من مالك بن أنس
و قوله : قريب من ثلاثين قد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال : قال رسول الله : [ تكون في أمتي دجالون كذابون سبعة و عشرون منهم أربع نسوة و أنا خاتم النبيين و لا نبي بعدي ] خرجه أبو نعيم الحافظ و قال : هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام و وجد في كتابه بخط أبيه حدث به أحمد بن حنبل عن علي بن المديني
و قال القاضي عياض : هذا الحديث قد ظهر فلو عد من تنبأ من زمني النبي إلى الآن ممن أشهر بذلك و عرف و اتبعه جماعة على ضلالته لوجد هذا العدد فيهم و من طالع كتاب الأخبار و التواريخ عرف صحة هذا
و قوله : حتى يقبض العلم فقد قبض العمل به و لم يبق إلا رسمه على ما يأتي بيانه و قوله : و تكثر الزلازل فقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه وقع منها بعراق العجم كثير و قد شاهدنا بعضها بالأندلس و سيأتي
و قوله : و يتقارب الزمان قيل : المعنى يتقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر كما هو اليوم لغلبة الفسق و ظهور أهله و في الحديث : لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل و صلاح و خوف الله عز و جل يلجأ إليهم عند الشدائد و يستقسي بآرائهم و يتبرك بدعائهم و آثارهم و قيل : غير هذا حسب ما تقدم في باب لا يأتي زمان إلا و الذي بعده شر منه
و قوله : حتى يكثر فيكم المال فيفيض و حتى يهم رب المال من يقبل صدقته هذا مما لم يقع بل يكون على ما يأتي و رب مفعول يهم و من يقبل فاعل يهم يقال : أهمني ذلك الأمر أحزنني و أقلقني وهمه يهمه إذا بالغ في ذلك و قوله : حتى يتطاول الناس في البنيان هذا مشاهد في الوجوه مشاهدته تغني عن الكلام فيه
و قوله : حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه ذلك لما يرى من عظيم البلاء و ربح الأعداء و غبن الأولياء و رئاسة الجهلاء و خمول العلماء و استيلاء الباطل في الأحكام و عموم الظلم و الجهر بالمعاصي و استيلاء الحرام على أموال الخلق و التحكم في الأبدان و الأموال و الأعراض بغير حق كما في هذا الزمان و قد تقدم أول الكتاب حديث أبي عيسى الغفاري عن النبي صلى الله عليه و سلم [ بادروا بالأعمال ستا ] الحديث
و روى الأعمش سليمان بن مهران عن عمرو بن مرة عن أبي نضرة عن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر رضي الله عنه : يوشك أن يأتي على الناس زمان يغبط فيه خفيف الحاذ كما يغبط اليوم أبو عشرة و يغبط الرجل باختفائه عن السلطان و جفائه عنه كما يغبط اليوم بمعرفته إياه و كرامته عليه و حتى تمر الجنازة في السوق على الجماعة فينظر إليها الرجل تهتز بهذا رأسه فيقول يا ليتني مكان هذا قال قلت يا أبا ذر : و إن ذلك من أمر عظيم ؟ قال : يا ابن أخي عظيم عظيم
قلت : هذا هو ذلك الزمان الذي قد استولى فيه الباطل على الحق و تغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق فباعوا الأحكام و رضي بذلك منهم الحكام فصار الحكم مكسا و الحق عكسا لا يوصل إليه و لا يقدر عليه بدلوا دين الله و غيروا حكم الله سماعون للكذب أكالون للسحت { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و { الظالمون } و { الفاسقون } في الكفار خاصة كلها و قيل عامة فيمن بدل حكم الله و غيره قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله : اليهود و النصاري ؟ قال : فمن ]
و لقد أحسن ابن المبارك حيث يقول في أبيات له :
( و هل أفسد الدين إلا الملوك ... و أخبار سوء و رهبانها )
و قوله : حتى تطلع الشمس من مغربها إلى آخره يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى و اللقحة : الناقة العزيزة اللبن و يليط يصلح يقال : لاط حوضه يليط و يلوط ليطا و لوطا إذا لطخه بالطين و أصلحه و الأكلة بضم الهمزة اللقمة فإذا كانت بمعنى المرة الواحدة فهي بالفتح لأنها مصدر و هي المرة الواحدة من الأكل كالضربة من الضرب فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعاجله من أمر الساعة ما يمنع من تمام فعله و اقترب من ذلك رفع الأكلة و هي اللقمة إلى فيه فتقوم الساعة دون بلوغها إليه و كذلك القول في المتتابعين من نشر الثوب و طبه فاعلمه
باب منه
أبو نعيم الحافظ [ عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سيكون في آخر الزمان عباد جهال و قراءة فسقة ] هذا حديث غريب من حديث ثابت لم نكتبه إلا من حديث يوسف بن عطية عن ثابت و هو قاض بصري في حديثه نكارة
قلت : صحيح المعنى لما ظهر في الوجود من ذلك و قال مكحول : [ يأتي على الناس زمان يكون عالمهم أنتن من جيفة الحمار ]
و قد خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : [ حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا حوشب بن عبد الكريم : حدثنا حماد بن زين عن أبان عن أنس قال : قال رسول الله يكون في آخر زمان ديدان القراء فمن أدرك ذلك الزمان فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم و هم الأنتنون ثم تظهر قلانس البرد فلا يستحى يومئذ من الزنا و المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمرة و المتمسك يومئذ بدينه أجره كأجر خمسين قالوا : منا أو منهم ؟ قال : بل منكم ]
و أخرج الدارمي أبو محمد قال : [ أخبرنا محمد بن المبارك : حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة و لا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطهم خوف إن قصدوا قالوا سنبلغ و إن أساءوا قالوا سيغفر لنا إنا لا نشرك بالله شيئا و قد تقدم في باب { وقودها الناس و الحجارة } حديث العباس بن عبد المطلب و فيه ثم يأتي أقوام يقرأون القرآن فإذا قرأوه قالوا من قرأ منا من أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه فقال : هل ترون في أولئك من خير ؟ قالوا : لا قال أولئك منكم و أولئك من هذه الأمة و أولئك هم وقود النار ]
باب منه
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تضطرب اليات دوس حول ذي الخلصة و كانت صنما تعبدها دوس في الجاهلة ]
[ و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تذهب الليالي حتى يملك رجل يقال له الجهجاه ] في غير مسلم رجل من الموالي يقال له جهجاه فسقط من رواية الجلودي من الموالي و هو خطأ [ و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان بسوق الناس بعصاه ] و خرج البخاري و مسلم [ عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى ]
الترمذي [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستخرج نار من حضرموت قبل القيامة قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : عليكم بالشام ] قال حديث حسن غريب صحيح من حديث ابن عمر البخاري [ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ]
الترمذي [ عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم و تجتلدوا بأسيافكم و يرث دنياكم شراركم ] قال هذا حديث غريب خرجه ابن ماجه أيضا
و ذكر عبد الرزاق قال [ أخبرنا معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه قال فقعد الذئب على تل فأقعى و استقر و قال : عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته ثم انتزعته مني فقال الرجل بالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم ! فقال الذئب أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى و ما هو كائن بعدكم قال : فكان الرجل يهوديا فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره و أسلم فصدقه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : إنها أمارات بين يدي الساعة قد يوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه و سوطه بما أحدث أهله بعده ] و يروى هذا [ عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري و فيه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق الراعي إلا أن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس و الذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس و حتى تكلم الرجل عذبة سوطه و شراك نعله و تخبره فخذه بحديث أهله بعده ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله و الذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس و حتى يكلم الرجل عذبة سوطه و شراك نعله و تخبره فخذه بما أحدث أهله بعده ] قال هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرف إلا من حديث القاسم بن الفضل و القاسم بن الفضل ثقة مأمون
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : حكم أبو عيسى بصحته و نظرنا سنده دون أن نقلده فوجدناه له علة قال أبو عيسى : حدثنا سفيان بن وكيع : حدثنا أبي عن القاسم بن الفضل قال : حدثنا أبو نضرة العبدي عن أبي سعيد الخدري فذكره قال ابن دحية : سفيان بن وكيع لم يخرج له البخاري و مسلم حرفا واحدا في صحيحهما و ذلك بسبب وراق كان له يدخل عليه الحديث الموضوع يقال له قرطمة قال البخاري : يتكلمون في سفيان لأشياء لقنوه إياه
و قال أبو محمد بن عدي : كان سفيام إذا لقن يتلقن فهذه علة الحديث التي جهلها أبو عيسى الترمذي
مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يكثر المال و يفيض و حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه و حتى تعود أرض العرب مروجا و أنهارا ]
فصل حول ذي الخلصة و الخلصة
ثبت حديث ذي الخلصة في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى هذا البيت قال جرير : فنفرت إليها مائة و خمسين من أخمس فكسرناه و قتلنا من وجدنا عنده ] قال أبو الخطاب بن دحية : و ذو الخلصة بضم الخاء و اللام في قول أهل اللغة و اليسير و بفتحها قيدناه في الصحيحين و كذا قال ابن هشام و قيده الإمام أبو الوليد الكنائي الوقشي بفتح الخاء و سكون اللام و كذا قال ابن زيد و اختلف فيه فقيل هو بيت أصنام كان لدوس و خثعم و بجيلة و من كان ببلادهم من العرب و قيل : هو صنم كان عمرو بن لحي نصبه بأسفل مكة حتى نصبت الأصنام في مواضع شتى و كانوا يلبسونه القلائد و يعلقون عليه بيض النعام و يذبحون عنده و قيل : ذو الخلصة هي الكعبة اليمانية فكان معناهم في تسميتها بذلك أن عبادة خالصة و المعنى المراد بالحديث أنهم يرتدون و يرجعون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان فترسل نساء دوس طائفات حوله فترتج أردافهن عند ذلك في آخر الزمان و ذلك بعد موت جميع من قلبه مثقال حبة من إيمان و هو كم جاء في عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تذهب الليالي و الأيام حتى تعبد اللات و العزى ] الحديث و سيأتي بكماله
و قوله : يسوق الناس بعصاه كناية عن استقامة الناس و انقيادهم إليه و اتفاقهم عليه و لم يرد نفس العصا و إنما ضرب بها مثلا لطاعتهم له و استيلائه عليهم إلا أن في ذكرها دليلا على خشونته عليهم و عسفه بهم و قد قيل : إنه يسوقهم بعصاه كما تساق الإبل و الماشية و ذلك لشدة عنفه و عدواه و لعل هذا الرجل القحطاني هو الرجل الذي يقال له الجهجاه و أصل الجهجهة الصياح بالسبع يقال : جهجهت بالسبع أي زجرته بالصياح و يقال : جهجه عني أي انته و هذه الصفة توافق ذكر العصا و الله أعلم
و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من رواية عائذ بن عمرو و كان ممن بايع تحت الشجرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن شر الرعاة الحطمة ] و الرعاة في اللغة جمع راع و ضرب رسول الله بهذا مثلا لوالي السوء لأن الحطمة هو الذي يعنف بالإبل في السوق و الإيراد و الإصدار فيحطمها أي يكسرها و لا يكاد يسلم من فساده شيء و سواق حطم كذلك يعنف في سوقه
و قوله : حتى تخرج نار من أرض الحجاز فقد خرجت نار عظمة و كان بدؤها زلزلة عظيمة و ذلك ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع و خمسين و ستمائة إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت و ظهرت النار بقرطبة عند قاع التنعيم بطرف الحرة يحيط بها قرى في صورة البلد العظيم كأعظم ما يكون البلدان عليها سور يحيط بها عليه شرافات كشرافات الحصون و أبراج و مآذن و يرى رجال يقودونها لا تمر على جبل إلا دكته و أذابته و يخرج من مجموع ذلك نهر أحمر و نهر أزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور و الجبال بين يديه و ينتهي إلى البحرة محط الركب العراقي فأجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم و انتهت النار إلى قرب المدينة و كان يلي المدينة ببركة النبي صلى الله عليه و سلم نسيم بارد و يشاهد من هذه النار غليان كغليان البحر و انتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها قال لي بعض أصحابنا : و لقد رأيتها صاعدة في الهواء من جحر مسيرة خمسة أيام من المدينة
قلت : و سمعت أنها رئيت من مكة و من جبال بصرى من بعد هذه النار أخرى أرضية بحرم المدينة أحرقت جميع الحرم حتى إنها أذابت الرصاص التي عليها العمد فوقعت و لم يبق غير السور واقفا و نشأ بعد ذلك أخذ بغداد يتغلب التتر عليها فقتل من كان فيها و سباه و ذلك عمود الإسلام و ماؤه فانتشر الخوف و عظم الكرب و عم الرعب و كثر الحزن فانتشار التتر في البلاد و بقي الناس حيارى سكارى بغير خليفة و لا إمام و لا قضاء فزادت المحنة و عظمت الفتنة لم يتدارك الله سبحانه بالعفو و الفضل و المنة أما قوله : و ستخرج نار من حضرموت أو من نحو حضرموت قبل القيامة فلعلها النار التي جاء ذكرها في حديث حذيفة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لتقصدنكم اليوم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برجوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس و الأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طير الريح و السحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار و لها بين الأرض و السماء دوي كدوي الرعد القاصف هي من رؤوس الخلائق أدنى من العرش قلت : يا رسول الله هي يومئذ على المؤمنين و المؤمنات ؟ قال : و أين المؤمنون و المؤمنات يومئذ ؟ هم شر من الحمر يتسافدون كما تتسافد البهائم و ليس فيهم رجل يقول : مه مه ] كذا رواه أبو نعيم الحافظ في باب مكحول أبي عبد الله إمام أهل الشام عن أبي سلمة عنه عن حذيفة
و قوله : عذبة سوطه يريد السير المعلق في طرف السوط و في هذين الحديث ما يرد على كفرة الأطياء و الزنادقة الملحدين و أن الكلام ليس مرتبطا بالهيبة و البله و إنما الباري جلت قدرته يخلقه متي شاء في أي شاء من جماد أو حيوان على ما قدره الخالق الرحمن فقد كان الحجر و الشجر يسلمان عليه صلى الله عليه و سلم تسليم من نطق و تكلم ثبت ذلك في غير ما حديث و هو قول أهل أصول الدين في القديم و الحديث و ثبت باتفاق حديث البقرة و الذئب و أنهما تكلما على ما أخبر عنهما صلى الله عليه و سلم في الصحيحين قاله ابن دحية
و قوله : حتى تعود أرض العرب مروجا و أنهارا إخبار عن خروج عادتهم من إنتاج الكلأ و مواضع العشب بحفر الأنهار وغرس الأشجار و بناء الديار
باب منه آخر
أبو عمر بن عبد البر [ عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن بين يدي الساعة التسليم على الخاصة و فشو التجارة حتى تعيب المرأة زوجها على التجارة و قطع الأرحام و فشو القلم و ظهور شهادة الزوور و كتمان شهادة الحق ] قال أبو عمر ابن عبد البر : أما قوله : و فشو القلم فإنه أراد ظهور الكتاب و كثرة الكتاب خرجه أبو جعفر الطحاوي بلفظه و معناه إلا أنه قال : حتى تعين المرأة بدل تعيب و لم يذكر و قطع الأرحام ذكره أبو محمد عبد الحق
و خرج أبو داود الطيالسي يقال : [ حدثنا ابن فضالة عن الحسن قال : قال عمرو بن ثعلبة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما نعالهم الشعر و إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة و إن من أشراط الساعة أن تكثر التجارة و يظهر القلم ]
و ذكر ابن المبارك بن فضالة [ عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم و يفيض المال و يظهر القلم و تكثر التجارة ] قال الحسن : لقد أتى علينا زمان إنما يقال تاجر بني فلان و كاتب بني فلان ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد و الكاتب الواحد و ذكره أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن مسعود قال : كان يقال إن من أشراط الساعة أن تتخذ المساجد طرقا و أن يسلم الرجل على الرجل بالمعرفة و أن يتجر الرجل و امرأته جميعا و أن تغلو مهور النساء و الخيل ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة
باب منه
البخاري [ عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن من أشراط الساعة أن يقل العلم و يظهر الجهل و يظهر الزنا و تكثر النساء و يقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ] أخرجه مسلم من حديث أنس
مسلم [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب لا يجد أحدا يأخذها منه قال : و يرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال و كثرة النساء ]
فصل
قوله : [ و يرى الرجل يتبعه أربعون امرأة ] يريد و الله أعلم أن الرجال يقتلون في الملاحم و تبقى نساؤهم أرامل فيقبلن على الرجل الواحد في قضاء حوائجهن و مصالح أمورهن كما قال في الحديث الآخر قبله : حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد الذي يسوسهن و يقوم عليهن من بيع و شراء و أخذ و عطاء و قد كان هذا عندنا أو قريبا منه بالأندلس و قيل : إن لقلة الرجال و غلبة الشبق على النساء يتبع الرجل الواحد أربعون امرأة كل واحدة تقول أنكحني أنكحني و الأول أشبه و يكون معنى يلذن يستترن و يتحرزن من الملاذ الذي هو السترة لا من اللذة
و لقد أخبرني صاحبنا أبو القاسم رحمه الله أخو شيخنا أبو العباس أحمد ابن عمر رحمه الله : أنه ربط نحوا من خمسين امرأة واحدة بعد أخرى في حبل واحد مخافة سبي العدو حتى خرجوا من قرطبة أعادها الله و أما ظهور الزنا فذلك مشهور في كثير من الديار المصرية من ذلك مأثور و من ذلك إظهار الخمر و المأخوذ نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها و ما بطن و أما قلة العلم و كثرة الجهل فذلك شائع في جميع البلاد ذائع أعني برفع العلم و قلة ترك العمل به كما قال عبد الله بن مسعود [ ليس حفظ القرآن بحفظ حروفه و لكن إقامة حدوده ] ذكره ابن المبارك و سيأتي هذا المعنى مبينا مرفوعا إن شاء الله تعالى
باب كيف يقبض العلم البخاري و مسلم رحمهما الله عن عبد الله بن عمرو قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا و لكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم فيضلون و يضلون ]
و في رواية : [ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا انتزاعا مصدر من غير اللفظ كما قال الله عز و جل { و الله أنبتكم من الأرض نباتا } ]
أبو داود [ عن سلامة بن الحر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد الإمامة فلا يجدو إماما يصلي بهم ]
باب ما جاء أن الأرض تخرج ما في جوفها من الكنوز و الأموال روى الأئمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا ] و في رواية : [ عن جبل من ذهب ] لفظ البخاري و مسلم و قال مسلم في رواية : [ فيقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون و يقول كل واحد منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو ] و قال ابن ماجه [ فيقتل الناس عليه فيقتل من كل عشرة تسعة ]
و خرج مسلم و الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب و الفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت و يجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي و يجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه لا يأخذون منه شيئا ] لم يذكر الترمذي السارق و قطع يده و قال حديث حسن غريب
فصل
قال الحليمي رحمه الله في كتاب منهاج الدين له و قال عليه الصلاة و السلام : [ يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا ] فيشبه أن يكون هذا في آخر الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد و ذلك زمن عيسى عليه السلام فلعل بسب هذا الفيض العظيم ذلك الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين و يحتمل أن يكون نهيه عن الأخذ من ذلك الجبل لتقارب الأمر و ظهور أشراطه فإن الركون إلى الدنيا و الاستكثار مع ذلك جهل و اغترار و يحتمل أن يكون إذا حرصوا على النيل منه تدافعوا و تقاتلوا و يحتمل أن يكون لا يجري به مجرى المعدن فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق الله إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه فكان الانقباض عنه أولى
قال المؤلف رحمه الله : التأويل الأوسط هو الذي يدل عليه الحديث و الله أعلم
باب في ولاة آخر الزمان و صفتهم و فيمن ينطق في أمر العامة البخاري [ عن أبي هريرة قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في مجلس يحدث القوم إذ جاء أعرابي فقال متى الساعة ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديثه فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال و قال بعضهم : بل لم يسمع ما قال حتى إذا قضى حديثه قال : أين السائل عن الساعة ؟ قال : ها أنا ذا يا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال : و كيف إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ]
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله : الرواية الصحيحة عند جميع رواة البخاري [ إذا وسد ] و رواه الفقيه الإمام المحدث أبو الحسن القابسي : [ أسد ] قال : و الذي أحفظ [ وسد ] و في نسخة من البخاري إشكال بين وسد أو أسد على ما قيد له لأنه كان أعمى و هما بمعنى قال أهل اللغة : يقال إساد و وساد و اشتقاقهما واحد يقال : إساد و وسادة و وساد فمعنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ إذا وسد الأمر إلى غير أهله ] أي أسند و جعل إليهم و قلدوه بمعنى الإمارة كما في زماننا اليوم لأن الله تعالى ائتمن الأئمة و الولاة على عباده و فرض عليهم النصيحة لهم لقوله صلى الله عليه و سلم [ كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته ] فينبغي لهم تولية أهل الدين و الأمانة للنظر في أمور الأمة فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي فرض الله عليهم
و خرج مسلم [ من حديث جبريل الطويل و فيه قال : أخبرني عن الساعة قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها و أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ]
و في رواية : [ إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها و إذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها ]
الترمذي [ عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع ] قال حديث حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمرو
و خرج الغيلاني أبو طالب محمد : [ حدثنا أبو بكر و الشافعي : حدثنا موسى بن سهل بن كثير أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عبد الملك بن قدامة عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل يا رسول الله و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه ينطق في أمر العامة ] و قال أبو عبيد : التافه الرجل الخسيس الخامل من الناس و كذلك كل شيء خسيس فهو تافه قال : و مما يثبت حديث الرويبضة الحديث الآخر أنه قال : [ من أشراط الساعة أن ترى رعاء الشاء رؤوس الناس و أن ترى العراة الحفاة يتبارون في البنيان و أن تلد الأمة ربتها ]
و ذكر أبو عبيد في الغريب له في حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش و البخل و يخون الأمين و يؤتمن الخائن و يهلك الوعول و يظهر التحوت قالوا يا رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما الوعول و ما التحوت ؟ قال : الوعول وجوه الناس و التحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم ] و أسند أبو نعيم عن حذيفة مرفوعا : من أشراط الساعة علو أهل الفسق في المساجد و ظهور أهل المنكر على أهل المعروف فقال أعرابي فما تأمرني يا رسول الله ؟ قال : [ دع و كن حلسا من أحلاس بيتك ] و في معناه أنشدوا :
( أيا دهر أعملت فينا أذاكا ... و وليتنا بعد وجه قفاكا )
( قلبت الشرار علينا رؤوسا ... و أجلست سفلتنا مستواكا )
( فيا دهر إن كنا عاديتنا ... فها قد صنعت بنا ما كفاكا )
و قال آخر :
( ذهب الرجال الأكرمون ذوو الحجا ... و المنكرون لكل أمر منكر )
( و بقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع مغرور عن معور )
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الباب و غيره مما تقدم و يأتي قد ظهر أكثره و شاع في الناس معظمه فوسد الأمر إلى غير أهله و صار رؤوس الناس أسافلهم عبيدهم و جهالهم فيملكون البلاد و الحكم في العباد فيجمعون الأموال و يطيلون البنيان كما هو مشاهد في هذه الأزمان فلا يسمعون موعظة و لا ينزحرون عن معصية فهم صم بكم عمي قال قتادة : صم عن استماع الحق بكم عن التكلم به عمي عن الإبصار له و هذه صفة أهل البادية و الجهالة
و البهم : جمع بهيمة و أصلها صغار الضأن و المعز و قد فسره في الرواية الأخرى في قوله : رعاء الشاه و قوله و أن تلد الأمة ربها و في رواية ربتها تأنيث رب أي سيدها و قال وكيع و هو أن تلد العجم العرب ذكره ابن ماجه في السنن
قال علماؤنا : و ذلك بأن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه و منزلته بأبيه و على هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين و اتساع خطتهم و كثرة الفتوح و هذا قد كان و قيل : هو أن يبيع السادات أمهات الأولاد و يكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدت فربما يشتريها ولدها و لا يشعر فيكون ربها و على هذا الذي يكون من أشراط الساعة غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد و هم الجمهور
و قيل : المراد أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة و السب و يشهد لهذا ما جاء في حديث أبي هريرة المرأة مكان الأمة و قوله عليه الصلاة و السلام : [ حتى يكون الولد غيظا ] و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
قلت : و هذا ظاهر في الوجود من غير نكير مستفيض و شهير و قيل : إنما كان سيدها و ربها لأنه كان سبب عتقها كما قال عليه الصلاة و السلام في مارية : [ أعتقها ولدها ]
قلت : و قول خامس سمعت شيخنا الأستاذ المحدث النحوي المقرئ أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن حجة يقوله غير مرة و هو الإخبار عن استيلاء الكفار على بلاد المسلمين كما في هذه الأزمان التي قد استولى فيها العدو على بلاد الأندلس و خراسان و غيرهما من البلدان فتسبى المرأة و هي حبلى أو ولدها صغير فيفرق بينهما فيكبر الولد فربما يجتمعان و يتزوجها كما قد وقع من ذلك كثير فإنا لله و إنا إليه راجعون و يدل على هذا قوله : إذا ولدت المرأة بعلها و هذا هو المطابق للأشراط مع قوله عليه الصلاة و السلام [ لا تقوم الساعة حتى تكون الروم أكثر أهل الأرض ] و الله أعلم
باب إذا فعلت هذه الأمة خمس عشرة خصلة حل بها البلاء الترمذي [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل و ما هي يا رسول الله قال :
إذا كان المغنم دولا و الأمانة مغنما و الزكاة مغرما و أطاع الرجل زوجته و عق أمه و بر صديقه و جفا أباه و ارتفعت الأصوات في المساجد و كان زعيم القوم أرذلهم و أكرم الرجل مخافة شره و شربت الخمور و لبس الحرير و اتخذت القينات و المعازف و لعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا ] قال : هذا حديث غريب و في إسناده فرج بن فضالة و ضعف من قبل حفظه
و خرج أيضا [ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اتخذ الفيء دولا و الأمانة مغنما و الزكاة مغرما و تعلم لغير الدين و أطاع الرجل امرأته و عق أمه و أدنى صديقه و أقصى أباه و ظهرت الأصوات في المساجد و ساد القبيلة فاسقهم و كان زعيم القوم أرذلهم و أكرم الرجل مخافة شره و ظهرت القينات و المعازف و شربت الخمور و لعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو زلزلة و خسفا و مسخا و قذفا و آيات متتباعات كنظام بال قطع سلكه فتتابع ] قال : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
باب منه
أبو نعيم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة و خنازير قيل : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم و يشهدون أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و يصومون ؟ قال : نعم قيل : فما بالهم يا رسول الله ؟ قال : يتخذون المعازف و القينات و الدفوف و يشربون الأشربة فباتوا على شربهم و لهوهم فأصبحوا و قد مسخوا قردة و خنازير ]
ابن ماجه [ عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالدفوف و المغنيات يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير ]
و خرجه أبو داود [ عن مالك بن أبي مريم : قال دخلنا على عبد الرحمن بن غنم فتذاكرنا الطلاء قال : حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ] زاد ابن أبي شيبة [ يضرب على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات يخسف الله بهم الأرض ]
قال أبو محمد عبد الحق : روياه جميعا من حديث معاوية بن صالح الحمصي و قد ضعفه قوم منهم يحيى بن معين و يحيى بن سعيد فيما ذكره ابن أبي حاتم و قال أبو حاتم فيه : حسن الحديث يكتب حديثه و لا يحتج به و وثقه أحمد بن حنبل و أبو زرعة
البخاري [ عن أبي مالك الأشعري أو عن عامر سمع النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليكونن ناس من أمتي يستحلون الحر و الحرير و المعازف و لينزلن أقوام إلى جنب عالم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غدا فيبيتهنم الله و يضع العلم و يمسخ آخرين قردة و خنازير إلى يوم القيامة ]
قال المؤلف رحمه الله : هذا يصحح ما قبله من الأحاديث و الحر : هو الزنا قاله الباهلي و يروى الخز بالخاء و الزاي و الصواب ما تقدم
باب منه
ذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي قال : أنبأنا مالك بن أنس عن نافع بن عمر قال : كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص و هو بالقادسية أن وجه نضلة أبا معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق فليغيروا على ضواحيها قال : فوجه سعد نضلة في ثلاثمائة فارس فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق فأغاروا على ضواحيها فأصابوا غنيمة و سبيا فأقبلوا يسرقون الغنيمة و السبي حتى رهقهم العصر و كادت الشمس أن تؤوب قال : فألجأ نضلة الغنيمة و السبي إلى سفح الجبل ثم قال : فأذن فقال : الله أكبر فإذا مجيب من الجبل يجيب كبرت تكبيرا يا نضلة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال كلمة الإخلاص يا نضلة قال أشهد أن محمدا رسول الله قال : هذا النذير و هو الذي بشر به عيسى عليه السلام و على رأس أمته تقوم القيامة قال حي على الصلاة قال : طوبى لمن مشى إليها و واظب عليها قال حي على الفلاح قال : أفلح من أجاب محمدا صلى الله عليه و سلم و هو البقاء لأمة محمد صلى الله عليه و سلم قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله قال : أخلصت الإخلاص كله يا نضلة فحرم الله بها جسدك على النار فلما فرغ من أذانه قمنا فقلنا له : من أنت يرحمك الله أملك أنت أم ساكن من الجن أم طائف من عباد الله ؟ أسمعنا صوتك فأرنا شخصك فإنا وفد الله و وفد رسوله و وفد عمر بن الخطاب قال : فانفلق الجبل عن هامة كالرحاء أبيض الرأس و اللحية و عليه طمران من صوف فقال : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته قلنا : و عليك السلام و رحمته و بركاته من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا زرنب بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى بن مريم أسكنني هذا الجبل و دعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء فيقتل الخنزير و يكسر الصليب و يتبرأ مما نحلته النصارى فأما إذا فاتني لقاء محمد صلى الله عليه و سلم فأقرئوا عمر مني السلام و قولوا له يا عمر : سدد و قارب فقد دنا الأمر و أخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى الله عليه و سلم الهرب فالهرب : إذا استغنى الرجال بالرجال و النساء بالنساء و انتسبوا في غير مناسبهم و انتموا إلى غير مواليهم و لم يرحم كبيرهم صغيرهم و لم يوقر صغيرهم كبيرهم و ترك المعروف فلم يؤمر به و ترك المنكر فلم ينه عنه و تعلم عالمهم العلم ليجلب به الدراهم و الدنانير و كان المطر قيظا و الولد غيظا و طولوا المنارات و فضضوا المصاحف و شيدوا البناء و اتبعوا الشهوات و باعوا الدين بالدنيا و استخفوا بالدماء و قطعت الأرحام و بيع الحكم و أكل الربا و صار الغني عز و خرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه فسلم عليه و ركبت النساء السروج ثم غاب عنا قال : فكتب بذلك نضلة إلى سعد فكتب سعد إلى عمر و كتب عمر إلى سعد يا سعد : لله أبوك سر أنت و من معك من المهاجرين و الأنصار حتى تنزلوا هذا الجبل فإن لقيته فأقرئه مني السلام فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن بعض أوصياء عيسى بن مريم نزل ذلك الجبل ناحية العراق قال : فخرج سعد في أربعة آلاف من المهاجرين و الأنصار حتى نزل ذلك الجبل فأقام أربعين يوما ينادي بالأذان في كل وقت صلاة فلا جواب
قال الخطيب : تابع إبراهيم بن رجاء أبو موسى عبد الرحمن الراسبي على رواية عن مالك و ليس بثابت من حديثه
باب منه آخر
خرج أبو نعيم [ من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اقتراب الساعة اثنتان و سبعون خصلة إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة و أضاعوا الأمانة و أكلوا الربا و استحلوا الكذب و استخفوا بالدماء و استعلوا البناء و باعوا الدين بالدنيا و تقطعت الأرحام و يكون الحكم ضعفا و الكذب صدقا و الحرير لباسا و ظهر الجور و كثر الطلاق و موت الفجأة و ائتمن الخائن و خون الأمين و صدق الكاذب و كذب الصادق و كثر القذف و كان المطر قيظا و الولد غيظا و فاض اللئام فيضا و غاص الكرام غيضا و كان الأمراء فجرة و الوزراء كذبة و الأمناء خونة و العرفاء ظلمة و القراء فسقة إذا لبسوا مسوح الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة و أمر من الصبر يغشيهم الله فتنة يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة و تظهر الصفراء يعني الدنانير و تطلب البيضاء يعني الدراهم و تكثر الخطايا و تغل الأمراء و حليت المصاحف و صورت المساجد و طولت المنابر و خربت القلوب و شربت الخمور وعطلت الحدود و ولدت الأمة ربتها و ترى الحفاة العراة قد صاروا ملوكا و شاركت المرأة زوجها في التجارة و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال و حلف بالله و شهد المرء من غير أن يستشهد و سلم للعرفة و تفقه لغير الدين و طلبت الدنيا بعمل الآخرة و اتخذ المغنم دولا و الأمانة مغنما و الزكاة مغرما و كان زعيم القوم أرذلهم و عق الرجل أباه و جفا أمه و بر صديقه و أطاع زوجته و علت أصوات الفسقة في المساجد و اتخذت القينات و المعازف و شربت الخمور في الطرق و اتخذ الظلم فخرا و بيع الحكم و كثر الشرط و اتخذ القرآن مزامير و جلود السباع صفاقا و المساجد طرقا و لعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء و خسفا و مسخا و قذفا و آيات ] غريب من حديث عبد الله بن عمير عن حذيفة لم يروه عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة
قال المؤلف رحمه الله : و هذه الخصال قد تقدم ذكرها في أحاديث متفرقة و كلها بنية المعنى إلا قوله و جلود السباع صفاقا قال الجوهري : الصفاق الجلد الرقيق تحت الجلد الذي عليه الشعر
و خرج الدارقطني [ عن عامر الشعبي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال : لليلتين و أن تتخذ المساجد طرقا و أن يظهر موت الفجأة ] قاله الجوهري معنى قبلا أن يرى ساعة يطلع لعظمه و يوضحه حديث آخر من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة و يقال : رأيت الهلال قبلا و قبلا أي معاينة
باب منه
الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : [ حدثنا عمر بن أبي عمر قال : حدثنا هشام بن خالد الدمشقي عن إسماعيل بن عياش عن ليث عن ابن سابط عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يكون في أمتي فزعة فيصير الناس إلى علمائهم فإذا هم قردة و خنازير ] قال أبو عبد الله : فالمسخ تغير الخلقة عن جهتها فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيروا الحق عن جهته و حرفوا الكلم عن مواضعه فمسخوا أعين الخلق و قلوبهم عن رؤية الحق فمسخ الله صورهم و بدل خلقهم كما بدلوا الحق باطلا
باب في رفع الأمانة و الإيمان عن القلوب روى الأئمة البخاري و مسلم و ابن ماجه و غيرهم و اللفظ لمسلم [ عن حذيفة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثين قد رأيت أحدهما و أنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ] قال ابن ماجه : حدثنا الطنافسي يعني وسط قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن و علموا من السنة ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال : [ ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا و ليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله فنفط فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله و ما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان و لقد أتى على زمان ما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه و لئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه فأما فما كنت أبايع منكم إلا فلانا و فلانا ]
فصل
الجذر بالذال المعجمة و يقال بفتح الجيم و كسرها و هو الأصل من كل شيء من النسب و الحساب و الشجر و غيره و الوكت : بإسكان الكاف و هو الأثر اليسير يقال : أوكتت البسرة : إذا ظهرت فيها نكتة من الإرطاب و هو مصدر وكته يكته وكتا و هو أيضا مثل نكته في العين و غيرها و المجل : هو النفخ الذي يرتفع من جلد باطن اليد عند العمل بفأس أو محذاف أو نحوه يحتوي على ماء ثم يصلب و يبقى عقدا قال ابن دحية قيدناه في الحديث بسكون الجيم و أجاز أهل اللغة و النحو فتح الجيم مصدر مجلت يده تمجل مجلا بفتح الجيم في المصدر إذا غلظت من العمل و قوله : فنفط أي ارتفع جلدها و انتفخ فتراه منتبرا أي منتفطا و معناه مرتفعا جلده من لحمه و هو افتعال من النبر و هو الرفع و كل شيء رفع شيئا فقد نبره و منه اشتق المنبر و أراد بذلك خلو القلوب من الأمانة كما يخلو المجل المنتبر عن شيء يحويه كجمر دحرجته يعني أطلقته فينطلق ظهر اليدين من ذلك
و قول حذيفة : لقد أتى على زمان الحديث : يعني كانت الأمانة موجودة ثم قلت في ذلك الزمان و قوله ليردنه على ساعيه يعني من كان رئيسا مقدما فيهم واليا عليهم أن ينصفني منه و إن لم يكن له الإسلام و كل من ولوي على قوم ساع لهم و قوله فما كنت أبايع إلا فلانا و فلانا قال أبو عبيدة : هو من البيع و الشراء لقلة الأمانة
باب في ذهاب العلم ورفعه و ما جاء أن الخشوع و الفرائض أول علم يرفع من الناس
ابن ماجه قال : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه و سلم شيئا قال : ذللك عند أوان ذهاب العلم قلت يا رسول الله : كيف يذهب العلم و نحن نقرأ القرآن و نقرئه أبناءنا و يقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ثكلتك أمك يا زياد : إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود و النصارى يقرأون التوراة و الإنجيل لا يعملون بشيء منهما ]
و خرجه الترمذي [ عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا على شيء منه فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا و نحن قد قرأنا القرآن فو الله لنقرؤه و لنقرئه نساءنا و أبناءنا فقال : ثكلتك أمك يا زياد : إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة و الإنجيل عند اليهود و النصارى فماذا تغني عنهم ]
قال جبير : فلقيت عبادة بن صامت فقلت : ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء قال صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس الخشوع يوشك أن يدخل الرجل مسجد جماعة فلا يرى فيه رجلا خاشعا قال أبو عيسى : هذا حديث غريب و معاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث و لا أعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان
و روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك
قال المؤلف رحمه الله : خرجه لهذا الإسناد الحافظ أبو محمد عبد الغني فقال : [ حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا يحيى بن أيوب : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث قال : حدثني إبراهيم بن أبي عبلة عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير قال : حدثني عوف بن مالك الأشجعي قال : نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السماء يوما و قال : هذا أوان رفع العلم فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد يا رسول الله : و كيف يرفع العلم و قد كتب في الكتب و وعته الصدور ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة و ذكر اليهود و النصارى و ضلالتهم على ما في أيديهم من كتاب الله ] فذكرت ذلك لشداد بن أوس فقال : صدق عون بن مالك ألا أخبرك بأول ذلك : يرفع الخشوع حتى لا ترى رجلا خاشعا ذكره في باب تقييد الحديث بالكتابة و هو حديث حسن
قلت : و قد ذكرناه في مسند زياد بن لبيد بإسناد صحيح على ما ذكره ابن ماجه و هو يبين لك ما ذكرناه من أن المقصود برفع العلم العمل به كما قال عبد الله بن مسعود : ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف و لكن إقامة حدوده ثم بعد رفع العمل بالعلم يرفع القلم و الكتاب و لايبقى في الأرض من القرآن آية تتلى على ما يأتي في الباب بعد هذا
و قد خرج الدراقطني و ابن ماجه [ من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تعلموا الفرائص و علموها للناس فإنها تصف العلم و هو ينسى و هو أول شيء ينزع من أمتي ] لفظ الدراقطني و لا تعارض و الحمد لله فإن الخشوع من علم القلوب و الفرائض علم الظاهر فافترقا و الحمد لله
باب في دروس الإسلام و ذهاب القرآن ابن ماجه قال : [ أخبرنا علي بن محمد قال : أنبأنا أبو معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ربيعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدرس الإسلام كما يدرس و شى الثوب حتى لا يدري ما صيام و لا صلاة و لا نسك و لا صدقة و يسري بكتاب الله تعالى في ليلة فلا بيقى منه في الأرض آية و تبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير و العجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها قال له صلة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله و هم لايدرون ما صلاة و لا صيام و لا نسك و لا صدقة فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه حذيفة فقال : يا صلة تنجيهم من النار ثلاثا ]
قلت : هذا إنما يكون بعد موت عيسى عليه السلام لا عند خروج يأجوج و مأجوج على ما تقدم من رواية مقاتل
و ذكر أبو حامد من رفعه فإن عيسى عليه السلام إنما ينزل مجددا لما درس من هذه الشريعة فإنه يحججه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
باب العشر آيات التي تكون قبل الساعة و بيان قوله تعالى : اقتربت الساعة و انشق القمر
[ روي عن حذيفة أنه قال : كنا جلوس بالمدينة في ظل حائط و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في غرفة فأشرف علينا و قال : ما يجلسكم ؟ فقلنا : نتحدث فقال : فيماذا ؟ فقلنا : عن الساعة فقال : إنكم لا ترون الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات أولها طلوع الشمس من مغربها ثم الدخان ثم الدجال ثم الدابة ثم ثلاث خسوف : خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و خروج عيسى و خروج يأجوج و مأجوج و يكون آخر ذلك نارا تخرج من اليمن من حفرة عدن لا تدع أحدا خلفها إلا تسوقه إلى المحشر ] ذكره القتبي في كتاب عيون الأخبار له
و خرجه مسلم بمعناه [ عن حذيفة قال : اطلع رسول الله صلى الله عليه و سلم من غرفة و نحن نتذاكر الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و الدابة و يأجوج و مأجوج و خروج عيسى بن مريم و ثلاث خسوف : خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا و تقيل معهم إذا قالوا ] خرجه ابن ماجه و الترمذي و قال : حديث حسن و في رواية : [ الدخان و الدجال و الدابة و طلوع الشمس من مغربها و نزول عيسى بن مريم و ثلاث خسوفات : خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و آخر ذلك نار تخرج من اليمن تطردهم إلى محشرهم ]
و في البخاري [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول أشراط الساعة نار تخرج تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ]
مسلم [ عن عبد الله بن عمر قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن أول الآيات خروجا عن طلوع الشمس من مغربها و خروج الدابة على الناس ضحى و أيهما ما كانت قبل صاحبتها فأخرى على أثرها قريبا منها ] و في حديث حذيفة مرفوعا ثم قال عليه الصلاة و السلام : [ كأني أنظر إلى حبشي أحمش الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن و قد صف قدميه على الكعبة هو و أصحاب له و هم ينقضونها حجرا حجرا و يتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر فعند ذلك تكون علامات منكرات طلوع الشمس من مغربها ثم الدجال ثم يأجوج و مأجوج ثم الدابة ] و ذكر الحديث
فصل
جاءت هذه الآيات في هذه الأحاديث مجموعة غير مرتبة ما عدا حديث حذيفة المذكور أولا فإن الترتيب فيه بثن و ليس الأمر كذلك على ما نبينه و قد جاء ترتيبها [ من حديث حذيفة أيضا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في غرفة و نحن أسفل منه فاطلع إلينا فقال : ما تذكرون ؟ قلنا : الساعة قال : إن الساعة لا تكون حتى تروا عشر آيات : خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و الدخان و الدجال و دابة الأرض و يأجوج و مأجوج و طلوع الشمس من مغربها و نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس ]
و قال بعض الرواة في العاشرة : و نزول عيسى بن مريم و قال بعضهم : و ريح يلقى الناس في البحر أخرجه مسلم فأول الآيات على ما في هذه الرواية الخسوفات الثلاثة و قد وقع بعضها في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره ابن وهب و قد تقدم
و قد ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه وقع بعراق العجم زلازل و خسوفات هائلة هلك بسببها خلق كثير
قلت : و قد وقع ذلك عندنا بشرق الأندلس فيما سمعنا من بعض مشايخنا بقرية يقال لها [ قطرطندة ] من قطر دانية سقط عليها جبل هناك فأذهبها
و أخبرني أيضا بعض أصحابنا أن قرية من أعمال برقة يقال لها [ ترسة ] أصابها زلزلة شديدة هدت حيطانها و سقفها على أهلها فماتوا تحتها و لم ينج منهم إلا قليل و وقع في هذا الحديث دابة الأرض قبل يأجوج و مأجوج و ليس كذلك فإن أول الآيات ظهور الدجال ثم نزول عيسى عليه السلام ثم خروج يأجوج و مأجوج فإذا قتلهم الله بالنغف في أعناقهم على ما يأتي و قبض الله تعالى نبيه عيسى عليه السلام و خلت الأرض منا و تطاولت الأيام على الناس و ذهب معظم دين الإسلام أخذ الناس في الرجوع إلى عاداتهم و أحدثوا الأحداث من الكفر و الفسوق كما أحدثوه بعد كل قائم نصبه الله تعالى بينه و بينهم حجة عليهم ثم قبضه فيخرج الله تعالى لهم دابة من الأرض فتميز المؤمن من الكافر ليرتدع بذلك الكفار عن كفرهم و الفساق عن فسقهم و يستبصروا و ينزعوا عما هم فيه من الفسوق و العصيان ثم تغيب الدابة عنهم و يمهلون فإذا أصروا على طغيانهم طلعت الشمس من مغربها و لم يقبل ببعد ذلك لكافر و لا فاسق توبة و أزيل الخطاب و التكليف عنهم ثم كان قيام الساعة على أثر ذلك قريبا لأن الله تعالى يقول : { و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } فإذا قطع عنهم التعبد لم يقرهم بعد ذلك في الأرض زمانا طويلا هكذا ذكره بعض العلماء
و أما الدخان : فروي [ من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم إن من أشراط الساعة دخانا يملأ ما بين المشرق و المغرب يمكث في الأرض أربعين يوما ]
فأما المؤمن : فيصيبه منه شبه الزكام و أما الكافر : فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من أنفه و منخريه و عينيه و أذنيه و دبره و قيل : هذا الدخان من آثار جهنم يوم القيامة
و روي هذا عن علي و ابن عمر و أبي هريرة و ابن عباس و ابن أبي مليكة و الحسن و هو معنى قوله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين }
و قال ابن مسعود في هذه الآية : إنه ما أصاب قريشا من القحط و الجهد حتى جعل الرجل يرى بينه و بين السماء كهيأة الدخان من الجهد حتى أكلوا العظام و قد مضت البطشة و الدخان و اللزام و الحديث عنه بهذا في كتابي مسلم و البخاري و غيرهما و قد فسر البطشة بأنها وقعة بدر
قال أبو الخطاب ابن دحية : و الذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين : إحدهما وقعت و كانت الأخرى ستقع و ستكون فأما التي كانت فالتي كانوا يرون فيها كهيأة دخان و هي الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور آيات التي هي من الأشراط و العلامات و لا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة و قول ابن مسعود لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو من تفسيره و قد جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بخلافه
قال المؤلف رحمه الله : قد روي عن ابن مسعود أنهما دخانان قال مجاهد : كان ابن مسعود يقول : هما دخانان قد مضى أحدهما و الذي بقي يملأ ما بين السماء و الأرض و لا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة و أما الكافر فتثقب مسامعه فتبعث مسامعه فتبعث عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن و مؤمنة و يبقى شرار الناس
و اختلف في البطشة و اللزام فقال أبي : هو القتل بالسيف يوم بدر و إليه نجا ابن مسعود و هو قول أكثر الناس و على هذا تكون البطشة و اللزام شيئا واحدا قال ابن مسعود : البطشة الكبرى وقعة بدر و قيل : هي يوم القيامة و أصل البطش الأخذ بشدة وقع الألم و اللزام في اللغة : الفصل في القضية و فسره ابن مسعود بأن ذلك كان يوم بدر و هو البطشة الكبرى في قوله أيضا
و قيل : إن اللزام هو المذكور في قوله تعالى { فسوف يكون لزاما } و هو العذاب الدائم و أما الدجال فيأتي ذكره في أبواب أخرى و أما الدابة فهي التي قال الله تعالى { و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم }
و ذكر أهل التفسير أنه خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فتنير وجهه و يكتب بين عينيه كافر و روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن هذه الدابة هي الجساسة على ما يأتي ذكره في خبر الدجال و روي عن ابن عباس أنها الثعبان الذي كان يبئر الكعبة فاختطفه العقاب و سيأتي بيانه
و أما قوله : و آخر ذلك نار تخرج من اليمن و في الرواية الأخرى من قعر عدن و في الرواية الأخرى من أرض الحجاز قال القاضي عياض فلعلهما ناران تجتمعان لحشر الناس أو يكون ابتداء خروجهما من اليمن فظهورهما من الحجاز
قلت : أما النار التي تخرج من أرض الحجاز فقد خرجت على ما تقدم القول فيها و بقيت النار التي تسوق الناس إلى المحشر و هي التي تخرج من اليمن و قد مضى القول في الحشر و يأتي القول في طلوع الشمس من مغربها
فأما قوله الله تعالى : { اقتربت الساعة و انشق القمر } فقد روي أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم آية فأراهم القمر منشقا نصفين و الجبل بينهما فقال اشهدوا ثبت في الصحيحين و غيرهما
و من العلماء مكن قال : إنه ينشق كقوله تعالى { أتى أمر الله } أي يأتي قال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له : فإن كان هذا فقد أتى و رأيت ببخاري الهلال و هو ابن ليلتين منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس و ما زلت أنظر إليهما حتى اتصلا كما كانا و لكنهما في شكل واحد شكل أترجة و لم أمل طرفي عنهما إلى أن غابت و كان معي ليلتئذ كتيبة من شريف وفقيه و غيرهما من طبقات الناس و كلهم رأى ما رأيت و أخبرني من وثقت به أنه رأى الهلال و هو ابن ثلاث منشقا نصفين : قال الحليمي : فقد ظهر أن قول الله { و انشق القمر } إنما خرج على الانشقاق الذي هو من أشراط الساعة دون الانشقاق الذي جعله الله آية لرسوله صلى الله عليه و سلم
باب ما جاء أن الآيات بعد المائتين ابن ماجه [ عن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الآيات بعد المائتين ] [ و عن زيد الرقاشي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أمتي على خمس طبقات فأربعون سنة أهل بر و تقوى ثم الذين يلونهم إلى عشرين و مائة سنة أهل تراحم و تواصل تم الذين يلونهم إلى ستين و مائة أهل تدابر و تقاطع ثم الهرج الهرج النجا النجا ] و في رواية [ عن أبي معن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمتي على خمس طبقات كل طبقة أربعون عاما فأما طبقتي و طبقة أصحابي فأهل علم و إيمان و أما الطبقة الثانية ما بين الأربعين إلى الثمانين فأهل بر و تقوى ] ثم ذكر نحوه
باب ما جاء فيمن يخسف به أو يمسخ أبو داود [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : يا أنس إن الناس يمصرون أمصارا و إن مصرا منها يقال لها البصرة أو البصيرة فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك و سباخها و كلأها و سوقها و باب أمرائها و عليك بضواحيها فإنه يكون بها خسف و رجف و قوم يبيتون فيصبحون قردة و خنازير ]
و خرج ابن ماجه [ عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام فقال له : بلغني أنه قد أحدث فإن كان أحدث فلان فلا تقرئه السلام فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يكون في أمتي أو في هذه الأمة خسف مسخ و قذف و نحوه ]
عن سهل بن سعد و قد تقدمت الأخبار و الأحاديث في خسف الجيش الذي يقصد مكة لقتال المهدي خرجهما مسلم و غيره
و كذلك تقدم حديث البخاري و غيره في باب إذا فعلت هذه الأمة خمس عشرة خصلة و ذكر الثعالبي في تفسيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ تبنى مدينة بين دجلة و دجيل و قطربل و السراة يجتمع فيها جبابرة الأرض تجبي إليها الخزائن و يخسف بها و في رواية : يخسف بأهلها فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة يقال إنها بغداد ] و قد تقدم و الله أعلم
باب ـ ذكر الدجال و صفته و نعته ذكر الدجال و صفته و نعته و من أين يخرج و ما علامة خروجه و ما معه إذا خرج و ما ينجى منه و أنه يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيى الموتى
قال ابن دحية قال العلماء : الدجال في اللغة يطلق على عشرة وجوه :
الأول : أن الدجال الكذاب قاله الخليل و غيره و أنها دجلة بسكون الخيم و دجلة بفتحها كذبة لأنه يدجل الحق بالباطل و جمعه دجالون و دجاجلة في التكسير و قد تقدم
الوجه الثاني : أن الدجال مأخوذ من الدجل و هو طلاء البعير بالقطران سمي بذلك لأنه يغطي الحق و يستره بسحره و كذبه كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة و هي القطران يهنأ به البعير و اسمه إذا فعل به ذلك المدجل قاله الأصمعي
الوجه الثالث : إنما سمي بذلك لضربه في نواحيه الأرض و قطعه لها يقال : دجل الرجل إذا فعل ذلك
الوجه الرابع : أنه من التغطية لأنه يغطي الأرض بمجموعه و الدجل التغطية قال دريد : كل شيء غطيته فقد دجلته و منه سميت دجلة لانتشارها على الأرض و تغطية ما فاضت عليه
الوجه الخامس : سمي دجالا لقطعه الأرض إذ يطأ جميع البلاد إلا مكة و المدينة و الدجالة الدفقة العظيمة
و أنشد ابن فارس في المجمل :
دجالة من أعظم الرقاق
الوجه السادس : سمي دجالا لأنه يغر الناس بشره كما يقال لطخني فلان بشره
الوجه السابع : الدجال : المخرق
الوجه الثامن : الدجال : المموه قاله ثعلب و يقال سيف مدجل إذ كان قد طلى بالذهب
الوجه التاسع : الدجال : ماء الذهب الذي يطلى به الشيء فيحسن باطله و داخله خزف أو عود سمي الدجال بذلك لأنه يحسن الباطل
الوجه العاشر : الدجال : فرند السيف و الفرند جوهر السيف و ماؤه و يقال بالفاء و الباء إذ أصله عين صافية على ما تنلطق به العجم فعربته العرب و لذلك قال سبيويه و هو عندهم خارج عن أمثله العرب و الفرند أيضا الحرير و أنشد ثعلب :
( بحلية الياقوت و الفرندا ... مع الملاب و عبير أصردا )
أي خالصا قال ابن الأعرابي يقال للزعفران الشعر و الملاب و العبير و المردقوش و الحشاد ذكر هذه الأقوال العشرة الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله في كتاب مرج البحرين في فوائد المشرقين و المغربين
مسلم [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ] و في رواية : [ من آخر سورة الكهف ]
أبو بكر بن أبي شيبة [ عن الفلتان بن عاصم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة ممسوح العين اليسرى عريض المنخر فيه الدفاء ] قوله فيه : دفا أي انحناء
[ و عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة و نار فناره جنة و جنته نار ] و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهرنان يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض و أحدهم الآخر رأي العين نار تأجج فأما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا و ليغمض و ليطأطئ رأسه فيشرب فإنه ماء بارد و أن الدجال ممسوخ العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه يقرؤه كل مؤمن كاتب و غير كاتب ]
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : كذا عند جماعة رواه مسلم فإما أدركن قال ابن دحية : و هو وهم فإن لفظه هو لفظ الماضي ولم أسمع دخول نون التوكيد على لفظ الماضي إلا ها هنا لأن هذه النون لا تدخل على الفعل و صوابه ما قيده العلماء في صحيح مسلم منهم التميمي أبو عبد الله : فإما أدركه أحد
[ و عن عبد الله بن عمر : قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال : : إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ]
قال : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أراني الليلة في المنام عند الكعبة فإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من آدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يده على منكبي رجلين و هو يطوف بالبيت فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هو المسيح بن مريم و رأيت وراءه رجلا جعدا قططا أعور العين اليمنى كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن واضعا يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت فقلت من هذت قالوا هو المسيح الدجال ]
أبو بكر بن أبي شيبة [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الدجال أعور مدهجان أقمر كأن رأسه غضنة شجرة أشبه الناس بعبد العزي بن قطن الخزاعي فإما أهلك هلك فإنه أعور و أن الله ليس بأعور
أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما مسيح فإنه أعور العين أجلي الجبهة عريض المنحر فيه اندفاء مثل قطن بن عبد العزي فقال له الرجل : أيضر بي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم شبهه ؟ فقال : لا أنت مسلم هو كافر ]
و خرج [ عن أبي بن كعب قال ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه و سلم أو قال ذكر النبي صلى الله عليه و سلم الدجال فقال : إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء و تعوذ بالله من عذاب القبر ]
الترمذي [ عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الدجال ليخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أفواج كأن وجوههم المجان المطرقة ] إسناده صحيح
و ذكر عبد الرزاق قال : [ أخبرنا معمر بن عن أبي هانئ العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم السيجان و السيجان جمع الساج و هو طيلسان أخضر ] و قال الأزهري هو المطيليل المقور بنسج كذلك
الطبراني [ عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر عنده الدجال فقال : إن قبل خروجه ثلاث أعوام تمسك السماء في العام الأول ثلث قطرها و الأرض ثلث نباتها و العام الثاني تمسك السماء ثلثي قطرها و الأرض ثلثي نباتها و العام الثالث تمسك السماء قطرها و الأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس و لا ذات ظلف إلا مات ] و ذكر الحديث
خرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا هشام عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أسماء و عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أسماء
و أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة و في بعض الروايات بعد قوله : و في السنة الثالثة يمسك الله المطر و جميع النبات فما ينزل من السماء قطرة و لا تنبت الأرض خضرة و لا نباتا حتى تكون الأرض كالنحاس و السماء كالزجاج فيبقى الناس يموتون جوعا و جهدا و تكثر الفتن و الهرج و يقتل الناس بعضهم بعضا و يخرج الناس بأنفسهم و يستولي البلاء على أهل الأرض فعند ذلك يخرج الملعون الدجال من ناحية أصبهان من قرية يقال لها اليهودية و هو راكب حمارا أبتر يشبه البغل ما بين أذني حماره أربعون ذراعا و من نعت الدجال : أنه عظيم الخلقة طويل القامة جسيم أجعد قطط أعور العين اليمنى كأنها لم تخلق و عينه الأخرى ممزوجة بالدم و بين عينيه مكتوب : كافر يقرؤه كل مؤمن بالله فإذا خرج يصيح ثلاث صيحات ليسمع أهل المشرق و المغرب
و يروى أنه إذا كان في آخر الزمان تخرج من البحر امرأة ذات حسن و جمال بارع فتدعو الناس إلى نفسها و تخترق البلاد فكل من أتاها كفر بالله فعند ذلك يخرج الله عليكم الدجال و من علامة خروجه فتح القسطنطينية لأن الخبر ورد أن بين خروجه و فتح القسطنطينية سبعة أشهر و قد تقدم هذا
و ذكر أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا الحشرج بن نباتة قال : حدثنا سعيد ابن جمهان عن سفينة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنه لم يكن نبي إلا و قد أنذر أمته الدجال ألا و إنه أعور العين بالشمال و باليمين ظفرة غليظة بين عينيه كافر يعني مكتوب كافر يخرج معه واديان أحدهما جنة و الآخر نار فناره جنة و جنته نار فيقول الدجال للناس : ألست بربكم أحيي و أميت و معه ملكان يشبهان نبيين من الأنبياء إني لأعرف اسمهما و اسم آبائهما لو شئت أن أسميهما سميتهما أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله فيقول : ألست بربكم أحيي و أميت ؟ فيقول أحدهما : كذبت فلا يسمعه من الناس أحد إلا صاحبه و يقول الآخر : صدقت و ذلك فتنة ثم يسير حتى يأتي المدينة فيقول هذه قرية ذاك الرجل فلا يؤذن له أن يدخلها ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عند عقبة أفيق ]
و خرجه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في الجزء العاشر من مختصر المعجم له بمعناه فقال : [ حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال : حدثنا حشرج عن سعيد ابن جمهان عن سفينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه لم يكن نبي قبل إلا و قد حذر أمته من الدجال إنه أعور عينه اليسرى بعينه اليمنى ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن بالله معه واديان : أحدهما جنة و الآخر نار و معه ملكان يشبهان نبين من الأنبياء و لو شئت سميتهما بأسماء و أسماء آبائهما أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله فيقول الدجال : ألست بربكم أحيي و أميت فيقول أحد الملكين : كذبت فلا يسمعه أحد من الناس إلا صاحبه فيقول له صدقت فيسمعه الناس فيظنون أنه صدق الدجال فذلك فتنة ثم يسير الدجال حتى يأتي المدينة فلا يؤذن له فيقول هذه قرية ذلك الرجل ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عند عقبة افيق ]
قال ابن برجان في كتاب الإرشاد له : و الذي يغلب على ظني أن النبيين المشبه بها أحدهما المسيح ابن مريم و الآخر محمد صلى الله عليه و سلم و لذلك ما أنذرا بذلك و وصيا
و خرج أبو داود في سننه [ عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني كنت حدثتكم عن المسيح الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا أن المسيح الدجال قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ليست بناتئة و لا حجراء فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم عز و جل ليس بأعور ]
فصل
وصف النبي صلى الله عليه و سلم الدجال وصفا لم يبق معه لذي لب إشكال ولتك الأوصاف كلها ذميمة تبين لكل ذي حاسة سليمة لكن من قضى الله عليه بالشقاوة تبع الدجال فيما يدعيه من الكذب و الغباوة و حرم اتباع الحق و نور التلاوة فقوله عليه الصلاة و السلام [ إنه أعور و أن الله ليس بأعور ] تبيين للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصا في ذاته عاجزا عن إزالة نقصه لم يصلح أن يكون إلها لعجزه و ضعفه و من كان عاجزا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره و عن مضرته و جاء في حديث حذيفة : أعور العين اليسرى و في حديث ابن عمر : أعور العين اليمنى و قد أشكل الجمع بين الحديثين على كثير من العلماء قال : و حتى إن أبا عمر بن عبد البر ذكر ذلك في كتاب التمهيد له
و في حديث [ سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : إن الدجال خارج و هو أعور العين الشمال عليها ظفرة غليظة و أنه يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيىالموتى و يقول للناس : أنا ربكم فمن قال : أنت ربي فقد فتن و من قال : ربي الله عز و جل حتى يموت على ذلك فقد عصم من فتنته و لا فتنة عليه و لا عذاب فيلبث في الأرض ما شاء ثم يجيء عيسى عليه السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد صلى الله عليه و سلم و علىملته فيقتل الدجال ثم إنما هو قيام الساعة ]
قال أبو عمر بن عبد البر ففي هذا الحديث أعور العين الشمال و في حديث مالك : أعور العين اليمنى فالله أعلم و حديث مالك أصح من جهةالإسناد لم يزد على هذا
قال أبو الخطاب بن دحية ليس كما قال بل الطرق كلها صحيحة في العينين و قال شيخنا أحمد بن عمر في كتاب المفهم له : و هذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما و قد تكلف القاضي عياض الجمع بينهما فقال : الجمع بين الروايتين عندي صحيح و هو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما إذ العور حقيقة في كل شيء العيب و الكلمة العوراء هي المعيبة فالواحدة عوراء بالحقيقة و هي التي وصفت بالحديث بأنها ليست بحجراء و لا ناتئة و ممسوحة و مطموسة و طافية على رواية الهمز و الأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة أو كأنها كوكب دري أو كأنها عنبة طافية بغير همز و كل واحدة منهما يصح فيه الوصف بالعور بحقيقة العرف و الاستعمال أو بمعنى العور الأصلي قال شيخنا وحاصل كلامه : أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء أحدهما بما أصاب حتى ذهب إدراكها و الثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة لكن يبعد هذا التأويل أن كل واحدة من عينيه قد جاء و صفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور فتأمله
قلت : ما قاله القاضي عياض و تأويله صحيح و أن العور في العينين مختلف كما بيناه في الروايات فإن قوله : كأنها لم تخلق هو معنى الرواية الأخرى مطموس العين ممسوخها ليست بناتئة و لا حجراء و وصف الأخرى بالمزج بالدم و ذلك عيب عظيم لا سيما مع وصفها بالظفرة الغليظة التي هي عليها و هي جلدة غليظة تغشى العين و على هذا فقد يكون العور في العينين سواء لأن الظفرة مع غلظها تمنع من الإدراك فلا تبصر شيئا فيكون الدجال على هذا أعمى أو قريبا منه إلا أنه جاء ذكر الظفرة في العين اليمنى في حديث سفينة و في الشمال في حديث سمرة بن جندب و قد يحتمل أن يكون كل عين عليها ظفرة غليظة فإن في حديث حذيفة : و إن الدجال ممسوخ العين عليها ظفرة غليظة و إذا كانت الممسوخة المطموسة عليها ظفرة فالتي ليست كذلك أولى فتتفق الأحاديث و الله أعلم
و قيل في الظفرة : إنها لحمة تنبت عند المآقي كالعلقة و قيده بعض الرواة بضم الظاء و سكون الفاء وليس بشيء قاله ابن دحية رحمه الله
فصل ـ الإيمان بالدجال و خروجه حق الإيمان بالدجال و خروجه حق و هذا مذهب أهل السنة و عامة أهل الفقه و الحديث خلافا لمن أنكر أمره من الخوارج و بعض المعتزلة و وافقنا على إثباته بعض الجهنمية و غيرهم لكن زعموا أن ما عنده مخارق و حيل قالوا لأنها لو كانت أمورا صحيحة لكان ذلك إلباسا الكاذب بالصادق و حينئذ لا يكون الفرق بين النبي و المتنبي و هذا هذيان لا يلتفت إليه و لا يعرج عليه فإن هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة و ليس كذلك فإنه إنما ادعى الإلهية و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ إن الله ليس بأعور ] تنبيها للعقول على فقره و حدثه و نقصه و إن كان عظيما في خلقه ثم قال : [ مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن و مؤمنة كاتب أو غير كاتب ] و هذا الأمر مشاهد للحس يشهد بكذبه و كفره
و قد تأول بعض الناس : مكتوب بين عينيه كافر فقال : معنىذلك ما ثبت من سمات حدثه و شواهد عجزه و ظهور نقصه قال : و لو كان على ظاهره و حقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن و الكافر و هذا عدول و تحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك و ما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن و الكافر في قراءة ذلك لايلزم لأن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه ليغتر باعتقاده التجسيم حتى يوردهم بذلك نار الجحيم فالدجال فتنة و محنة من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم فيقول لهم : أنا ربكم فيقول المؤمنون : نعوذ بالله منك حسب ما تقدم لا سيما و ذلك الزمان قد انخرقت فيه عوائد فليكن هذا منها و قد نص على هذا بقوله : يقرؤه كل مؤمن كاتب و غير كاتب و قراءة غير الكاتب خارقة للعادة و أما الكافر فمصروف عن ذلك بغفلته و جهله و كما انصرف عن إدراك نقص عوره و شواهد عجزه كذلك يصرف عن قراءة سطور كفره و رمزه
و أما الفرق بين النبي و المتنبي فالمعجزة لا تظهر على يد المتنبي لأنه لزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب و هو محال
و قولهم : إن ما يأتي به الدجال حيل و مخاريق فقول معزول عن الحقائق لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من تلك الأمور حقائق و العقل لا يحيل شيئا منها فوجب إبقاؤها على حقائقها و سيأتي تفصيلها بعون الله تعالى
باب ما يمنع الدجال أن يدخله من البلاد إذ خرج البخاري و مسلم [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة و المدينة ] و ذكر الحديث
و في حديث فاطمة بنت قيس : [ فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة و طيبة هما محرمتان علي كلتهاهما ] الحديث و سيأتي
و ذكر أبو جعفر الطبري من حديث عبد الله بن عمرو إلا الكعبة و بيت المقدس زاد أبو جعفر الطحاوي : و مسجد الطور رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم
و في بعض الروايات : فلا يبقى له موضع إلا و يأخذه غير مكة و المدينة و بيت المقدس و جبل الطور فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع
باب منه و ما جاء أنه إذا خرج يزعم أنه الله و يحصر المؤمنين في بيت المقدس
أبو بكر بن أبي شيبة [ عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر الدجال قال : و إنه متى يخرج فإنه يزعم أنه الله فمن آمن به و اتبعه و صدقه فليس ينفعه صالح من عمل سلف و من كفر به و كذبه فليس يعاقب بشيء من عمل سلف و أنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحزم و بيت المقدس و أنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس ]
قال : فيهزمه الله و جنوده حتى إذا جدر الحائط و أصل الشجرة ينادي : يا مؤمن هذا كافر يستتر بي فقال : اقتله قال : و لن يكون قولك حتى تبدو أمور يتفاج شأنها في أنفسكم تتساءلون بينكم : هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا و حتى تزول جبال من مراتبها على أثر ذلك القبض
باب منه و في عظم خلق الدجال و عظم فتنته و سبب خروجه و صفة حماره و سعة خطوه و في حصره المسلمين في جبال الدخان و كم ينكث في الأرض وفي نزول عيسى عليه السلام وقت السحر لقتل الدجال و من اتبعه
مسلم [ عن عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال ] و في رواية : [ امرؤ بدل خلق ]
و في حديث تميم الداري قال : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا أعظم إنسان رأيناه قط خلقا و أشده وثاقا الحديث و سيأتي
وعن ابن عمر أنه لقى ابن صياد في بعض طرق المدينة فقال قولا أغضبه فانتفخ حتى ملأ السكة فدخل ابن عمر على حفصة و قد بلغها فقالت : يرحمك الله ما أردت من ابن صياد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما يخرج من غضبة يغضبها ] و سيأتي من أخبار ابن صياد ما يدل عليه أنه هو الدجال إن شاء الله تعالى و ذكر قاسم بن أصبغ
وخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال : [ حدثنا محمد بن سابق حدثنا إبراهيم بن طهيمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في خفقة من الدين و إدبار من العلم أي قلة من أهله و له أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة و اليوم منها كالشهر و اليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه و له حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا فيقول للناس : أنا ربكم و هو أعور و إن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه : كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب و غير كاتب يرد كل ماء و منهل إلا المدينة و مكة حرمهما الله تعالى عليه و قامت الملائكة بأوابهما و معه جبال من خبز و الناس في جهد إلامن اتبعه و معه نهران أنا أعلم بهما منه نهر يقول له : الجنة و نهر يقول له : النار فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهي النار و من أدخل الذي يسميه النار فهي الجنة قال : و تيعث معه شياطين تكلم الناس و معه فتنة عظيمة بأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس و يقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس فيقول للناس : أيها الناس هل يفعل مثل هذا إلا الرب فيفر الناس إلى جبل الدخان و هو بالشام فيأتيهم فيحاصرهم فيشتد حصارهم و يجهدهم جهدا شديدا ثم ينزل عيسى عليه السلام فيأتي في السحر فيقول : يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون : هذا رجل فينطلقون فإذا هم بعيسى بن مريم عليهما السلام فيقام للصلاة فيقال له : تقدم يا روح الله فيقول : ليتفضل إمامكم فليصل بكم فإذا صلوا صلاة الصبح خرجوا إليه فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيقتله حتى إن الشجر و الحجر ينادي : يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله ]
قوله : ينماث كما ينماث الملح في الماء أي يذهب و ينحل و يتلاشى
و في بعض الروايات : و ذكر أن حماره حين يخطو من خطوة إلى خطوة ميل و لا يبقى له سهل و لا وغز إلا يطؤه و لا يبقى موضع إلا يأخذه غير مكة و المدينة حسبما تقدم ويأتي الكلام أبو حنيفة في حكم أيامه
و ذكر عبد الرزاق قال : [ أخبرنا معمر عن ابن خيثم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة و الجمعة كاليوم و اليوم كالساعة والساعة كاضطرام السعفة في النار ] و الصحيح أنه يمكث أربعين يوما كما في حديث جابر و كذلك في صحيح مسلم على ما يأتي في الكتاب بعد هذا
باب منه آخر في خروج الدجال و ما يجيء به من الفتن و الشبهات و سرعة سيره في الأرض و كم يلبث فيها و في نزول عيسى عليه السلام و نعته كم يكون في الأرض يومئذ من الصلحاء و في قتله الدجال و اليهود و خروج يأجوج و مأجوج و موتهم و في حج عيسى و تزويجه و مكثه في الأرض و أين يدفن إذامات صلى الله عليه و سلم
و قد تقدم من حديث حذيفة رضي الله عنه أن له جنة و نارا فجنته نار و ناره جنة
أبو داود [ عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه و هو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات ]
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال فيتوجه قبل رجال من المؤمنين فتلقاه المسالح مسالح الدجال فيقولون له : أين تعمد فيقول : أعمد إلى هذا الرجل الذي خرج فيقولون له : أو ما تؤمن بربنا فيقول ما بربنا حقا فيقولون : اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس ربكم قد نهاكم أن تقتلوا أحدا دونه ؟ قال : فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال : يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فيأمر به الدجال فيشج فيقول : خذوه و شجوه فيوجع ظهره و بطنه ضربا قال : فيقول : أما تؤمن بي ؟ فيقول : أنت المسيح الكذب فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال : ثم يمشي بين القطعتين ثم يقول قم فيستوي قائما فيقول له : أتؤمن بي ؟ فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة ثم يقول : يا أيها الناس إنه يفعل بعدي بأحد من الناس قال : فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال : فيأخذ بيديه و رجليه فيقذف به فيحسب الناس أنه إنما قذف به في النار و إنما ألقي به في الجنة ]
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين ]
قال أبو إسحاق السبيعي يقال : إن هذا الرجل هو الخضر و في رواية : قال [ يأتي و هو محرم عليه أن يدخل المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثه فيقول الدجال : أرأيتم إن قتلت هذا أتشكون في الأمر ؟ فيقولون : لا قال : فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه : و الله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال : فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلطه الله عليه ] خرجه البخاري
[ و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من بلد إلاسيطؤه الدجال إلا مكة و المدينة و ليس نقب من أنقابها إلا عليها الملائكة صافين يحرسونها فينزل بالسبخة فترجف ثلاث رجفات يخرج إليه كل كافر و منافق ] و في رواية : كل منافق و منافقة خرجه البخاري
[ و عن النواس بن سمعان الكلابي قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدجال ذات غداة فخفض فيه و رفع حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : ما غير الدجال أخوفني عليكم أن يخرج و أنا منكم فأنا حجيجه دونكم و إن يخرج و لست فيكم فامرؤ حجيج نفسه و الله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عيناه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فلقرأ عليه سورة الكهف إنه خارج حلة بين الشام و العراق فعاث يمينا و شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا : يا رسول الله و ما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوما يوم كسنة و يوم كشهر و يوم كجمعة و سائر أيامه كأيامكم فقلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا اقدروا له قدره قلنا : يا رسول الله و ما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به و يستجيبون له قال : فيأمر السماء فتمطر و الأرض فتنبت و تروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا و أسبغة ضروعا و أمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم و يمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ستهلل و جهه يضحك فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فنزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر و إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل بكافر يجد نفسه إلا مات و نفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى عليه السلام قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم و يحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور و يبعث الله يأجوج و مأجوج { و هم من كل حدب ينسلون } فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها و يمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء و يحضر نبي الله عيسى و أصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى و أصحابه فيرسل الله النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى و أصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم و نتنهم فيرغب عيسى و أصحابه فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكون منه بيت مدر و لا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة و يستظلون بقحفها و يبارك الله في الرسل أي اللبن حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس و اللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس و اللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبا فتأخذ بهم تحت آباطهم فيقبض روح كل مؤمن و كل مسلم و يبقى شرار الناس يتهارجون فيها كتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة زاد في أخرى بعد قوله مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر و هو جبل بيت المقدس فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما ] أخرجه الترمذي في جامعه و ذكر رمى يأجوج و مأجوج بنشابهم متصلة بالحديث فقال : ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون : لقد قتلنا من الأرض فهلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمرا دما و يحاصر عيسى بن مريم الحديث و قال بدل قوله : فيطرحهم حيث شاء الله قال : فتحملهم فتطرحهم بالنهبل قال : و يستوقد المسلمون من قسيهم و نشابهم سبع سنين قال : ويرسل الله عليهم مطرا الحديث إلى آخره في غير الترمذي فيطرحهم في المهيل و المهيل البحر الذي عند مطلع الشمس
و خرجه ابن ماجه في سننه أيضا كما خرجه مسلم و لم يذكر الزيادة التي ذكرها مسلم متصلة و لا الترمذي متصلة من حديث النواس بن سمعان و إنما ذكرها من حديث أبي سعيد الخدري و سيأتي و ذكر ما ذكره الترمذي فقال [ حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا يحيى بن حمزة قال : حدثنا ابن جابر عن يحيى بن جابر الطائي قال : حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يستوقد المسلمون من قسي يأجوج و مأجوج و نشابهم و أترستهم سبع سنين ]
قال : [ و حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا عبد الرحمن المجاربي عن إسماعيل بن رافع أبي رافع عن ابي عمر الشيباني زرعة عن أبي أمامة الباهلي قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال و حذرناه و كان من قوله أن قال : إنه لم يكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله تعالى آدم صلى الله عليه و سلم أعظم من فتنة الدجال و إن الله عز و جل لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال و أنا آخر الأنبياء و أنتم آخر الأمم و هو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج و أنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم و إن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه و الله خليفتي على كل مسلم و إنه يخرج من حلة بين الشام و العراق فيعبث يمينا و يعبث شمالا يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا فإن سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي إنه يبدو فيقول : أنا نبي الله و لا نبي بعدي ثم يثني فيقول : أنا ربكم و لا ترون ربكم حتى تموتوا و إنه أعور و إن ربكم ليس بأعور و أنه مكتوب بين عينيه : كافر يقرؤه كل مؤمن من كاتب و غير كاتب و إن من فتنته أن معه جنة و نارا فمن ابتلي بناره فليستعذ بالله و ليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا و سلاما كما كانت النار على إبراهيم و إن فتنته أن يقول لأعرابي : أرأيت إن أحييت لك أباك و أمك أتشهد أني ربك فيقول : نعم فيمثل له شيطانان في صورة أبيه و أمه فيقولان : يا بني اتبعه فإنه ربك و أن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها فينشرها بالمنشار حتى يلقى نصفين ثم يقول : انظروا إلى عبدي فإني أبعثه الآن ثم يزعم أنه له ربا غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث : من ربك ؟ فيقول : رب الله و أنت عدو الله أنت الدجال و الله ما كنت بعد أسد بصيرة بك مني اليوم ]
قال أبو الحسن الطنافسي : [ فحدثنا المحاربي قال : حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة ] قال : قال أبو سعيد ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله
قال المحاربي : ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : و إن من فتننته أن يأمر السماء أن تمطر و يأمر الأرض أن تنبت فتنبت و إن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقوه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر و يأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من بيوتهم ذلك أسمن ما كانت و أعظمه و أمده خواصر و أدره ضروعا و أنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه و ظهر عليه إلا مكة و المدينة فإنه لا يأتي من نقب من أنقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف المصلتة حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا بقى منافق و لا منافقة إلا خرج إليه فينفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد و يدعى ذلك اليوم يوم الخلاص
فقالت أم شريك بنت أبي العسكر : يا رسول الله فأين العرب ؟ قال : [ هم قليل و جلهم ببيت المقدس و إمامهم رجل صالح قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه السلام فيرجع ذلك الإمام ينكص القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس فيضع عيسى عليه السلام يده على كتفه ثم يقول له : تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام افتحوا الباب فيفتح و وراءه الدجال و معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى و سلاح فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء و انطلق هاربا و يقول عيسى عليه السلام : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند الباب اللد الشرقي فيضربه فيقتله فيهزم الله اليهود و لا يبقى شيء مما خلقه الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء و لا حجر و لا شجر و لا حائط و لا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال فاقتله ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و إن من أيامه أربعون سنة السنة كنصف سنة و السنة كالشهر و الشهر كالجمعة و آخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي ]
فقيل : يا رسول الله : كيف نصلي في تلك الأيام القصار ؟ قال : [ تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال ثم صلوا ]
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فيكون عيسى عليه السلام في أمتي حكما و عدلا و غماما مقسطا يدف الصلب و يذبح الخنزير و يضع الجزية و يترك الصدقة فلا يسعى على شاة و لا بعير و ترفع الشحناء و التباغض و ترفع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره و تغز الوليدة الأسد فلا يضرها و يكون الذئب في الغنم كأنه كلبها و تملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء و تكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله و تضع الحرب أوزارها و تسلب قريش ملكها و تكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم عليه السلام حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم و يجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم و يكون الثور بكذا و كذا من المال و تكون الفرس بالدريهمات ]
قيل يا رسول الله و ما يرخص الفرس ؟ قال : [ لا يركب الحرب أبدا فقيل له : يا رسول الله و ما يغلي الثور ؟ قال : تحرث الأرض كلها و إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب بها الناس جوع شديد يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها و يأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها ثم يأمر الله السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها و يأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تمطر قطرة و يأمر الأرض فتحبس نباتها فلا تنبت خضرا و لا يبقى ذات ظلف و لا ذات ضرس إلا هلكت إلا ما شاء الله فقيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال : التهليل و التكبير و التسبيح و التحميد و يجزي ذلك عنهم مجزى الطعام ]
قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول : سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يرفع هذا الحديث للمؤدب حتى يعلمه للصبيان في المكتب
و في حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية قالوا : يا رسول الله ذكرت الدجال فو الله إن أحدنا ليعجن عجينة فما يخبز حتى يخشى أن يفتن و أنت تقول : الأطعمة تزوي إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يكفي المؤمن يومئذ ما يكفي الملائكة فقالوا فإن الملائكة لا تأكل و لا تشرب و لكنها تقدس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم طعام المؤمنين يومئذ بالتسبيح ]
و ذكر عبد الرزاق [ عن معمر عن قتادة عن شهر حديث حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت : قال يا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي فذكر الدجال فقال : إن بين يديه ثلاث سنين : سنة تمسك السماء ثلث مطرها و الأرض ثلث نباتها و الثانية تمسك السماء ثلثي قطرها و الأرض ثلثي نباتها و الثالثة تمسك السماء قطرها كله و الأرض نباتها كله فلا يبقى ذات ظلف و لا ذات ضرس من البهائم إلا هلكت و إن من أشد فتنته أنه يأتي لأعرابي فيقول : أرأيت إن أحييت لك أباك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى فيمثل الشيطان له نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا و أعظمه سمنة قال : و يأتي الرجل مات أخوه و مات أبوه فيقول : أرأيت إن أحييت لك أخاك و أحييت لك أباك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى فيتمثل الشيطان نحو أبيه و أخيه قالت : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لحاجته ثم رجع و القوم في اهتمام و غم مما حدثهم به قالت فأخذت بجنبتي الباب فقال : مهيم يا أسماء قلت : يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال : إن يخرج و أنا حي فأنا حجيجه و إلا فإن ربي خليفة على كل مؤمن قالت أسماء : فقلت يا رسول الله و إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ ؟ قال يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح و التقديس ]
و خرج مسلم و ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب و ليقتلن الخنزير و ليضعن الجزية و ليتركن القلاص فلا يسعى عليها و ليذهبن الشحناء و التباغض و التحاسد و ليدعون الناس إلى المال فلا يقبله أحد ]
[ و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم و إمامكم منكم ] و في رواية [ فأمكم منكم قال ابن أبي ذئب : تدري ما إمامكم منكم ؟ قلت تخبرني : قال : فأمكم بكتاب ربكم عز و جل و سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم قال و الذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بنفج من الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما ]
و جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليدركن المسيح بن مريم رجالا من أمتي مثلكم أو خيرا منك ] يقول ذلك ثلاث مرات ذكره ابن برجان في كتاب الارشاد له
و روي [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ينزل عيسى بن مريم على ثمانمائة رجل و أربعمائة امرأة خيار من على الأرض يومئذ و كصلحاء من مضى ]
[ وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ينزل عيسى بن مريم فيتزوج و يولد له ولد و يمكث خمسا و أربعين سنة و يدفن معي في قبري فأقوم أنا و عيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر ] ذكره الميانشي أبو حفص و يقال : [ إنه يتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال و تلد له بنتا فتموت ثم يموت هو بعد ما يعيش سنتين ] ذكره أبو الليث السمرقندي و خالفه كعب في هذا و أنه يولد له و لدان و سيأتي
و في حديث [ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يمكث عيسى في الأرض بعد ما ينزل أربعين سنة ثم يموت و يصلي عليه المسلمون و يدفنونه ] ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة و بهذا السند [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى و دينهم واحد و أنا أولى بالناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني و بينه نبي فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة و البياض بين ممصرتين كأن رأسه يقطر و لم يصبه بلل و أنه يقتل الخنزير و يكسر الصليب و يفيض المال حتى يهلك في زمانه الملك كلها غير الإسلام و حتى يهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الأعور الكذاب و تقع الأمنة في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل و النمر مع البقر و الذئب مع الغنم و يلعب الصبيان بالحيات فلا يضر بعضهم بعضا يبقى في الأرض أربعين سنة ثم يموت و يصلي عليه المسلمون و يدفنونه ] و في بعض الروايات : [ أنه يمكث أربعا و عشرين سنة ]
و في حديث [ عبد الله بن عمر : ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عدواة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ] الحديث خرجه مسلم و قد تقدم بكماله و هذا يدل على أنه يمكث في الأرض سبع سنين و الله أعلم
و قال كعب الأحبار : إن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض أربعين سنة و يكثر الخير على يديه و تنزل البركات في الأرزاق حتى إن العنبة ليأكل منها الرجل حاجته و يفضل و القطف من العنب يأكل منه الجمع الغفير و الخلق الكثير حتى إن الرمانة لتثقل الجمل و حتى إن الحي لعبر بالميت فيقول : قم فانظر ما أنزله الله من البركة و أن عيسى عليه السلام يتزوج بامرأة من آل فلان و يرزق منها و لدين فيسمى أحدهما محمد و الآخر موسى و يكون الناس معه على خير و في خير زمان و ذلك أربعين سنة ثم يقبض الله روح عيسى و يذوق الموت و يدفن إلى جانب النبي صلى الله عليه و سلم في الحجرة و يموت خيار الأمة و يبقى شرارها في قلة من المؤمنين فذلك قوله عليه السلام : [ بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ ] و قيل : إنه يدفن بالأرض المقدسة مدفن الأنبياء
فصل :
ذهب قوم إلى أن بنزول عيسى عليه السلام يرتفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى و ينهاهم و هذا أمر مردود بالأخبار التي ذكرناه من حديث أبي هريرة و بقوله تعالى : { و خاتم النبيين } و قوله عليه الصلاة و السلام : [ لانبي بعدي ] و قوله [ و أنا العاقب ] يريد آخر الأنبياء و خاتمهم و إذا كان ذلك فلا يجوز أن يتوهم أن عيسى ينزل نبيا بشريعة متجددة وغير شريعة محمد نبينا صلى الله عليه و سلم بل إذا نزل فإنه يكون يومئذ من أتباع محمد صلى الله عليه و سلم كما أخبر صلى الله عليه و سلم حيث قال لعمر : [ لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ]
[ و قد روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق إلى يوم القيامة قال : فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم : تعالى صل بنا فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمراء لكرامة الله لهذه الأمة ] خرجه مسلم في صحيحه و غيره فعيسى عليه السلام إنما ينزل مقررا لهذه الشريعة و مجددا لها إذ هي آخر الشرائع و محمد صلى الله عليه و سلم آخر الرسل فينزل حكما مقسطا و إذا صار حكما فإنه سلطان يومئذ للمسلمين و لاإمام و لاقاضي و لامفتي قد قبض الله تعالى و خلا الناس منه فينزل و قد علم بأمر الله تعالى له في السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم به بين الناس و العمل به في نفسه فيجتمع المؤمنون عند ذلك إليه و يحكمونه على أنفسهم إذ لا أحد يصلح لذلك غيره و لأن تعطيل الحكم غير جائز و أيضا فإن بقاء الدنيا إنما يكون بمقتضى التكليف إلى أن لا يقال في الأرض الله الله على ما يأتي و هذا واضح
فصل
فإن قيل : فما الحكمة في نزوله في ذلك الوقت دون غيره ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : يحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همت بقتله و صلبه و جرى أمرهم معه على ما بينه الله تعالى في كتابه و هم أبدا يدعون أنهم قتلوه و ينسبونه في السحر و غيره إلى ما كان الله يراه و نزهه منه و لقد ضرب الله عليهم الذلة فلم تقم لهم منذ أعز الله الإسلام و أظهره راية و لا كان لهم في بقعة من بقاع الأرض سلطان و لا قوة و لا شوكة و لا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة فيظهر الدجال و هو أسحر السحرة و يبايعه اليهود فيكون يومئذ جندة مقدرين أنهم ينتقمون به من المسلمين فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزل الله تعالى الذي عندهم أنهم قد قتلوه و أبرزه لهم و لغيرهم من المنافقين و المخالفين حيا و نصره على رئيسهم و كبيرهم المدعي الربوبية فقتله و هزم جنده من اليهود بمن معه من المؤمنين فلا يجدون يومئذ مهربا و إن توارى أحد منهم بشجر أو حجر أو جدار ناداه : يا روح الله ها هنا يهودي حتى يوقف عليه فإما أن يسلم و إما أن يقتل و كذا كل كافر من كل صنف حتى لا يبقى على وجه الأرض كافر
و الوجه الثاني : و هو أنه يحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنو أجله لا لقتال الدجال لأنه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه و يسمع به من نأى عنه ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره و يصلون عليه و يدفن حيث دفن الأنبياء الذين أمه مريم من نسلهم و هي الأرض المقدسة فينشر إذا نشر معهم فهذا سبب إنزاله غير أنه يتفق في تلك الأيام من بلوغ الدجال باب لد هذا ما وردت به الأخبار فإذا اتفق ذلك و كان الدجال قد بلغ من فتنته أنه ادعى الربوبية و لم ينتصب لقتاله أحد من المؤمنين لقلتهم كان هو أحق بالتوجه إليه و يجري قتله على يديه إذ كان ممن اصطفاه الله لرسالته و أنزل عليه كتابه و جعله و أمه آية فعلى هذا الوجه يكون الأمر بإنزاله لا أنه ينزل لقتال الدجال قصدا
و الوجه الثالث : أنه وجد في الإنجيل فضل أمة محمد صلى الله عليه و سلم حسب ما قال و قوله الحق { ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل } فدعا الله عز و جل أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فاستجاب الله تعالى دعاءه و رفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجددا لما درس من دين الإسلام دين محمد عليه الصلاة و السلام فوافق خروج الدجال فقتله
و لا يبد على هذا أن يقال : إن قتاله للدجال يجوز أن يكون من حيث إنه إذا حصل بين ظهراني الناس و هم مفتونون قد عم فرض الجهاد أعيانهم و هو أحدهم لزمه من هذا الفرض ما يلزم غيره فذلك يقوم به و ذلك داخل في اتباع نبينا محمد صلى الله عليه و سلم و بالله التوفيق
و اختلف حيث يدفن فقيل : بالأرض المقدسة ذكره الحليمي و قيل : يدفن مع النبي صلى الله عليه و سلم على ما ذكرناه في الأخبار
فصل في الاختلاف في لفظة المسيح حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل و اختلف في لفظة المسيح على ثلاثة و عشرين قولا ذكرها الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه مجمع البحرين و قال : لم أر من جمعها قبلي ممن رحل و جال و لقى الرجال
القول الأول : و هو مسيح بسكون السين و كسر الياء على وزن مفعل فأسكنت الياء و نقلت حركتها إلى السين لاستثقالهم الكسرة على الياء
القول الثاني : قال ابن عباس : كان لا يمسح ذا عامة إلا برىء و لا ميتا إلا حيى فهو هنا من أبنية أسماء الفاعلين مسيح بمعنى ماسح
القول الثالث : قال إبراهيم النخعي المسيح : الصديق و قاله الأصمعي و ابن الأعرابي
القول الرابع : قال أبو عبيد : أظن هذه الكلمة [ هاما شيحا ] بالشين المعجمة فعربت إلى [ مسيا ] و كذلك تنطق به اليهود
القول الخامس : قال ابن عباس أيضا في رواية عطاء عنه : سمي مسيحا لأنه كان أمسح الرجل ليس لرجله أخمص و الأخمص ما لا يمس الأرض من باطن الرجل فإذا لم يكن للقدم أخمص قيل فيه قدم رحاء و رجل رحاء و رجل أرح و امرأة رحاء
القول السادس : قيل مسيحا لأنه خرج من بطن أمه كأنه ممسوح بالدهن
القول السابع : قيل سمي مسيحا لأنه مسح عند ولادته بالدهن
القول الثامن : قال الإمام أبو إسحاق الجواني في غريبه الكبير : هو اسم خصه الله تعالى به أو لمسح زكريا
القول التاسع : قيل : سمي بذلك لحسن وجهه إذ المسيح في اللغة الجميل الوجه يقال على وجهه مسعة من جمال و حسن و منه ما يروى في الحديث الغريب الضعيف : يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن كأن على وجهه مسحة ملك
القول العاشر : المسيح في اللغة : قطع الفضة و كذلك المسيحة : القطعة من الفضة و كذلك كان المسيح بن مريم أبيض مشرب حمرة من الرجال عريض الصدر جعدا و الجعد ها هنا اجتماع الخلق و شدة الأسر
القول الحادي عشر : المسيح في اللغة : عرق الخيل : و أنشد اللغويون :
إذا الجياد فضن بالمسيح
يعني العرق
ثبت في صحيح مسلم [ من حديث أبي كعب : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قد غشيتني ضرب في صدري ففصدت عرقا و كأني أنظر إلى الله عز و جل فرقا ] ذكره الخطابي في شرحه بالصاد و الضاد و أنشد العجاج :
إذا الجياد فضن بالمسيح
يعني العرق
القول الثاني عشر : المسيح : الجماع يقال مسحها إذا جامعها قاله المجمل لابن فارس
القول الثالث عشر : المسيح : السيف قاله أبو عمرو المطرز
القول الرابع عشر : المسيح : المكاري
القول الخامس عشر : المسيح : الذي يمسح الأرض أي يقطعها قاله الثقة اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى بن ثعلب و لذلك سمي عيسى مسيحا كان تارة بالشام و تارة بمصر و تارة على سواحل البحر و في المهامة و القفار و المسيح الدجال كذلك سميا بذلك لجولانهما في الأرض
القول السادس عشر : ذكره بسنده إلى أبي الحسن القابسي و قد سأله الحافظ النقري أبو عمرو الداني : كيف يقرأ المسيح الدجال ؟ فقال : بفتح الميم و تخفيف السين مثل المسيح بن مريم لأن عيسى عليه السلام مسح بالبركة و هذا مسحت عينه
قال أبو الحسن : و من الناس من يقرؤه بكسر الميم و تثقيل السين فيعرف بذلك و هو وجه و أما أنا فلا أقرؤه إلا كما أخبرتك قال ابن دحية : و حكى الأزهري أنه يقال : مسيح بالتشديد على وزن فعيل قال : فرقا بينه و بين عيسى عليه السلام ثم أسند عن شيخه أبا القاسم بن بشكوال عن أبي عمران بن عبد الرحمن قال : سمعت الحافظ أبا عمر بن عبد البر يقول : و منهم من قال ذلك بالخاء عني المعجمة و ذلك كله عند أهل العلم خطأ لا فرق بينهما و كذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نطق به و نقله الصحابة المبلغون عنه
و أنشد في ذلك أهل اللغة قول عبد الله بن قيس الرقيات :
( و قالوا : دع رقية و اجتنبها ... فقلت لهم : إذا خرج المسيح )
يريد إذا خرج الدجال هكذا فسره و لذلك ذكرناه
قال الراجز :
( إذا المسيح قتل المسيحا )
يعني عيسى بن مريم عليه السلام يقتل الدجال بنبزك قرأته في المجلد الأول من شرح ألفاظ الغريب من الصحيح لمحمد بن إسماعيل تأليف القاضي الإمام المفتى أبي الأصبغ بن سهل
القول السابع عشر : قيل سمي الدجال مسيحا لأن المسيح الذي لا عين له و لا حاجب قال ابن فارس : و المسيح أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له و لا حاجب و لذلك سمي الدجال مسيحا ثم أسند عن حذيفة مستدلا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة خرجه مسلم
القول الثامن عشر : : المسيح الكذاب : و هذا يختص به الدجال لأنه يكذب فيقول : أنا الله فهذا كذب البشر و لذلك خصه الله بالشوه و العار
القول التاسع عشر : المسيح : المارد و الخبيث و هو التمسيح أيضا عن ابن فارس و يقال هو الكذاب و كذلك التمساح بألف
القول العشرون : قيل : الدجال : المسيح لسياحته وهو فعيل بمعنى فاعل و الفرق بين هذا و بين ما تقدم في الخامس عشر أن ذلك يختص بقطع الأرض و هذا بقطع جميع البلاد في أربعين ليلة أو مكة و المدينة
القول الحادي و العشرون : المسيح : الدرهم الأطلس بلا نقش قاله ابن فارس و ذلك مطابق لصفة الأعور الدجال إذ أحد شقي وجهه ممسوح و هو أشوه الرجال
القول الثاني و العشرون : قال الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من تأليفه : سمي ابن مريم مسيحا لأن الله مسح الذنوب عنه
القول الثالث و العشرون : قال الحافظ أبو نعيم في الكتاب المذكور : و قيل : سمي ابن مريم مسيحا لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة و هو قوله تعالى { وجعلني مباركا أين ما كنت }
فصل في بيان ما وقع في الحديث من الغريب
قوله : فيشج أي يمد و الميشار مفعال من أيشرت و وشرت أشرا و وشرا و يقال منشار بالنون أيضا و الوجهين في الحديث و هو مفعال أيضا من نشرت
و قوله : فخفض و رفع بتخفيف الفاء أي أكثر من الكلام فيه فتارة يرفع صوته ليسمع من بعد و تارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان و هذه حالة الكثر في الكلام و روي بتشديد الفاء على التضعيف و التكثير
و قوله : إنه خارج محلة يروي بالخاء المعجمة و بالحاء المهملة المهملة قاله الهروي و الخلة موضع حزن و ضجور و الحلة ما بين البلدين
و قال الحافظ ابن دحية : و رواه هامان و الحميدي حله بفتح الحاء المهملة و ضم اللام و كأنه يريد حلوله قال : و قرأت في أصل القطيعي من مسند الإمام أحمد بن حنبل و أنه يخرج حيله و لا أعلم روى ذلك أحد غيره و قد سقطت هذه اللفظة لأكثر رواة مسلم و بقي الكلام أنه خارج بين الشام و العراق
و جاء في حديث الترمذي أنه يخرج بخراسان و في الرواية الآخرى : من ناحية أصبهان من قرية تسمى اليهودية و في حديث ابن ماجه و مسلم بين الشام و العراق و وجه أم مبدأ خروجه من خراسان من ناحية أصبهان ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق و الشام و الله أعلم
و عاث بالعين المهملة و الثاء المثلثة و التنوين على أنه اسم فاعل و روى بفتح الثاء على أنه فعل ماض و وقع في حديث أبي أمامة على الفعل المستقبل و الكل بمعنى الفساد عادت يعيث عيثا فهو عاث عثى يعثي عثلا يعثو لغتان و في التنزيل : { و لا تعثوا في الأرض مفسدين }
و قوله : يا عباد الله فاثبتوا يعني على الإسلام يحذرهم من فتنته لأنه يأمر السماء فتمطر و الأرض فتنبت
و قوله : فاقدروا له قدره قال القاضي عياض : هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع و لو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عن الأوقات المعروفة في غيره من الأيام
قلت : و كذلك الأيام القصار الحكم فيها أيضا ما حكمه صاحبه الشرع و قد حمل بعض العلماء أن هذه الأيام الطوال ليست على ظاهرها و إنما هي محمولة على المعنى أي يهجم عليكم غم عظيم لشدة البلاء و أيام البلاء طوال ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني ثم يتناقص في اليوم الثالث ثم يعتاد البلاء كما يقول الرجل : اليوم عندي سنة و منه قولهم :
( و ليل المحب بلا آخر )
و قال آخر :
( و أيام لنا غير طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا )
و هذا القول يرده قولهم : أتكفنا فيه صلاة يوم و ليلة قال : لا اقدروا له قدره و المعنى قدروا الأوقات للصلوات و كذلك لا التفات لطعنه في صحة هذه الألفاظ أعني قوله : أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا اقدروا له قدره فقال : هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا و لو كان صحيحا لاشتهر على ألسنة الرواة كحديث الدجال و لو كان لقوي اشتهاره و لكان أعظم و أفظع من طلوع الشمس من مغربها و الجواب : أن هذه الألفاظ صحيحة حسب ما ذكره مسلم و حسبك به إماما و قد ذكرها الترمذي من حديث النواس أيضا و قال : حديث حسن صحيح و خرجها أبو داود أيضا و ابن ماجه من حديث أبي أمامة و قاسم بن أصبغ من حديث جابر و هؤلاء أئمة أجلة من أئمة أهل الحديث و تطرق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم و التحرز و الثقة بعيد لا يلتفت إليه لأنه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد ثم إن ذلك في زمن خرق العادات و هذا منها
و قوله : ممحلين أي مجدبين و يروى : أزلين و المحل و الأزل و القحط و الجدب بمعنى واحد و يعاسيب النحل فحولهما و أحدهما يعسوب و قيل : امراؤها و وجه التشبيه أن يعاسب النحل يتبع كل واحد منهم طائفة من النحل فتراها جماعات في تفرقة فالكنوز تتبع الدجال كذلك
و قوله : بين مهروتين أي بين شقي ثوب و الشقة نصف الملاءة أو في حلتين مأخوذ من الهرد بفتح الهاء و سكون الراء و هو الشق و القطع
قال ابن دريد : إنما سمي الشق هردا للإفساد لا للإصلاح و قال يعقوب : هرد القصار الثوب و هردته بالتاء و المثناة باثنتين من فوق إذا أحرقه و خرقه
و قال أكثرهم : في ثوبين مصبوغين بالصفرة و كأنه الذي صبغ بالهرديء و وقع في بعض الروايات بدل مهرودتين ممصرتين كذلك ذكره أبو داود الطيالسي من حديث أبي هريرة و الممصرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة و الجمان ما استدار من اللؤلؤ و الدر شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر و هو تشبيه واقع و ليست بالمشبعة
و قال ابن الأنباري : مهرودتان بدال مهملة و ذال معجمة معا أي ممصرتين كما جاء في الحديث الآخر و قال غيره : الهرود الذي يصبغ بالعروق التي يقال لها الهرد بضم الهاء و قال الهروي : هرد ثوبه بالهرد و هو صبغ يقال له العروق و قال القتبي : إن كان المحفوظ بالدال فهو مأخوذ من الهرد و الهرد و الهرت : الشق و معناه بين شقين و الشقة نصف الملاءة و قال : و هذا عندي خطأ من النقلة و أراد مهرودتين أي صفراوين يقال : هرت العمامة ألبستها صفرا و كان الثلاثي منه هروت فخالف الجماعة من أهل اللغة فيما قالوه و قد خطأه ابن الأنباري و قال : إنما يقول العرب هريت الثوب لا هروت و لو كان من ذلك لقيل مهراة لا مهروة و اللغة نقل و رواية لا قياس و العرب إنما تجوز ذلك في العمامة خاصة لا في الشقة و لا يجوز قياس الشقة على العمامة و أما رواية الذال المعجمة فهو إبدال من الدال المهملة فإن الذال و الدال قد يتعاقبان فيقال رجل مدل بالدال المهملة و مذل بالذال المعجمة إذا كان قيل اللحم خفي الشخص
و الجمان : ما استدار من اللؤلؤ و الدر شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر و هو تشبيه حسن
و قوله : فحرز عبادي إلى الطور أي ارتحل بهم إلى جبل بحرزون فيه أنفسهم و الطور : الجبل بالسريانية
قال الحافظ بن دحية : قيدناه في صحيح مسلم جوز بالجيم و الواو و الزاي كذا قيدناه في جامع الترمذي و قيدناه أيضا حدر بدال مهملة فأما حرز فهو الذي رواه أكثرهم و صحح بعضهم رواية حدر و كلاهما صحيح لأن ما خير فقد أحرز و كذلك جوز بالجيم و أما حدر بدال مهملة فمعناه أنزلهم إلى جهة الطور من حدرت الشيء فانحدر إذا أرسلته في صبب و حدر
و النغف : جمع نغفة و هي الدود الذي يكون في أنوف الإبل و الغنم و فرسى أي هلكى و هو جمع فريس يعني مفروس مثل قتيل و قتلى و صريع و صرعى و أصله من فرس الذب الشاة و أفرسها أي قتلها كأن تلك النغف فرستهم
و يروى فيصحبون موتى و الزهم : النتن و البخت : إبل غلاظ الأعناق عظام الأجسام و الزلفة : المصففة الممتلئة و الجمع زلف
قال ابن دحية : قيدناه في صحيح مسلم بالفاء و القاف و هو المرآة كذا فسره ابن عباس و قاله اللغويان : أبو زيد الأنصاري و أبو العباس الشيباني
و اللقحة : الناقة الحلوب و الغيام : الجماعة من الناس و الفخذ : دون القبيلة و فوق البطن و الفاثور بالفاء : الخوان يتخذ من الرخام و نحوه قال الأغلب العجيلي
إذا نجلى فاثور عين الشمس يقال هم على فاتور واحد أي على مائدة واحدة منزلة واحدة و الفاثور أيضا : موضع قاله الجوهري و الله أعلم
باب ما جاء في أن حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل ـ هم أصحاب الكهف و في حجهم معه
[ حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا ابن أبي أويس قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال : غزونا مع النبي صلى الله عليه و سلم الحديث و قد تقدم و فيه : و لا تقدم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم عبد الله و رسوله حاجا أو معتمرا أو ليجمعن الله ذلك له ] قال كثير : فحدثت بهذا الحديث محمد بن كعب القرظي قال : ألا أرشدك في حديثك هذا ؟ قلت : بلى فقال : كان رجل يقرأ التوراة و الإنجيل فأسلم و حسن إسلامه فسمع هذا الحديث من نص بعض القوم فقال : ألا أبشركم في هذا الحديث ؟ فقالوا : بلى فقال : إني أشهد أنه لمكتوب في التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام و أنه مكتوب في الانجيل الذي أنزله الله على عيسى بن مريم عليه السلام عبد الله و رسوله و أنه يمر بالروحاء حاجا أو معمترا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف و الرقيم فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا و لم يموتوا
باب ما جاء أن عيسى إذا نزل يجد في أمة محمد صلى الله عليه و سلم خلقا من حواريه
ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول في الأصل الثالث و العشرين و المائة قال :
[ حدثنا الفضل بن محمد الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن الوليد الدمشقي قال : حدثني أبي قال : حدثنا عبد الملك بن عقبة الإفريقي عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن عبد الرحمن بن سمرة قال : بعثني خالد بن الوليد بشيرا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم مؤته فلما دخلت عليه قلت : يا رسول الله فقال : على رسلك يا عبد الرحمن أخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل زيد حتى قتل رحم الله زيدا ثم أخذ اللواء جعفر فقاتل جعفر حتى قتل رحم الله جعفرا ثم أخذ اللواء عبد الله ابن رواحة فقاتل حتى قتل رحم الله عبد الله بن رواحة ثم أخذ اللواء خالد ففتح الله لخالد فخالد سيف من سيوف الله فبكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم حوله فقال : ما يبكيكم ؟ قالوا : و ما لنا لا نبكي و قد قتل خيارنا و أشرافنا و أهل الفضل منا فقال : لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتنب رواكبها و هيأ مساكبها و حلق سعفها فأطعمت عاما فوجا ثم عاما فوجا فلعل آخرها عاما طعما يكون أجودها قنوانا و أطولها شمراخا و الذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلقا من حواريه ]
[ حدثنا علي بن سعيد بن مرزوق الكندي قال : حدثنا عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو السكسكي عن عبد الرحمن بن حسين عن جبير بن نفير الحضري قال : لما اشتد جزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على من أصيب مع زيد ابن حارثة يوم مؤته قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليدركن المسيح من هذه الأمة أقواما إنهم لمثلكم أو خير منكم ثلاث مرات و لن يخزى الله أمة أنا أولها و المسيح آخرها ] و الله أعلم
باب ما جاء أن الدجال لا يضر مسلما البزار [ عن حذيفة قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الدجال فقال : لفتنة من بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال ليس من فتنة صغيرة و لا كبيرة إلا تضع لفتنة الدجال فمن نجا من فتنة ما قبلها فقد نجا منها و الله لا يضر مسلما مكتوب بين عينيه : كافر ]
فصل
قلت : : إن قيل : كيف قال في هذا الحديث لا يضر مسلما و قد قتل الرجل الذي خرج إليه من المدينة و نشره بالمنشار و ذلك أعظم الضرر ؟ قلنا : ليس المراد ذلك و إنما المعنى أن المسلم المحقق لا يفتنه الدجال فيرده عن دينه لما يرى عليه من سيماء الحدث و من لم يكن بهذه الصفة فقد يفتنه و يتبعه لما يرى من الشبهات كما في الحديث المذكور في الباب قبل هذا و يحتمل أن يكون عموما يخصه ذلك الحديث و غيره و الله أعلم
باب ما ذكر من أن ابن صياد : الدجال و اسمه صاف و يكنى أبا يوسف و سبب خروجه و صفة أبويه و أنه على دين اليهود
البزار [ عن محمد بن المنكدر قال : رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد : الدجال فقلت له : أتحلف على ذلك ! قال : إني سمعت عمر يحلف بالله على ذلك عند النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم ] و أخرجه أبو داود في سننه
و عن نافع قال : كان ابن عمر يقول : و الله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد أخرجه أبو داود أيضا و إسناده صحيح
مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا حجاجا أو عمارا و معنا ابن صياد قال فنزلنا منزلا فتفرق الناس و بقيت أنا و هو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال : و جاء بمتاعه فوضعه على متاعي فقلت : إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل فرفعت لنا غنم فانطلق بعس فقال : اشرب أبا سعيد فقلت : إن الحر شديد و اللبن حار ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده أو قال : آخذه عن يده فقال : أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ما خفي عليكم مشعر الأنصار ألست من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ! أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هو كافر و أنا مسلم ] أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل المدينة و لا مكة فقد أقبلت من المدينة و أنا مكة ] ! و في رواية : و قد حججت قال أبو سعيد : حتى كدت أني أعذره ثم قال : أما و الله إني لأعرفه و أعرف مولده و أين هو الآن قال : قلت له : تبا لك سائر اليوم و في رواية : قال أبو سعيد و قيل له أيسرك أنك ذاك الرجل أي الدجال قال : فقال لو عرض علي ما كرهت
و عن ابن عمر قال : لقيت ابن صياد مرتين فقلت لبعضهم هل تحدثون أنه هو ؟ قال : لا و الله قال : قلت كذبتني و الله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالا و ولدا فكذلك هو زعموا اليوم قال : فتحدثنا ثم فارقته قال فلقيته لقية أخرى و قد نفرت عينه قال : فقلت متى فعلت عينك ما أرى ؟ قال : لا أدري قال : قلت : لا تدري و هي في رأسك قال : إن شاء الله خلقها في عصاك هذه قال : فنخر كأشد نخير حمار سمعت قال : فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت و أما أنا فو الله ما شعرت قال : و جاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها فقالت ما تريد إليه ألم تعلم أنه قد قال إن أول ما يبعثه على الناس غضبه يغضبه و عنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صيد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل و هو يحتل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يتقى بجذوع النخل فقالت لابن صياد : يا صاف و هم اسم ابن صياد هذا محمد فثار ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو تركته بين ]
و في رواية : [ ثم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني قد خبأت لك خبثا فقال ابن صياد : هو الدخ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر بن الخطاب : ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن يكنه فلن تسلط عليه و إن لم يكنه فلا خير في قتله ] أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : فقدنا ابن صياد يوم الحسرة
الترمذي [ عن أبي بكرة قال : قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : يمكث أبو الدجال و أمه ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد ثم يولد لهما ولد أعور أضر شيء و أقله منفعة تنام عينه و لا ينام قلبه ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أبويه فقال : أبوه طوال ضرب اللحم كأن أنفه منقار و أمه امرأة فرضاخية طويلة اليدين ] قال أبو بكر : فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة فذهبت أنا و الزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهما فقلنا : هل لكما ولد ؟ فقالا : مكثنا ثلاثين عاما لا يولد لنا ولد ثم لنا غلام أعور أضر شيء و أقله منفعة تنام عيناه و لا ينام قلبه قال : فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة و له همهمة فكشف عن رأسه فقال : ما قلتما ؟ قلنا : و هل سمعت ما قلنا ؟ قال : نعم تنام عيناي و لا ينام قلبي قال : حديث حسن غريب روى نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة
قلت : خرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه
و روي [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه و سلم الحديث بطوله و في آخره : فأخبرني عن الدجال أمن ولد آدم هو أم من ولد إبليس ؟ قال : هو من ولد آدم لا أنه من ولد إبليس و أنه على دينكم معشر اليهود ] و ذكر الحديث
و قيل : إنه لم يولد بعد و سيولد في آخر الزمان و الأول أصح لما ذكرنا و بالله توفيقنا
و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أن الدجال ابن صياد و الله أعلم
فصل في اختلاف الناس في ابن صياد قال أبو سليمان الخطابي : و قد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافا كثيرا و أشكل أمره حتى قيل فيه كل قول و قد يسأل عن هذا فيقال : كيف يقارن رسول الله صلى الله عليه و سلم من يدعى النبوة كاذبا و يتركه بالمدينة يساكنه في داره و يجاوره فيها و ما وجه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان و قوله بعد ذلك : اخسأ فلن تعدو قدرك
قال أبو سليمان و الذي عندي أن هذه القضية إنما جرت معه أيام مهادنة رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهود و حلفاءهم و ذلك أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه و بينهم كتابا و صالحهم فيه على أن لا يهاجروا و أن يتركوا على أمرهم و كان ابن صياد منهم أو دخيلا في جملتهم و كان يبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبره و ما يدعيه من الكهانة و يتعاطاه من الغيب فامتحنوه بذلك ليروا آية أمره فلما كلمه علم أنه معطل و أنه من جملة السحرة و الكهنة يأتيه ربيب من الجنة أو يتعاهده شيطان فيلقى على لسانه بعض ما يتكلم به فلما سمع منه قول الدخ زجره و قال : اخسأ و لن تعدو قدرك يريد أن ذلك شيء ألقاه إليه الشيطان و أجراه على لسانه و ليس ذلك من قبل الوحي إذ لم يكن له قدر الأنبياء الذين يوحى إليهم علم الغيب و لا درجة الأولياء الذين يلهمون العلم و يصيبون بنور قلوبهم الحق و إنما كانت له تارات يصيب في بعضها و يخطئ في بعض و ذلك معنى قوله : [ يأتي صادق و كاذب ] فقال له عند ذلك خلط عليك
و الحكمة في أمره أنه كان فتنة امتحن الله بها عباده المؤمنين ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة و قد امتحن الله قوم موسى في زمانه بالعجل فافتتن به قوم و هلكوا و نجا من هداه الله و عصمه منهم و قد اختلف الروايات في أمر ابن صياد في ما كان من شأنه بعد كبره فروي أنه تاب عن ذلك القول ثم إنه مات بالمدينة و أنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس و قيل لهم اشهدوا قال الشيخ : الصحيح خلاف هذا لحلف جابر و عمر أن ابن صياد الدجال و روي أن أبا ذر كان يقول هو الدجال و روي ذلك عن ابن عمر و قال ابن جابر فقدناه يوم الحرة هذا و ما كان مثله يخالف رواية من روى أنه مات بالمدينة و الله أعلم
و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أن الدجال ابن صياد عند كلامنا على خبر الجساسة إن شاء الله تعالى
باب في ما جاء في نقب يأجوج و مأجوج السد و خروجهم و صفتهم و في لباسهم و طعامهم و بيان قوله تعالى فإذا جاء وعد ربي جعله دكا
ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن يأجوج و مأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم و أراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فتستحفرونه غدا إن شاء فيرجعون إليه و هو كهيئته حين تركوه فيحفرونه و يخرجون على الناس فينشفون الماء و يتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون سهامهم إلى السماء فيرجع إليها الدم الذي أحفظ فيقولون : قهرنا أهل الأرض و علونا أهل السماء فيبعث الله نغفا في أقفائهم فيقتلون قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إن دواب الأرض تسمن و تشكر شكرا من كثرة ما تأكل من لحومهم ]
قال الجوهري : شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة و اشتكر الضرع امتلأ
قال كعب الأحبار : إن يأجوج و مأجوج ينقرون بمناقرهم السد حتى إذا كادوا أن يخرجوا قالوا : نرجع إليه غدا و قد عاد كما كان فإذا بلغ الأمر الأمر ألقى على بعض أن يقولوا نرجع إن شاء الله غدا فنفرغ منه قال : فيرجعون إليه و هو كما تركوه فيخرقونه و يخرجون فيأتي أولهم البحيرة فيشربون ما فيها من ماء و يأتي أوسطهم عليها فيلحسون ما كان فيها من طين و يأتي آخرهم فيقولون : قد كان ها هنا ماء ثم يرمون بنبالهم نحو السماء فيقولون : قد قهرنا من في الأرض و ظهرنا على من في السماء قال : فيصب الله عليهم دواب يقال له النغف فيأخذ في أقفائهم فيقتلهم النغف حتى تنتن الأرض من ريحهم ثم يبعث الله عليهم طيرا فتنقل أبدانهم إلى البحر فيرسل الله السماء أربعين فتنبت الأرض حتى إن الرمانة لتشبع السكن قيل لكعب : و ما السكن ؟ قال : أهل البيت قال : ثم يسمعون الصيحة
و خرج ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يفتح يأجوج و مأجوج فيخرجون كما قال الله تعالى : { و هم من كل حدب ينسلون } فيعمون الأرض و ينحاز منهم المسلمون حتى يصير بقية المسلمين في مدائنهم و حصونهم و يضمون إليهم مواشيهم حتى إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه حتى ما يذروا فيه شيئا فيمر آخرهم على أثرهم فيقول قائلهم : لقد كان بهذا المكان مرة ماء و يظهرون على الأرض فيقول قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم لننازلن أهل السماء حتى إن أحدهم ليهز حربته إلى السماء فترجع مخضبة بالدم فيقولون : قد قتلنا أهل السماء فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم دواب كنغف الجراد فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضا فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسا فيقولون : هل من رجل يشتري نفسه و ينظر ما فعلوا فينزل إليهم رجل قد وطن نفسه على أن يقتلوه فيجدهم موتى فيناديهم ألا أبشروا فقد هلك عدوكم فيخرج الناس و يخلون سبيل مواشيهم فما يكون لهم مرعى إلا لحومهم فتشكر عليها كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط ]
و خرج ابن ماجه أيضا و أبو بكر بن أبي شيبة و اللفظ لابن ماجة عن عبد الله بن مسعود قال : لما كان ليلة أسري برسول الله لقي إبراهيم و موسى و عيسى عليهما السلام فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده علم منها ثم سألوا موسى فلم يكن عنده علم منها فردوا الحديث إلى عيسى قال : قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله فذكروا خروج الدجال قال فأنزلوا إليه فأقتله فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج مأجوج { و هم من كل حدب ينسلون } فلا يمرون بماء إلا شربوه و لا شيء إلا أفسدوه فيجأرون إلى الله فأدعو الله أن يميتهم فتنتن الأرض من ريحهم فيجأرون إلى الله فأدعو الله فيرسل السماء فتحملهم فتلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال و تمد الأرض مد الأديم فعهد إلي إذا كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تعجلهم بولادتها قال ابن أبي شيبة : ليلا أو نهارا
قال العوام : و وجه تصديق ذلك في كتاب الله تعالى : { حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون } فلا يمرون بماء إلا شربوه و لا شيء إلا أفسده زاد ابن أبي شيبة : { و اقترب الوعد الحق }
و روي عن عمر بن العاص قال : إن يأجوج و مأجوج ذرء ليس فيهم صديق و هم على ثلاثة أصناف : على طول الشبر و على طول الشبرين و ثلث منهم طوله و عرضه سواء و هم من ولد يافث بن نوح عليه السلام
و روي عن عطية بن حسان أنه قال : يأجوج و مأجوج أمتان في كل أمة أربعمائة ألف ليس منها أمة تشبه بعضها بعضا
و روي عن الأوزاعي أنه قال : الأرض سبعة أجزاء فستة أجزاء منها : يأجوج و مأجوج و جزء فيه سائر الخلق
و روي عن قتادة أنه قال : الأرض أربعة و عشرون ألف فرسخ يعني الجزء الذي فيه سائر الخلق غير يأجوج و مأجوج فإثنا عشر للهند والسند و ثمانية آلاف للصين و ثلاثة آلاف للروم و ألف فرسخ للعرب
و ذكر علي بن معبد عن أشعث عن شعبة عن أرطأة بن المنذر قال : إذا خرج يأجوج و مأجوج أوحى الله تبارك و تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت خلقا من خلقي لا يطيقهم أحد غيري فمر بمن معك إلى جبل الطور و معه من الذراري اثنا عشر ألفا قال : يأجوج و مأجوج ذرء في جهنم و هم على ثلاث أثلاث : ثلث على طول الأرز و ثلث مربع طوله و عرضه واحد و هم أشد و ثلث يفترش إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى و هم من ولد يافث بن نوح
و يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يأجوج أمة لها أربعمائة أمير و كذلك مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده صنف منهم كالأرز و صنف منهم طوله مائة و عشرون ذراعا و صنف منهم يفترش أذنه و يلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل و لا خنزير إلا أكلوه و يأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام و ساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق و بحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة و المدينة و بيت المقدس ]
و يروى أنهم يأكلون جميع حشرات الأرض من الحيات و العقارب و كل ذي روح مما خلق الله في الأرض و ليس لله خلق ينمي كنمائهم في العام الواحد و لا يزداد كزيادتهم و لا يكثر ككثرتهم يتداعون تداعي الحمام و يعوون عواء الكلاب و يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا : صح أصله في كتاب القصد و الأمم في أنساب العرب و العجم قال : و منهم من له قرن و ذنب و أنياب بارزة يأكلون اللحوم نيئة
و قال كعب الأحبار : خلق الله يأجوج و مأجوج على ثلاثة أصناف : صنف أجسامهم كالأرز و صنف أربعة أذرع طولا و أربعة أذرع عرضا و صنف يفترشون آذانهم و يلتحفون بالأخرى فيأكلون مشائم نسائهم ذكره أبو نعيم الحافظ و ذكره عبد الملك بن حبيب أنه قال في قول الله عز و جل في قصة ذي القرنين : { فأتبع سببا } يعني منازل الأرض و معاليها و طرقها حتى إذا بلغ بين السدين يعني الجبلين اللذين خلفهم يأجوج و مأجوج وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا أي كلاما { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج و مأجوج مفسدون في الأرض }
قال عبد الملك : و هما أمتان من ولد يافث بن نوح مد الله لهما في العمر و أكثر لهما في النسل حتى ما يموت الرجل من يأجوج و مأجوج حتى يولد له ألف ولد فولد آدم كلهم عشرةأجزاء : يأجوج و مأجوج منهم تسعة أجزاء و سائر ولده كلهم جزء واحد
قال عبد الملك : كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرض القوم الذين هم قريب منهم فلا يدعون لهم شيئا إذا كان إذا أخضر إلا أكلوه و لا يابسا إلا حملوه فقال أهل تلك الأرض لذي القرنين : هل لك أن نجعل خرجا يعني جهلا { على أن تجعل بيننا و بينهم سدا } قال : ما مكني فيه ربي خير من جعلكم و لكن { أعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما } قالوا له و ما تريد ؟ قال : { آتوني زبر الحديد } أي قطع الحديد فوضع بعضها على بعض كهيئة البناء فيما بين السدين و هما جبلان { حتى إذا ساوى بين الصدفين } يعني جانبي الجبلين { قال انفخوا } أي أوقدوا { حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } أي من تحته و قال عبد الملك في قوله { أفرغ عليه قطرا } يعني نحاسا ليلتصق فأفرغه عليه فدخل بعضه في بعض قال { فإذا جاء وعد ربي جعله دكا }
و في تفسير الحوفي أبي الحسن : أن ذا القرنين لما عاين ذلك منهم انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما و هو في منقطع الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ فلما أنشأ في عمله حفر له أساسا حتى إذا بلغ الماء جعل عرضه خمسين فرسخا و جعل حشوه الصخور و طينه النحاس يذاب ثم يصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثم علاه و شرفه بزبر الحديد و النحاس المذاب و جعل خلاله عرقا من نحاس فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس و جمرته و سواد الحديد فلما فرغ منه و أحكمه انطلق عائدا إلى جماعة الإنس و الجن انتهى كلام الحوفي
و عن علي رضي الله عنه قال : و صنف منهم في طول شبر لهم مخالب و أنياب كالسباع و تداعي الحمام و تسافد البهائم و عواء الذئب و شعور تقيهم الحر و البرد و آذان عظام إحداهما و برة يشتون فيها و الأخرى جلدة يصيفون فيها
و عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأرض ستة أجزاء فخمسة أجزاء يأجوج و مأجوج و جزء فيه سائر الخلق
و قال كعب الأحبار : احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك قال علماؤنا : و هذا فيه نظر لأن الأنبياء صلوات الله عليهم و سلامه لا يحتلمون
و قال الضحاك : هم من الترك
و قال مقاتل : هم من ولد يافث بن نوح و هذا أشبه كما تقدم و الله أعلم
و قرأ عاصم يأجوج و مأجوج بالهمزة فيهما و كذلك في الأنبياء على أنهما مشتقان من أجة الحر و هي شدته و توقده و منه أجيج النار و من قولهم : ملح أجاج فيكونا عربيين من أج و مج و لم يصرفا لأنهما جعلا اسمين فهما مؤنثتان معرفتان و الباقون بغير همز جعلوهما لقبيلتين أعجميتين و لم يصرفا للعجمة و التعريف
باب ذكر الدابة و صفتها و متى تخرج و من أين تخرج و كم لها من خرجة و صفة خروجها و ما معها إذا خرجت و حديث الجساسة و ما فيها من ذكر الدجال قال الله تعالى : و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم
و ذكر أبو بكر البزار قال : حدثنا عبد الله بن يوسف : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال : أكثروا من زيادة هذا البيت من قبل أن برفع و ينسى الناس مكانه و أكثروا من تلاوة القرآن من قبل أن يرفع قالوا يا أبا عبد الرحمن : هذه
المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : يصبحون فيقولون : قد كنا نتكلم بكلام و نقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية و أحاديث الجاهلية و ذلك حين يقع القول عليهم
قال العلماء : معنى وقع القول عليهم : أي وجب الوعيد عليهم لتماديهم في العصيان و العقوق و الطغيان و إعراضهم من آيات الله و تركهم تدبرها و النزول على حكمها و انتهابهم في المعاصي إلى ما لا ينجع معه فيهم موعظة و لا يصرفهم عن غيهم تذكرة يقول عز من قائل ـ فإذا صاروا كذاك : { أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلم } أي دابة تعقل و تنطلق ـ و ذلك و الله أعلم ليقع لهم العلم بأنه آية من قبل الله تعالى ضرورة فإن الدواب في العادة لا كلام لها و لا عقل
ابن ماجه [ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال ذهب بي رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى موضع البادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا فتر في شبر ] قال ابن بريدة : فحججت بعد ذلك بسنتين فأرانا عصا له فإذا هو بعصاي هذا و كذا الفتر ما بين السبابة و الإبهام إذا فتحتها قاله الجوهري
و خرج ابن ماجه أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تخرج الدابة و معها خاتم سليمان بن داود و عصا موسى بن عمران فتجلو وجه المؤمن بالعصا و تختم أنف الكافر بالخاتم حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فتقول هذا يا مؤمن و تقول هذا يا كافر ] و أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن
و ذكر أبو داود الطيالسي في مسنده [ عن حذيفة قال ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدابة فقال : لها ثلاث خرجات من الدهر : فتخرج في أقصى البادية و لا يدخل ذكرها القرية مكة ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية و يدخل ذكرها القرية يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها و أكرمها على المسجد الحرام لن تدعهم إلا و هي ترغو بين الركن و المقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى و معا و تثبت عصابة من المؤمنين و عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كالكواكب الدري و ولت في الأرض لا يدركها طالب و لا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول له يا فلان : الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق و يشترك الناس في الأموال و يصطحبون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول : يا كافر اقض حقي و حتى إن الكافر يقول يا مؤمن اقض حقي و قد قيل : إنها تسم وجوه الفريقين بالنفخ فتنقش في وجه المؤمن مؤمن و في وجه الكافر كافر ]
قال المؤلف رحمه الله : و لا يبعد أن تظهر السمة و تتبين بالنفخ فتجمع عليه الأمرين و على هذا لا تعارض و الله أعلم
و ذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأعز : و سئل عنه يحيى بن معين فقال : ثقة
عن عطية العوفي عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها
و ذكر الميانشي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دابة الأرض تخرج من جياد فيبلغ صدرها الركن و لم يخرج ذنبها بعد و هي دابة ذات وبر و قوائم ]
فصل : هذه الأحاديث و ما تقدم من ذكر العلماء في الدابة و يأتي يرد قول من قال من المفسرين المتأخرين : إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع و الكفر و يجادلهم ليتقطعوا فيهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة قال شيخنا أبو العباس : و على هذا لا يكون فيها آية خاصة خارقة للعادة و لا يكون من جملة العشر آيات المذكورة في الحديث لأن وجود المناظرين و المحتجين على أهل البدع كثير فلا آية خاصة ينبغي أن يذكر من العشر
قلت : فساد ما قاله هذا المتأخر واضح و أقوال المفسرين بخلافه
[ و روى من حديث هشام بن يوسف القاضي أبي عبد الرحمن الصنعاني عن رباح بن عبيد الله بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بئس الشعب جياد قالوا : و فيم ذلك يا رسول الله ؟ قال : تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات فيسمعها من بين الخافقين لم يتابع رباح على هذا ] أخرج الحديث أبو أحمد بن عدي الجرجاني رحمه الله
و عن عمرو بن العاص قال : تخرج الدابة من مكة من شجرة و ذلك في أيام الحج فيبلغ رأسها السحاب و ما خرجت رجلاها بعد من التراب ذكره القتبي في عيون الأخبار له
و أصح أقوال المفسرين بخلاف ما قال : و أنها خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فينير وجهه و تكتب بين عينيه : مؤمن و تسم الكافر فيسود وجهه و تكتب بين عينه كافر
و قال عبد الله بن عمر : تخرج الدابة من جبل الصفا بمكة ينصدع فتخرج منه و قال عبد الله بن عمرو و نحوه و قال : لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت و روي عن قتادة أنها تخرج من تهامة و روي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث نار تنور نوح و قيل : من أرض الطائف و روي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين و هي في السحاب و قوائمها في الأرض
و روي عن ابن الزبير : أنها جمعت من خلق كل حيوان فرأسها رأس ثور و عينها عين خنزير و أذنها أذن فيل و قرنها قرن أيل و عنقها عنق نعامة و صدرها صدر أسد و لونها لون نمر و خاصرتها خاصرة هر و ذنبها ذنب كبش
و قوائهما قوائم بعير بين كل مفصل و مفصل اثنا عشر ذراعا ذكره الثعلبي و الماوردي و غيرهما
و حكى النقاش عن ابن عباس : أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعاها العقاب حتى أرادت قريش بناء الكعبة و يروى أنها دابة مزعبة شعرا ذات قوائم طولها ستون ذراعا و يقال إنها الجساسة في حديث فاطمة بنت قيس الحديث الطويل و خرجه مسلم و ذكره الترمذي و أبو داود مختصرا و السياق لمسلم و فيه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : [ إني و الله ما جمعتكم لرغبة و لا لرهبة و لكنني جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فبايع و أسلم و حدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم و جذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حيث مغرب الشمس قال : فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر ]
و قال الترمذي : إن ناسا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر فجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرة من جزائر البحر فإذا هم بداية لباسة ناشرة شعرها فقالوا : من أنت ؟ قالت : أنا الجساسة و ذكر الحديث راجع سياق مسلم فقالوا : ويلك ما أنت ؟ قالت : أنا الجساسة قالوا و ما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق قال لما سمعت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة قال : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا هو أعظم إنسان رأيناه خلقا و أشد وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد و قال الترمذي : فإذا رجل موثق بسلسلة
قال أبو داود : فإذا الرجل يجر شعره مسلسلا في الأغلال ينزو فيها بين السماء و الأرض قلنا : ويلك ما أنت : قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم قالوا : نحن ناس من العرب ركبنا سفينة بحرية فصادفنا البحر قد اغتلم فلعب الموج بنا شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقينا دابة أهلب كثيرة الشعر لا ندري ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا : ويلك ما أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة فقلنا و ما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا و فزعنا منها و ما نأمن أن تكون شيطانة فقال : أخبروني عن نخل بيسان
و قال الترمذي : الذي بين الأردن و فلسطين قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل تثمر ؟ قلنا له : نعم قال : أما أنها يوشك أن لا تثمر قال : أخبروني عن بحيرة طبرية قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء أما أن ماؤها يوشك أن يذهب قال : أخبروني عن عين زغر قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال هل في العين ماء و هل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا : نعم هي كثيرة الماء و أهلها يزرعون من مائها قال أخبرني عن نبي الأميين ما فعل ؟ قالوا : قد خرج من مكة و نزل يثرب قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم قال : كيف صنع بهم فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب و أطاعوه قال لهم قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم قال أما إن ذلك هو خير لهم أن يطيعوه و إني مخبركم عني أنا المسيخ الدجال و إني أوشك أن يؤذن لي بالخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة و طيبة هما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها و أن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و طعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ فقال الناس : نعم قال : فإنه أعجبني حديث تميم الداري فإنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه و عن المدينة و مكة إلا أنه في بحر الشام و بحر اليمن لا بل من قبل المشرق و ما هو من قبل المشرق و أومأ بيده إلى المشرق ] قال : حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد خرج ابن ماجه [ حديث فاطمة بنت قيس : قالت قام رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و صعد المنبر و كان لا يصعد عليه مثل ذلك اليوم إلا يوم الجمعة فاشتد ذلك على الناس فمن بين قائم و جالس فأشار إليهم بيده أن اقعدوا فو الله ما قمت مقامي إلا لأمر ينفعكم لا رغبة و لا رهبة و لكن تميم الداري أتاني فأخبرني خبرا منعني القيلولة من الفرح و قرة العين فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيكم صلى الله عليه و سلم إلا أن ابن عم لتميم الداري أخبرني أن الريح ألجأتهم إلى جزيرة لا يعرفونها فقعدوا في قوارب السفينة فخرجوا بها فإذا هم بشيء أهدب أسود كثير الشعر قالوا لها : ما أنت ؟ قالت : أنا الجساسة قالوا : أخبرينا قالت : ما أنا مخبرتكم شيئا و لا سائلكتم و ليكن هذا الدير قد رهقتموه فائتوه فإن فيه رجلا بالأشواق إلى أن تخبروه و يخبركم فأتوه فدخلوه عليه فإذا هم بشيخ موثق شديد الوثاق مظهر الحزن شديد التشكي قال لهم : من أين ؟ فقالوا : من الشام فقال : ما فعلت العرب ؟ قالوا : نحن قوم من العرب عم تسأل ؟ قال : ما فعل الرجل الذي خرج فيكم ؟ قالوا : خيرا أتى قوما فأظهره الله عليهم فأمرهم اليوم جميع إلههم واحد و دينهم واحد و نبيهم واحد قال : ما فعلت عين زغر ؟ قالوا : خيرا يسقون منها لزروعهم و يستقون منها لشعبهم قال : ما فعل نخل بين عمان و بيسان ؟ قالوا : يطعم ثمره كل عام قال : ما فعلت بحيرة الطبرية ؟ قالوا تدفق بجنباتها من كثرة الماء قال : فزفر ثلاث زفرات ثم قال : لو انفلت من وثاقي هذا لم أدع أرضا إلا وطئتها برجلي هاتين إلا طيبة ليس لي عليها سبيل ]
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إلى هذا انتهى وحيى هذه طيبة و الذي نفسي بيده ما فيها طريق ضيق و لا واسع و لا سهل و لا جبل إلا و عليه ملك شاهر سيفه إلى يوم القيامة ]
قال المؤلف رحمه الله : هذا حديث صحيح و قد خرجه مسلم و الترمذي و أبو داود و غيرهم رضي الله عنهم
و قد قيل : إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح عليه السلام فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له حجر فدخل فيه ثم انطبق عليه فهو فيه إلى وقت خروجه حتى يخرج بإذن الله تعالى
قلت : و يدل على هذا القول حديث حذيفة المذكور في هذا الباب و فيه : و هي ترغو و الرغال إنما هو للإبل و الله أعلم
و لقد أحسن من قال :
( و اذكر خروج فعيل ناقة صالح ... يسم الورى بالكفر و الإيمان )
فصل : و قد استدل من قال من العلماء : إن الدجال ليس ابن صياد بحديث الجساسة و ما كان في معناه و الصحيح أن ابن صياد هو الدجال بدلالة ما تقدم و ما يبعد أن يكون بالجزيرة ذلك الوقت و يكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر إلى أن فقدوه يوم الحرة و في كتاب أبي داود في خبر الجساسة من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : شهد جابر أنه هو ابن صياد قلت فإنه قد مات قال : و إن مات قلت : فإنه قد أسلم قال و إن أسلم قلت : فإنه قد دخل المدينة قال : و إن دخل المدينة
و ذكر سيف بن عمر في كتاب الفتوح و الردة : و لما نزل أبو سبرة في الناس على السوس و أحاط المسلمون بها و عليهم الشهربان أخو الهرمزان ناوشوهم القتال كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين فأشرف عليهم يوما الرهبان و القسيسيون فقالوا : يا معشر العرب إن مما عهد علماؤنا و أوائلنا أنه لا يفتح السوس إلا ال أو قوم فيهم الدجال فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها و إن لم يكن فيكم فستفتحونها و إن لم يكن فيكم فلا تعنوا أنفسكم بالحصار قال وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان في جند فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله و قال : انفتح فطار فتقطعت السلاسل و تكسرت الأغلاق و تفتحت الأبواب و دخل المسلمون و قصته مع أبي سعيد و قوله : و الله إني لأعرفه و أعرف مولده و أين هو الآن و قال الترمذي : و أين هو الساعة من الأرض و أعرف والده كالنص في أنه هو و احتجاجه بأنه مسلم و ولد له و دخل المدينة و هو يريد مكة تلبس منه و أنه سيكفر إذا خرج و حينئذ لا يولد له و لا يدخل مكة و المدينة و الله أعلم
و قوله : ارفأوا : أي الجأوا إلى جزيرة لجأوا مرفأ السفينة حيث ترسي يقال : أرفأت السفينة إذا قربتها من الشط و ذلك الموضع مرفأ و أرفأت إليه لجأت إليه و أقرب السفينة هي القوارب الصغار يتصرف بها ركاب السفينة و الواحد قارب على غير قياس
قال الخطابي و الماذري : و المهلب : الشعر الغليظ و قال : أهلب على معنى الحبوان أو الشخص و لو راعى اللفظ لقال هلبا كأحمر و حمر و الأهلب أيضا عند بعض أهل اللغة : الذي لا شعر عليه و هو من الأضداد و استفهامهم منها : ظنا منهم أنها ممن لا تعقل فلما كلمتهم فرقوا : أي فزعوا و اغتلام البحر : هيجانه و تلاطم أمواجه و بيسان و زغر : موضعان بالشام بين الأردن و فلسطين كما في حديث الترمذي
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : كانت بيسان مدينة و فيها سوق كبيرة و عين تسمى عين فلوس يسقى منها و بحيرة طبرية هي بحيرة عظيمة طولها عشرة أميال و عرضها ستة أميال و موجها في سور قلعتها و هي عميقة تجري فيها السفن و يصاد منها السمك و ماؤها حلو فرات و بين بحيرة طبرية و بيت المقدس نحو من مائة ميل و هي من الأردن و لزمتها هي لصغيرة بحرة و لا بحر لأن البحر مذكر و تصغيره بحيرة و عين زغر بضم الزاي و فتح الغين و امتناع صرفه للعلمية و العدل لأنه معدول عن زاغر كعمر معدول عن عامر و زعم الكلبي أن زغر اسم امرأة نسبت هذه العين إليها فإن كان ما قاله حقا فلأن هذه المرأة استنبطتها و اتخذت أرضها دارا لها فنسبت إليها ذكره ابن دحية في كتاب البشارات و الإنذارات له من تأليفه
و قوله عليه الصلاة و السلام : [ إلا أنه في بحر الشام أو بحر اليمن ] شك أو ظن منه عليه الصلاة و السلام أو قصد على الإبهام على السامع ثم نفى ذلك و أضرب عنه بالتحقيق فقال : [ لا بل من قبل المشرق ] ثم أكد ذلك بما الزائدة وبالتكرار اللفظي فما زائدة لا نافية فاعلم ذلك
باب طلوع الشمس من مغربها و إغلاق باب التوبة و كم يمكث الناس بعد ذلك ؟ مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها و الدجال و دابة الأرض ]
و خرج الترمذي و الدارقطني [ عن صفوان بن عسال المرادي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
و قال سفيان : [ قبل الشام خلقه الله تعالى يوم خلق السموات و الأرض مفتوحا يعين التوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
و ذكر أبو إسحاق الثعلبي و غيره من المفسرين في حديث فيه طول [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ما معناه : أن الشمس تحبس على الناس حتى تكثر المعاصي في الأرض و يذهب المعروف فلا يأمر به أحد و يفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد مقدار ليلة تحت العرش كلما سجدت و استأذنت ربها عز و جل من أين تطلع لم يحر إليها جواب حتى يوافيها القمر فيسجد معها و يستأذن من أين يطلع فلا يجر إليه جواب حتى يجلسا مقدار ثلاث ليالي للشمس و ليلتين للقمر فلا يعرف ما طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض و هم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام فيقول : إن الرب سبحانه و تعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه و أنه لا ضوء لكما عندنا و لا نور فيطلعان من مغاربهما أسودين لا ضوء للشمس و لا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك فذلك قوله تعالى { و جمع الشمس و القمر } و قوله { إذا الشمس كورت } فيرتفعان كذلك مثل البعيرين و الفرسين فإذا ما بلغ الشمس و القمر سرة السماء و هي نصفها جاءهما جبريل فأخذ بقرونها و ردهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما و لكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين ثم يلتئم بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة و لم تنفعه حسنة يعملها من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله تبارك و تعالى { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا }
ثم إن الشمس و القمر يكسبان بعد ذلك الضوء و النور ثم يطلعان على الناس و يغربان كما كان قبل ذلك يطلعان و يغربان ] و ذكر الميانشي و قال عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ و يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين و مائة سنة ]
فصل
قال العلماء : و إنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس و تفتر كل قوة من قوى البدن فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم و بطلانها من أبدانهم فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت
قال صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ] أي تبلغ روحه رأس حلقه و ذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة و مقعده من النار فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله و على هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش لأن علمه بالله تعالى و بنبيه صلى الله عليه و سلم و بوعده قد صار ضرورة فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان و لا يتحدثون عنه إلا قليلا فيصير الخبر عنه خاصا و ينقطع التواتر عنه فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه و الله أعلم
و قد قيل : إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمرود : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } و إن الملحدين و المنجمين عن آخرهم ينكرون ذلك و يقولون : هو غير كائن فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليرى المنكرين لذلك قدرته من أن الشمس في قدرته إن شاء أطلعها من المشرق و إن شاء أطلعها من المغرب و على هذا يحتمل أن يكون رد التوبة و الإيمان على من آمن و تاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه و سلم فأما المصدق فإنه تقبل توبته و ينفعه إيمانه قبل ذلك و الله أعلم
و روي عن ابن عباس أنه قال : لا يقبل من كافر عمل و لا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيرا يومئذ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل منه و من كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبل منه
و روي عن عمران بن حصين أنه قال : إنمالم تقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت ثم هلك لم تقبل توبته و من تاب بعد ذلك قبلت توبته ذكره الليث السمرقندي في تفسيره
فصل
و اختلفت الروايات في أول الآيات فروي أن طلوع الشمس من مغربها أولها على ما وقع حديث مسلم في هذا الباب و قيل : خروج الدجال و هذا القول أولى القولين و أصح لقوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الدجال خارج فيكم لا محالة ] الحديث بطوله
فلو كانت الشمس طلعت قبل ذلك من مغربها لم ينفع اليهود إيمانهم أيام عيسى عليه السلام و لو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من أسلم منه
و قد تقدم القول مبينا في هذا و أن أول الآيات الخسوفات فإذا نزل عيسى عليه السلام و قتل الدجال خرج حاجا إلى مكة فإذا قضى حجة انصرف إلى زيارة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم فإذا وصل إلى قبر الرسول صلى الله عليه و سلم أرسل الله عند ذلك ريحا عنبرية فتقبض روح عيسى عليه السلام و من معه من المؤمنين فيموت عيسى عليه السلام و يدفن مع النبي صلى الله عليه و سلم في روضته ثم تبقى الناس حيارى سكارى فيرجع أكثر أهل الإسلام إلى الكفر و الضلالة و تستولي أهل الكفر على من بقي من أهل الإسلام فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها و عند ذلك يرفع القرآن من صدور الناس و من المصاحف ثم تأتي الحبشة إلى بيت الله فينقضونه حجرا حجرا و يرمون بالحجارة في البحر ثم تخرج حينئذ دابة الأرض تكلمهم ثم يأتي دخان يملأ ما بين السماء و الأرض فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام و أما الكافر و الفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم و يضيق أنفاسهم ثم يبعث الله ريحا من الجنوب من قبل اليمن مسها مس الحرير و ريحها ريح المسك فتقبض روح المؤمن و المؤمنة و تبقى شرار الناس و يكون الرجال لا يشبعون من النساء و النساء لا يشبعن من الرجال ثم يبعث الله الرياح فتلقيهم في البحر هكذا ذكر بعض العلماء الترتيب في الأشراط و فيه بعض اختلاف و قد تقدمت الإشارة إليه فيما تقدم و الله أعلم
و قيل : إذا أراد الله انقراض الدنيا و تمام لياليها و قربت النفخة خرجت نار من قعر عدن لتسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم و تقيل معهم حتى يجتمع الخلق بالمحشر الإنس و الجن و الدواب و الوحوش و السباع و الطير و الهوام و خشاش الأرض و كل من له روح فبينما الناس قيام في أسواقهم يتبايعون و هم مشتغلون بالبيع و الشراء إذا هم بهدة عظيمة من السماء يصعق منها نصف الخلق فلا يقومون من صعقتهم مدة ثلاثة أيام و النصف الآخر من الخلق تذهل عقولهم فيبقون مدهوشين قياما على أرجلهم و هو قوله تعالى { ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } فبينما هم كذلك إذا هدة أخرى أعظم من الأولى غليظة فظيعة كالرعد القاصف فلا يبقى على وجه الأرض أحد إلا مات كما قال ربنا جل و علا { و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله } فتبقى الدنيا بلا آدمي و لا جني و لا شيطان و يموت جميع من في الأرض من الهوام و الوحوش و الدواب و كل شيء له روح و هو الوقت المعلوم الذي كان بين الله تعالى و بين إبليس الملعون
باب خراب الأرض و البلاد قبل الشام ما جاء في خراب الأرض و البلاد قبل الشام و مدة بقاء المدينة خرابا قبل يوم القيامة و في علامة ذهاب الدنيا و مثالها و في أول ما يخرب ما يخرب منها
[ روي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و يبدأ الخراب في أطراف الأرض حتى تخرب مصر و مصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة و خراب البصرة من العراق و خراب مصر من جفاف النيل و خراب مكة من الحبشة و خراب المدينة من الجوع و خراب اليمن من الجراد و خراب الأيلة من الحصار و خراب فارس من الصعاليك و خراب الترك من الديلم و خراب الديلم من الأرمن و خراب الأرمن من الخزر و خراب الخزر من الترك و خراب الترك من الصواعق و خراب السند من الهند و خراب الهند من الصين و خراب الصين من الرمل و خراب الحبشة من الرجفة و خراب الزوراء من السفياني و خراب الروحاء من الخسف و خراب العراق من القحط ] ذكره أبو الفرج الجوزي رحمه الله في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق و سمعت أن خراب الأندلس من الريح العقيم و الله أعلم
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني و أبي هارون العبدي أنهما سمعا نوفا البكالي يقول : إن الدنيا مثلت على طير فإذا انقطع جناحاه وقع و إن جناحي الأرض مصر و البصرة فإذا خربتا ذهبت الدنيا و ذكر أبو زيد عمر بن شبة [ حدثنا موسى ابن إسماعيل قال : حدثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير قال : ذكر لي عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما و الله يا أهل المدينة لتتركها قبل يوم القيامة أربعين ] و قال كعب : ستخرب الأرض قبل الساعة بأربعين سنة و ليهاجرن الرعد و البرق إلى الشام حتى لا تكون رعدة و لا برقة إلا ما بين العريش و الفرات
[ و يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال الله تعالى : إني إذا أردت أن أخرب الدنيا بدت ببيتي فأخربه ثم أخرب الدنيا على أثره ] قد تقدم أن الذي يخربه ذو السويقتين على ما تقدم و الله أعلم
باب لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله مسلم [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله ]
و في رواية أخرى : [ لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ]
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قيد الله برفع الهاء و نصبها فمن رفعها فمعناه ذهاب التوحيد و من نصبها فمعناه انقطاع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أي لا تقوم الساعة على أحد يقول : اتق الله
قال المؤلف رحمه الله : و يدل على صحة هذا التأويل قوله عليه الصلاة و السلام في حديث حذيفة : [ لتقصدنكم نار هي خامدة ] الحديث و فيه هم شر من الحمر يتسافدون تسافد البهائم و ليس فيهم رجل يقول : مه مه و قد قيل : إن هذه الإسم أجراه الله على ألسنة الأمم من لدن آدم عليه السلام و لم تنكره أمة بل هو دائر على ألسنتهم من عهد أبيهم إلى انقضاء الدنيا و قد قال قوم نوح : { و لو شاء الله لأنزل ملائكة } الآية و قال قوم هود : { أجئتنا لنعبد الله وحده } و قالوا { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا } إلى غير ذلك و قال : { و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله } فإذا أراد الله زوال الدنيا قبض أرواح المؤمنين و انتزع هذا الاسم من ألسنة الجاحدين و فجأهم عند ذلك الحق اليقين و هو قوله عليه الصلاة و السلام : [ لا تقوم الساعة و على الأرض من يقول : الله ]
و في الخبر : إن الله تعالى يقول لإسرافيل عليه السلام : إذ سمعت قائلا يقول : لا إله إلا الله فأخر النفخة أربعين سنة إكراما لقائلها و الله أعلم
باب على من تقوم الساعة ؟ مسلم [ عن عبد الرحمن بن شماسة المهدي قال : كنت عند مسلمة بن مخلد و عنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق و هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم فبينما هم كذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له ابن شماسة يا عقبة : اسمع ما يقول عبد الله فقال عقبة : هو أعلم و أما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة و هم على ذلك فقال عبد الله : أجل ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها كمس الحرير لا تترك نفسا في قلبها مثقال حبة من إيمان إلا قبضتها ثم تبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ]
و في حديث عبد الله بن مسعود : لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس من لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا يتهارجون كما تتهارج الحمر
قال الأصمعي : قوله يتهارجون يقول : يتسافدون يقال : بات فلان يهرج و الهرج في غير هذا : الاختلاط و القتل
و خرج مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تذهب الليالي و الأيام حتى تعبد اللات و العزى فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون } أن ذلك عام قال : إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث ار ريحا طيبة فتتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم ] و الله أعلم
فصل
ذكر أبو الحسن بن بطال رحمه الله في هذا الحديث في شرح البخاري له مبينا لحديث البخاري [ عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة ] الحديث و قد تقدم و قال : هذه الأحاديث و ما جاء فيها معناها الخصوص و ليس المراد بها أن الدين كله ينقطع في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف و يعود غريبا كما بدأ ]
[ روى حماد بن سلمة عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ] و كان مطرف يقول هم أهل الشام
قلت : ما ذكره من أن الدين لا ينقطع و أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة يرده حديث عائشة و عبد الله بن عمرو و ما ذكره من حديث عمران بن حصين و قد تقدم أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال و يخرج يأجوج و مأجوج و يموتون و يبقى عيسى عليه السلام و دين الإسلام لا يعبد في الأرض غير الله كما تقدم و أنه يحج و يحج معه أصحاب الكهف فيما ذكره المفسرون و قد تقدم أنهم حوارية إذا نزل فإذا توفي عيسى عليه السلام بعث الله تعالى عند ذلك ريحا باردة من قبل الشام فتأخذ تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن و كل مسلم و يبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة كذا في حديث النواس بن سمعان الطويل و قد تقدم
و في حديث عبد الله بن عمرو : ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو دخل أحدكم في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر الحديث و قد تقدم بكماله و فيه ذكر النفخ و الصعق و البعث فهذا غاية في البيان في كيفية انقراض هذا الخلق و هذه الأزمان فلا تقوم الساعة و في الأرض من يعرف الله و لا من يقول : الله الله
و ذكر أبو نعيم عن أبي الزهراية عن كعب الأحبار قال : يمكث الناس بعد خروج و يأجوج و مأجوج في الرخاء و الخصب و الدعة عشر سنين حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما و يحملان العنقود الواحد من العنب فيمكثون على ذلك عشر سنين ثم يبعث الله ريحا طيبة فلا تدع مؤمنا إلا قبضت روحه ثم تبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في المروج حتى تأتيهم أمر الله و الساعة و هم على ذلك
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفانا مسلمين و أن يلحقنا بالشهداء و الصالحين و أن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين و يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم بمنه و كرمه و أن ينفعنا به و والدينا و غفر الله لصاحب هذا الكتاب و لوالديه و لسائر المسلمين أجمعين آمين يا رب العالمين
( تم الكتاب و ربنا محمود ... و له المكارم و العلا و الجود )
( و على النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري و أورق عود )
و وافق الفراغ من نسخه في منتصف شهر رمضان المعظم قدره من شهور سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة
على يد أقل عباد الله و أحوجهم إلى لطفة الخفي
الحسين بن علي بن منصور بن ناصر الحنفي
غفر الله له و لوالديه و لمن قرأ فيه و دعا له بالتوبة النصوح و المغفرة و الرحمة يا رب العالمين و لسائر المسلمين أجمعين و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا حسبنا الله و نعم الوكيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق